[2] مؤسسة إسلامية علمية عالمية
لقد آن الأوان للتفكير -على مستوى العالم الإسلامي- في إقامة مؤسسة إسلامية علمية عالمية، لا تنتمي بالولاء لقطر معين من الأقطار الإسلامية، ولا لمذهب سياسي أو فكري أو ديني معين، بل يكون ولاؤها الأول والأخير لله وحده ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتستيطع استقطاب الكفاءات العلمية الإسلامية في شتى أنحاء العالم، وتقف على قدم المساواة مع الحركة الاستشراقية، ويكون لها دوريات ومجلات علمية ذات مستوى رفيع، تنشر بحوثها بلغات مختلفة، وتعمل على استعادة أصالتنا الفكرية واستقلالنا في [ص: 137] ميدان الأفكار، فهذا هـو الطريق الصحيح إلى الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وإذ أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسة لا يمكنه على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه [1].
والأمر الذي يؤسف له حقا هـو أننا على امتداد العالم الإسلامي بسكانه الذين تجاوزوا الألف مليون، وبكل ما لنا من إمكانية هـائلة لا نملك مؤسسة علمية دولية لها الإمكانات العلمية والمادية نفسها التي تملكها المؤسسة الاستشراقية، أليس هـذا من الأمور التي تدعو إلى الأسى والحسرة؟ ويعبر إدوارد سعيد في كتابه عن (الاستشراق) عن هـذا الفراغ الهائل في حقل الثقافة العربية والإسلامية والآثار المترتبة عليه فيقول: (فما من باحث عربي أو إسلامي يستطيع المخاطرة بتجاهل ما يحدث في المجلات البحثية والمعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، غير أن العكس ليس بصحيح.
ليس هـناك -مثلا- مجلة رئيسية واحدة للدراسات العربية تصدر في العالم العربي اليوم، بالضبط كما أنه ليس ثمة من مؤسسة تعليمية عربية واحدة قادرة على مضاهاة أماكن مثل: أكسفورد، وهارفارد، وجامعة كاليفورنيا -لوس أنجلس- في دراسة العالم العربي، دع عنك أي موضوع آخر غير شرقي.
والنتيجة المتوقعة لهذا هـي أن الطلاب الشرقيين (والأساتذة الشرقيين) ما يزالون يريدون الحضور إلى الويات المتحدة، والجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ثم العودة فيما بعد لتكرار القوالب الفكرية (الكليشيهات) [ص: 138] -التي ما فتئت أسميها: مذهبيات جامدة استشراقية- على مسامع جمهورهم المحلي.
ونظام اعتماد إنتاج كهذا يجعل من الحتمي أن يستخدم الباحث الشرقي تدريبه الأمريكي ليشعر بالفوقية على أبناء وطنه؛ لأنه قادرعلى (تدبر) النظام الاستشراقي وفهمه واستخدامه، أما في علاقته بمن هـم أسمى منه مكانة -المستشرقون الأوربيون والأمريكيون- فإنه سيبقى (المخبر الذي ينتمي إلى السكان الأصليين).
وهذا هـو بحق دوره في الغرب، إذا كان حسن الحظ بحيث يتاح له البقاء فيه بعد انتهاء تدريبه المتقدم) [2].
ولا يجوز الخلط بين هـذه المؤسسة العلمية المقترحة وبين لجنة: (موسوعة الرد على المستشرقين)، التي سبقت الإشارة إليها، فلجنة الموسوعة لجنة مؤقتة لإنجاز مهمة محددة، أما هـذه المؤسسة فهي مؤسسة دائمة، ولها مهام متعددة.
وقد سبق لنا أن طالبنا في كتاب سابق [3] بضرورة إقامة هـذه المؤسسة العلمية، وكان من بين ما قلناه في هـذا الصدد: (إن هـناك ضرورة ملحة لإقامة مؤسسة إسلامية عالمية للبحوث العلمية الإسلامية، تكون بعيدة كل البعد عن أية تيارات سياسية أو دعائية، ويتكون أعضاؤها من صفوة الباحثين الإسلاميين في شتى المجلات بصرف النظر عن جنسياتهم، في حدود مائة عضو، يتوزعون إلى مجموعات عمل يتوفر كل فريق منها على دراسة قطاع معين من قطاعات الفكر الإسلامي، وتخطط هـذه الصفوة أيضا للبحوث الإسلامية في جامعات العالم الإسلامي، فتصل الماضي بالحاضر وتجدد [ص: 139] شباب تراثنا، وتجنده لخدمة الحياة الإسلامية المتجددة).
وعبرنا عن الأمل في أن تكون هـذه المؤسسة العلمية (أكاديمية حية)، تشع النور في كل الأرجاء وتغذي المسلم في كل أنحاء العالم بالغذاء الفكري الصحيح، وتنقل دعوة الإسلام في صفائها ونقائها إلى شعوب الأرض، ولا تكون تكريرا لأي من الهيئات الإسلامية الحالية، التي تجمع في المناسبات على شكل مؤتمرات؛ لإصدار بيانات لا حياة فيها ولا روح، ولا أثر لها في حياة المسلم ولا تأثير.
والأمل أن تكون تلك الأكاديمية الإسلامية هـيئة ربانية لا مجال فيها للأهواء، ولا نقصد بذلك أن تكون هـيئة كهنوتية أو بابوية، فهذا لا مجال له في الإسلام، ولكننا نريدها هـيئة ذات قداسة، لا بأسماء من يعملون فيها، ولكن بما تقدمه من خير للناس، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد: 17).
وهكذا يمكن لمثل هـذه المؤسسة أن تقف بالمرصاد لكل التيارات المناوئة للإسلام أيا كان مصدرها، وأيا كانت اتجاهاتها.
ومن أجل ذلك لا بد أن يكون لها جهاز لمتابعة كل ما ينشر في العالم من بحوث تتعلق بالإسلام والمسلمين.
ويمكن لهذه المؤسسة أيضا أن تتبنى تيارا للاستشراق، يقوم بدراسة تراث الغربيين ونقدهم من دين وعلوم وحضارة، وقد عبر الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- عن هـذا الأمل فقال: (سيأتي يوم ننقلب فيه نحن إلى دراسة تراث الغربيين، ونقد ما عندهم من دين وعلوم وحضارة، وسيأتي اليوم الذي يستعمل فيه أبناؤنا وأحفادنا مقاييس النقد التي وضعها هـؤلاء الغربيون في نقد ما عند هـؤلاء الغربيين أنفسهم من عقيدة وعلوم، فإذا هـي أشد تهافتا وأكثر ضعفا مما يلصقونه اليوم بعقيدتنا وعلومنا.
ترى لو استعمل المسلمون معايير النقد العلمي التي يستعملها المستشرقون في نقد [ص: 140] القرآن والسنة في نقد كتبهم المقدسة وعلومهم الموروثة، ماذا كان يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من ثبوت؟)
ثم يقول الدكتور السباعي أيضا: (كثيرا ما أتمنى أن يتفرغ منا رجال للكتابة عن هـذه الحضارة (الغربية) وتاريخ علمائها بالأسلوب نفسه الذي يكتب به المستشرقون من تتبع الأخبار الساقطة، وفهم النصوص على غير حقيقتها، وقلب المحاسن إلى سيئات، والتشكيك في كل خير يصدر عن هـؤلاء الغربيين.
ولو حصل هـذا لخرجت منه صورة لهذه الحضارة ولرجالها مضحكة مخزية، ينكرها المستشرقون قبل غيرهم) [4].
وفكرة إنشاء اتجاه مقابل للحركة الاستشراقية سبق أن أثيرت في بعض المؤتمرات الإسلامية، ويشير المستشرق (رودي بارت) إلى ذلك بقوله: (ولا بأس من أن ننتهز هـذه الفرصة فنثير سؤالا، ولو من ناحية المبدأ، هـو السؤال عن إمكانية أن ينشأ في الناحية الأخرى -أي: في العالم العربي الإسلامي- اتجاه للبحث، شبيه بالدراسات الإسلامية عندنا، ولكن في الوجهة المقابلة، يهدف إلى دراسة تاريخ الفكر في العالم النصراني -الغربي- وتحليله بطريقة علمية... وقد دعا الدكتور محمد رحبار في المؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد في لاهور في ديسمبر (كانون الأول) 1957م، يناير (كانون الثاني) 1958م، بحماس إلى هـدف من هـذا القبيل، ولكنه لقي معارضة شديدة) [5]. [ص: 141]
وعلى أية حال فإن هـذه مسألة جانبية لا يجوز أن تشغلنا عن الهدف الأساسي للمؤسسة العلمية المقترحة، فهي مسألة تعد الآن -في نظرنا- ترفا فكريا لم يحن وقته بعد، ويمكن التفكير فيها في مرحلة أخرى تالية.
أما الآن فإن هـناك أولويات أمام العمل الإسلامي لا بد أن تؤخذ في الاعتبار وتوضع في الحسبان؛ حتى لا نخطئ الطريق الأسمى؛ وهو خدمة الإسلام، وبناء الحياة الإسلامية على أسس إسلامية متينة، والنهوض مرة أخرى دينيا وثقافيا وحضاريا.
-----------------------------------------------------------------------------
تفسير الأية:
وبعد أن بَيَّنَ -سبحانه وتعالى- إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض، ومناقضة حالهم لهذا الإقرار - بَيَّنَ سبحانه فضله الدائم المستمر المثبت لربوبيته الكاملة فقال تعالت كلماته:
[ص: 3923] أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
هذه الآية الكريمة فيها:
أولاً: بيان نعمة الله -تعالى- على الناس، فيما ينزل من ماء يجري في الأودية والأنهار فينتفع به الناس آمادا، يأمنون فيها على أنفسهم وزرعهم وضرعهم من العطش الشديد، والجدب، وضياع الحرث والنسل.
وفيها ثانيا: نعمة الله -تعالى- عليهم فيما أودعه باطن الأرض من فلزات يوقدون عليها فتكون منها حليهم وأمتعتهم من أوان وأدوات حروب، ودفع لأعدائهم، وبذلك يكون منها متاع وحماية ودفاع.
وفيها ثالثا: وهو الذي سيق له القول ظاهرا، وهو ضرب المثل بالحق والباطل، فالحق هو الأمر الثابت الباقي الذي ينفع الناس، والباطل هو الزبد الذي يجيش الماء فيوجده كالرغوة لا تبقى، والذي يوجده الغليان في الفلز فيظهر خبثا غير مفيد، والفلز يبقى من بعده خالصا ينفع الناس.
هذه خلاصة مقاصد الآية الكريمة السامية، بعضها بالقصد الأول، وبعضها بالقصد الثاني، وكلاهما فيه فضل الله واضح بين، بلا فرق بين ما سيقت له الآية قصداً، وما سيقت تبعا، فالجميع كلام الله -تعالى- مقصود كل معانيه أصلياً وتبعياً.
ولنتكلم في أجزاء الآية الكريمة:
قوله تعالى: أنـزل من السماء ماء السماء هي العلو، والماء ينزل من المزن، وهي السحاب الثقال التي ذكر الله - تعالى - أنه ينشئها في الآية السابقة، وتلك نعمة من الله أنعمها على الناس، نزلت من السماء على الجبال أو المرتفعات فتحدرت عليها المياه وسالت حتى كونت أودية وأنهارا، وهذا قوله -تعالى-: فسالت أودية بقدرها الأودية جمع واد، وهو المكان الذي يجري فيه الماء، وليست الأودية هي التي تسيل، إنما الذي يسيل هو الماء الذي يجري فيها، [ص: 3924]
وأطلقت الأودية وأريد ماؤها من قبيل إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، مثل قوله – تعالى -: فليدع ناديه أي أهل ناديه، وقيل: سالت الأودية وأريد الماء؛ لأن السيل شديدا عنيفا قد طم، حتى اختفت الأودية من شدته فصار الناظر لا يرى إلا المياه المتدفقة، وكان حكمه على ما يراه، لا على محله، وقوله تعالى: بقدرها وقرئ بسكون الدال لا بفتحها، والمراد بمقدار ما يملؤها، وقيل: بما قدر لها من ماء يكفي الناس في معاشهم وزرعهم وضرعهم، ويصح إرادة المعنيين، والنص يحتمل الجمع، ولا تعارض بينهما.
و(الزبد) ما يحمله الماء عند جريانه وجيشانه من أتربة وغيرها، وإن هذا -بلا ريب- يذهب ولا يبقى، بل أحيانا يكون رغوة يبددها الهواء، فهي كأزيز الموج يصطخب ولا يبقى منه شيء.
ولقد قال تعالى توجيها لأمر آخر، وهو الفلز عندما يفتن ليخرج ما فيه من خبث تعلق به من باطن الأرض فقال -سبحانه-: ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله (مما) مدلولها الفلزات من المعادن وهي القابلة للطرق والسحب أو التي تنصهر بالنار كالذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير وغيرها، و في النار الجار والمجرور متعلق بمحذوف يفهم من القول، والمعنى: مما يوقدون عليه ملقى في النار، وقوله: ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله أي مما يلقى في النار الموقدة بقصد طلب حلية كالذهب والفضة.
أو متاع أي أمر ينتفع به كالأواني، وأدوات الحروب وغير ذلك.
زبد مثله أي أن خبث الفلزات يكون كالزبد الذي يجيء من إثارة الماء للتراب واصطخاب الأمواج.
والجفاء هو ما يلقيه السائل بعيدا ليصفو، وذلك من قولهم جفأه السيل، وقد مثل الله -تعالى- المهتدي بالبصير، والضال بالأعمى، والعبادة الحقة بالنور، والباطلة بالظلمات في الآية السابقة.
وفي هذه الآية مثل الحق بالماء الذي ينزل من [ص: 3925] السماء فتسيل منه أودية مختلفة تأتي بالزروع والثمار مناوبة، ولذا نكر أودية وشبه الحق بالفلز الخالص.
والزبد الذي يكون في حال جيشان الماء، ويكون من إيقاد النار على الفلز، أي شبه الباطل بهذا الزبد الذي لا يبقى، بينما الماء والفلز الخالص يبقيان نافعين دائمي النفع، ووجه الشبه بين الحق، والفلز والماء، أنها مفيدة دائما، وباقية لغذاء الإنسان، ومتاعه وحليه، وأنها جوهر صالح.
ووجه الشبه بين الباطل والزبد، أولاً: أنه لا بقاء لهما، ثانياً: أنهما لا حقيقة لهما، وثالثاً: أن السلامة في الخالص منهما.
ويصح أن يكون التشبيه تشبيها تمثيليا، بأن يشبه حال الحق في بقائه ودوامه بالماء والجوهر الصافي من حيث النفع والبقاء والدوام، ويشبه حال الباطل من حيث إنه لا حقيقة له، وإذا كانت له حقيقة فهو خبث تجب إزالته وتطهير الجسم النافع.
شبه حال الباطل بالزبد الذي يكون من الماء، أو يكون من إيقاد الفلز في النار، لأنه لا حقيقة لها، وإذا كانت لها حقيقة فهي خبث يجب زواله.
وقد قال -تعالى-: كذلك يضرب الله الحق والباطل كذلك يبين الله الحق والباطل؛ فيشبه الحق بالماء والفلز ويشبه الباطل بالزبد، وقد بين سبحانه وجه الشبه، فقال: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقد ذكر في الأول المشبه به لتأكيد ذهاب الباطل، وفي الثاني ذكر المشبه وهو الحق لبيان بقائه ونفعه وثباته، وأن النهاية دائما له ليحق الحق ويبطل الباطل وقد ختم -سبحانه وتعالى- الآية الكريمة بقوله: كذلك يضرب الله الأمثال.
والإشارة إلى بيان مثل الحق بالماء والفلز، ومثل الباطل بالزبد الذي لا يبقى، والمعنى كهذا المثل الذي بين الله - تعالى - به الحق والباطل يبين الأمثال المشابهة، ويبين المعاني الجلية، والحقائق الثابتة، ويهدي بها من يشاء من عباده.
* * *
زهرة التفاسير