أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة ص الآيات من 45-48 السبت 13 فبراير 2021, 12:18 am | |
| وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هنا أيضاً (واذكر) أي: بالحمد والثناء (عبادنا) جمع عبد وقلنا: إن العبودية ممقوتة إنْ كانت للبشر، لكن العبودية لله عِزٌّ وشرف (إبراهيم) هو أبو الأنبياء (وإسحاق) وهبه الله لإبراهيم بعد أنْ أسلم الحكم لله حين أمره بذبح ولده إسماعيل (ويعقوب) هو ابن إسحاق.
وقد وقفنا على قصة هؤلاء الأنبياء في قوله تعالى على لسان إبراهيم يقول لولده إسماعيل: (يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ..) (الصافات: 102) فلم يشأ إبراهيم أنْ يقبل على ذَبْح ولده قبل أنْ يُبيِّن له الأمر الذي صدر إليه، ذلك لأنه أشفق عليه أنْ يأخذه على غِرَّة فيمتلئ قلب الولد على أبيه حقداً؛ لأنه لا يعرف الحكمة من قَتْل أبيه له، ثم أراد أن يشرك ولده معه في التسليم لله وألاّ يحرمه الأجر.
لذلك قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا..) (الصافات: 103) يعني: إبراهيم وإسماعيل: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ..) (الصافات: 103-105) أي: استسلمتَ واستسلم ولدك، إذن ارفع يدك: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات: 107-113).
إذن: جاء إسحاق وجاء من بعده يعقوب نتيجة لتسليم إبراهيم وانصياعه لأمر ربه في ذبح إسماعيل، فأبقى على إسماعيل، ووهب إسحاق ويعقوب زيادةً وفضلاً من الله؛ لأن الحق سبحانه لا يريد بالابتلاء أنْ يعذِّب الناس.
لذلك قلنا: إن لسيدنا إبراهيم فضلاً على كل مسلم، وجميلاً في عنق كل مؤمن..
لماذا؟
لأن مسألة الذبح لو نُفِّذت في إسماعيل لصارتْ ابتلاءً من الله للإنسان بأنْ يتقرَّب إلى الله بذبح ولده، لكن سيدنا إبراهيم بإيمانه وتسليمه الأمر والحكم لله تحمل عنّا هذه المسألة، ورفع عنا هذا الحكم، وإلا صارتْ المسألة نُسُكاً وعبادة لازمة لكل مؤمن من بعده.
وصدق القائل: سَلَّمْ لِرَبِّك حكْمَهُ فَلِحِكْمَةٍ يَقْضِيه حَتَّى تَسْتَريحَ وتغْنَما وَاذْكُرْ خليلَ الله في ذَبْحِ ابْنِهِ إذْ قالَ خالِقُهُ فَلَمَّا أسْلَمَا
ونتعلم من هذه المسألة أن كل أمر أو حدث يُسيء الإنسان في ظاهره ويتعبه ويعتبره الإنسان مصيبةً لا ينبغي أنْ ننظر إليه مُنفصلاً عن فاعله، لكن يجب أنْ نأخذَ الحدث بضميمة مَنْ أحدثه؛ لأن الحكم على الحدث يتغير بالنظر إلى الفاعل.
وأوضحنا هذه المسألة وقلنا: هَبْ أن ولدك دخل عليك، والدم يسيل من وجهه، فإنك لا تهتم بالإصابة بقدر ما تهتم بالفاعل، فأول سؤال تسأله: مَنْ فعل بك هذا؟
ثم تنتظر أن تسمع اسم الفاعل، فإنْ قال الولد: عمي ضربني فإنك ستهدأ وتقول: لابُدَّ أنك فعلتَ شيئاً استوجبَ أنْ يضربك عمك، لكن إنْ قال لك: فلان خاصة إنْ كان عدواً لك، فإنك تقيم الدنيا ولا تقعدها.
إذن: لا يمكن أنْ تحكم على الفعل بالخير أو الشر إلا بنسبته إلى فاعله؛ لأنه بنسبة الفعل إلى فاعل تتمحض الخيرية فيه أو يتمحَّض الشرُّ فيه.
ومعنى (أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ) (ص: 45) أصحاب الأيدي وهي جمع يد، وتُطلَق اليد على الجارحة المعروفة، وتُطلَق على ما تأتي به الجارحة من فعل، تقول: فلان له يد عليَّ يعني: فضل وجميل، ولأن أغلب الأفعال تُزَاوَلُ باليد سُمِّيَتْ النعمة التي تصل بطريق اليد باسم هذه الجارحة الفاعلة.
ومن ذلك قوْل القائل: له أيادٍ عليَّ سابغة أعدّ منها ولا أعددها
وفَرْق بين الحركة الفاعلة التي تقوم بالفعل، ومعنى آخر في الحركة الفاعلة هو ما يُوجب عليك الحركة، مثلاً حين نريد البَذْل والعطاء، فمَنْ عنده مال يبذل ويعطي بيده، أما المعدم فلا يعطي إنما ينصح مَنْ عنده المال بأنْ يبذلَ منه.
يقول تعالى: (لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ..) (التوبة: 91).
فالعمل هنا ليس باليد إنما باللسان، لكن لما كانتْ اليد هي الآلة التي نباشر بها أكثر الأعمال نسبنا كلَّ خير يتعدَّى منك إلى غيرك نسبناه إلى اليد؛ لذلك يقول سبحانه: (يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..) (الفتح: 10).
فإذا كان الإنسان غير واجد للمال، وغير قادر على النصح باللسان، فإن الله تعالى لا يحرمه أبداً من العمل الصالح في البذل، ويكتفي منه بأنْ يفرح بمَنْ يبذل ويسعده العطاء من غيره.
ومثال ذلك: الرجل الذي سمعوه يدعو عند الكعبة يقول: اللهم إنك تعلم أنِّي عاصيك، لكن أحب مَنْ يطيعك.
والأصمعي يسمع رجلاً عند الملتزم يدعو ويقول: يا رب أنا أعلم أني عاصيك وأستحي وأنا عاصيك أنْ أطلب منك، لكن لا إله إلا أنت، فلمن أذهب؛ فقال له: يا هذا، إن ربك يغفر لك لحُسْن مسألتك.
ومعلوم أن المؤمن يجتهد في الدعاء خاصة عند الملتزم، ويحاول أن يُحسِن الدعاء، ويُحسِن المسألة في هذا الموقف.
مرتبة أخرى يجعلها الله لغير الواجد حتى لا يُحْرم الأجر في العطاء، هي أنْ يحزن لأنه لا يجد ما يبذله، كما جاء في قول الله تعالى: (وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92).
فالحق سبحانه لا يحرم مؤمناً أنْ يكون له موقف في البذل، ولو كان بَذْلاً سلبياً.
ومن معاني اليد: القوة كما في قوله تعالى: (يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..) (الفتح: 10) فالمراد (أُوْلِي ٱلأَيْدِي..) (ص: 45) أي: أصحاب القوة في طاعة الله.
و (ٱلأَبْصَارِ) (ص: 45) أي: البصائر في العلم والدين والحكمة، أما الأبصار بمعنى حَاسَّةِ البصر، فهي موجودة في الجميع المؤمن وغير المؤمن، إذن: المراد الأبصار التي ترى ثم تؤدي مهمة أخرى فوق البصر، وتزيده نوراً على نور.
إذن: البصر وحده لا يكفي لأن آيات الله في الكون هي المعطيات، كما نقول في المسألة الرياضية، وهذه المعطيات تحتاج إلى بصيرة واعية لتصل بالمعطيات إلى المطلوب، وهو الإيمان بمَنْ أعطى هذه المعطيات.
فالأبصار حينما تنظر في الكون، وترى معطياته، وترى آيات الله فيه، ثم لا تتأثر عقلياً ولا وجدانياً بها، ولا تلتفت إلى صانعها ومبدعها، فلا قيمة لهذه الأبصار.
فالمعنى (ٱلأَبْصَارِ) (ص: 45) أي: أصحاب البصائر التي شغلتْ العقول والوجدان، بما تراه من الآيات، وعلمت أن هذا الكون لا يمكن أنْ يُنْسَب إلا إلى قوة قادرة ظاهرة مسيطرة، لا يوجد لها شريك، وإلا لو كان له شريك لظهر أثره، ولدافع عن حقه في هذا الملْك، وما دام لم يظهر هذا المعارض ولم يَدَّعِ أحد أنه خلق، فالقضية تَسْلَم لمن ادعاها.
لذلك يقول سبحانه: (قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء: 42).
وقدَّم الأيدي على الأبصار، لأن عمل الأيدي نتيجة نهائية للبصر، لأنك تبصر آيات الله في كونه، وتعرف أنه ربُّ الجميع، وخالق الجميع، ورازق الجميع، فيرقّ قلبك للفقير وتعطيه، لعلَّكَ تصبح مثله في يوم ما فتجد من يعطيك، ولا تحقد على واجد وأنت معدم، لأن خير الواجد سينالك بأيِّ حال.
لذلك قال تعالى: (وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) (النساء: 9).
ولنعتبر بقوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً..) (الكهف: 82).
ثم يقول سبحانه: (إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ) (ص: 46).
أخلصناهم يعني: أعطيناهم شيئاً خالصاً لهم، والخالصة التي خصصناهم بها هي التي تلفتهم دائماً إلى دار الجزاء وهي الآخرة، وبهذه الذكرى يظل الإنسان دائماً مُسْتحضراً ثوابَ الطاعة وعقابَ المعصية، وإذا استحضر الإنسان هذه العاقبة استقام على الطاعة وابتعد عن المعصية.
لذلك يقول -صلى الله عليه وسلم- في بيان هذه المسألة: ".. لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
لماذا نفى عنه الإيمان في هذه اللحظة؟
قالوا: لأنه غفل عن عاقبة فِعْله غفل عن الجزاء، فالغفلة هي التي تكسلنا عن الطاعة، وتُوقِعنا في المعصية، وتُغرينا بها، ولو استحضر الإنسانُ العقوبة على المعصية ما وقع فيها.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا: لو أن شاباً عنده شرهٌ جنسي.
وقلنا له: سنوفر لك ما تريد، لكن بعد أنْ تقضي ليلتك سنأخذك إلى هذا الفرن المسجور، ونضعك فيه لمدة ساعة واحدة، مثل هذا الشاب ما ظنكم به؟
لابُدَّ أنه سيفر من هذه المعصية، ويهرب منها، ويزهد فيها..
لماذا؟
لأنه عاين العاقبة واستحضر الجزاء.
كذلك الطالب الذي يجتهد في دروسه، حتى أنه يهمل في أكله وشربه، لماذا يفعل ذلك؟
لأنه استحضر لذة النجاح وشرف التفوق وعُلُوّ المنزلة بين أهله وزملائه، وفي المقابل الطالب المهمل لا يهمل إلا لأنه غفل عن عاقبة الإهمال وذِلّة الفشل يوم أنْ تظهر نتيجته.
فمعنى (ذِكْرَى ٱلدَّارِ) (ص: 46) أي: يظل دائماً على ذِكْر لها يستحضر الثواب على الطاعة، فيقبل عليها، ويستحضر العقاب على المَعصية فيفرّ منها.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ) (ص: 47).
أي: الذين اصطفيناهم، ولله تعالى في الخَلْق اصطفاءات يصطفي من الأماكن، ويصطفي من الأزمنة ما يشاء، كما اصطفى من الأمكنة الكعبة وبيتَ المقدس، واصطفى من الأزمنة شهر رمضان كذلك يصطفي من الناس رسلاً، ويصطفي من الملائكة رسلاً.
والاصطفاء ليس تدليلاً للمصطفى ولا محاباة له، إنما ائتمان المصطفَى على ما يريده من اصطفاه أي المصْطِفي من إشاعة الخير في جنسه، فاصطفاء الرسل ليس تدليلاً لهم، إنما الاصطفاء يُحمِّلهم أعباء جسيمة في ذواتهم وأنفسهم وفي أموالهم وأهليهم.
كذلك اصطفى رمضان لا لنعبد الله ونطيعه في رمضان وحده، إنما ليشيع الطاعة في الزمان كله بأنْ تأخذ من رمضان الطاقة اللازمة للعام كله، إذن: فاصطفاء الزمان أو المكان أو الإنسان أو الملائكة ليس تدليلاً لخَلْق على خَلْق، إنما لإشاعة الخير في كل الخَلْق للخَلْق.
ومعنى (ٱلأَخْيَارِ) (ص: 47) جمع خيِّر.
والمعنى: اصطفيناهم لما فيهم من الخيرية، التي تؤهِّلهم لهذا الاصطفاء. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة ص الآيات من 45-48 السبت 13 فبراير 2021, 12:19 am | |
| وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
سيدنا إسماعيل معروف لنا جميعاً من خلال قصته مع أبيه إبراهيم، والخلاف هنا بين العلماء في سيدنا ذي الكفل، لأن من الرسل مَنْ عدَّهم الله في موكب الرسالات، لكن لم يذكر لنا إلا أسماءهم وأوصافهم، وذو الكفل ذُكِر هنا بهذا الوصف.
(وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ) (ص: 47) فاليسع لا نعرف عنه إلا اسمه، ولم يذكر القرآن مَنْ هو، ولا متى بُعِث، ولا إلى مَنْ أرسِل، ولا المنهج الذي جاء به، كذلك في ذي الكفل لم يذكر عنه القرآن إلا اسمه، ووصفه هنا بأنه من المصطفين الأخيار، وفي سورة الأنبياء قال عنه الحق سبحانه: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ) (الأنبياء: 85-86).
فوُصِف مرةً بأنه من الأخيار، ومرة بأنه من الصابرين، ومرة من الصالحين، ولهذا أدخله الله في رحمته، وهذه التي جعلت العلماء يختلفون في ذي الكفل، أهو رسول أم غير رسول؟
لكن جمهور العلماء على أنه رسول، بدليل أن الله تعالى سلكه ضمن هؤلاء الرسل.
ومما قيل في ذي الكفل أنه في فترة اليسع وفي رسالته أراد أن يستخلفَ على الناس رجلاً بعده، وأراد أنْ يرى سيرته في الرعية، وكيف سيتصرف هذا في أخريات حياته؟
وحين رأى أن قوته عجزتْ عن القيام بأمر الدعوة.
وكان من حرصه على الدعوة من بعده أنْ يختبر مَنْ يستخلفه وينظر ما يفعل.
فلما جلس اليسع في قومه قال: مَنْ يتقبل مني بثلاث؟
والباء عادة كما في هذه العبارة تدخل على الثمن، كما تقول: اشتريتُ كذا بكذا، والمعنى: مَنْ يتكفل لي بثلاثة أشياء وأستخلفه على القوم، ثم قال في بيان هذه الثلاث: أنْ يصومَ النهار، ويقومَ الليل، ولا يغضبَ.
فقام رجل من القوم تزدريه العين وقال: أنا، فأعاد عليه: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟
قال: نعم، فردَّه.
وفي الغد، جلس اليسع في مجلسه، وعرض على القوم مقالته، فقام الرجل بعينه وقال: أنا، فعرف اليسع أن الرجل عنده عزيمة وإصرار على القيام بهذه المهمة، فاستخلفه على القوم.
وقد تكلم العلماء في هذه الشروط الثلاثة التي جعلها سيدنا اليسع -عليه السلام- حيثيات الاستخلاف، قالوا: لأن الذي يصوم النهار يصوم عما أحله الله في غير الصوم، والذي يصوم عَمَّا أحله الله يصوم من باب أَوْلَى عما حرَّمه الله، فضمن بذلك بُعْده عن المحرمات، والذي يقوم الليل ترك راحته وترك التنعُّم ليأنس بربه، ومَنْ كانت فيه هذه الصفة لا يتخذ الاستخلاف للنعمة والرفاهية إنما يتخذه للقيام بأعبائه، وإلا لو أراد التنعُّم لَنام الليل مِلْء جفونه.
أما عدم الغضب فهي صفة لابُدَّ أنْ تتوافر في كل مَنْ يسوس الرعية، أو يجلس في مجلس حكم بين الناس، ومعلوم أن للرعية أخلاقاً شتى وصفات متباينة، فلابُدَّ لمن يتولَّى أمرهم أنْ يكون حليماً لا يغضب؛ لأن الغضب يستر العقل، فلا يختار بين البدائل، ولا يُحسن التصرف في الحكومة.
لذلك قالوا للقاضي حين يغضب: ردَّ نفسك، يعني: أنت لا تصلح لمنصب القضاء.
إذن: قال ولا تغضب لأن العقل يتأثر بالغضب، فتختلف موازينه في الحكم، وتختلف كذلك مَلَكات النفس فلا يصح الحكم.
قالوا في مسألة عدم الغضب: إن الشيطان لم يستطع التدخُّل في صيام النهار وقيام الليل، فأراد أنْ يدخل إليه من ناحية عدم الغضب، فأرسل إليه ذريته ليُغضبوه فلم يغضب ذو الكفل -عليه السلام- فقال لهم: ارفعوا أيديكم عنه وسأتولى أنا هذا الأمر، وكان ذو الكفل لا ينام إلا نومةً واحدة في القيلولة، هي كل ما ينام في الليل والنهار، وكان يأمر خادمه ألاَّ يدخل أحد عليه في هذا الوقت، فكان الشيطان يتحيَّن هذا الوقت، ويطرق على ذي الكفل الباب، ويُحدث عنده ضجة يقول: أنا رجل ظلمني قومي وفعلوا بي كيت وكيت وأريد أنْ تنصفني منهم.
فقال ذو الكفل: أَلاَ تعلم أن هذا الوقت هو الوقت الذي أستريح فيه، اذهب وتعالَ في وقت أجلس فيه للحكم بينكم، وأنا أقضي في أمرك.
وفي اليوم التالي، جاء الشيطان وفعل كما فعل بالأمس، وفي اليوم الثالث وجد الباب مغلقاً فنفذ إلى ذي الكفل بطريقته الخاصة، قالوا: دخل من كوة في البيت في غفلة من الحارس، وطرق على ذي الكفل باب مِخْدعه، فلما رآه قال: كيف دخلتَ؟
فتلعثم.
قال: إذن: أنت هو.
أي الشيطان قال: والله لقد احتلنا كثيراً على أنْ نغضبك فلم نفلح، ثم تركه وانصرف.
أما عن خلاف العلماء في رسالة ذي الكفل، فأنا أريد أنْ أُجلَّ العلماء عن الخلاف في شيء يصح أن نلتقي فيه.
قالوا: الكفل من التكفُّل، كما في قوله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا..) (آل عمران: 37) والكِفْل: هو النصير.
والذين قالوا برسالته استدلوا على ذلك بأمرين: الأول أن الله ذكره في عداد الرسل، الآخر: أن اليسع -عليه السلام- استخلفه.
والحق سبحانه وتعالى سكت على هذا الاستخلاف ولم يُغيِّره، وهذا إقرار للاستخلاف وموافقة عليه، كما وافق الحق سبحانه لموسى -عليه السلام- لما طلب من ربه أن يُؤيِّده بأخيه هارون، فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي..) (القصص: 34).
قال آخرون: بل هو رجل متطوع بالدعوة، فَسَد الناس في زمانه، ورأى أن هذا الفساد لا يصلحه إلا رجلٌ له عدالة في الحكم، ونزاهة في القضاء بين الناس، ورأى في نفسه هذه المواهب، فعرض على قومه أن يقوم بأمرهم، وأنْ يسيرَ فيهم بالعدل فوافقوا عليه.
إذن: ذو الكفل في رأَي هؤلاء أنه ليس رسولاً، بل رجل متطوع بمنهج كمنهج الرسل. |
|