الْمُحَاضَرَة الْرَّابِعَة
( وَيَا نَفْس جِدِّي)
دَرَسُنَا هَذَا الْمَسَاء سِلْسِلَة بِعُنْوَان مَدْرَسَةُ الْحَيَاة وَكُنْتُ قَدِيْماً مُنْذ نَحْو عَشْر سَنَوَات أَرَدْت أَبْتَدِئ هَذَا الْدَّرْس الَّذِي هُو عِبَارَة عَن تَجَارِب الْعُلَمَاء وَالْحُكَمَاء وَالْخُلَفَاء وَالْوُزَرَاء فِي شَتَّى أُمُوْر الْحَيَاة الُمخْتَلِفَة ، وَالَّذِي نُسَمِّيَه نَحْن بِالتَّجْرِبَة فَإِن الْتَّجْرِبَة مِن أَعْوَنِ مَا يُعِيْن الْعَبْد عَلَى تَأَمَّل الْأَحْدَاث الْجَارِيَة ، وَمَا مِن حَدَثِ مَضَى إِلَّا وَالَّذِي يَأْتِي شَبِيْه بِه مَع اخْتِلَاف الْشُّخُوْص ، إِنَّمَا يَحْتَاج الْمَرْء إِلَى تَأَمُل لَيُدْرِك الْعِبْرَة وَالْعِظَة فِيْمَا مَضَى لِيَسْتَعِيْن عَلَيْه فِي حَيَاتِه الْحَاضِرَة .وَكَان عَلِي بْن أَبِي طَالِب قَد لَخَص بِقَوْلِه: (وَاسْتَدَل عَلَى مَا لَم يَكُن بِمَا كَان فَإِن الْأُمُور اشْتِبَاه)
فاليوم هو يوم السبت الثامن من شهر رمضان لسنة ألف وأربعمائة وثلاثين من هجرة خير من وطء الحصى نبينا محمد- ﷺ - ، وهذا هو المجلس الرابع من شرح هذه الخاطرة والتي اخترت عنوانها:
( وَيَا نَفْس جِدِّي)
وكنا أمس تكلمنا بكلام لم نتمه وهو يتعلق بقول بن الجوزي- رحمه الله تعالي- لما قال: ( أما سَمعتَ تِلك الحِكايةِ عن بَعض السَّلف أنَّه قَال: رأيتُ على سُورِ بَيروت شَابًا يَذكرُ الله تعالى فقُلتُ لَه: ألكَ حاجَة ؟ فقَال: إِذا وقَعَت لي حاجةٌ سَألتَه إِيَاهَا بقَلبي فقَضَاهَا) .ذكرت طرفًا من الكلام ثم شردنا إلى مواضيع شتى ، قلت أن هذا الكلام وهو قول هذا الشاب: ( إذا كانت لي حاجة سألت الله بقلبي فقضاها ). فقلت: إن هذا يتكئ عليه بعض الضلال الذين يستهينون بشأن الدعاء ، ويرون أن العبد إذا سأل ربه حاجة كأنه اتهمه بها وذكرنا قوال ما يُنسب إلى إبراهيم- عليه السلام- لما أُلقيَّ في النار فجاءه جبريل- عليه السلام- فقال له: ألك حاجة ، قال: (علمه بحالي يغني عن سؤالي ).
بقيَّ الوجه الآخر: وهو أن هذا الكلام سائغ ، الكلام أحيانًا يكون له وجه قبيح ووجه سائغ ، إذا صدر الكلام من عالمٍ عارفٍ بالمعاني فينبغي حمله على وجه حسنٍ يتفق مع علمه ومكانته إذا كان اللفظ يسعه ، لأن الأصل أن العالم لا يقول إلا كلامًا موزونًا فإذا كان له في التأويل مجال فهذا هو الأصل ، بدلًا من أن نتهم العالم أو نخطئه ، وهذا كتعارض الأدلة في الظاهر .
مَاذَا نَفْعَلُ إِذَا تَعَارَضَ دَلِيْلَانِ فِيْ الْظَّاهِرِ ؟نجمع أولًا ، عجزنا عن الجمع نرجح مثال ذلك: أن النبي- ﷺ - نهى عن الشرب قائمًا ، ثم في حديث آخر في البخاري حديث علي بن أبي طالب أنه كان في الرحبة ، أي قصره أيام الخلافة ،" فشرب فتوضأ وبقي سؤر من هذا الوضوء فوقف وشرب وقال أروني الذين ينهون عن الشرب قائمًا لقد رأيت رسول الله- ﷺ يشرب قائمًا " فيكون عندي حديثان هما في الظاهر متعارضان ،" زجر عن الشرب قائمًا "، وهنا علي بن أبي طالب يقول:" رأيته يشرب قائمًا ،" هذان الحديثان أليس ظاهرهما التعارض ، فماذا نعمل ؟ قال: نجمع الأول
ما معنى نجمع ؟أي نحمل كل حديث على معنى لا يتعارض مع الآخر ، لأن الأصل في الأدلة العمل بها ، الأصل هو إعمال الدليلين ، إعمال بالعين ، إعمال الدليلين ، هذا في الجمع ، لكن لو نحن استخدمنا الترجيح سنقع في إهمال أحد الدليلين والأصل في الأدلة العمل بها كلها طالما أنها صحت ، فتحمل زجر عن الشرب قائمًا على أن هذا هو الأصل ، وأنه شرب قائمًا أي لعلة ، فتكون توافقت أم لا ؟ توافقت ، بقيَّ كل حديث له معنيً مستقل ، فالأصل إذا لم يكن عندك علة أنك تشرب وأنت تجلس ، لا أستطيع أن أجلس لمرض في ركبتي أو أي مانع لذلك ، فيقال لك لا مانع اشرب قائمًا ، فنكون بذلك أعملنا الدليلين معًا ، وهذا اسمه الجمع لم نستطيع الجمع فليس عندنا مناص من الترجيح ، دليل من الاثنين يهمل ونعمل بدليل واحد منهما .
كَيْفِيَّةِ الْتَّصَرُّفِ فِيْ قَوْلِ الْعَالِمِ:كذلك فيما يتعلق بقول العالم ، إذا قال العالم كلامًا لابد من حمله على ما يناسب علمه ، على معنى مقبول ، عجزنا على إيجاد معني مقبول فنقول ما الذي أخطأ فيه .
علي أي محمل نحمل كلام هذا الشاب؟هنا الشاب نحن لا نعرف منزلة هذا الشاب من العلم إن كان عالمًا أو كان زاهدًا ، لكن نحن سنحمله على المعنى المقبول ، لما سأله ألك حاجة ؟ قال:" إذا كانت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها ،" المعنى المقبول الذي يمكن أن نحمل هذا الكلام عليه ، هو أنه لانشغاله بالذكر نسيَّ حاجته ، وليس لأنه أهمل حاجته ، لا ، ، لأن الحكاية تقول أنه كان على سور بيروت رجل شاب يذكر الله تعالى ، وسبق لنا في هذا المجلس أن ذكرنا قولنا في دعاء الكرب كان ثناءًا على الله- عز وجل- ، يكون مكروبًا وواقع وحبل المشنقة حول رقبته وهو يقول: "لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم "، فانشغل بذكر ربه عن طلب حاجته هذا هو المعني المقبول ، الذي ممكن أن نقبله بالنسبة لكلام هذا الشاب ، وإلا المعني الآخر نحن رددناه .
يقول بن الجوزي رحمه الله: ( يا أربَابَ المُعامَلة بالله عليكم لا تُكَدِرُوا المَشرب قِفُوا على بَابِ المُراقبةِ وِقُوفَ الحُرَاس وادفَعُوا مالا يَصلُح أن يَلِجَ فَيُفسِد واهجروا أغَراضَكَم لِتحصيلِ مَحبوبَ الحبيبِ فإنَّ أغرَاضَكُم تحَصُل .)
الْمَعْنِي الَّذِي يُنَبِّه عَلَيْه ابْن الْجَوْزِي فِي هَذِه الْخَاطِرَة:طبعًا هو هنا ينبه علي معني كبير ألا وهو المراقبة . يقول: قف علي باب المراقبة كالحارس ، ولا تسمح أيها الحارس أن يدخل معنيً إلي القلب فيفسد عليك هذا هذه المنزلة وهي منزلة المراقبة ، ومنزلة المراقبة من أجلّ المنازل التي ينبغي للعبد أن يتلبث بها في كل حال قال الله - عز وجل -:﴿ وهو معكم أينما كنتم ﴾ ، وقال تعالي:﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ (غافر:19) . وقال تعالي: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾(العلق:14) فالذي يتلبث بهذه المعاني لا يستطيع قلبه أن يقوم في مشهد العصيان أبدًا ، لا يستطيع حتى لو أراد لا يستطيع .
بَابُ الْمُرَاقَبَةِ يَسْتَلْزِمُ خَلْفَهُ بَابٌ الْمُحَاسَبَةِ :فباب المراقبة هذا يوجب بابًا آخر خلفه لا يكاد أحدهما ينفك عن الآخر ألا وهو باب المحاسبة .
بَابُ الْمُحَاسَبَةِ: أصلة أن تقايس بين نعم الله عليك وجنايتك ، تعمل عملية مقارنة بينهما ، أن تُقايس ما بين نعم الله - سبحانه وتعالي - عليك وجنايتك في حقه ، أول ما تفعل هذه المقارنة يستقيم لك باب المراقبة علي الفور ، لذلك الاثنين لا ينفكوا عن بعض ، ومهما جاءك شيء حتى ولو كان مُزَينًا وشككت فيه فاتركه لله يبدلك الله- عز وجل- خيرًا منه .
ما هو الورع ؟ ورد في حديث بسند ضعيف لكنه المعني جميل . الورع: ( أن تذر ما لا بأس به حذرًا مما به بأس ) هذا شيء لا بأس به ، لكن أنت خشيت أن يترتب علي أخذك إياه شيء آخر يكون فيه الشك مثلًا ، يكون فيه كراهة فتضحي بالحلال المحض الذي تعتقد أنت أنه حلال محض خشية الذي وراءه مثلما كان علماؤنا القدامى يتحسبون من مخالطة السلطان ، السلطان اليوم يأتي يقول لك لو كان صالحًا ، يقول: إذا رأيتني جرت شد إزاري وقل لي اتق الله كما يروى في حياة عمر بن عبد العزيز قالوا أنه قائم بتعيين واحد مخصوص إذا رأى عمر جار ، ذهب يمين أو ذهب شمال يشده من ملابسه ويقول له اتق الله إنك ستموت ، بمجرد أن يقول له هاتان الكلمتان ينتبه عمر ، فهل ممكن الذي سيشد ملابس عمر بن عبدالعزيز هذا يكون واحد من العوام أم سيكون عالم ؟ لابد أن يكون عالمًا ، لأنه كيف عرف أن عمر جار ، لابد أن يكون عارفًا فالسلطان يقول لك تعالى وشد ملابسي إذا رأيتني جرت ، فيقوم واحد مثل سفيان الثوري ، بن المبارك ، بن أبي ذئب يقول لك أولها شدة وفي المرة القادمة هو الذي سيشدني ، أصل اطعم الفم تستحي العين ، يعطيه قطعة على قطعة على قطعة .والعالم يبدأ في البحث له عن تأويل للحركات التي يعملها ، لا هو يقصد صلة الرحم ، هو يقصد شيء آخر ، أو يقصد كذا ويحرك له المسألة ، أنا أخاف من مثل ذلك ، فأترك الذي لا شيء فيه خشية أن يأتي شيءٌ آخر .
وأنا معتقد أن المرء لا يدع شيئًا لله إلا عوضه الله خيرًا منه: ، وهذا جاء نص حديث في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن رجل من أصحاب النبي ﷺ - أن النبي- ﷺ - قال: " إنك لن تدع شيئًا لله إلا أبدلك الله ما هو خيرٌ منه " . هذا الحديث ذكرني بحكاية جديدة ، حكي أبو العباس المبرِّد محمد بن يزيد وكان أحد أئمة النحو الكبار ، حكي عن شيخه أبو عثمان المازني ، وأبو عثمان المازني هذا متقدم من طبقة الإمام أحمد بن حنبل والزُهلي وغيره ، أحمد بن حنبل توفي سنة مائتان واحد وأربعين ، وأبو عثمان المازني مات سنة مائتان وسبعة وأربعون أو مائتان وثمانية وأربعون ، وقالوا لم يكن بعد سيبويه أنحى منه معنى أنحى: أي في فهم النحو .أبو عثمان جاءه واحد يهودي فقال له: هذه مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه ، وكان اليهود قديمًا محترمين يريد أن يتعلم النحو ويريد أن يقرأ كتاب سيبويه ، من هو مفتاح سيبويه ؟ هو أبو عثمان المازني هذا ، فأبي أبو عثمان المازني أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ، فأراد أبو العباس المبرِّد تلميذ المازني قال له أتمتنع مع شدة فقرك وحاجتك ، مائة دينار أي ألف درهم ، وأبو عثمان المازني ليس عنده أي شيء .فقال له أبو عثمان: إن كتاب سيبويه فيه ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله ، فلا أمكِّن هذا اليهودي منها ، لأن سيبويه يأتي بالآيات لكي يستشهد بها في فك مشكلة نحوية ، كأنه لما يأتي بالآيات ويحل بها مشكلة نحوية فكأنه بذلك أعطاه مفتاح النحو ، فممكن اليهودي هذا يذهب ويلعب في القرءان ، بالنحو أيضًل ، يقول هذه موقعها كذا وكذا وفيها إشكال إعرابي كذا ويعمل حدوتة ، فأبى أن يقرأ عليه كتاب سيبويه لأنه فيه ثلاثمائة ونيف آية ، وأغلقنا الصفحة الواثق أمير المؤمنين آنذاك ، وأنت تعرف الواثق جاء بعد المعتصم ، فكان عنده جواري يغنون له ، وليس كما يتصور الناس أن الجواري يغنين له أنه يأتي بواحدة أجنبية تغني له ، لا جارية اشتراها بأمواله ، فتقعد تغني له ، وهو كان يريد واحدة مغنية تقول شعر وتكون فاهمه ، المهم الجارية كانت تغني في مجلس الواثق وتقول :
أظلوم إن مصابكم رجلًا | أهدى السلام تحية ظلم |
جارية لن تتكلم حي علي الجهاد وغير ذلك ، لا ستأتي بالعشق ، والكلام هذا فتقول: أظلوم ، بيت شعر للعرجي شاعر اسمه العرجي كان مجيدًا في الشعر جدًا .
تقول: أظلوم : أي يا ظلوم .
أظلوم إن مصابكم رجلًا | أهدى السلام تحية ظلم |
تريد أن تقول إن فيه واحد يقول لواحدة: سلام عليكم ، فنظرت إليه كانت عينها مثل عين الغزلان ، أو عيون البقر ، وخضراء ، وجميلة ، وحلوة فرمته بعينها فوقع في داء العشق ، فيقول: هذا هو جزائي أقول لك: سلام عليكم ترموني بالعيون الكحيلة هذه ، وتُردُوني أرضًا وأكون مريض ؟ هل هذا هو جزائي إن أنا قلت السلام عليك ؟ هذا هو معني البيت . أظلوم:
أظلوم إن مصابكم رجلًا | أهدى السلام تحية ظلم |
ظلمتموه بأنكم رميتموه عين مع أنه يقول سلام عليكم ، والجارية تغني ، الذين كانوا جالسين لم يكونوا كسير وعويل وثالثهم ما فيه خير ، لا الذين يجلسون علماء ، فاختلفوا في إعراب رجلًا ، فبعضهم قال: هو منصوب ، وبعضهم قال: هو مرفوع ، يا عم أنت وهو انشغل في صوت البنت وأنهونا لا ، لابد أن نعرف رجل هذه منصوب أم مرفوع ؟ .فجماعة قالوا: منصوب ، لماذا ؟ قال: لأن مصابكم هنا مصدر بمعني إصابَتِكم ، أي يكون الكلام معناها: أظلوم إن إصابتكم رجلًا ظلم ، وجماعة قالوا: لا هي رجلٌ بالرفع لأنها خبر إن ، وخبر إن مرفوع ، أنت يا مغنية ما الأخبار منصوب أو مرفوع ؟ قالت: منصوب وأنا أصر علي النصب ، فقالوا لها: لماذا تنصبي ؟ قالت: لأن شيخي أبا عثمان المازني علمني إياها بالنصب سهلة .الواثق أرسل إلي عثمان المازني ، تعالي وحل لنا المشكلة هذه منصوب أم مرفوع ؟ فجاء أبو عثمان المازني ، فالواثق قال له: من أي الموازن أنت ؟ فهو أبو عثمان المازني ، أمازن قيس ؟ أم مازن تميم ؟ أم مازن ربيعة ؟ قال: أنا من مازن ربيعة ، قال له: با أسبك ؟ لأن ربيعة مازن ربيعة تقلب الميم باء ، والباء ميم . قال له : با أسبك ؟ لم يقول له: ما أسمك ؟ هذه هي القافية التي نسميها تدخل معي قافية ؟ لا يعرفها ، وهذه فيه جزئية سنة أدب من الواثق خاطبه بلغته ، با أسبك ؟ كأنه مزكوم ، المزكوم يكون من مازن ربيعة ، يقلب الميم باء ، والباء ميم .مثل رجل مزكوم ذهب إلي صيدلي فقال له: عندك دواء للزكاب ؟ قال له ؟ قال له: بوجود ، الاثنين مثل بعض من مازن ربيعة ، الاثنين خنف ، فهو يقول له: با أسبك ؟ ما اسم أبو عثمان المازني ؟ اسمه بكر بن محمد بن ربيعة ، فعندما يقول له: با أسبك ؟ ماذا سيقول له ؟ يقول له: مكر ، فعندما قال له: با أسبك ؟ فأبو عثمان المازني والعالم هؤلاء كانوا ناس كبار جدًا ، وعندهم بديهة حاضرة بالأخص أهل الأدب ، غير أهل الشريعة الجماعة المشتغلين بالعلوم الشرعية ، ممكن تجده ساعات واقف تأتي تأخذ معه قافية يضرب لخمة ، إنما الجماعة أصحاب الأدب المشتغلين بالأدب ، والشعر ، والأمثال وغير ذلك تجد عنده البديهة أكثر من المشتغلين بالعلوم الشرعية . مع أن فيه لفيف كبير من أصحاب العلوم الشرعة عندهم أيضًا البديهة الجميلة هذه ، قال: أبو عثمان ففطنت ، فكرهت أن أقول له مكر علي لغة قومي .فقلت له: بكر ، قال: فتبسم وأعجبه هذه اللفتة مني ، أنني لم أقل مكر لأن مكر هذه سيئة ، سيئة أنها تقال ، وهذه ثمرة أن يُجالس المرء الناس الكبار ، يكون عنده ما نسميها اليوم الدبلوماسية ، بمعني تتكلم كلام جميل ، حاضر البديهة .
أحد الأمراء يقول للشعبي: كم عطاءك ؟ قال: دينارين ، قال: ويحك هلا قلت ديناران ؟ قال: لحن الخليفة فكرهت أن أُعرب ، الخليفة هو الذي أخطأ في الأول الخليفة من المفروض أن يقول: كم عطاؤك ليس كم عطاءك ؟ فعندما أخطأ الخليفة لم يحب هو أن يكون عالمًا عليه ويقول له: ديناران هو صح والخليفة خطأ قال: هذه أيضًا ليست من الذوق ، هو أخطأ أنا أخطأت مثله ، لكي نكون في الخطأ سواء ، ولا يكون أنا تفضلت عليه . كان عندهم جزء أو أجزاء في حكاية الأدب هذه ، المهم قال له: بكر فأعجب الواثق ذلك ، قال: كيف تعرب ؟ وأنشد له البيت:
أظلوم إن مصابكم رجلًا | أهدى السلام تحية ظلم |
قال له: رجلًا هذه تنصب أم ترفع ، قال: الوجه النصب ، قال له لماذا ؟ لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم ، إي إن إصابتكم رجل ظلم .
فانتصب اليزيدي وهو واحد من علماء النحو الكبار ، جلس يعارض المازني ، فالمازني قال له: هذا يشبه أن تقول: إن ضربك زيداً ظلم ، وجلسوا يتناقشوا هم الاثنين ، المهم إن الواثق أعجب بكلام أبي عثمان المازني ، طبعًا الخليفة عندما أرسل إلي أبي عثمان المازني ، الخليفة أرسل له أهل بيته قلق بعضهم البعض أين سيذهبون به ؟ سيرسلونه إلي أي سجن ؟ ، أو إلي أي شيء فخائفين . المهم فالواثق يقول له: ألك ولد ؟ قال: نعم ، عندي بنت ، فقال له: ماذا قالت لك البنت هذه وأنت تأتي ؟ فأنشدت بيتين للأعشي عهد بعيد بهم وهم أبتا لو تركتنا سنضيع ، والناس تنسانا ، ونحن قيمتنا بوجودك وأشياء مثل ذلك .
إذا أدمرتك البلاد | نجفي وتقطع منا الرحم |
هذا هو البيت الثاني هم بيتين ، فقال له: وأنت ماذا قلت لها ؟ قال قلت لها: بيت جرير بن عطية وهو جرير والفرزدق قال لها:
ثقي بالله ليس له شريك | وما عند الخليفة بالنجاح |
سأرجع مجبور الخاطر إن شاء الله أنا عند الخليفة كله ، قال له: نجحت إن شاء الله وأعطاه ألف دينار . الشاهد :أن أبا عثمان المازني عندما رجع فقال لأبى العباس المبرد: تركنا لله مائة دينا ، فأبدلنا بها ألفًا ، أليس اليهودي كان يريد أن يعطي له مائة دينار لكي يأخذ كتاب سيبويه ؟ لماذا رفض ؟ لأن فيه ثلاث مائة أنيف آية ، قال أعلم اليهودي ويذهب ويلعب في القرآن ، أتركه جاهل كما هو لا يعرف كتاب سيبويه ، فعندما ترك هذا لله- عز وجل- عوضه- سبحانه وتعالي- بألف دينار من عند الخليفة فأنظر هذه حكاية حضرتني قلت أقصها فيها شيء من الأدب لعلي تتحركوا ، وتقرءوا في الآداب ، والأشعار ، وتنضبطوا ، فالمهم أن من ترك شيئًا لله - سبحانه وتعالي- عوضه الله- عز وجل- خيرًا منه .فهذا من جزاء من يقف علي باب المراقبة ثم يتبعها بالمحاسبة ،.
المراقبة تحتاج إلي محبة :، تراقب نفسك ، تعلم أن الله يطلع عليك وبن القيم له كلام جميل في كتاب (الداء والدواء )، فهو أظن يتكلم عن عاقبة الذنوب والمعاصي ، فذكر منها ذهاب الحياء ، معاقبة المعاصي ذهاب الحياء الذي هو للقلب كالحرارة الغريزية بالنسبة للجسم .أنت كم درجة حرارتك ؟ سبعة وثلاثين ، أليس كذلك ؟ لو سبعة وثلاثين وشرطة ، أو ثمانية وثلاثين يبدأ جسمك كله يتخلخل ، الحرارة الطبيعية التي لا يحلو الجسم إلا بها السبعة وثلاثين ، حرارة القلب ، قال: حرارة القلب من الحياء طالما عندك حياء ، فقلبك فيه حرارة ، إذا مات الحياء مات القلب ، ولذلك نص النبي- ﷺ - - على الحياء دون كل شعب الإيمان .قال- ﷺ - - :" الحياء بضع وسبعون شعبة " ، وعند البخاري :" بضع وستون " والأصح :" بضع وسبعون شعبه أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " لماذا نص على الحياء وأفرده ؟ مع أنه داخل في الشعب ، لأن الحياء من الله – عز وجل- هو قبة الدين كله ، هو الذي يوصلك إلى مرتبة الإحسان ، تترقى من الإسلام إلي الإيمان وتترقى من الإيمان إلى الإحسان ، فإذا وصلت إلى الإحسان وصلت إلى قبة الدين .فهذا الحياء الذي فيه أن الرسول ﷺ - رأى رجلًا يعظ أخاه في الحياء ، قال:" دعه ، دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير" ، ولما كان عمران بن الحصين يحدِّث عن النبي ﷺ - :" إن الحياء كله خير " ، بشير بن كعب ، قال: يا أبا نجيح إنا نقرأ في الكتب أن منه ضعفًا ، فغضب عمران واحمرتا عيناه وقال أُحدثك عن رسول الله- ﷺ وتحدثني عن كتبك ، لأن الرسول- ﷺ - يقول:" إن الحياء لا يأتي إلا بخير " .فقال بشير بن كعب: إنا نقرأ في الكتب أن منه ضعفًا ، الضعف هذا خير أم شر ؟ طبعًا تحكم بالشر ، لماذا ؟ لأن الضعف مسلبة وليس محمده ، فلما النبي ﷺ يقول:" لا يأتي إلا بخير" ، وهذا يقول إن منه ضعفًا ، فغضب عمران لمعارضة كلام النبي- ﷺ ، وما رضي عنه عمران إلا لما الجماعة الذين حوله ، قالوا يا أبا نجيح إنه طيب الهوى أنه منا وأنه ، وأنه ، وأخذوا يثنون عليه حتى رضي عِمران بن حصين ، فالحياء لا يأتي إلا بخير فالكلام الذي يقوله بن القيم أظنه في ذهاب الحياء ، من أمراض ، من عقوبات الذنوب والمعاصي ذهاب الحياء ، فيتعجب بن القيم من رجل إذا أراد أن يعصي الله- عز وجل- أن يعصيه والله- عز وجل- ينظر الآية ، والعبد في داره ، في دار الملك وعلى بساطه والملائكة شهود ، وجوارحه شهود ، والله- عز وجل-من فوق ذلك ، فكيف استطاع أن يعصي ، إلا أنه أهمل هذا الباب الكبير وهو باب المراقبة ، وأن الله- عز وجل- ينظر إليه .
فابن الجوزي يقول: ( قِفُوا على بَابِ المُراقبةِ وِقُوفَ الحُرََّاس ).وعالج نفسك ، أنت رجل صاحب مؤسسة كبيرة ، وطبيعي صاحب المؤسسات الكبيرة لما ينزل من السيارة ماذا يحدث ؟ يجد ثلاثة ، أربعة يجرون علي السيارة هذا يفتح الباب وهذا يأخذ الشنطة تفضل يا بيه ويدخل يجد الدنيا ووسع للباشا يا ولد أنت وهو وهذا الكلام وتجد ثلاثة ، أربعة يقولون قبل ما هو يصل ، هو الإنسان ماذا يكون ، والباشا هذا ماذا يكون ، لما تنظر إلي حياته تجده لا يصلي ولا يصوم ويمشي مع أهوائه وكل يوم في بلد يتناول العشاء في باريس والغذاء في لندن ، وحياته كلها هكذا ، وطبعًا حياته كلها عن دولار ارتفع إلى كم ، ونزل إلى كم ، والدولار في مقابل الين و اليورو وبسرعة حول ، وحياته كلها هكذا .ويريد الثلاثة ألاف فدان التي علي الطريق الصحراوي وكيف يأخذهم وحياته كلها هكذا ، الذي مثل ذلك لا يوجد عند أي إيمان يصده ، فلما كله يجري أمامه ن هذا يحمل الشنطة وسع يا ولد أنت وهو ، ما الذي ممكن أن يحدث له ، أليس الكبر الذي عنده يتعاظم ؟ يتعاظم ، لو حقق منزلة المراقبة ينبه لا أحد يأتي إلي ويقود سيارته بنفسه ، لأن الذين يجلسون بالخلف نحن نعرف من هم ، والذي يقعد أمام أيضًا نعرف من هو ، الذي يجلس في الأمام هو الحارس ، وصاحبنا بالخلف وهذا سائق .وقرأت في مرة أن رئيس أمريكا ، أخذ رئيس فرنسا جاك شيراك آنذاك وقال: وقاد به السيارة بنفسه ، ما معني بنفسه ؟ ماذا تكون هذه ؟ لأنه ليست العادة أنه يقود السيارة ، أنما العادة أن هناك من يقود به ، فهذا يقول: أنا الذي سأقود السيارة بنفسي ، لا أحد ينتظرني ، لا أحد يفتح لي الباب ، لا أحد يخرج لمقابلتي ، ولا أحد يأخذ مني الشنطة ، أنا الذي أحمل شنطتي بيدي ، فيكون هو بذلك حارس على قلبه ، لأن أصل الإنسان ظلوم جهول ، يخف ظلمه وجهله بقدر ما عنده من الوحي المنزل .الوحي ينقص يعود ظلومًا جهولًا إلى فطرته الأولى كما كان ، فأي شيء أنت ترى دعك من الناس ، أنظر أحد العلماء أوصى رجلًا كأمثالنا ممن يتصدرون لتعليم الناس قال: (إياك أن يغرك التفافهم حولك وثناءهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك )فلا يغرك أن أحدًا يقبل على يدك أو أحد يأخذك بالأحضان فهؤلاء يثنون عليك ويقولون والله فلان عمل لنا كذا وعلمنا وكنا جهلاء وغير ذلك ، يصلك هذا الثناء فلا يغرنك هذا الثناء ، لأنه إن لم يكن على قلبك رقيب يدخل هذا الثناء ويضيع عليك المسألة كلها.
يتبع إن شاء الله...