إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله تعالى في الآية السابقة: (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (يس: 11) لها موضع هنا، فالمغفرة والأجر الكريم في الآخرة، فناسب أنْ يُحدِّثنا الحق سبحانه عن مشهد من مشاهدها: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ) (يس: 12).
قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ) (يس: 12) هذان ضميران للمتكلم على سبيل التعظيم، فإنَّا هي نحن، كما لو قلت: زيد زيد، فماذا أضافتْ نحن بعد إنَّا؟
القاعدة في صياغة اللغة أن تمييز الشيء يأتي حين يكون هناك اشتراك، فإنْ لم يكُنْ اشتراك فلا يأتي التمييز كما لو قُلْتَ لمن يطرق على بابك: مَنْ أنت؟
يقول: محمد، وأنت تعرف محمدين كثيرين.
فتقول: أيُّ المحمدين أنت؟
فيقول: محمد أحمد، وأيضاً أنت تعرف كثيرين بهذا الاسم، فتقول: محمد أحمد مَنْ؟
فيقول: محمد أحمد محمود.
وعندها يحصل التمييز لوجود الاشتراك في الأولى، وفي الثانية.
فكأن الحق سبحانه لما قال (إِنَّا) (يس: 12) وليس هناك غيره قال: (إِنَّا نَحْنُ) (يس: 12) يعني: كأنه قال إنَّا إنَّا يعني: لا أحدَ سِوَاي، فليس في هذه المسألة اشتراك.
وسبق أنْ أوضحنا أن كلام الله تعالى عن نفسه قد يأتي بصيغة الجمع كما في: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ) (القدر: 1).
وقال:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) وتلحظ أن الضمير هنا للتعظيم، وهكذا في كل الآيات التي تتحدث عن فعل من أفعاله تعالى، أو عن فضل من أفضاله، ذلك لأن كل فعل من أفعاله تعالى يحتاج إلى عدة صفات: يحتاج إلى علم، وإلى حكمة، وإلى قدرة... الخ، وكل هذه الصفات كامنة في (نحن) الدالة على العظمة المتكاملة في الأسماء الحسنى لله تعالى أما حين يتكلم سبحانه عن الذات الواحدة، فيأتي بضمير المتكلم المفرد كما في: (إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ) (طه: 14) ولم يقُلْ مثلاً: إننا نحن الله؛ لأن إننا ونحن تدل على الجمع، والكلام هنا عن الوحدانية، فلا بُدَّ أنْ يأتي بصيغة المفرد.
لذلك يؤكد الحق سبحانه هذه الوحدانية بعدة وسائل للتوكيد في قوله سبحانه: (إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ) (طه: 14) فلم يَقُلْ سبحانه: فاعبدنا وأقم الصلاة لذكرنا، إنما: (فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ) (طه: 14) لأن العبادة تكون لله وحده.
قم إن عملية البعث وإحياء الموتى لله وحده لا يشاركه فيها أحد.
وقال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ) (يس: 12) قبل (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ) (يس: 12) مع أن الكتابة تسبق عملية الإحياء، الكتابة كانت في الدنيا، والإحياء في الآخرة، ف
لماذا؟
أولاً: عليك أن تلاحظ أن هذا الكلام ليس كلامك، إنما كلام الله، فلا بُدَّ أن تُعمِل عقلك لتفهم عن الله مراده؛ لأن أسلوب الحق -سبحانه و تعالى- يحمل من الكمالات ما يناسب كماله سبحانه، وكلامك أنت يحمل ما يناسب كمالك.
لذلك سبق أن قُلْنا: إن القرآن له تميُّزات عن كل الكتب، وأن تناوله غير تناول أيِّ كتاب فلا بُدَّ أن يُقرأ على طهارة، وعلى وضوء، ولا بُدَّ أن يُراعى في قراءته مخارج الحروف وقواعد التلاوة وآدابها.
وفاتنا أن نقول: إنه تميَّز تميُّزاً آخر، فكما تميز في نُطْقه تميز في كتابته، فمثلاً كلمة اسم تُكتب بالألف كما في: (تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ) (الرحمن: 78)، وكما في: (سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ) (الأعلى: 1)، لكن في البسملة في أوائل سور القرآن كُتبت بدون الألف هكذا بسم الله الرحمن الرحيم، لذلك نقول عن القرآن: نكتبه بالإملاء؟!! لا لأن كتابته توقيف.
إذن: ما الحكمة من تقديم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ) (يس: 12) على (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ) (يس: 12)؟
قالوا: لأنه ما فائدة الكتابة؟
الكتابة للأعمال لحصر الحسنات لنثيب عليها، ولحصر السيئات لنعاقب عليها، فإذا لم يكُنْ هناك إحياء للموتى وحساب وجزاء، فما فائدة الكتابة؟
لذلك قدَّم الإحياء على كتابة الأعمال، كما أن الإحياء أعظم من الكتابة فناسب أنْ يتقدم عليها.
ومعنى: (مَا قَدَّمُواْ) (يس: 12) أي: من الأعمال، والعمل قد يكون عملاً مثمراً مستمراً بعد موت صاحبه كالصدقة الجارية، فلو حفر إنسان بئراً مثلاً يشرب منه الناس ويموت يظلّ البئر يسقي الناس، أو ترك علماً نافعاً، هذا كله أثر من آثار العمل الذي كُتِب أولا، وهو المراد بقوله تعالى: (وَآثَارَهُمْ) (يس: 12).
ومن آثار الإنسان ما سنَّه للناس وتركه يتبع من بعده، سواء أكان حسنة أم سيئة، فكله مكتوب مُسجَّل في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحصى آثارها من بعد صاحبها، فلو كتب إنسان مثلاً وصية ظالمة حرمت صاحب الحق من حقِّه، والوارث من ميراثه تحمل كل الآثار المترتبة على هذا الظلم؛ لأنه لم يحرم الوارث المباشر فحسب، إنما حرم أيضاً ذريته التي كانت ستستفيد من هذا الميراث، لذلك يظل عليه وِزْرها إلى يوم القيامة.
كذلك مَنْ سَنَّ للناس قانوناً جائراً، فعليه وِزْر القانون الجائر الذي حكم هو به، ثم على مَنْ يحكم بهذا القانون من بعده، ومثل مسألة القطاع العام مثلا، القطاع العام أقامه مَنْ أقامه، ثم ظلَّتْ آثاره تنهب في الناس إلى أنْ ضَجَّ منه الجميع وطالب الحكام أنفسهم بتعديله.
هذه القضية تشرح لنا حديث سيدنا رسول الله: "مَنْ سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووِزْر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة".
أرأيتم الرجل العجوز يزرع النخلة وربما لا ينتفع بثمرها، لكن ينتفع به مَنْ بعده، فهذه هي آثاره من بعده يكتبها الله له ويُحصيها لحسابه.
وقال بعض العلماء في معنى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ) (يس: 12) أي: نكتب ما قدموا من النية التي تسبق العمل، ثم نكتب العمل نفسه، وهو آثار هذه النية، فحين تعقد نية الخير في عمل ما تأخذ أجر النية، فإذا ما عملتَ العمل تأخذ أجر العمل.
وهذا يفسر لنا الحديث الشريف: "مَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتِبت له حسنة، ومَنْ هَمَّ بها فعملها كُتِبت له عَشْراً".
وهذا يرشدنا إلى أهمية عقد النية قبل الشروع في العمل ليثاب عليها الإنسان، فالمؤمن لا يأتي العمل هكذا عشوائياً.
وقوله تعالى: (وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس: 12) هناك فَرْق بين الكتابة والإحصاء، الكتابة أنْ تكتب الشيء، لكن لا تضم المكتوبات إلى بعضها، فتحتاج إلى مَنْ يحصيها ويعدُّها، فالحق سبحانه يسجل علينا الأعمال كتابة أولا، ثم إحصاءً وعَدّاً، والإحصاء والعَدُّ أيضاً في كتاب مسجل فيه كل شيء (فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس: 12) والإمام هو ما يُؤتَم به، والمراد هنا اللوح المحفوظ الذي تأخذ منه الملائكة مهمتها في إدارة الكون.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ...).