ثم قال تعالى إنزاهاً لنفسه، وتوحيداً لها مِمَّا جعلوا معه:
(لا إله إلا هو العزيز الحكيم):
العزيز في انتصاره مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إذا شاء، الحكيمُ في حُجَّتِهِ وعُذْرِهِ إلى عباده.
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منهُ آياتٌ مُحكماتٌ هُنَّ أمُّ الكتابِ):
فيهن حُجَّةُ الرَّبِّ، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وُضعن عليه:
(وأخَرُ مُتشابهاتٍ):
لهن تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، ألاّ يُصرفن إلى الباطل، ولا يحُرَّفن عن الحق.
يقول عز وجل:
(فأمَّا الذين في قلوبهم زَيْغٌ):
أي ميل عن الهدى:
(فيتَّبعون ما تشابه منه):
أي ما تصرف منه، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة:
(ابتغاء الفتنة):
أي اللبس:
(وابتغاء تأويله).
ذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم: خلقنا وقضينا.
يقول تعالى:
(وما يعلم تأويله):
أي الذي به أرادوا ما أرادوا:
(إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا):
فكيف يختلف وهو قول واحد، من رب واحد.
ثم رَدُّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، واتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضا، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر.
يقول الله تعالى في مثل هذا:
(ومَا يَذَّكَّرُ):
في مثل هذا:
(إلا أولوا الألباب . ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا):
أي لا تمل قلوبنا، وإن مِلْنا بأحداثنا.
(وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّكَ أنتَ الوَهَّابُ).
ثم قال تعالى:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولوا العلم):
بخلاف ما قالوا:
(قائمًا بالقسط):
أي بالعدل فيما يريد:
(لا إله إلا هو العزيز الحكيم . إن الدين عند الله الإسلام):
أي ما أنت عليه يا مُحَمَّد: التوحيد للرب، والتصديق للرسل.
(وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم):
أي الذي جاءك، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك:
(بغيًا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب . فإن حآجُّوك):
أي بما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هي شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحق:
(فقل أسلمتُ وجهي لله):
أي وحدهُ:
(ومَنْ اتبعنِ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأمِّيِّينَ):
الذين لا كتاب لهم:
(أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما عليك البلاغ، واللهُ بصيرٌ بالعباد).
ما نزل من القرآن فيما اتبعه اليهود والنصارى
ثم جمع أهل الكتابين جميعا، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا، من اليهود والنصارى، فقال:
(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس)... إلى قوله: (قل اللهم مالك الملك):
أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره (تؤتي المُلك مَن تشاءُ، وتنزعُ المُلك مِمَّنْ تشاءُ، وتُعِزُّ مَن تشاءُ، وتُذِلُّ مَنْ تشاءُ، بيدكَ الخير):
أي لا إله غيرك:
(إنك على كُلِّ شَيْءٍ قدير):
أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك.
(تُولِجُ الليلَ في النَّهارِ، وتُولِجُ النَّهارَ في الليل، وتٌخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، وتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ):
بتلك القدرة:
(وتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ):
لا يقدر على ذلك غيرك، ولا يصنعه إلا أنت، أي فإن كنتُ سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والإخبار عن الغيوب، لأجعله به آية للناس، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمر النبوة، ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب؛ فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة! أن لو كان إلها كان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد، من بلد إلى بلد.
ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنين وتحذيرهم
ثم وعظ المؤمنين وحذرهم، ثم قال:
(قل إن كنتم تُحِبُّونَ اللهَ):
أي إن كان هذا من قولكم حقاً، حباً لله وتعظيماً له:
(فاتَّبٍعُونِي يُحببكُمُ اللهُ، ويغفر لكم ذُنُوبكُم):
أي ما مضى من كفركم:
(واللهُ غفورٌ رحيمٌ . قل أطيعوا اللهَ والرسولَ):
فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم:
(فإن تولّوا):
أي على كفرهم:
(فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافرين).
ما نزل من القرآن في خلق عيسى
ثم استقبل لهم أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان في بدء ما أراد الله به، فقال:
(إنَّ اللهَ اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيمَ، وآل عمرانَ على العالمينَ . ذُرِّيَةً بعضُها من بعض، واللهُ سميعٌ عليمٌ).
ثم ذكر أمر امرأة عمران، وقولها:
(َرَبِّ إنِّي نذرتُ لك ما في بطني مُحَرَّرًا):
أي نذرته فجعلته عتيقاً، تعبده لله، لا ينتفع به لشيءٍ من الدنيا:
(فتقبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنتَ السَّميعُ العليمُ . فلمَّا وضعتها قالت رَبِّ إنِّي وضعتًها أنثى، واللهُ أعلمُ بما وضعت، وليس الذكرُ كالأنثى):
أي ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها مُحَرَّرةً لك نذيرة:
(وإنِّي سمَّيتُها مريم، وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
يقول الله تبارك وتعالى:
(فتقبَّلها رَبُّها بقبولٍ حَسَنٍ، وأنبتها نباتًا حَسَنًا، وكفّلها زكريا):
بعد أبيها وأمها.
قال ابن هشام: كفلها: ضمها.