أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الباب الرابع في سُمُوِّ هِمَمِ المُلوك الثلاثاء 03 يناير 2023, 8:50 am | |
| الباب الرابع في سمو همم الملوك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمَّة فإني ما رأيتُ أسقط لقدم الإنسان من تداني همَّته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره وان أذله ذل وهان قدره.
وتفسير معنى الهمَّة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الأكابر لأنهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. وإعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالأراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يُعاب به والهمَّة والأنفة للملوك لأن الله ركَّب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية.
حكاية: أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الأعداد.
وكان هارون الرشيد يوماً راكباً في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليُعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلمَّا نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت إليَّ بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الأعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يُعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يُقال؟ قال ليُعطى فرساً فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزَّهت همَّتك عن ذكر الحقير.
ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلاً حسناً فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفاً فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح.
حكمة: في وصية نامة أزدشير لولده إذا أردت أن تهب لأحد من ولدك شيئاً فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني اعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الأحياء لا في حساب الأموات واجتهد انك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة هِمَّة الملك.
حكمة: يُقال أنه كان للملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتاباً يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وانني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى.
فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهماً واحداً ولا دانقاً فرداً من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه ويعود بقبح قاعدته ورسمه ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته.
حكاية: حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالساً في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال أنا مظلوم فقال مَنْ ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين إن كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما أبيع مكاني الذي أكرمني به الأمير بضياع ولا غيرها فتعجَّب الأكابر الحاضرون من علو همَّته وشرف نفسه ومروءته.
الهمَّة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة وترك الدنيا وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة.
وأمَّا الهمة بالسخاء وبذل المال واسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية.
حكاية: يُقال أن يحيى بن خالد خرج يوماً من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً فلمَّا قرب نهض قائماً وسلَّم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي إليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وان يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهراً كاملاً فلمَّا انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره وطول دهره ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي.
حكاية: كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوَّادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهاً منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال ونهاية الجمال فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري ولا المساومة في السراري ولولا أنها مزينة داري لأنفذتها إليك ولم أبخل بها عليك.
ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدراً أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى أسكره وأخذ الجارية معه إلى داره ولم يمد إليها يده من شرف نفسه وهمَّته ثم رسم من الغد باستدعاء جعفر فلمَّا حضر قدَّم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيُّراً في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه دراهم فكانت الفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف ألف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئاً آخر وأمر بحمله إلى دار جعفر والجارية أيضاً، هكذا كانت همم الأكابر.
وسُئِلَ بعض الحكماء مَنْ أعلى الناس حالاً؟ فقال أعلاهم همَّة وأكثرهم علماً وأغزرهم فهماً وأصفاهم حالاً فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته؟ فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية والنفوس الشريفة السامية كما قيل جاور بحراً أو ملكاً.
حكاية: قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع عليَّ ديون يعجزني بعض قضائها وعسر علي أداؤها واحتشد ببابي أرباب الديون وتزاحم الطالبون ولازمني الغمرماء فضاقت حيلتي وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني إلى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمّك وضائقتك وغمّك إلا البرامكة فقلت ومَنْ يقدر على احتمال تكبرهم والصبر على تيههم وتجبرهم فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصتُ عليهما قصتي وأبديت لهما غُصَّتي.
فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدتُ إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر منقسم الفكر منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدواً فرأيت ببابي رجلاً معه رقعة مكتوب فيها أنك لمَّا عُدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال إليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي الف الف درهم فصارت الجملة الفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك.
حكاية: يُقال أنه كان لأنو شروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر اليه أنو شروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنو شروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمَّة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الإحسان ويحجد الامتنان لا أصل له.
حكاية: يُقال أن الرشيد استدعى صالحاً في التاريخ الذي تغيَّر فيه على البرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة آلاف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وإن لم يحصلها إلى المغرب فخذ رأسه عن جسده وأتني به وإياك ومراجعتي في شيء من أمره.
قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة آلآف ألف درهم قال صالح فقلت له دَبِّر حيلة في أمرك فإني لا أقدر أن أمهل فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع في منزله البُكاء والاستغاثة والصُّراخ.
قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا إليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصتُ عليه القِصَّة وشرحتُ عليه ما ناله فاغتمَّ لذلك وأطرق إلى الأرض ساكناً زماناً ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر باحضارها وأنفذ قاصداً إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له إنه عرض بيع ضياع جليلة فانفذ ما عندك من الدراهم فانفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فانفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما أعرف خلاصي إلا منك واتمام بقية ديني فأطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوَّادة دنانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعتُ هذه لأمير المؤمنين من التُجَّار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوَّادة وإذا رآها عرفها وقدم الآن مال مصارة منصور يا صالح قل لأمير المؤمنين ليهب لنا منصوراً.
قال صالح فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من ردائته وفساده، وخبث أصله وميلاده وهو هذا البيت.
فما استوهبَتَنِي مُتمَسكاً بِي ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ
قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وانقذوك من الهلاك ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصتُ عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجَّب وأمر برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز ان نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصتُ عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله.
قال يحيى إذا كان الإنسان مقلاً وجعل يطلب العذر لمنصور.
قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائر يُخرج رجلاً مثلك في الوجود فوا أسفاً كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب.
حكاية: يُقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى أبعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أرمينية لعبد الله وسيَّرهٌ إليها.
ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله واختل عليه حاله فزوَّر كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلّم الكتاب إلى بعض حُجَّابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلّمه إلى عبد الله بن مالك ففضَّه وقرأه وتدبَّره وعلم أنه مزوَّر فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئتني بكتاب مزوَّر ولكن طب نفساً فإنا لا نُخيب سعيك فقال الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزوَّر.
فقال عن حال هذا الكتاب الذي اتيت به فإن الف درهم مع الفرس والجنيب والحُلة والتشريف.
وإن كان الكتاب مزوَّراً أمرتُ أن تُضرب مائتي خشبة وان تحلق محاسنك.
ثم أمر عبد الله أن يُحمل إلى حجرة الحبس وان يُحمل اليه ما يحتاج إليه وكتب كتاباً إلى وكيله ببغداد أنه قد وصل إلينا رجلٌ معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سوء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقّق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرّفني الجواب فلمَّا وصل كتاب عبد الله الى وكيله ركب ومضى الى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلّم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عُدْ إلينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت إلى ندمائه وقال لهم ما جزاء مَنْ حمل عني كتاباً مزوَّراً إلى عدوي فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب ويذكر جنساً من العقاب فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خِسَّةِ الأصل ودناءته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البُغض والآن قد سبَّبَ اللهُ هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصُّلح بيننا ووفَّقه لذلك وقيَّضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب عليَّ أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه وأكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفّر على إكرامه وإعزازه واحترامه وسُمُوّ هِمَّته.
ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده.
بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسُررتُ بسلامتك وابتهجت باستقامتك وكان ظنك أن ذلك الحر زوَّر عني كتاباً ولفَّق عني خطاباً وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته وليس بمزوَّر عني وتوقعي من كرمك وحُسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله وتعرف له حُرمة قصده وان تخصَّه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه.
ثم عنون الكتاب وختمه وسلّمه إلى الوكيل فأنفذه الوكيل إلى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحَبُّ إليَّ فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المُحلّاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيَّرهُ بصحبة مأمونه إلى بغداد فلمَّا وصل إلى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان فأذن له في الدخول فدخل إليه وقبَّل الأرض بين يديه.
فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان وغدر الحدثان فنشرتني واحييتني أنا الذي فعل معك وأي شيء أعطاك ووهب لك.
فقال من بركاتك وظلك وكرمك وهمَّتك وفضلك أعطاني ونولني وأغناني وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر إليك والحُكم في يديك فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك عليَّ المِنَّة العظيمة واليد الجسيمة إذ بدَّلت تلك العداوة التي كانت بيني وبينك وبين ذلك الرجل المُحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك.
ثم أمر له من المال بمثل ما اعطاه عبد الله ابن مالك.
وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مَنْ يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همَّته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ إلى عمل دنيء وتعلّق بلئام الناس ولكنه لمَّا كانت له همَّة سامية تهوَّر وأقدم وخاطر مع رجل مُحتشم كريم الأخلاق طاهر الأعراق فوصل بذلك التهوُّر إلى مُراده.
انظر الى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين وإلى سمو همَّتهما بماذا عاملاه وبماذا قابلاه ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلّص من شدة زمانه وضائقته وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر.
حكاية: يُقال أنه تفاخر عبدان: عبد لبني هاشم وعبد لبني أمية فكل واحد منهما قال موالي أكرم من مواليك فقالا نمضي ونجرب فمضى مولى بني أمية إلى واحد من مواليه وشكا حالته وضائقته وتألم من فاقته فأعطاه عشرة آلاف درهم حتى طاف على عشرة من مواليه فاجتمع له مائة ألف درهم فأخذها وأحضرها بين يدي مولى بني هاشم وقال امض أنت إلى بني هاشم وجربهم وانظر كرمهم فأتى مولى بني هاشم الى الحسين بن علي رضي الله عنهما وشكا حاله وذكر فقره وما أفضى به الحال إليه فأمر له بمائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن جعفر وشكا إليه فأعطاه مائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن ربيعة فأعطاه مائة ألف درهم فمضى بالمال إلى مولى بني أمية وقال له: إن مواليك تعلموا الكرم من موالي ولكن عُدْ بنا إليهم لنجربهم ثانياً ونُعيد المال إليهم فمضى مولى بني أمية إلى مواليه وقال لهم قد استغنيت عن هذا المال وقد سهَّل اللهُ تعالى لي من مكان ما أسدُّ به فقري ولم يبق لي في هذه الدراهم حاجة وقد أعدتها فأخذ كل واحد منهم دراهمه وحمل مولى هاشم الدراهم إلى مواليه قال لهم قد تيسَّر لي من مكان ما زالت به حاجتي وانقضت وقد أعدت المال الذي أخذت منكم فاستعيدوه فقالوا نحن لا نأخذ شيئاً قد وهبناه ولا تعود هباتنا تختلط بأموالنا.
حكمة: قال بعض الحكماء إجلال الأكابر من الكرم وحُسن الخلال واحتقار الناس من لؤم الأصل وقُبح الخلال والهمَّة بغير آلة خفة وإنما الهمَّة مع الجد تجمُّل وتلطّف وتحسُّن وتظرُّف لأن الرجل إذا كان ذا همَّة وجدَّة غير مساعد لم يكن له من همَّته سوى الانحطاط لأنه يجب أن تكون الهمَّة علوية والجدُّ عالياً، وقد قيل أيضاً الكلام بالدرجة والعمل بالقدرة.
وينبغي أن تكون الهمَّة الى بغداد والزاد الى فرسخين وكذا الجلال.
حكاية: كان عبد العزيز بن مروان أميراً بمصر فركب ذات يوم واجتاز بموضع وإذا برجل ينادي ولده يا عبد العزيز فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة آلاف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه ففشا الخبر بمدينة مصر فكل من ولد في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز. وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الكبير بخراسان فإنه اجتاز يوماً بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاس فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم وقال إنما أردتم الاستخفاف باسمي.
فانظر الآن بين الحر القرشي وبين المتشرف بالدراهم.
وفي هذا الباب كلام طويل ونكتفي بهذا لئلا يطول الكتاب.
وينبغي أن تعلم أن الهمَّة وإن تأخرت فإنها توصل صاحبها إلى مُراده يوماً من الزمان قال الشاعر: سَعيي لِمجدِ ولولاَ صِدقُ معَرفتي انِي سأَدرك ما قد كُنتُ أطلُبه لو كُنتُ فِي خِدمةِ السُلطانِ ذا طلبِ للِزَادِ ما كُنت مِن حَامِيهِ أخَطُبه
وإنما المحمود في الرجال أن لا يتجاوز بهمته فوق قدره وقدرته لئلا يعيش مغتماً طول زمانه ومدته كما قال الشاعر: لو كُنتَ تَقَنعُ بِالكِفَايةِ لَم يكُن بِالدَهرِ أرفَه مِنكَ عَيشاً فِيه أو كُنتَ يُوَماً َفوقَ ذَلِكَ طَامعَاً لم تكفِك الدُنيَا بِمــا تَحوِيه |
|