منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 المقالة الثالثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:23 pm

تخليص الإبريز في تلخيص باريز 3
المقالة الثالثة
الفصل الأول
في تخطيط "باريس" من جهة وضعها الجغرافي، وطبيعة أرضها، ومزاج إقليمها وقطرها
اعلم أن هذه المدينة تسمى عند الفرنسيس "باري" (بالباء الفارسية التي تلفظ بين الفاء والباء) ولكن يكتب هذا الاسم "باريس" ولا ينطق بالسين أبدًا فيه، كما هو عادة الفرنساوية من أنهم يكتبون بعض الحروف ولا يلفظون بها أبدًا، خصوصًا حرف السين في آخر بعض الكلمات؛ فإنه لا ينطق به أبدًا مثلاً أتينه (بإمالة التاء) مدينة حكماء اليونان تكتب بالفرنساوية (أتينس) أو (باريز)، وربما قالوا "فارس".        

وأظن أن الأوفق كتابتها بالسين، وإن اشتهر على ألسنة غير أهلها قراءتها بالزاي، ولعل ذلك إنما نشأ عن أن السين في اللغة الفرنساوية قد تقرأ زايًا في بعض الأحيان ببعض شروط، وإن كانت مفقودة هنا إلا في حال النسبة فإن النسبة إلى "باريس" عند الفرنسيس بارزياني، وهذا بعينه هو السبب؛ لأن النسبة ترد الأشياء إلى أصولها، ولكن هذه القاعدة في النسبة العربية، والنسبة هنا أعجمية، وقد مشيت في بعض أشعاري التي أنشدتها فيها كتابتها بالسين.

حيث قلت:
لئن طلقت باريسًا ثلاثا
فما هذا لغير وصال مصر
فكل منهما عندي عروس

ولكن مصر ليست بنت كفر!


وقلت:
لقد ذكروا شموس الحسن طرا
وقالوا إن مطلعًا بمصر
•••
ولكن لو رأوها وهي تبدو
بباريس لخصوها بذكر


وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأن طائفة من قدماء الفرنساوية كانت على نهر السين تسمى، (الباريزيين)، ومعناها في اللسان القديم الفرنساوي سكان الأطراف والحواشي، وليس هذا الاسم منقولاً عن "باريس" اسم رجل شهير كما قاله بعضهم.

ثم إن هذه المدينة من أعمر مدائن الدنيا، ومن أعظم مدائن الإفرنج الآن، وهي كرسي بلاد الفرنسيس، وقاعدة ملك فرنسا، وسيأتي تفصيل ذلك في محله.

وهي موضوعة في التاسعة والأربعين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالي، يعني أنها بعيدة عن خط الاستواء جهة الشمال بهذا القدر.

وأما طولها فإنه يختلف، فإذا اعتبرنا خط نصف النهار الذي ينسب إليه الفرنساوية أطوال سائر الأماكن، وهو خط نصف النهار المرسوم في رصدهم السلطاني، وهو يمر بباريس، فهو حينئذ مبدأ الأطوال على حساب الفرنساوية، كان طولها صفرًا، وأما إذا حسبنا على خط نصف النهار الذي كان يأخذ بطليموس الأطوال منه، ولا يزال١ إلى الآن مبدأ أطوال بعض الأمم، كأهل "الفلمنك" وهو خط نصف نهار "الجزائر الخالدات" ببحر المغرب، كانت باريس في عشرين درجة تقريبًا من الطول الشرقي.

ولنذكر لك هنا كيفية معرفة درجتي الطول والعرض في٢ مكان من الأمكنة، وثمرة ذلك، وإن كان يخرجنا عما نحن بصدده فنقول: اعلم أن علماء الهيئة قد أوضحوا بالأدلة كروية الأرض، وإنها غير صادقة التكوير، ثم صنعوا على هيئتها صورة، وسموها صورة الأرض.

ولإمكان تقسيم الأرض، وتسهيل معرفتها، توهموا فيها دوائر أنصاف نهار ودوائر متوازية، ومحورًا وقطبين ورسموها على صورتها المصطنعة؛ فمحور الكرة الأرضية هو الخط الموازي لمحور الفلك، وطرفاه هما القطبان، ويسمى أحدهما القطب الشمالي، والآخر القطب الجنوبي، ودوائر أنصاف النهار هي الدوائر التي تعبر من أحد القطبين إلى الآخر، وعلة تسميتها بذلك أنه إذا كانت الشمس في سمت رأس محل يمر عليه هذا الخط وقت الظهر بذلك المحل، ومركز هذه الدوائر هو مركز الأرض.

وأمَّا الدوائر المتوازية فهي الدوائر الواقعة أعمدة على دوائر أنصاف النهار، وهي التي بينها وبين مركزها تواز على محور الأرض، وأعظمها دائرة الاستواء وهي الدائرة العظمى السنوية البعد من القطبين، وهي تنصف الكرة نصفين أحدهما النصف الشمال، والآخر النصف الجنوبي، ثم إن دوائر أنصاف النهار.        

والدوائر المتوازية كسائر الدوائر، تنقسم إلى ثلاثمائة وستين درجة وكل درجة تتجزأ إلى ستين دقيقة، وكل دقيقة إلى ستين ثانية، وكل ثانية إلى ستين ثالثة، وهكذا.

وللإفرنج تقسيم آخر جديد، وهو:
أن الدائرة تنقسم إلى أربعة أرباع، وكل ربع يتجزأ مائة، تسمى درجات مثينية، وكل درجة مائة دقيقة مثينية، وكل دقيقة مائة ثانية كذلك، وهكذا.        

وهذا نشأ عن استعمالهم الحساب الأعشاري، والحساب المتري، والأول أشهر استعمالاً، وبهذه الدوائر العظمى يتحدد الطول والعرض؛ وذلك أن العرض هو بعد الدائرة متوازية عن المتوازية التي هي دائرة الاستواء، فإن أخذته جهة الشمال كان عرضًا شماليًا، ونهايته تسعون درجة، وإن كان جهة الجنوب فجنوبي، ونهايته كذلك، وأما الطول فهو بعد خط نصف النهار عن خط نصف نهار آخر مصطلح على أنه أولى، وهو شرقي، وقدره مائة وثمانون درجة، وغربي وقدره كذلك، وقد وضع أصحاب الجغرافيا في الكرة٣ أو الخرطات على كل دائرة متوازية ما تبعد به من الدرجات عن دائرة الاستواء، كما جعلوا على كل دائرة نصف نهار عدد درج بعدها من دائرة نصف النهار الأولية.

وقد رسم كما أسلفناه "بطليموس" الحكيم دائرة نصف النهار الأولية في "الجزائر الخالدات"، فلما انكشفت بلاد أمريكة اختار الإفرنج أن يجعل كل قطر من الأقطار خط نصف نهارهم الأولي ببلادهم، لينسبوا إليها ما عداها، كما صنع الفرنساوية، فإنهم جعلوا خط نصف نهارهم الأولي في مدينة باريس، وبقيت منهم أمم كالفلمنك على أخذ الأطوال من جزيرة الحديد بالجزائر الخالدات.

وفي الواقع أن الأولى، كما هو الظاهر، اتخاذ مبدأ أطوال مشترك لجميع الأمم ينسب إليه ما عداه، ويكون في قطر لا عمار بعده معلوم أو ممتاز بمزية؛ كمكة المشرفة، ثم إن كيفية تحديد أن الشمس أو الأرض، كما يقوله الإفرنج، تقطع حركتها اليومية في أربع وعشرين ساعة فهي تقطع من الدائرة التي ترسمها في سيرها خمس عشرة درجة في كل ساعة فتقطع درجة كل أربع دقائق يعني أنه إذا دخل وقت الظهر في القاهرة مثلاً فلا يدخل وقته في المكان الذي يبعد عنها جهة الغرب بخمس عشرة درجة إلا بعد ساعة ويدخل بعد ساعتين، فيما يبعد عنها بثلاثين درجة، وهلم جرا، وبعكس ذلك في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق، فإنه إذا كان الظهر في القاهرة يكون قد مضى ساعة بعد الظهر في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق بخمس عشرة درجة، ويكون مضى ساعتان فيما يبعد عنها في هذه الجهة بثلاثين درجة إلى آخره.

فلنذكر هنا -حينئذٍ- متى يكون الظهر في "باريس" إذا كان الظهر في أصول البلاد الغربية منها والشرقية، وبذلك يفهم بعدها عن هذه البلاد، فيُقال: إذا كان وقت الظهر في مصر القاهرة لا يدخل وقته في "باريس" إلا بعد مضي ساعتين إلا أربع دقائق، وإذا كان الظهر في "إسلامبول" كان في "باريس" بعد مضي ساعة وست وأربعين دقيقة، وإذا كان في بغداد كان دخوله في باريس بعد ساعتين وثمان وأربعين دقيقة وفي حلب إذا دخل الظهر لا يدخل في "باريس" إلا بعد ساعتين وثلث، وإذا دخل الظهر في الجزائر لا يدخل في باريس إلا بعد أربع دقائق تقريبًا، وإذا دخل في "تونس" فيدخل في "باريس" بعد مضي نص ساعة ودقيقتين، ووقت الظهر في "أصفهان" يدخل في "باريس" بعد مضي ثلاث ساعات واثنتين وعشرين دقيقة، وإذا كان في مدينة "بكين" (بكسر الباء والكاف) كرسي ملك الصين، يكون في "باريس" سبع ساعات وإحدى وأربعون دقيقة، وفي مدينة الباب الأبواب٤ تكون ساعة وثماني وأربعون دقيقة، وفي مدينة "رومة الكبرى نصف ساعة وثماني دقائق وهذه البلاد على الشرق من مدينة "باريس".

وأما البلاد التي على غربيها فإذا كان الظهر في مدينة "مدريد" كرسي ملك الأندلس؛ فإنه يكون فات وقته في "باريس" بأربع دقائق وإذا كان في مدينة "أشبونة" كرسي البرتوغال فإنه يكون فات وقته في باريس بخمس دقائق ونصف، وإذا دخل وقته في "فيلادلفيا" بكسر الفاء، وسكون الياء، وفتح اللام، وكسر الدال المهملة، وسكون اللام، وكسر الفاء) مدينة بأمريكة، فإنه يكون قد مضى بعده في "باريس" خمس ساعات وثلاث عشرة دقيقة، وإذا كان وقته في مدينة "ريوجانيرو" (بكسر الراء وضم الباء، وكسر النون، وسكون الياء) كرسي سلطنة "إبريزيلة" في أمريكة، فهو ثلاث ساعات تقريبًا، وإذا كان نصف النهار في جزيرة "كنفو" في "أمريكة الموسقو" يكون نصف الليل في "باريس" فإنهما متقاطران.

والمسافة بين "باريس" و"إسكندرية" سبعمائة وتسعة وستون فرسخًا فرنساويًا، وبينها وبين القاهرة ثمانمائة وتسعة فراسخ، وبينها وبين مكة المشرفة سبعمائة وأربعون فرسخًا، وبينها وبين "إسلامبول" خمسمائة وستون فرسخًا، وبينها وبين حلب ثمانمائة وستة وستون فرسخًا، وبينها وبين طمراكش سبعمائة وخمسة وعشرون فرسخًا، وبينها وبين "تونس" ثلاثمائة وسبعون فرسخًا، وبينها وبين مدينة "لوندرة" كرسي الإنكليز مائة فرسخ، وبينها وبين مدينة "بتربرغ"٥ كرسي الموسقو خمسمائة وستة وأربعون فرسخًا، وبينها وبين مدينة "موسقو" كرسي الموسقوبية القديم ستمائة فرسخ وبينها وبين مدينة "رومة" كرسي البابا ثلاثمائة وخمسة وعشرون، وبينها وبين مدينة "بجة"٦ كرسي النيمسا ثلثمائة وخمسة وعشرون أيضًا، وبينها وبين مدينة "نابلي" ثلاثمائة وأربعة وثمانون فرسخًا.

وارتفاعها بالنسبة لسطح البحر المحيط ثماني عشرة قامة، ومن المعلوم أنها من بلاد المنطقة المعتدلة، فليست في غاية الحرارة، ولا في غاية البرودة، فإن أقصى درجات الحر فيها إحدى وثلاثين درجة ونصفًا، وهذا نادر.        

والحر الأوسط تسع وعشرون درجة، وأقصى درجات البرد بها في الغالب اثنتا عشرة درجة، وندر بلوغه ثماني عشرة،٧ والبرد الأوسط سبع درجات.

ومعلوم أن درجة الحر تحسب من شروع المتجمدات في الذوبان إلى حد فوران الماء، ودرجات البرد من شروعه في الجمود.

والأغلب فيها عدم صحو الزمن وكثرة الغيوم، بحيث تمكث الشمس في الشتاء عدة أيام لا تنكشف ولا يرى جَرْمها غالبًا، فما كأنها إلا ماتت وعاش الليل.

ويحسن هنا قول بعضهم:
قلت والليل مقيم
ودجاه غير ساري
أعظم الخالق أجر الـ
ـخلق في شمس النهار
فلقد ماتت، كما ما
ت غرامي واصطباري٨

وأما المطر، فإنه لا ينقطع في هذه المدينة في سائر فصول السنة، وإذا نزل في الغالب نزل بكثرة؛ فلذلك احتاجوا في دفع ضرره إلى جعل أعالي الدور منحدرة لتنزل منها المياه إلى أسفل الدور، وفي سائر البيوت والطرق مجاري وبالوعات، فترى وقت المطر سائر طرق "باريس" محدودة بمجار؛ كالقناة الجارية المياه، خصوصًا وأرض هذه المدينة مبلطة بالحجر، فلا تتشرب المياه أبدًا، بل تسير إلى هذه المجاري، ومنها إلى البالوعات.

وتغير مزاج الهواء والزمن في "باريس" أمر عجيب، فإنه قد يتغير في اليوم الواحد أو مع ما بعده حال الزمن، مثلاً: يكون في الصباح صحو عجيب لا يظن الإنسان تغيره فلا يمضي نصف ساعة إلا ويذهب بالكلية، ويخلفه المطر الشديد، وقد يكون حر يوم من الأيام أربعًا وعشرين درجة، ولا يصل اليوم الآتي إلى اثنتي عشرة،٩ وهكذا، فقل أن يأمن الإنسان تغير الوقت بهذه البلاد، فمزاجها كمزاج أهلها كما سيأتي.

ومعلوم أنه ينبغي أن يتحفظ الإنسان من ضرر هذا التغير وإن كان هواء "باريس" في الجملة طيبًا مناسبًا للصحة، ومع أن حرها لا يصل إلى حر القاهرة في الغالب فهو غير مألوف أبدًا، ولعل ذلك للانتقال من شدة البرد إلى شدة الحر.

وأما بردها فإنه وإن كان في طاقة الإنسان تحمُّله من غير عظيم تعب، فإنه لا يمكن للناس الشغل إلا بالتدفئة بالنار؛ فلذلك كان في سائر قهاويها وخاناتها ومعاملها وحوانيتها مداخن مبنية في الأود، ليُوقد فيها النار، وهي مرتبة على وجهٍ بحيث لا ينتشر في الأودة دخان الحطب١٠ فإن لهذه المداخن نافذة إلى الهواء، فيجذب الهواء الدخان، ويطرده خارج البيت، وفي بعض الأود يصنعون نوعًا من الفرن له باب من الحديد ويلحقون به قصبة من صفيح، وينفذون هذه القصبة في فرجة تتصل بالهواء، فيضعون الخشب في الفرن، ويغلقون باب المحمى فيصعد الدخان جهة القصبة، ومنها يصعد إلى الخلاء فتسخن الفرن وتحمي قصبتها فتسخن الأودة أو الرُّواق ونحوهما١١ أو عندهم نوع آخر عجيب يُسَمَّى "المداخن المسقوبية"١٢ وعادة المدخنة أو الفرن المُسَمَّاة عند الفرنساوية "بوالا"١٣ أن ظاهرها مطلي طلاء عظيمًا في غاية النظافة، والمدخنة دائمًا مرخمة الجوانب، ولها عرصة من حديد، وهي عند الفرنساوية لحُسن صناعتها من زينة المحل فيكتنفونها في الشتاء، ومن أعظم إكرام الضيف عندهم في الشتاء تقريبه جهة النار، ولا عجب في ذلك، نسأل الله إنقاذنا من حر نار جهنم.

ولله در القائل:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد
أكل الفواكه شاتيًا فليصطل


وأحسن مَن قال:
دخلت يومًا على صديق
والبرد يفري به الفريا
فأوقد النار قلت كلا
لأنت أولى بها صليا


وبالجملة:
فالتدفئة في الشتاء عند الفرنساوية جُزْءٌ من المؤونة، فهذا ما يستعينون به على البرد.

وأمَّا ما يستعينون به على التَّوقي من ضرر المطر فهو المظلات المُسَمَّاة في مصر بالشمسيات، يعني وقايات الشمس، وتُسَمَّى تلك عند الفرنساوية وقاية المطر، وفي الحر تمشي النساء بالشمسيات، ولا يمكن للرجال ذلك أبدًا.

وأرض هذه المدينة مفلحة دسمة مثمرة، فكيف لا وما من بيت من البيوت الوافرة إلا وبه بستان عظيم الأشجار والخضراوات وغيرها؟ وأغلب النباتات الغريبة يوجد بهذه البلدة، فإنهم يعينون بتطبيع١٤ النباتات كالحيوانات الغريبة ببلادهم، ومثلاً شجر النخل لا يخرج إلا في الأقاليم الحارة، ومع ذلك صنع الفرنساوية كل الحيل، حتى زرعوا منه شيئًا، وإن كان لا يثمر، إلا أنه ينفعهم في الجوع إليه عند قراءتهم في علم النباتات، وقد اشتهر عندنا أن النخل لا يوجد إلا ببلاد الإسلام، ويرد عليه أنه عند كشف بلاد أمريكة وجدوا بها نخلاً غير منقول، كما هو الظاهر من بلادنا، فانظر هذا مع قول الفاضل القزويني في كتابه عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات ما نصه، النخل شجرة مباركة عجيبة، من عجائبها أنها لا تنبت إلا في بلاد الإسلام انتهى.        

ولعل النخل الموجود في غير بلاد الإسلام نوع مخصوص يصدق عليه اسم النخل عند أهل النباتات، والمقصور على بلاد الإسلام نخل التمر، لمناسبة مزاج١٥ قطرها فتأمل.

وبقرب أرض باريس عين ماء معدني باردة الماء، ويشقها نهران أحدهما -وهو الأعظم والأشهر- يقال له: نهر السين بفتح السين) والآخر نهر "غوبلان" قال بعض علماء الكيميا من الإفرنج: إن أقل المياه خليطًا بالمواد الخارجية "نيل مصر" و"نهر الكنك" ببلاد الهند ونهر "السين" "بباريس" ويتفرع على ذلك اعتبار مائها في فن الطب من الأمور المناسبة لصحة الأبدان، وأنه يحسن تطبيب وطبخ الخضراوات بها دون غيرها، وتحليل الصابون بها للغسل ونحو ذلك.

وفي نهر السين بداخل باريس ثلاث جزائر؛ إحداها تسمى "جزيرة السيتة" وكان بها باريس القديمة "والسيتة" "بكسر السين وسكون الياء وفتح الفوقية" معناها المدينة، فكأنه قيل جزيرة المدينة وشتان بين هذا وبين النيل، والروضة والمقياس، فإن نزهة الإنسان في الروضة والمقياس لا تضاهى؛ لأن الخليج يعبر مصر، والسين يعبر طباريس إلا أن نهر السين بتمامه يشق "باريس" وتجري به١٦ السفن العظيمة الوسق، وبه الأرصفة الجيدة والنظافة على حوافيه، ومع ذلك فنزهته غير سارة وشتان أيضًا بين ماء "النيل" و"السين" من جهة الطعم وغيره؛ فإن ماء النيل لو كانت العادة جرت بترويقه قبل استعماله كما هو العادة في ماء نهر السين لكان من أعظم الأدوية، وأقول أيضًا إنه فرق بعيد بين طعم ماء نهر "السين" وماء العيون والقطوع والسواقي ببلاد صعيد مصر.        

وبالجملة والتفصيل ففرق بعيد بين تربة مصر "وباريس" ومياههما وفواكههما إلا في نحو الخوخ، وإقليمهما، فلولا نجامة أهل باريس وحكمتهم وبراعتهم، وحسن تدبيرهم، واعتنائهم بتعهد مصالح بلادهم، لكانت مدينتهم كلاشيء، فانظر مثلاً على نهر "السين" فإنه وإن كان نزهة في أيام الحر فإنه قد يبلغ في وقت الشتاء ثماني درجات من الجمود والانعقاد، حتى إنه يمكن أن يداس عليه بالعربات، وانظر إلى أشجار هذه المدينة، فإنها تكون مورقة في أيام الحر، وفي أيام البرد لا تجدها إلا قرعة رديئة المنظر، كأنها حطب مصلب، وهذا في سائر البلاد الباردة.

وقال بعضهم في هذا المعنى:
سألت الغصن: لِمْ تعرَى شتاء
وتبدو في الربيع وأنت كاسي؟!
فقال لي: الربيع على قدوم
خلعت على البشير به لباسي

(و) قال بعضهم في وصف يوم برد وأجاد:
"في يوم برد جعله الله منه في حمى، ومجال حرب كان الظفر فيه لابن ماء السما، كأنما ماجت الأرض فرحًا لانهلال السحاب، وقويت أوتادها إذ صار لها بالسماء من جبال المطر أمد الأسباب.        

وكأنَّ السماء قد رأت ما بالأرض من السرور فبعثت تهنيها بصوت الرباب، فلكم تفتحت أعين النور لعيون الغمام الساجمة، ولكم استمرت به مسرة واستقرت به سائمة، ولكم ضحكت الأرض لبكاء السماء بمدامعها، وظهر البشر على وجهها.

وانظر إلى زمن تلك المدينة، فإنه دائمًا معتم في سائر أيام الشتاء وغالب أيام الحر، فإذا تنزه الإنسان ساعة تنكد ساعة أخرى، وذهب حظه بالرعد والبرق، وانهطال المطر والصواعق، إلا أن الثلوج بها ومجاري البالوعات تقي من الوحل المضر، فليست كأرض جيلان التي١٧.


قال فيها الشاعر:
أقمت بأرض جيلان زمانًا
ولم يك ذاك مني غير جهل
فلم أحصل على خير متاح
سوى سح الغيوث وخوض وحل


وأهلها لا يبالون بذلك.

فيقال في سائرة أيامها ما قاله بعضهم في وصف يوم شديد البرد من أنه يوم يجمد خمره، ويخمد جمره، ويخف فيه الثقيل إذا هجر، ويثقل فيه الخفيف إذا هجم.        

إلا أن الفرنساوية يكثرون من الملاهي في ليالي الشتاء؛ لأنهم يبذلون جهدهم في التوقي من مضارها، نسأل الله تعالى الوقاية من برد الزمهرير، فلو تعهدت مصر وتوفرت فيها أدوات العمران، لكانت سلطان المدن ورئيسة بلاد الدنيا، كما هو شائع على لسان الناس من قولهم: مصر أم الدنيا.

وقد مدحتها مدة إقامتي "بباريس" بقصيدة وهي:
ناح الحمام على غصون البان
فأباح شيمة مغرم ولهان
ما خلته مذ صاح إلا أنه
أضحى فقيد أليفه ويعاني
وكأنه يلقي إلي إشارة
كيف اصطباري مذ نأى خلاني
مع أنني والله مذ فارقتهم
ما طاب لي عيشي وصفو زماني
لكنني صب أصون تلهفي
حتى كأني لست باللهفان
وبباطن الأحشاء نار لو بدت
جمراتها ما طاقها الثقلان
أبكي دمًا من مهجتي لفراقهم
وأود ألا تشعر العينان
لي مذهب في عشقهم واريته
ومذاهب العشاق في إعلان
ماذا عليَّ إذا كتمت صبابتي
حتى لو ان الموت في الكتمان
ما أحسن القتلى بأغصان النقا
ما أطيب الأحزان بالغزلان
قالوا أتهوى والهوى يكسو الفتى
أبدًا ثياب مذلة وهوان
فأجبتهم لو صح هذا إنني
أختار ذلي فيه طول زماني
والذل للعشاق غير معرة
بل عين كل معزة للعاني
أصبو إلى من حاز قدًّا أهيفًا
يزري ترنحه بغصن البان
وأحن نحو شقيق تم خده
قد نم فيه شقائق النعمان
ويروقني أبدًا نزاهة مقلتي
في حسن طلعة فاتك فتان
أمسي وأصبح بين شعر حالك
ومنير وجه هكذا الملوان
ولطالما قضيت معْهُ حقبة
ونسيم مصر معطر الأردان
زمن عليَّ به لمصر (فديتها)
حق وثيق عاطل النكران
أو شابهت عيناي فائض نيلها
لم توف بعض شفائه أحزاني
أو لو حكى قلبي بحار علومها
طربًا لما أخلو من الخفقان
ولكم بأزهرها شموس أشرقت
وأنارت الأكوان بالعرفان
فشذا عبير علومهم عم الورى
وسرت مآثرهم لكل مكان
وحوتهمو مصرٌ فصارت روضة
وهمو جناها المبتغى للجاني
قد شبهوها بالعروس وقد بدا
منها "العروسي" بهجة الأكوان
قالوا تعطر روضها فأجبتهم
"عطارها حسن" شذاه معاني
حبر له شهدت أكابر عصره
بكمال فضل لاح بالبرهان
لو قلت لم يوجد بمصر نظيره
لأجبت بالتصديق والإذعان
هذا لعمري إن فيها سادة
قد زينوا بالحسن والإحسان
يا أيها الخافي عليك فخارها
فإليك إن الشاهد "الحسنان"
ولئن حلفت بأن "مصر" لجنة
وقطوفها للفائزين دواني
و"النيل" كوثرها الشهي شرابه
لأبر كل البر في إيماني

وأمَّا مصر فإنها سليمة من مكاره شرد "باريس"، كما إنها خالية أيضًا عن الأمور المُحتاج إليها في وقت الحر، مثل الاستعانة على نظرية الزمن، فإن أهل "باريس" مثلا سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإن أهل "باريس" مثلاً سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإنهم يصنعون دنا عظيمًا ذا عجلات، ويمشون العجلة بالخيل، ولهذا الدن عدة بزابيز، مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوة عظيمة، وعزم سريع، فلا تزال العجلات ماشية، والبزابيز مفتوحة حتى ترش قطعة عظيمة في نحو ربع ساعة، لا يمكن رشها بجملة رجال في أبلغ من ساعة.        

ولهم غير ذلك من الحيل، فمصرنا الأولى بهذا لغلبة حرها (قد صار الآن جل ذلك بمصر).١٨

ثم من غرائب نهر "السين" أنه يوجد فيه مراكب عظيمة، فيها أعظم حمَّامات "باريس" المشيدة البناء وفي كل حمَّام منها أبلغ من مائة خلوة، وسيأتي ذكرها.

ومن الأمور المُستحسنة أيضًا أنهم يصنون مجاري تحت الأرض توصل ماء النهر إلى حمَّامات أخرى وسط المدينة، أو إلى صهاريج بهندسة مكملة.        

فانظر أين سهولة هذا مع ملء صهاريج مصر بحمل الجمال، فإن ذلك أهون مصرفًا، وأيسر في كل زمن، وشطوط هذا النهر داخل المدينة، مرصفة بحيطان عظيمة عالية فوق الماء نحو قامتين، يطل المار بجانبها على النهر، وهي محكمة البناء.

وقناطر هذا النهر "بباريس" ست عشرة قنطرة، فمنها قنطرة تسمى قنطرة بستان النباتات، ولها أربعمائة قدم من الطول وعرضها سبعة وثلاثون قدمًا، ولهذه القنطرة خمسة قواصير من الحديد محكمة ومسندة على حجارة من أحجار النحاتة، وقد بنيت هذه القنطرة في خمس سنوات، وصرف فيها ثلاثون مليونًا من الفرنكات، يعني ثلاثين ألف ألف فرنك، وتسمى هذه القنطرة: قنطرة "استرلتز"، سميت بذلك باسم محل غلب فيه "نابليون" ملك "النيمسا والموسقو"، فيقال لهذه الواقعة واقعة: "استرلتز"، ويقال لها واقعة موسم تتويج نابليون.

"واسترلتز" بلدة وقعت هذه النصرة بقربها، وهذه النصرة تستحق عند الفرنساوية الذكر الجميل على مر الدهور؛ فلذلك أبدوها ببناء هذه القنطرة، فتسميتها بهذا الاسم للتذكار وبقاء الآثار.

ونهر السين يشق "باريس" نحو فرسخين، وعرضه فيه مختلف؛ فعند القنطرة المتقدمة يكون من الطول مائة وستة وستين مترًا.

وقوة سير مياهه المتوسطة عشرون برمقًا.١٩ في كل ثانية، أو ألف ومائتان في كل دقيقة.

وسطح أرض "باريس" صنفان؛ فالأول "جبس" والثاني طين، ماء نهر "السين" بعد زيادته، وأرضها مركبة من راقات مختلفة، فالراق الأول مزرعة طينية مرملة ذات حصى.

الثاني: طَفل مختلط بجبس وصدف، الثالث: طفل صواني، الرابع: طفل جيري صدفي، الخامس: حجر الجير المخلوط بصدف، السادس: البحر الملح.

السابع: طين شبيه بالإبليزي الثامن: من طباشير وجير مفحوم طباشيري.

ثم إن هذه المدينة مشقوقة ومحوطة٢٠ بصوف أشجار مرصوصة على سمت الخطوط المتوازية، لا يخرج بعضها عن بعض أبدًا، وعلى منوالها بطريق "شبرا" وفي "أبي زعبل" و"جهاد أباد"٢١ وهي مورقة في أيام الحر، يستظل المار بها من حر الشمس، وتسمى "البلوار"٢٢ (بضم الباء وسكون اللام) فيوجد في "باريس" (بلوارات) خارجة كالسور للمدينة و(بلوارات) داخل المدينة، ومحيط (البلوارات) الخارجة أبلغ من خمسة فراسخ ونصف، وعدد (بلوارات) "باريس" اثنان وعشرون (بلوارًا).

وفي المدينة عدة فسحات عظيمة تسمى المواضع، يعني الميادين، كفسحة "الرملية"٢٣ بالقاهرة، في مجرد الاتساع، لا في الوساخة، وعدها خمسة وسبعون ميدانًا، ولهذه المدينة أبواب خارجية برانية كباب النصر بالقاهرة، وهي ثمانية وخمسون بابًا وبهذه المدينة أربع قنايات من صنف المسماة عيونًا، وثلاثة دواليب لجري المياه بالنواعير، إلا أنها عظيمة، وستة وثمانون صهريجًا، ومائة وأربع عشرة حنفية على الطرق.

ومما يدل على عمارة هذه المدينة كون أهلها دائمًا في الزيادة البينة، وأرضها في الاتساع، وعماراتها في التكميل والتحسين، وهمتهم٢٤ جميعًا في توسيع دائرتها بالأبنية العظيمة، لإعانة ملوكهم على ذلك برفع عوايد البيوت المستحدثة على التنظيم الجديد مدة من الزمن.

قال الشاعر:
إن البناء إذا تعاظم شأنه
أضحى يدل على عظيم الشأن


وبذلك يكثر أهلها، فإن أهلها الآن -يعني أهل الاستطيان بها- فوق مليون من الأنفس، ومحيطها سبعة فراسخ فرنساوية، ومطايا هذه المدينة -كغيرها من بلاد فرانسا- العربات، إلا أنه يكثر فيها ذلك ويتنوع، ولا تزال تسمع بها قرقعة العربات ليلاً ونهارًا بغير انقطاع، وسيأتي تفصيل ذلك في غير هذا المحل.
--------------------------------
١  في المطبوعة: "ولا زال".
٢  فيها: "من؟".
٣  الأصل: "الأكرة".
٤  وتسمى باب الأبواب، وهي بحر قزوين.
٥  Pélershourg.
٦  هي مدينة فيينا.
٧  المطبوعة: "ثمانية عشر".
٨  هنا في الأصل المطبوع أبيات من الشعر فيها استطراد عن الموضوع والمشروع.
٩  في المطبوعة: (اثني عشر).
١٠  يقصد الوقود من فحمٍ ونحوه.
١١  في المخطوطة "ونحوها".
١٢  المسقوبية أي الموسكوفية.
١٣  Poéles.
١٤  هو ما يسمى بأقلمة النباتات.
١٥  المزاج: المناخ.
١٦  المطبوعة: "بها".
١٧  في المطبوعة: "الذي".
١٨  تعليق زاده على النص بعد عودته إلى مصر.
١٩  البرمق: الإصبع بالتركية.
٢٠  في المطبوعة: "ومحتاطة".
٢١  كذا في المطبوعة وهي أشبه بأن تكون اسم بلد بالهند.
٢٢  Boulevard.
٢٣  كنت نحت القلعة.
٢٤  في المطبوعة: وهم ثم.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:07 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:31 pm

الفصل الثاني
في الكلام على أهل باريس
اعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة.

وسائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره.        

ومما يعينهم على ذلك زيادة عن الكسب حب الرياء والسمعة ودوام الذكر، فهم يقتدون بقول الشاعر:
لعمري رأيت المرء بعد زواله
حديثًا بما قد كان يأتي ويصنع
فحيث الفتى لا بد يذكر بعده
فذكراه بالحسنى أجل وأرفع


وقول ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده
فكُن حديثًا حسنًا لمن وعى


وقيل لإسكندر: لو استكثرت من النساء كثر ولدك، وطاب بهم ذكرك، فقال: دوام الذكر في حسن السيرة والسنن، ولا يحسن لمن غلب الرجال أن تغلبه النساء.

ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس، فإنه لا قرار له أبدًا عندهم، ولم تقف لهم إلى الآن عادة في التزيين، وليس معنى هذا أنهم يغيرون ملبسهم بالكلية، بل معناه أنهم يتنوعون فيه؛ مثلاً: لا يغيرون لبس (البرنيطة) ولا ينتقلون منها إلى العمامة، وإنما هم تارة يلبسون (البرنيطة) على شكل، ثم بعد زمن ينتقلون إلى شكل آخر، سواء صورتها أو لونها، وهكذا.

ومن طباعهم المهارة والخفة، فإن صاحب المقام قد نجده يجري في السكة كالصغير، ومن طباعهم أيضًا الطيش والتلون، فينتقل الإنسان منهم عن الفرح إلى الحزن وبالعكس، ومن الجد إلى الهزل وبالعكس، حتى إن الإنسان قد يرتكب في يوم واحد جملة أمور متضادة، وهذا كله في الأمور الغير المهمة، وأما في الأمور المهمة، فآراؤهم في السياسات لا تتغير، كل واحد يدوم على مذهبه ورأيه، ويؤيده مدة عمره، ومع كثرة ميلهم إلى أوطانهم يحبون الأسفار، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم يحبون السفر، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم.

فكأنهم مصداق قول الحاجري:
كل المنازل والبلاد عزيزة
عندي ولا كمواطني وبلادي


وقال آخر:
نقِّل فؤادك ما استطعت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدًا لأول منزل


ومن خصالهم محبة الغرباء والميل إلى معاشرتهم، خصوصًا إذا كان الغريب متجملاً بالثياب النفيسة، وإنما يحملهم على ذلك الرغبة والتشوف إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعوائد أهلها، ليظفروا بمقصدهم في الحضر والسفر، وقد جرت عادة النفوس إلى الطمع من الدنيا بما لا تظفر به.

كما قال الشاعر:
إن النفوس على اختلاف طباعها
طمعت من الدنيا بما لم تظفر


وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم، وقد ذكرنا علة ذلك في ترجمتنا "مختصر السير والعوايد في ذكر الضيافة" وفي الواقع، حقيقة السبب في ذلك هو أن الكرم في العرب.

ومن أوصافهم توفيتهم غالبًا بالحقوق الواجبة عليهم، وعدم إهمالهم أشغالهم، فإنهم لا يكلون من الأشغال سواء الغني والفقير، فكأن لسان حالهم يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

ومن المركوز في طبعهم حب الرياء والسمعة، لا الكبر والحقد، فهم كما يقولون في مدح أنفسهم: أخلص قلوبًا من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا عند الغضب أشد افتراسًا من النمور، فإن الإنسان منهم إذا غضب قد يؤثر الموت على الحياة، فقل أن يفوت زمن يسير من غير أن يقتل إنسان نفسه خصوصًا من داء الفقر أو العشق.

ومن طباعهم الغالبة:
وفاء الوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة، ومن كلام بعض الحكماء: المواعيد شباك الكرام، يصطادون بها محامد الأخبار، وقال آخر: كفر النعمة من لؤم الطبيعة ورداء الديانة، وقال آخر: الشكر وكاء النعمة، والوفاء به صلاح العقبى، وقيل: وعد الكريم ألزم من دين الغريم، وقال بعضهم الخيانات تؤذي الأمانات.

ومن طباعهم الغالبة:
الصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية، قال بعضهم في مدحها: المروءة اسم جامع للمحاسن كلها.

ومن الصفات التي يقبح وصف الإنسان بها عندهم:
كفر النعم، مثل غيرهم، فيرون أن شكر المنعم واجب، وأظن أن جميع الأمم ترى ذلك - وإن كانت قد تفقد هذه الصفة عند أفراد، فهو خروج عن الطبع، فهي كشفقة الوالد وبر الولد، فإنهما قد يتخلفان في بعض الأفراد، مع أنهما صفتان جِبلِّيتان، عند سائر الأمم والملل.

ومما قيل في ذلك، وهو أحسن ما قيل مع ما فيه من الاستطراد:
هب البعث لم يأتنا نذره
وأن لظى النار لم تضرم
أليس بكاف لذي فكرة
حياةُ المسيء من المنعم


ويُقال إن أبا بكر الخوارزمي الشاعر المشهور قصد الصاحب بن عباد فأحسن زوله، وأكرمه وأقام في نعمته مدة، ثم حين ارتحاله كتب بيتين وجعلهما في مكان حيث يجلس الصاحب وهما:
لا تحمدنَّ ابن عباد وإن هطلتْ
كفاه بالجود حتى أخجل الديما
فإنها خطرات من وساوِسه
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما


فلما وقف عليهما الصاحب، قال وقد بلغه موت الخوارزمي:
أقول لركب من خراسان أقبلوا
أمات خوارزميُّكم؟ قيل لي: نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره:
ألا لعن الرحمن من يكفر النعمْ!


وهذا بخلاف أبي طالب عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون، وهو شاعر محسن أقبل على الصاحب بن عباد، فرماه ندماءُ الصاحب فسقطت منزلته عنده، فقال قصيدة طلب فيها من الصاحب الإذن بالرحيل.

ومن وداعها قوله:
أسير عنك ولي في كل جارحة
فم بشكرك يحوي منطقًا أربًا
إني لأهوى مقامي في ذراك كما
تهوى يمينك في العافين أن تهبا
لكن لساني يهوى السير عنك لأن
يطبق الأرض مدحًا فيك منتخبا
أظنني فتُّ أهلي والأنام همو
إذا ترحلت عن مغناك مغتربا


ومن خصالهم أيضًا:
صرف الأموال في حظوظ النفس، والشهوات الشيطانية، واللهو واللعب، فإنهم مسرفون غاية السرف.

ثم إن الرجال عندهم عبيد النساء، وتحت أمرهن؛ سواء كن جميلات١ أم لا.        

قال بعضهم:
إن النساء عند الهمل معدات للذبح، وعند بلاد الشرق كأمتعة البيوت، وعند الإفرنج كالصغار المدلعين.

قال الشاعر:
اعصَ النساء فتلك الطاعة الحسنة
فلن يسود فتى يعطي النساء سِنة
يعقنه عن كثير من فضائله
ولو سعى طالبًا للعلم ألف سَنة


ولا يظن الإفرنج بنسائهم ظنًا سيئًا أصلاً، مع أن هفواتهن كثيرة معهم، فإن الإنسان، ولو من أعبائهم، قد يثبت له فجور زوجته، فيهجرها بالكلية، وينفصل عنها مدة العمر.        

والتفريق بينهما بهذه المثابة يكون عقب إقامة دعوى شرعية ومرافعة يثبت فيها الزوج دعواه بحجج قوية على رءوس الأشهاد، تتلوث فيها الذرية بالفضيحة وإن كانت بدون لعان، ولا تعرض للأولاد.        

وهذا يقع كثيرًا في العائلات الكبيرة والصغيرة، ويشهد مجلس المرافعة الخاص والعام، فلا يعتبر الآخرون بذلك، مع أنه ينبغي الاحتراس منهن، كما قال الشاعر:
لا يكنْ ظنك إلا سيئًا
بالنسا إن كنت من أهل الفطن
ما رمى الإنسان في مهلكة
قط إلا ظنه الظن الحسن


ومن كلام بعض الغرب الغرباء خطابًا لزوجته:
إن امرءًا غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور


ومن الأمور المستحسنة في طباعهم، الشبيهة حقيقة بطباع العرب:
عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلاً، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى تغزل الجنس في جنسه، فلا يحسن في اللغة الفرنساوية قول الرجل: عشقت غلامًا؛ فإن هذا يكون من الكلام المنبوذ المشكل؛ فلذلك إذا ترجم أحدهم كتابًا من كتبنا يقلب الكلام إلى وجه آخر، فيقول في ترجمة تلك الجملة عشقت غلامه، أو ذاتًا؛ ليتخلص من ذلك فإنهم يرون هذا من فساد الأخلاق، والحق معهم؛ وذلك أن أحد الجنسين له في غير جنسه خاصة من الخواص يميل بها إليه كخاصة المغناطيس في جذب الحديد مثلاً، وكخاصة الكهربا في جذب الأشياء، ونحو ذلك، فإذا اتحد الجنس انعدمت الخاصة، وخرج عن الحالة الطبيعية، وهذا الأمر عندهم من أشد الفواحش، حتى إنه قلمًا ذكروه صريحًا في كتبهم بل يكنون عنه بما أمكن، ولا يسمع التحدث به أصلاً.

ويعجبني قول الشيخ عباس اليمني:
كلفت بسُعدَى والرباب وزينب
ولم أعتبر آس العذار ولامه٢
ولا اخترت تشبيبًا بأمرد مذهبًا
وإن ذم طبعي من يراه ولامه٣
وما حسنه عندي سوى في عجاجة
وحمل فناء كالشهاب ولامه٤
ويغشى سعير الحرب ليس يصده:
حنانيك عن ضرب الرقاب، ولا: مَه٥


ومن خصالهم الرديئة:
قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدَّم، وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة، ومما قاله بعض أهل المجون الفرنساوية: لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل بذلك على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها. انتهى.        

كيف والزنا عندهم من العيوب والرذائل، لا من الذنوب الأوائل، خصوصًا في حق غير المتزوج، فكأنَّ نساءهن مصداق قول بعض الحكماء: لا تغتر بامرأة، ولا تثق بمال وإن كثر، وقال آخر: النساء حبائل الشيطان.

وقال الشاعر:
تمتع بها ما ساعفتك، ولا تكن
جزوعًا إذا بانت فسوف تبين
فإن هي أعطتك الليان فإنها
لآخر من طلابها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأيُ عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين


وبالجملة فهذه المدينة؛ كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات، وإن كانت مدينة "باريس" من أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية، وأثينة الفرنساوية، وقد قابلتها فيما تقدم نوع مقابلة بأثينة -أي: مدينة حكماء اليونان- ثم رأيت بعض أهل الأدب من الفرنساوية قال ما معناه: إن الباريزيين أشبه الناس بأهل أثينة، أو هم أثينيو هذا الزمان، فإن عقولهم رومانية، وطابعهم يونانية. انتهى.

وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير، واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية.

ومن عقائدهم القبيحة قولهم:
إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها، ولهم كثير من العقائد الشنيعة كأفكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن من الحكم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم في سائر الأشياء، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير أو يحتج بها قبل الوقوع، فإن من الأمثال التي سارت بها الركبان: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير، ومن كلام بعضهم: إذا وقعت المجادلة فالسكون أفضل من الكلام، وإذا وقعت المحاربة: فالتدبير أفضل من التقدير.

ومنهم جماعة يعتقدون أن الله تعالى خلق الخلق، ونظمهم نظامًا عجيبًا، فرغ منه ثم لا يزال يلاحظهم بصفة له تعالى، تسمى صفة العناية والحفظ، تتعلق بالممكنات إجمالاً، بمعنى أنها تمنتها عن خلل انتظام الملك، وسنذكر بعض عقائدهم في غير هذا المحل.

ثم إن لون أهل "باريس" البياض المُشرب بالحُمرة، وقلَّ وجود السُّمرة في أهلها المتأصلين بها، وإنما ندر ذلك لأنهم لا يزوجون عادة الزنجية للأبيض أو بالعكس، محافظة على عدم الاختلاط في اللون؛ حتى لا يكون عندهم ابن أمة.        

قال الشاعر:
في الهند طير ناطق
سبحان مولى ألهمه
يقول في تغريده:
ابن الأمة ما ألأمه!


بل لا يعدون أنه قد يكون للزنج جمال أصلاً، بل غيره عندهم من صفات القبح، فليس لهم في المحبة مذهبان، ولا يحسن عندهم قول الشاعر في غلام:
لك وجه كأنّ بناني خطتـ
ـه بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور، ولكن
نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد بل زدت حسنًا
إنما يلبس السواد الموالي


بل لسان حالهم دائمًا ينشد قول الآخر:
ألا إن عندي عاشق السمر غالط
وإن الملاح البيض أبهى وأبهج
وإني لأهوى كل بيضاء غادة
يضيء لها وجه وثغر مفلج
وحسبي أني أتبع الحق في الهوى
ولا شك أن الحق أبيض أبلج


على أنه لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء في الطبخ ونحوه؛ لما ركز في أذهانهم أن السود عارون عن النظافة اللازمة.

ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائمًا بالزينة، ويختلطن مع الرجال في المنتزهات.        

وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال في تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن، خصوصًا يوم الأحد الذي هو عيد النصارى، ويوم بطالتهم، وليلة الاثنين في (البالات) والمراقص الآتي ذكرها.

ويحسن قول بعضهم (شعر):
والراقصات وقد مالت ذوائبها
على خصور كأوساط الزنابير
يخفي الردى سقمها عنا فيفضحها
عقد البنود٦ وشدات الزفابير


ومما قيل:
إن "باريس" جنة النساء، وأعراف الرجال، وجحيم الخيل؛ وذلك أن النساء بها مُنعمَّات، سواء بمالهن أو بجمالهن.

وأمَّا الرجال فإنهم بين هؤلاء وهؤلاء، عبيد النساء فإن الإنسان يحرم نفسه وينزه عشيقته، وأمَّا الخيل فإنها تجرُّ العربات ليلاً ونهارًا على أحجار أرض "باريس" خصوصًا إذا كانت المستأجرة للعربة امرأة جميلة، فإن (العربجي) يجهد خيله ليوصلها إلى مقصدها عاجلاً؛ فالخيل دائمًا مُعذّبة بهذه المدينة.

وحيث إن باريس من بلاد الفرنسيس، فمعلوم أن لسان أهلها هو اللسان الفرنساوي، ولنذكر هنا نبذة من ذلك فنقول: اعلم أن اللسان الفرنساوي من الإفرنجية المستحدثة، وهو لسان الغلوية، يعني: قدماء الفرنسيس، ثم كمل من اللغة اللاطينية، وأضيف إليه شيء من اللغة اليونانية النيمساوية ويسير من لغة الصقالية وغيرها، ثم حين برع الفرنساوية في العلوم نقلوا كلمات العلوم من لغات أهلها، وأكثر الكلمات الاصطلاحية يونانية، حتى كان لسانهم من أشيع الألسن وأوسعها، بالنسبة لكثرة الكلمات غير المترادفة، لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها، ولا بالمحسنات البديعية اللفظية، فإنه خال عنها، وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عد ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيس، مثلاً لا تكون التورية من المحسنات الجيدة الاستعمال إلا نادرًا، فإن كانت فهي من هزليات أدبائهم وكذلك مثل الجناس التام والناقص؛ فإنه لا معنى له عندهم وتذهب ظرافة ما يترجم لهم من العربية، ما يكون مزينًا بذلك.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:08 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:36 pm


تابع الفصل الثاني
مثل قول صاحب البديعية:
من العقيق ومن تذكار ذي سلم
براعة العين في استهلالها بدم
ومن أهيل النقا تم النقا وبدا
تناقص الجسم من ضر ومن ضرم


ولا يمكن أن ينقل إلى لغاتهم ما قلته في نظم مصطلح الحديث:
صحيحُ جسمي من فرط الجوى عضلا
ومرسل الدمع من عيني قد اتصلا
تواترت قصتي في الناس قاطبة
حتى لضعفي رثى لي كل مَن عذلا
تعنعن السحب عن عيني روايتها
كما يسلسل عنها القطر إذ هملا
رفعت أمري إلى قاضي الهوى فأبى
وقال: مالي على هذا المليح ولا
يا قلب صبرًا على ما فيك من عللٍ
ولا تشذ، وتجزع، واترك المللا
ودع بقية ما أبقاه من رمق
لديه، لا تعتبر تعنيف من عدلا
فذاك لاح وبالتدريس مشتهر
وقوله منكر، زور، وما قبلا

إلى آخر قولي فيها:
وقفت حبي عليه لا يجاوزه
وهكذا شأن صب في الهوى كملا


وسيأتي تتميم الكلام على ذلك، وبالجملة فلكل لسان اصطلاح، واصطلاح اللغة الفرنساوية تقليل التصريف ما أمكن، وتصريف الفعل مع فعل آخر؛ مثلاً إذا أراد الإنسان أن يخبر بأنه أكل فإنه يقول: أملك مأكولاً، يعني لا يمكن تصريف (أكل) في بعض أحواله إلا مع فعل الملك أو التلبس، فكأنه يقول: تلبست بالأكل.        

وإذا أراد أن يقول: خرجت، يقول: أنا أكون مخرجًا، يعني: خرجت وهكذا يسمي فعل الملك، وفعل الكينونة: فعلين مساعدين؛ يعني أنهما يعينان على تصريف الأفعال، ويتجردان عن معناهما الأصلي، وإذا أرادوا تعدية الفعل قالوا: فعلت له الأكل، يعني جعلته يأكل، أو أكلته، وفعلت له الخروج، يعني أخرجته وهكذا، فلا يمكنهم تصريف الأفعال كما يمكن في اللغة العربية؛ فلذلك كانت لغتهم ضيقة من هذه الحيثية، ثم إن قواعد اللسان الفرنساوي وفن تركيب كلماته وكتابتها وقراءتها يسمى: (غرماتيقي) "واغرمير" (بتشديد الميم) عند الفرنسيس، ومعناه فن تركيب الكلام من لغة من اللغات، فكأنه يقول: فن النحو فيدخل فيه سائر ما يتعلق باللغة، كما نقول نحن: علوم العربية: وتريد بها الاثني عشر علمًا المجموعة في قول شيخنا العطار:
نحو وصرف عروض بعده لغة
ثم اشتقاق قريض الشعر إنشاء
كذا المعاني بيان الخط قافية
تاريخ هذا لعلم العرب إحصاء


وبعضهم زاد البديع، وآخر استحسن زيادة التجويد، وبالجملة فباب الزيادة والنقص فيها مفتوح؛ إذ حصرها وتقسيمها في ذلك جعلي لا حصري.

والظاهر أن هذه العلوم جديرة بأن تسمى مباحث علم العربية فقط، فكيف يكون كل من الشعر والقريض والقافية علمًا مستقلاً برأسه، وكل من النحو والصرف والاشتقاق علمًا برأسه، وانظر ما المراد بالتاريخ وبكونه من العلوم العربية مع أن أول من ألف فيه علماء اليونان، وأول ما ظهر في هذا الفن كتب "أوميروس" في واقعة يكون المراد بالتاريخ طريقة إنشاء تواريخ الحوادث السنوية على أسلوب حساب الجمل، فيكون أيضًا تسميته علمًا من قبيل التوسع في تعريف العلم، وعلم الخط قديم أيضًا؛ فالإفرنج يدخلون هذه المباحث في علم تركيب الكلام، بل ويعدون منه المنطق والوضع والمناظرة.

ثم إن اللغة الفرنساوية كغيرها من اللغات الإفرنجية لها اصطلاح خاص بها، وعليه ينبني نحوها، وصرفها، وعروضها، وقوافيها، وبيانها، وخطها، وإنشاؤها، ومعانيها، وهذا ما يسمى "إغرماتيقي" فحينئذ سائر اللغات ذات القواعد لها فن يجمع أو لتحسينها، فحينئذ ليست اللغة العربية هي المقصورة على ذلك، بل كل لغة من اللغات يوجد فيها ذلك، نعم اللغة العربية أفصح اللغات، وأعظمها، وأوسعها، وأحلاها على السمع، فحينئذ العالم باللغة اللاطينية يعرف سائر ما يتعلق بها، قلة إدراك في النحو في حد ذاته وفي غيره كالصرف، فمن الجهل أن يقال: إنه لا يعرف شيئًا، بدليل جهله باللغة العربية، وإذا تبحر الإنسان في لغة من اللغات كان عالمًا باللغة الأخرى بالقوة، يعني أنه لو ترجم له ما في اللغة الأخرى وعبر له عنه كان قابلاً لتلقيه ومقابلته بلغته، بل ربما كان يعرفه من قبل، ويعرف زيادة عليه، ويبحث فيه، ويبطل منه ما لا يقبله العقل، كيف والعلم هو الملكة، وحينئذ فقد لا يعرف الإنسان المطولات باللغة العربية، ويعرف ذلك باللغة الفرنساوية لو ترجم له، على أن كل لغة محمومة فلها مطولها وأطوالها وسعدها٧ نعم ليس كل مانع ماء، ولا كل سقفٍ سماء، ولا كل بيت بيت الله، ولا كل محمد رسول الله.

وكما قال الشاعر:
وهيهات ما كل النسيم حجازيا
ولا كل نور يبهج الشرق والغربا


وقال آخر:
وما كل مخضوب البنان بثينة
ولا كل مسلوب الفؤاد جميل


فلا شك أن لسان العرب هو أعظم اللغات وأبهجها:
وهل ذهب صِرفٌ يحاكيه بهرج

ولله در من قال:
يليق الخطاب اليعربي بأهله
فيهدي الوفا للنقص والحسن للقبح
ومن شرف الأعراب أن محمدًا
أتى عربي الأصل من عرب فصح
وأن المثاني أنزلت بلسانه
بما خصصته في الخطاب من المدح


ومع ما يتراءى إن الأعاجم لا تفهم لغة العرب إذا لم تحسن التكلم بها كالعرب، فهذا لا أصل له، ومما يدلك على ذلك أني اجتمعت في "باريس" بفاضل من فضلاء الفرنساوية شهير في بلاد الإفرنج بمعرفة اللغات المشرقية، خصوصًا اللغة العربية والفارسية يسمى "البارون سلوستري داساس" وهو من أكابر "باريس" وأحد أعضاء جملة جمعيات من علماء فرنسا وغيرها، وقد انتشرت تراجمه في "باريس" وشاع فضله في اللغة العربية، حتى إنه لخص شرحًا للمقامات الحريرية، وسماه مختار الشروح، وقد تعلم اللغة العربية على ما قيل بقوة فهمه، وذكاء عقله، وغزارة علمه، لا بواسطة معلم إلا في مبدأ أمره، ولم يحضر مثل الشيخ خالد٨ فضلاً عن حضور المغني٩ مع أنه يمكنه قراءة المغني، كيف وقد درس البياضوي عدة مرات، غير إنه حين يقرأ ينطق كالعجم ولا يمكنه أن يتكلم بالعربية إلا إذا كان بيده الكتاب، فإذا أراد شرح عبارة أغرب في الألفاظ التي يتعذر عليه تصحيح نطقها، ولنذكر لك خطبته في شرحه لمقامات الحريري لتعرف نفسه في التأليف، وقلم عبارته، فإنه بليغ، وإن كان به يسير من الركاكة، وسبب ذلك أنه تمكن من قواعد الألسن الإفرنجية؛ فلذلك مالت إليها عبارته في العربية، قال في طالعة شرحه التي حاول فيها الجري على نهج دينه ودين الإسلام من غير أن يغبن أحدهما:

بسم الله المبدئ المعيد، الحمد لله العالي المتعالي، الذي له الأسماء الحسنى، ولا يخالط صفاته عن وجل من صفات المخلوق شيء أقصى ولا أدنى، العليم الذي ليس لعلمه نهاية، والحكم الحكيم الذي حكمه وحكمته وراء كل حد وغاية، لا يحصر لاهوت وجوده زمان ومكان، ولا يشوب صفاء جبروته شائبة زيادة ولا نقصان.        

مُسَبِّبُ الأسباب الذي لا يتحرَّك في أطراف الأرض والسماء متحرك إلا بقدرته وإرادته، ولا يتكلم في أكناف الآفاق متكلم إلا بإلهامه وإفادته، أحمده حمد من اعترف بتقصير فهمه، وضعف عقله فهداه برحمته وتوفيقه إلى تحصيل بعض العلوم والفنون، وأشكر له شكر من كان يخبط في ظلام الجهل فأخرجه برأفته وتأييده إلى فضاء الرشد ونور التمييز، حتى عرف الحق اليقين من أباطيل الظنون، ثم أتوسل إليه - سبحانه وتعالى - بأنبيائه المرسلين، وأوليائه المقربين.        

الذين كل واحد منهم كالغُرة على جبهة الدهر، وكالتاج على مفرق العصر، وأسأله -عز وجل- أن يجعلني من عباده المهتدين، الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، إنه على كل شيء قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.

أما بعد:
لما فضل الله جنس الناس على سائر المبتدعات بفوائد الأفهام، واختص بني آدم من بين أصناف الحيوانات بكرامة الكلام، بعث في كل أمة من الأمم من يكون في تمهيد قواعد البلاغة واستنباط أحكام شريعتها معروفًا مشهورًا، ويصير لسانك طريقة الفصاحة إمامًا ودستورًا، فممن اشتهر بذلك بين الأنام، وصار المشار إليه في هذا الباب عند أهل الإسلام، مؤلف المقامات المشهور بالحريري، وهو الشيخ الإمام أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الذي ازدرى من كان قبله من الأدباء والفصحاء، وأجهد من جاء بعده من الظرفاء والبلغاء، فأتى لما رأيت أن كتابه المذكور، لم يزل مذ ألفه إلى يومنا هذا لعلم الأدب كالعلم المشهور، يحسبه الخاصة والعامة واسطة عقده، وخلاصة نقده، ويعتقدونه نور مصباحه، وضياء صباحه، بل لا يشك أحد منهم أنه أزهار بستانه، وأثمار جنانه، وزلال مائه، ونسيم هوائه، أحببت أن أشرحه شرحًا متوسطًا بين الإيجاز والتطويل، أكشف الغطاء عن مشكلاته ومجملاته بالتفسير والتفصيل.

وقد شرح المقامات الحريرية من علماء المشرق والمغرب كثير، وذكرهم الحاج خليفة في كتابه المسمى: "كشف الظنون" عن أسامي الكتب والفنون، وما وصلت يدي إليه من مؤلفاتهم شروح أربعة منها "غريب الإيضاح في غريب المقامات الحريرية" للإمام برهان الدين أبي الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الخوارزمي، المتوفى سنة عشر وستمائة، وهذا الشرح مع وجازته كتاب مفيد محصل للمقصود.

والمطرزي كانت له معرفة تامة بالنحو وباللغة والشعر وأنواع الأدب، وهو صاحب كتاب "المغرب" تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب.

ومنها كتاب "شرح ما غمض من الألفاظ اللغوية، من المقامات الحريرية" تأليف الشيخ محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري البغدادي المتوفى سنة عشر وستمائة، قال: إني رأيت المقامات الحريرية مشحونة بالألفاظ اللغوية، وهي أحد الكتب التي عني بها علماء العربية، ودعاني ذلك إلى تفسير ما غمض من ألفاظها على الإيحاز، وقد كنت عثرت لبعض الناس على شيء من ذلك إلا أنه أسهب بما لا يحتاج إليه، وربما فسر اللفظة بغير ما قصد منشئها.

ومنها "شرح المقامات" للأستاذ اللغوي النحوي أبي العباس أحمد بن عبد المؤمن بن موسى القسي الشريشي المتوفى سنة تسع عشرة وستمائة، وهو شرح طويل، ذكر الشريشي أنه لم يترك في كتاب من شروح المقامات فائدة إلا استخرجها، ولا عائدة إلا استدرجها، ولا نكتة إلا علقها، ولا غريبة إلا استحلقها، حتى صار شرحه تأليفًا في المقامات يغني عن كل شرح تقدم فيها، ولا يحوج إلى سواه في لفظة من ألفاظها، ولا معنى من معانيها، وقد أخذ شيئًا كثيرًا من شرح ابن ظفر الصقلي صاحب كتاب "سلوان المطاع" في عدوان الأتباع المتوفى بمدينة حماة سنة خمس وستين وخمسمائة.

ومن شرح الفندهجي، وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو سعيد محمد بن سعادات عبد الرحمن بن محمد الخراساني المروزي الفندهجي، وقيل: البندهجي، المتوفى بمدينة دمشق سنة أربع وثمانين وخمسمائة.

ومنها شرح آخر تأليف الشيخ شمس الدين أبي بكر محمد ابن أبي بكر الرازي، صاحب أسئلة القرآن، ومختار الصحاح، المتوفى بعد سنة ستين وستمائة، وهذا الشرح لم يذكره الحاج خليفة في كتابه المذكور، وهو شرح لطيف، يشهد لصاحبه بكمال الأدب إلا أن النسخة التي هي في ملكي نسخة ناقصة سقط منها نحو نصف الكتاب، حتى لم يبق إلا شرح الخطبة، ثم شرح المقامة الخامسة والعشرين، أخذًا من قول الحريري: وإني والله طالما تلقيت الشتاء بكافاته إلى آخرها، وشرح ما يتلوها من المقامات إلى١٠ قوله في المقامة الخمسين: (ولم تزل معتكفًا على القبيح الشنع).

هذا ما كان لي من شروح المقامات، وقد اجتمع عندي أيضًا نسخ ست من كتاب المقامات بلا شرح، غير أن أكثرها يوجد به من التعليقات والحواشي ما ينتفع به القارئ، وقد اخترت من تلك الشروح والحواشي كل ما يحتاج إليه طالب العلم في تحصيل المقصود، ويستعين به الراغب في الأدب، على إدراك المطلوب، ثم أضفت على ذلك شيئًا كثيرًا نقلته من كتب أئمة النحو واللغة، ومن مجمع الأمثال، للعلامة الميداني، وكتاب وفيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، ثم من ديوان البحتري، ومن ديوان المتنبي، وشرح المعلقات للزوزني، وغير هذا من كتب الأدب كل ذلك ليتيسر على من أعجبه الغوص في بحار اللغات العربية أن يظفر من دررها بكل يتيمة عقيلة، وليسهل على المولع بغرائب العلوم الأدبية المشرقية أن يصل من جواهر معادنها إلى كل فلذة ثمينة جزيلة، وإنما المرجو ممن نظر في هذا الشرح المختار أن لا يؤاخذني على ما ظهر عليه من العثرات، بل أن يستر بذيل كرمه ما استبان له من العورات، والله أسأله أن يجعل هذا الكتاب لمن تصفحه من أهل الشرق والغرب نافعًا مفيدًا، ولجميع من أسرع إلى مورده من أبناء جنسنا ومن غير جنسنا هنيئًا مريئًا حميدًا انتهى كلامه.

وقال في المقدمة الفرنساوية لهذا الكتاب: إن المقامات البديعية تفضل المقامات الحريرية.

وقد ترجم إلى الفرنساوية عدة مقامات من الاثنتين في مجموعة: كتاب الأنيس المفيد، للطالب المستفيد، وجامع الشذور، من منظوم ومنثور، وبالجملة فمعرفته خصوصًا في اللغة العربية مشهورة، مع أنه لا يمكنه أن يتكلم بالعربي إلا بغاية الصعوبة، وقد رأيت له في بعض كتبه توقيفات عظيمة، وإيرادات جليلة، ومناقضات قوية، وله اطلاع عظيم على الكتب العلمية المؤلفة في سائر اللغات، وسبب ذلك كله تمكنه من لغته بالكلية، ثم تفرغه بعد ذلك لمعرفة اللغات شعر:
العلم لا يدرك بالتمني
عليك بالتكرار والتأني
كم أعجمي ألكن أخن
أدرك بالتكرار كل فن


ومن جملة مؤلفاته الدالة على فضله، كتاب في النحو سماه: "التحفة السنية في علم العربية"، فإنه ذكر فيه علم النحو على ترتيب عجيب لم يسبق به أبدًا، وله مجموع سماه: "المختار من كتب أئمة التفسير والعربية في كشف الغطاء عن غوامض الاصطلاحات النحوية واللغوية"، فقد جمعه وترجمه من العربية إلى الفرنساوية، وله غير ذلك من المؤلفات والتراجم خصوصًا في اللغة الفارسية، فإنه بارع فيها غاية البراعة، وشهرته بالفضل في بلاد الإفرنج لا تنكر، حتى إنه قد أتحف بعلامات الشرف من كبار ملوكهم، واتساع دائرة هذا الحبر في معرفة لغات أهل المشرق والمغرب القديمة والحديثة، بما يسهل تصديق ما قيل في حق الفارابي فيلسوف الإسلام: من أنه كان يحسن سبعين لسانًا ولنذكر ترجمته هنا مراعاة للنظير فنقول:

هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي الحكيم الفيلسوف، فيلسوف الإسلام الماهر الباهر، قدم على سيف الدولة بن حمدان، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع العلوم، فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك، وكان ذلك عادته فوقف بين يديه، فقال له سيف الدولة: اجلس، فقال: حيث أنت أو حيث أنا؟ فقال: حيث أنت.        

فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى مجلس سيف الدولة وزاحمه في مسنده حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان يسارهم به قلّ أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرف بها فأخرجوه، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان؟ فقال: نعم، أحسن أكثر من سبعين لسانًا، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، ولم يزل كلامه يعلو.        

وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقول، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا عابه أبو نصر، وقال له: أخطأت فقال له سيف الدولة: فهل تحسن في هذه الصنعة شيئًا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، ففتحها، وأخرج منها عيدانًا فركبها، ثم لعب بها، فضحك كل مَنْ في المجلس ثم فكّها، وركّبها، ولعب بها، فبكى مَنْ في المجلس، ثم فكّها، وركّبها، ولعب بها، فنام كل مَنْ في المجلس حتى البوَّاب، فتركهم نيامًا وخرج!

وكان منفردًا بنفسه، لا يجالس الناس، وكان مُدَّةَ مُقامه بدمشق لا يكون غالبًا إلا عند مجتمع ماء، أو مشتبك أشجار ورياض، يؤلف هناك كتبه، ويتناوبه١١ المشتغلون عليه وكان يلازم غياض الفرجل، وربما صنف هناك، وقد ينام، فتحمل الريح تلك الأوراق، وتنقلها من مكان إلى مكان، قيل: وهو السبب في نقص بعض مصنفاته، فإنه كان يصنِّف في الرقاع دون الكراريس.

وكان أزهد الناس في الدنيا متقللاً منها أجرى عليه سيف الدولة في كل يوم أربعة دراهم.

ومن شعره:
لما رأيت الزمان نكسا
وليس في الصحبة انتفاع
كل رئيس به ملال
وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا
به من العزة اقتناع
أشرب مما اقتنيت راحا
لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى
ومن قراقيرها سماع
وأجتني من علوم قوم
قد أقفرت منهم البقاع


ومنه:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن بالحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
ولا المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقل من الكلم الموجز
وهل نحن إلا خطوط وقعن
على نقطة وقع مستوفز
محيط العوالم أولى بنا
فماذا التزاحم في المركز


ثم إن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها، منهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك أن قول بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله، وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها.

ثم العلوم الأدبية الفرنساوية لا بأس بها، ولكن لغتها وأشعارها مبنية على عادة جاهلية اليونان وتأليههم ما يستحسنونه، فيقولون مثلا: إله الجمال، وإله العشق، وإله كذا، فألفاظهم في بعض الأحيان كفرية صريحة وإن كانوا لا يعتقدون ما يقولون، وإنما هذا من باب التمثيل ونحوه.        

وبالجملة فكثير من الأشعار الفرنساوية لا بأس به، ولنذكر لك شيئًا من بعض أشعارهم مترجمة من كلام بعضهم للعبد الفقير:
وإذا القلوب تعلقت
رأت الجميع جميلا
كسفينة تسعى إلى
شعب يكون مهولا
لهفي على زمن الهنا
إن صح كان بخيلا


وقوله مترجمًا لي:
ودع القلب فيك يا قاتلي
يا خيال المسعد الزائر
إن روحي بالجراح اصطلت
وعلى البرء لست بالقادر
وسروري في الهوى لمحة
مثل زهر الورق الزاهر

ومن القصيدة المسماة: "نظم العقود، في كسر العود"، للخواجة يعقوب المصري منشئًا، الفرنساوي استيطانًا، وقد اعتنيت بترجمتها سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين: وأخرجتها من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام قول صاحبها ونظمه للعبد الفقير:
زاد بي الحال إذ صفالي حالي
وغنائي بالعود والألحان
باسم ربي والسادة الأعيان
وترنمت شجوة بالحسان
وبسعدي ذات الجبين المفدى
فصغى سمعها إلى إنشادي
ورمى النار لحظها في فؤادي
فلهذا شعري غدا في اتقاد
وبدا من حماسه في انفراد
لذوي الفهم والمعارف يهدي
أحرق العشق قلبها كاحتراقي
فأنت تطفئ اللظى بالعناق
فتضاممنا ضمة المشتاق
وتلاثمنا عادة العشاق
فتثنت لتُخجل الغصن قدا
شنف السمع من رقيق التغاني
واستمع يا أخي صوت المثاني
يا خليلي بالله هلا تراني
أنني قد أحييت شعر "ابن هاني"
بعد أن كان قد توسد لحدا


وبعد هذا بعدة أبيات، تخلّص الشاعر إلى ذم العشق وتوابعه، فقال:
واحيائي واخجلتي صار فني
إنني في هوى الملاح أغني
برخيم الغنا كظبي أغن
وبأوتاري أبتدي وأثنِّي
ما أرى هذا للفضائل أجدى
أفأيامي كلها لي عقيمة
أو مالي عواقب مستقيمة
بل على طاعة الهوى مستديمة
أفما هذه مراق ذميمة
أقتفي هزلها وأرفض جد
أعلى احتساء كأس نصيب
خامل غير كافل لأريب
مع أني والله غير مريب
همتي همة الذكي النجيب
تقنص المجد والسوا تتعدى


وقال يذم نفسه ويوبخها على العزم على فراق محبوبته، لا سيما وهي تتأذّى من فراقه:
ويح عز وسؤدد نشتريه
بنواح الملاح إذ نشتهيه
يا فؤادي سل عند أي فقيه
يغفر الذنب من قتال بنيه
لنوال الفخار علك تهدي؟
يا فؤادي قد أسلمتك الأمورا
وأباحتك متجرًا لن يبورا
أفترضى علي الظبا أن تجورا
لست ألفيك آسفًا مقهورًا
حيث قديت قلبها الآن قدا


وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن في الترجمة تذهب بلاغتها، فلا تظهر علو نفس صاحبها، ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حس، بل ربما صارت باردة، وسيأتي تتميم الكلام على غالب الآداب الفرنساوية والعلوم والفنون.
--------------------------------
١  الأصل: "جمالات".
٢  الآس: الريحان. والعذار: الخد، ولامه: استدارته.
٣  لام هنا بمعنى: عذل.
٤  اللام مسهل اللأم: جمع لأمة، وهي الدرع.
٥  مَه: اسم فعل أمر بمعنى اترك.
٦  البند: العلم الكبير، يريد به الثوب.
٧  السعد والأطول والمطول شروح وتعليقات لكتاب الخطيب القزويني في علم البلاغة.
٨  كتاب ابتدائي في النحو.
٩  كتاب للمنتهين في النحو.
١٠  في النسخة المطبوعة ببولاق: "إلا".
١١  في المطبوعة البولاقية: "وينتابه".



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:08 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:43 pm

الفصل الثالث
في تدبير الدولة الفرنسية
ولنكشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية، ونستوفي غالب أحكامهم؛ ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر، فنقول: قد سلف لنا أن "باريس" هي كرسي بلاد الفرنسيس، وهي محل إقامة ملك فرنسا وأقاربه وعائلته المسماة "البربون" (بضم الباء الموحدة، وسكون الراء، وضم الباء الثانية) فلا يكون ملك فرانسا إلا من هذه العائلة.

ومملكة الفرنساوية متوارثة، ومسكن ملك فرنسا (سراية) تسمى: "التولري" (بضم التاء وكسر الواو وكسر الراء)، والغالب إن الفرنساوية يعبرون عن ديوان فرنسا بقولهم: "كابينة النواري" يعني ديوان هذه السراية، أي ديوان الملك.

ثم إن أصل القوة في تدبير المملكة لملك فرنسا، ثم للجماعة أهل "شمبر دوبير"١ (بفتح الشين، وسكون الميم) يعني ديوان "البير" (بفتح الموحدة) أي: أهل المشور الأولى، ثم لديوان رسل العملات، ثم إن الديوان الأول، يعني ديوان "البر" هو في قصر "بباريس" يسمى قصر "لقسمبورغ" والديوان الثاني في قصر "بوربون" ثم يلي ديوان رسل العمالات ديوان الوزراء والوكلاء، ثم ديوان يسمى "الديوان الخصوصي"، وبعد ذلك يوجد ديوان يسمى: "ديوان سر الملك" وديوان يسمى: "ديوان الدولة للمشورة" فحينئذ ملك فرنسا صاحب قوة تامة في مملكته بشرط رضاء تلك الدواوين المذكورة، وله خصوصيات أخرى سيأتي ذكرها في السياسة الفرنساوية.

ووظيفة أهل ديوان "البير" تجديد قانون مفقود، أو إبقاء قانون موجود على حاله، ويسمي القانون عند الفرنساوية: شريعة: فلذلك يقولون: شريعة الملك الفلاني، ومن وظيفة ديوان "البير" أن يعضد حقوق تاج المملكة، ويحامي عنه، ويمانع سائر من يتعرض لها، وانعقاد هذا الديوان يكون مدة معلومة من السنة، في زمن اجتماع ديوان رسل العمالات، بإذن ملك الفرنسيس، وعدد أهل ذلك الديوان غير منحصر في عدة مخصوصة، ولا يقبل دخول الإنسان فيه إلا وهو ابن خمس وعشرين سنة ولا يشرك في الشورى إلا وهو ابن ثلاثين سنة ما لم يكن من بيت المملكة، وإلا فبمجرد ولادته يحسب من أهل هذا الديوان ويشرك في المشورة حين يبلغ عمره خمسًا وعشرين سنة.

وكانت وظيفة "البيرية" متوارثة للذكور فيقدم أكبر الأولاد، ثم بعد موته يقدم من يليه وهكذا.

ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفتهم امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها ومصرفها، والمنازعة في ذلك والممانعة عن الرعية في المكوس والفرد٢ وغيرها؛ إبعادًا للظلم والجور وهذا الديوان مؤلف من عدة رجال ينصبهم أهالي العمالات وعددهم أربعمائة وثمانية وعشرون رسولاً ولا يقبل إلا من يكون سنه أربعين سنة، ولا بد أن يكون لكل واحد منهم عقارات تبلغ فردتها ألف فرنك كل سنة، وأما الوزراء فإنهم متعددون؛ فمنهم وزير الأمور الداخلية، ثم وزير الحرب.        

ثم وزير الأمور الخارجية، ثم وزير البحر والخارجين من بلاد الفرنسيس، النازلين ببلاد يعمرونها، في غير بلاد الفرنسيس، ثم وزير الخزينة ثم وزير الأمور الدينية، ثم وزير تعليم الفنون والصنائع، ثم وزير التجارات ووزير الأمور الداخلية نظير (الكتخدا) ببر مصر، ووزير الخزينة نظيرًا لخازندار، ووزير التجارات نظير ناظر التجارات، ووزير الأمور الخارجية نظير رئيس أفندي بالدولة العثمانية، ووزير الحرب نظير ناظر عموم الجهادية، وهكذا.        

غير أنه عندنا ليس وزيراً، وعندهم يعدونه من الوزراء.

وأما الديوان الخصوصي، فإنه تخصيص الملك لجماعة بمشورته إياهم على مادة مخصوصة، والغالب على أهل هذا الديوان كونهم من أقاربه ووزرائه.

وأما ديوان سر الملك فإنه يتألف من وزراء السر ومن أربعة وزراء آخرين، لهم وزارة مطلقة ثم جماعة من أرباب المشورة في الدولة.

وأما ديوان الدولة، فإنه يتألف ممن يعينه الملك من أقاربه من الوزراء التسعة الكاتمين سر الدولة، ثم من وزراء الدولة المطلقين، ومن أرباب المشورة، ليتعلموا تدبير الدولة.

ومن ذلك يتضح لك أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد، بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين، وأن ديوان "البير" يمانع الملك وديوان رسل العمالات يحامي عن الرعية، والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساسًا لسياستهم هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى: لويز الثامن عشر (بضم اللام وكسر الواو) ولا زال متبعًا عندهم ومرضيًا لهم، وفيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل.

والكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الشرطة٣ ومعناها في اللغة اللاطينية ورقة ثم تسومح فيها، فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المماليك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك، حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلمًا أبدًا، والعدل أساس العمران.

ولنذكر هنا نبذة مما قاله فيه العلماء والحكماء، أو في ضده من كلام بعضهم: ظلم اليتامى والأيامى مفتاح الفقر، والحلم حجاب الآفات، وقلوب الرعية خزائن ملكها، فما أودعه إياها وجده فيها، وقال آخر: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.        

وقيل فيما يقرب من هذا المعنى:
سلطان الملوك على أجسام الرعايا لا على قلوبهم، وقال بعضهم: أبلغ الأشياء في تدبير المملكة تسديدها بالعدل، وحفظها من الخلل.        

وقيل:
إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع، إن المولى إذا كلف عبده ما لا يطيعه؛ فقد أقام عذره في مخالفته.

وقال بعضهم شعرًا يفيد أن النصر يتوقف على العدل:
تروم ولاة الجور نصرًا على العدا
وهيهات يلقى النصر غير مصبب
وكيف يروم النصر من كان خلفه
سهام دعاء من قسي قلوب؟!


وقال آخر:
لا يفلح المغتال والظلوم
والبغي مرعى نبته وخيم
فمضجع الظالم بئس المضجع
ومصرع الباغي فبئس المصرع
إن القصاص واقع بالمثل
والدهر يجزي بيسير الفعل


وفي هذا القانون عدة مقاصد:

المقصد الأول الحق العام "للفرنساوية"، الثاني: كيفية تدبير المملكة: الثالث في منصب ديوان "البير"، الرابع: في منصب "ديوان رسل العمالات" الذين هم أمناء الرعايا ونوابهم، الخامس: في منصب الوزراء، السادس: في طبقات القضاء وحكمهم، السابع: في حقوق الرعية.


قال صاحب الشرطة المذكورة:
الكلام على حق الفرنساوية المنصوب لهم
المادة الأولى: سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة.

المادة الثانية: يعطون من أموالهم بغير امتياز شيئًا معينًا لبيت المال، كل إنسان على حسب ثروته.

المادة الثالثة: كل واحد منهم متأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت.

المادة الرابعة: ذات كل واحد منهم يستقل بها، ويضمن له حريتها، فلا يتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة، وبالصورة المعينة التي يطلبه بها الحاكم.

المادة الخامسة: كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يجب لا يشاركه أحد في ذلك، بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادته.

المادة السادسة: يشترط أن تكون الدولة على الملة (القاثوليقية) الحوارية الرومانية.

المادة السابعة: تعمير كنائس (القاثوليقية) وغيرهم من النصرانية يدفع له شيء من بيت مال النصرانية، ولا يخرج منه شيء لتعمير معابد غير هذا الدين.

المادة الثامنة: لا يمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه، ويطبعه بشرط أن لا يضر ما في القانون، فإذا ضرَّ أزيل.

المادة التاسعة: سائر الأملاك والأراضي حرم، فلا يتعدى أحد على ملك آخر.

المادة العاشرة: للدولة دون غيرها أن تكره إنسانًا على شراء عقاره لسبب عام النفع، بشرط أن تدفع ثمن المثل قبل الاستيلاء.

المادة الحادية عشرة: جميع ما مضى قبل هذا القانون من الآراء والفتن يجب نسيانه، وكذلك ما وقع من المحكمة وأهل البلد.

المادة الثانية عشرة: أخذ العساكر يرتب وينقص عما كان عليه وقد يعين بقانون معلوم وضع عساكر في البر والبحر.


كيفية تدبير المملكة الفرنساوية
المادة الثالثة عشرة: ذات الملك محترمة ووزراؤه هم الكفلاء في كل ما يقع، يعني هم الذين يطالبون، ويحكم عليهم، ولا يمكن أن يمضي حكم إلا إذا أنفذه أمر الملك.

المادة الرابعة عشرة: الملك هو أعظم أهل الدولة؛ فهو الذي يأمر وينهى في عساكر البر والبحر، وهو الذي يعقد الحرب والصلح والمعاهدة والتجارة بين ملته وغيرها، وهو الذي يولي المناصب الأصلية، ويجدد بعض قوانين وسياسات، ويأمر بما يلزم، ويمضيه إذا كان فيه منفعة للدولة.

المادة الخامسة عشرة: تدبير أمور المعاملات بفعل الملك وديوان "البير" و"ديوان رسل العمالات".

المادة السادسة عشرة: يقرر الملك وحده جزاء القوانين، ويأمر بإعلانها وإظهارها.

المادة السابعة عشرة: يبعث القانون بأمر الملك إلى ديوان "البير" أولا، ثم إلى ديوان رسل العمالات، إلا قانون الجبايات والقردة، فإنه يبعث أولاً إلى ديوان رسل العمالات.

المادة الثامنة عشرة: تنفذ الدولة القانون إذا رضي به الجمهور كل من الديوانين.

المادة التاسعة عشرة: لأحد الديوانين أن يلتمس من الملك إظهار قانون في أمر كذا، وأن يبين له فائدة وضع ذلك القانون.

المادة العشرون: يصنع هذا القانون بأحد الديوانين في مجلس سري، وما صنعه أحد الديوانين واستقر رأيه عليه يبعثه للديوان الآخر بعد التفكر عشرة أيام.

المادة الحادية والعشرون: إذا رضي الديوان الآخر بالقانون فإنه يصوغ عرضه على الملك؛ فإذا طرحه الديوان الآخر لا يمكن عرضه له، أي: لذلك الديوان مدة اجتماعه في هذه السنة.

الثانية والعشرون: الملك وحده هو الذي يأذن بالقانون ويظهره للرعية.

الثالثة والعشرون: ماهية الملك محدودة له مدة توليته على كيفية واحدة، لا تزيد ولا تنقص عن القدر المعين له عند توليه من مجلس ديوان "البير" يعني ديوان المشورة الأولى.

الرابعة والعشرون: ديوان "البير" هو جزء ذاتي لتشريع القوانين التدبيرية.

الخامسة والعشرون: يجتمع هذا الديوان ويفتح مدة أشهر بأمر الملك في زمن واحد مع انفتاح ديوان رسل العمالات، فيفتحان معًا في يوم واحد ويغلقان كذلك.

السادسة والعشرون: لو اجتمع ديوان٤ "البير" قبل انفتاح ديوان رسل العمالات أو قبل إذن ملك فرنسا؛ كان سائر الترتيب الصادر من هذا المجلس مدة الاجتماع ممنوع الإمضاء وملغيًا.

السابعة والعشرون: تسمية الشخص "بير فرانسا" هو حق الملك وعدد أهل ديوان "البير" غير محدود، وللملك أن يلقب "البير" بأي لقب كان، وله أن يجعل ذلك اللقب له مدة حياته، وأن يجعله متوارثًا لذريته.

الثامنة والعشرون: يمكن أن يدخل "البير" في الديوان وهو ابن خمس وعشرين سنة، ولا يبدي رأيه في المشورة إلا بعد بلوغه في السن ثلاثين سنة.

التاسعة والعشرون: رئيس ديوان "البير" هو قاضي قضاة فرنسا مهردار ملكها، أي: وزير خاتم ملكها، فإن اعتذر؛ خلَفَه من أهل الديوان من يعيِّنه الملك لذلك.

الثلاثون: أقارب الملك وذراريه يكون لهم الدخول في مرتبة "البيرية" بمجرد ولادتهم، ويجلس كل منهم بعد رئيس ذلك الديوان، ولا يكون لهم كلمة ورأي في المجلس إلا بعد بلوغهم في السن خمسًا وعشرين سنة.

الحادية والثلاثون: لا يمكن لأحد من أهل مجلس "البير" أن يدخل في ذلك الديوان عند انفتاحه إلا بإذن من الملك؛ بأن يبعث رسولاً، فإن فعلوا غير ذلك كان ما فعل بحضرتهم لاغيًا.

الثانية والثلاثون: كل آراء ديوان "البير" يجب كتمها عن غيرهم.

الثالثة والثلاثون: ديوان الملك هو الذي يستقل بالقضاء على الخيانة في الدولة ونحوها، من كل ما يضر الدولة مما هو مقرر في القوانين.

الرابع والثلاثون: لا يمكن أن يقبض أحد على واحد من أهل ديوان "البير" إلا بأمر ذلك الديوان، ولا يمكن أن يحكم عليه غيرهم في مواد الجنايات.

ديوان رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية
الخامسة والثلاثون: ديوان رسل العمالات مؤلَّف من جملة رسل ينتخبهم المنتخبون (بكسر الخاء) الذين يقال لهم: "اللكتور" (بكسر اللام المشددة وسكون الكاف) وترتيبها مصنوع بقوانين مخصوصة.

السادسة والثلاثون: كل العمالات تبقى على ما هي عليه قبل هذه الشرطة من عدد ما لها من الرسل.

السابعة والثلاثون: من الآن فصاعدًا تختار الرسل لتمكث سبع سنوات لا خمسة، كما كانت.

الثامنة والثلاثون: لا يصلح الإنسان للدخول في ديوان الرسل إلا إذا بلغ أربعين سنة، وكان له أملاك يدفع عليها ألف فرنك فِردة.

التاسعة والثلاثون: لا بد أن يُجمع في كل عمالة خمسون ألف نفس موجود فيهم شرطا السن والملك المذكوران؛ ليختار الرسل منها، فإن لم يكمل ممن يدفعون ألف فرنك خمسون وجب تكميلها ممن٥ لهم أملاك يدفعون عليها دون ألف فرنك، ثم اختيار الرسل من جملة الخمسين.

الأربعون: شرط "اللكتور" أي المنتخب للرسل أن يكون له ملك يدفع فردته ثلثمائة فرنك، وأن يكون قد بلغ من العمر ثلاثين سنة.

الحادية والأربعون: رؤساء مجلس المنتخبين ينصبهم الملك، فيدخلون في أهل هذا المجلس.

الثانية والأربعون: يجب أن يكون نصف رسل العمالات فصاعدًا مستوطنًا عادة في تلك العمالة.

الثالثة والأربعون: رئيس ديوان رسل العمالات ينصبه الملك ويختاره من خمسة رسل يعرضهم ذلك الديوان.

الرابعة والأربعون: مجالس هذا الديوان تكون جهرية إلا إذا أراد خمسة من رسل العمالات كتم شيء، فإنه يجوز إخراج الناس الأجانب من الديوان.

الخامسة والأربعون: الديوان ينقسم إلى دواوين صغيرة تسمى "البورو" يعني مكاتب، فأهل هذه "البورو" تمتحن الأشياء التي يستحسنها الملك ويبعثها لها.

السادسة والأربعون: لا يقع تصليح شيء في آداب سياسات فرانسا، ولا يمضي إلا إذا رضي به الملك وبحث فيه في تلك الدواوين الصغيرة.

السابعة والأربعون: ديوان رسل العمالات ينتقي تقارير طلب الفرد، والمكوس ولا تصل إلى ديوان "البير" إلا إذا رضي بها ذلك الديوان.

الثامنة والأربعون: لا يمكن أن ينفذ أمر الملك في الفرد إلا إذا رضي به الديوانان وأقرَّه الملك.

التاسعة والأربعون: فردة العقار لا تقطع إلا سنة فسنة ويمكن قطع غيرها لأجل معلوم.

الخمسون: على الملك أن يأمر بفتح الديوانين كل سنة، ولكن متى أراد، وله أن يبطل ديوان رسل العمالات، بشرط أن يصنع ديوان رسل جديدًا، وأن لا يزيد في تجديد الآخر عن ثلاثة أشهر.

الحادية والخمسون: لا يمكن أن يقبض أحد على إنسان من أهل مجلس رسل العمالات مدة فتح الديوان، وشهرًا ونصفًا قبل فتحه، وشهرًا ونصفًا بعده.

الثانية والخمسون: لا يمكن أن يقبض على أحد من أعضاء الديوان بسبب مادة من مواد العقوبات، ما دام الديوان مفتوحًا، وما دام اجتماع الديوان، إلا إذا بغت وهو متلبس بالخطيئة، أو أذن الديوان بأخذه.

الثالثة والخمسون: عرض الحال الذي يعرض على أحد الديوانين لا يقبل إلا إذا كان مكتوبًا، وآداب السياسة الفرنساوية لا تجوِّز أن يقدم الإنسان تقريرًا بنفسه في المجلس.

الوزراء
المادة الرابعة والخمسون: يجوز أن يكون الوزير من أهل كل من الديوانين، وله - زيادة على ذلك - حق الحضور في أحدهما، ومتى طلب أن يتكلم في الديوان وجب أن يصغي إلى كلامه.

الخامسة والخمسون: يسوغ لديوان رسل العمالات أن يتهم الوزراء، فتسمع دعواه في ديوان "البير" ليحكم بينهم ذلك الديوان فيفصل خصومتهم.

السادسة والخمسون: لا يتهم الوزير إلا بخيانة في التدبير بالرشوة أو باختلاس الأموال، فيحكم عليه على حسب ما هو مسطر في القوانين المخصوصة.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:09 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:46 pm

تابع الفصل الثالث

طائفة القُضاة
المادة السابعة والخمسون: الحكم حق الملك، يعتبر كأنه صادر منه، فيحكم القضاة المنصبون من الملك الذين لهم ماهية من بيت المال، ويبتون الحكم باسم الملك.

الثامنة والخمسون: إذا ولّى الملك قاضيًا وجب إبقاؤه ولا يجوز عزله.

التاسعة والخمسون: القضاة المنصبون وقت هذه الشرطة لا يمكن عزلهم ولو تجدد قانون آخر.

الستون: إقامة قضاة المعاملات لا يمكن إبطالها أبدًا.

الحادية والستون: إقامة قضاة المصالحة تبقى أيضًا ولكن قاضي المصالحة يجوز عزله، وإن كان منصبه يأتي له من الملك.

الثانية والستون: لا شيء يخرج عن حكم هؤلاء القضاة.

الثالثة والستون: لا يسوغ بسبب ما تقدم تجديد محاكم أو مجالس زائدة إلا بجمع قضاة النقباء الذين يقال لهم "بربوتال" إذا احتاج الأمر إلى ذلك.

الرابعة والستون: إقامة الدعوى والتشاجر بين الخصوم قدَّام الحاكم الشرعي تكون على رءوس الأشهاد في مواد العقوبات، إلا إذا كان الذنب مضرًا إشهاره بين العامة أو مخلاً بالحياء، فإن أهل المحكمة يخبرون الناس بأن هذا الأمر يقع سرًا.

الخامسة والستون: إقامة الجماعة المحكمين المسماة "جورية الجنايات" لا تبطل أبدًا، وإذا لزم تغيير بعض شيء في مواد القضاة، لا يمكن إلا إذا كان بقانون من الديوانين.

السادسة والستون: قانون معاقبة الإنسان بالاستيلاء على ما تملكه يده قد أبطل بالكلية، ولا يمكن تجديده أبدًا.

السابعة والستون: للملك أن يعفو عن الإنسان، وأن يخفف مواد العقوبات.

الثامنة والستون: كتب قوانين السياسات التي عليه العمل غير المناقضة لما في هذا الشرطة لا ينسخ حكم ما فيها إلا إذا تغير بقانون آخر.

حقوق الناس التي يضمنها الديوان
المادة التاسعة والستون: كل أهل العسكرية سوى أصحاب خدمة دائمة أو متروكين لوقت الحاجة، وكل النساء المتوفى عنهن أزواجهن وهم في العسكرية يبقى لهم مدة حياتهم وظيفتهم ودرجتهم وخرجُهم.

السبعون: ديون الرعية التي في ذمة الديوان هي مضمونة على حسب اضطلاع الدولة مع أرباب الديون.

المادة الحادية والسبعون: لم يفضل لأهل الشرف القديم من درجات الشرف إلا الاسم فقط، وكذلك لأرباب الشرف الجديد، ثم لملك فرانسا أن يعطي درجة الشرف الفرنساوي لأي إنسان شاء ولكن ليس له أن يخص من يعطيه ذلك برفع الفِرَد ونحوها عنه؛ فليس للشرف مزية غير التسمية.

الثانية والسبعون: من له علامة التمييز المسماة درجة "الشوالية" يعني الفارس في فنه، فإن له أن يحفظها على الصورة التي يعنيها ملك فرنسا لهذه الدرجة.

الثالثة والسبعون: القبائل والنزلات الخارجة من فرنسا لتعمير بلاد أخرى، وللاستبطان بها، تكون مدبرة بقوانين وسياسات أخرى.

الرابعة والسبعون: على كل ملك من ملوك فرنسا أن يحلف عند تولية المملكة الفرنساوية ألا يحيد عن هذه الشرطة.

ثم إن هذه الشرطة قد حصل فيها تغيير وتبديل من منذ الفتنة الأخيرة الحاصلة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف بتاريخ الميلاد، فراجعها في باب قيامة الفرنساوية وطلبهم للحرية والمساواة انتهى.        

فإذا تأمَّلت رأيت أغلب ما في هذه الشرطة نفيسًا، وعلى كل حال، فأمره نافذ عن الفرنساوية.

ولنذكر هنا بعض ملاحظات فنقول:
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة، معناه سائر مَنْ يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلطًا عظيمًا على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم؛ نظرًا إلى إجراء الأحكام.

ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية.

وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف وذلك؛ لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة، فهذه البلاد حرية بقول الشاعر:
وقد ملأ العدلُ أقطارها
وفيها توالى الصفا والوفا


وبالجملة، إذا وجد العدل في قطر من الأقطار، فهو نسبي إضافي لا عدل كلي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدة من البلدان، فهو كالإيمان الكامل، والحلال الصرف، وأمثاله ذلك ونظائره، فلا معنى لحصر المستحيل في القول والعنقاء والخل الوفي، كما هو مذكور في قوله:
لما رأيت بني الزمان وما بهم
خلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطفي
أيقنت أن المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخل الوفي


ومع أن ذلك منوع في العنقاء، فإنها نوع من الطيور، موجود الأفراد، يذكر عند أرباب علم الحشائس، وذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قصة العنقاء مع سيدنا سليمان في تكذيبها بالقدر، نعم لا وجود للعنقاء بالمعنى المشهور عند العامة من العرب والإفرنج: من أنها من أعلاها عقاب ومن أسلفها أسد، وعلى كل حال فلها في الجملة وجود.

وأما المادة الثانية فإنها محض سياسة، ويمكن أن يُقال: إن (الفِرَد) ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس، خصوصًا إذا كانت الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال، أو كانت ممنوعة بالكلية وربما كان لها أصل في الشريعة على بعض أقوال مذهب الإمام الأعظم، ومن الحِكم المقررة عند قدماء الحكماء: "الخراج عمود الملك".

ومدة إقامتي بباريس لم أسمع أحدًا يشكو من المكوس و(الفرد) والجبايات أبدًا، ولا يتأثرون، بحيث إنها تؤخذ بكيفية لا تضر المعطى، وتنفع بيت مالهم، خصوصًا وأصحاب الأموال في أمان الظلم والرشوة.

وأما المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدًا، بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه، حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم، ولم يقفل تمدنهم على حالة واحدة مثل أهل الصين والهند، ممن يعتبر توارث الصنائع والحرف، ويبقي للشخص دائمًا حرفة أبيه.

وقد ذكر بعض المؤرخين أن مصر في سالف الزمان كانت على هذا المنوال، فإن شريعة قدماء القبطة كانت تُعَيِّنُ لكل إنسان صنعته، ثم يجعلونها متوارثة عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مُقتضيات الأحوال؛ لأنها تعين كثيرًا على بلوغ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يحسن عادة ما رأى أباه يفعله عدة مرات بحضرته، ولا يكون له طمع في غيره.        

فهذه العادة كانت تقطع عرق الطمع، وتجعل كل إنسان راضيًا صنعته، لا يتمنّى أعلى منها، بل لا يبحث إلا عن اختراع أمور جديدة نافعة لحرفته توصل إلى كمالها. انتهى.

ويرد عليه أنه ليس في كل إنسان قابلية لتعلم صنعة أبيه، فقصره عليها ربما جعل الصغير خائبًا في هذه الصنعة، والحال أنه لو اشتغل بغيرها لصلح حاله، وبلغ آماله.

وأما المادة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء، وأما المادحة الثامنة، فإنها تقوى كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله، مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه خصوصًا الورقات اليومية المسماة "بالجورنالات" او "الكازيطات" الأولى جمع (جرنال) والثانية جمع (كازيطة) فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أو خارجية، أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد فيهات من الكذب ما لا يحصى، إلا أنها قد تضم أخبارًا تتشوق نفس الإنسان إلى العلم بها، على أنها ربما تضمَّنت مسائل علمية جديدة التحقيق، أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير؛ لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحتقر الرأي الجليل، يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها.

وقال الشاعر:
لما سمعت به سمعت بواحد
ورأيته فإذا هو الثقلان
فوجدت كل الصيد في جوف الفرا
ولقيت كل الناس في إنسان


ومن فوائدها:
أن الإنسان إذا فعل فعلاً عظيمًا، أو رديئًا، وكان من الأمور المهمة كتبه أهل (الجورنال) ليكون معلومًا للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيب، وردع صاحب الفعلة الخبيثة، وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسان، كتب مظلمته في هذه الورقات، فيطلع عليها الخاصة والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها، ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر.

وأما المادة التاسعة، فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جور الأقوياء على الضعاف، وتعقيبها بما في العاشرة من باب اللياقة الظاهرة، وفي المادة الخامسة عشرة نكتة لطيفة، وهي: أن تدبير أمر المعاملات لثلاثة مراتب، المرتبة الأولى: الملك مع وزرائه، والثانية: مرتبة "البيرية" المحامية للملك، والثالثة: مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية والمحامون عنهم؛ حتى لا تظلم من أحد، وحيثما كانت رسل العمالات قائمة مقام الرعية، ومتكلمة على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمة نفسها، وعلى كل حال فهي مانعة للظلم عن نفسها بنفسها، وهي آمنة منه بالكلية ولا يخفى عليك حكمة باقي المواد.

خلاصة حقوق الفرنساوية الآن بعد سنة ١٨٣١ من الميلاد وتصليح الشرطة
حقوق الفرنساوية الواجبة لهم والواجبة عليهم (مضمون الشرطة بعد التغيير)
الفرنساوية مستوون في الأحكام على اختلافهم في العظم والمنصب والشرف والغنى، فإن هذه مزايا لا نفع لها إلا في الاجتماع الإنساني والتحضر فقط، لا في الشريعة؛ فلذلك كان جميعهم يقبل في المناصب العسكرية والبلدية، كما أنه يعين الدولة من ماله على قدر حاله.

وقد ضمنت الشريعة لكل إنسان التمتع بحريته الشخصية؛ حتى لا يمكن القبض على إنسان إلا في الصورة المذكورة في كتب الأحكام، ومن قبض على إنسان في صورة غير منصوصة في الأحكام يعاقب عقوبة شديدة.

ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة ويُعاقب مَنْ تعرَّض لعابد في عبادته.

ولا يجوز وقف شيء على الكنائس أو إهداء شيء لها إلا بإذن صريح من الدولة.

وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات، أو في مادة الأديان، بشرط أن لا يخل بالانتظام المذكور في كتب الأحكام.

كل الأملاك على الإطلاق حرم لا تهتك؛ فلا يكره إنسان أبدًا على إعطاء ملكه إلا لمصلحة عامة، بشرط أخذه قبل التخلية قيمته، والمحكمة هي التي تحكم بذلك.

كل إنسان عليه أن يعين في حفظ المملكة العسكرية بشخصه، بمعنى أنه كل سنة يجمع أولاد إحدى وعشرين سنة لتضرب القرعة، لأخذ العساكر السنوية منهم، ومدة الخدمة العسكرية ثمان سنوات، وكل فرنساوي عمره ثماني عشرة سنة، وله حقوقه البلدية يمكنه أن يتطوع ويدخل العسكرية.

ويُعفى من العسكرية عدة أناس:
الأول: من طوله دون متر وخمسة وسبعين (سنتيمترًا) يعني: أربعة أقدام وعشرة برامق:٦ الثاني: أصحاب العلل، الثالث: الابن أكبر الإخوة الأيتام من أبيهم وأمهم: الرابع، الابن البكري أو المنفرد أو ابن الابن الأكبر أو المنفرد عند فقده إذا كانت الأم والجدة لا زوج لها أو كان أبوه أعمى أو سنه سبعين سنة: الخامس: البكري أحد الأخوين اللذين وقعا في قرعة لمة واحدة، السادس: الأخ الذي أخوه باق تحت البيرق أو مات في الخدمة أو جرح في الحرب، ولو أراد إنسان أن ينوب عنه غيره فإن المنوب عنه يضمن النائب سنة من خوف الهرب، إلا إذا كان الهارب قبض عليه في السنة أو مات تحت بيرق الفرنساوية، وفي أحد وعشرين في شهر (دقمبر)٧ من كل سنة كل العساكر التي تمت خدمتهم يؤذن لهم بالعود إلى محلهم.

ولما كان لا يمكن لكل إنسان أن يدخل بنفسه في عمل الدولة، وكَّلت الرعية بتمامها عنها في ذلك أربعمائة وثلاثين وكيلاً تبعثها إلى باريس في المشورة: وهؤلاء الوكلاء تختارهم الرعية وتوكلهم بأن يمانعوا عن حقها، ويصنعوا ما فيه مصلحة لها، وذلك أن كل فرنساوي مستكمل للشروط التي منها أن يكون عمره خمسًا وعشرين سنة، له أن يكون ممن له مدخل في انتخاب رسل عمالاته.

وكل فرنساوي له أن يكون رسولاً إذا كان عمره ثلاثين سنة، وكان موصوفًا بالشروط المذكورة في كتاب الأحكام.

وفي كل مأمورية مجمع اختبار وانتخاب، ومجامع انتخاب للأقاليم الصغيرة: ومجامع المأموريات الكبيرة مؤلفة من المنتخبين الكبار، وتعين ١٧٢ رسولاً، ومجامع انتخاب الأقاليم الصغيرة تعين ٢٥٨ رسولاً، ودفاتر أرباب الانتخاب تطبع وتكتب في الطرق شهرًا قبل فتح مجامع الانتخاب حتى إنه يمكن لكل إنسان أن يكتب إعلامًا به، وكل منتخب (بكسر الخاء) يكتب رأيه سرًا في ورقة ويعطيها للرئيس مطوية والرئيس يضعها في إناء القرعة.

وديوان رسل العمالات يتجدد أهله بالكلية كل خمس سنوات، ولا يمكن أخذ الفرد إلا بخلاصة من مشورة الديوانين، مقررة من طرف الملك، ويمكن لأهل البلدان أن يراسلوا أهل الديوانين بطرق (العرضحال) ليشتكوا من شيء ويعرضوا شيئًا نافعًا.

القضاة لا ينعزلون فلا يحكم على إنسان إلا بقضاة محل استيطانه، والدعاوى تقام جهرًا، وذنوب الجنايات لا يحكم فيها إلا بحضرة جماعة يسمون "الجوريين٨ "والعقوبة بالقبض على الأموال بطلت.

للملك أن يعفو عن المعاقَب وأن يخفف العقاب الشديد - على الملك وورثته أن يحلفوا عنه ارتقاء الكرسي بأن يعملوا بما في كتاب قوانين المملكة.

ثم إنه يطول علينا ذكر الأحكام الشرعية أو القانونية المنصوبة عند الفرنساوية، فلنقل: إن أحكامهم القانونية لست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخر غالبها سياسي، وهي مخالفة بالكلية للشرائع وليست قارّة الفروع، ويقال لها: الحقوق الفرنساوية، أي حقوق الفرنساوية بعضهم على بعض؛ وذلك لأن الحقوق عند الإفرنج مختلفة، ثم إن بباريس عدة محاكم وفي كل محكمة قاض كبير كأنه قاضي القضاة وحوله رؤساء وأرباب مشورة، ووكلاء الخصوم، ومحامون للخصوم ونواب عن المحامين، وموقع الوقائع.

شعر
من ادعى أن له حاجة
تخرجه عن منهج الشرع
فلا تكونن له صاحبًا
فإنه ضُر بلا نفع

---------------------------------
١  Chamire des paris بالفرنسية أي: مجلس الأعيان ويلاحظ أن المؤلف استعمل (de) وهي للمفرد، مكان (des) وهي للجميع.
٢  الفرد جمع الفردة وهي الضريبة. وهي كلمة تستعملها العامة في مصر إلى وقتنا هذا.
٣  La chart.
٤  مجلس الأعيان.
٥  في المطبوعة: "مما".
٦  أصابع.
٧  هكذا في المطبوعة ولعله: ديسمبر.
٨  يسمون المحلفين والكلمة فرنسية الأصل Jurés.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:09 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:50 pm

الفصل الرابع
في عادة سُكْنَى أهل باريس وما يتبع ذلك
من المعلوم أن البلدة أو المدينة تبلغ من الحضارة على قدر معرفتها، وبعدها عن حالة الخشونة والتوحش، والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران، وقد تقرر أن الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعقُّلها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدبًا وعمرانًا والبنادر أولى في العمارات عادة من القرى والضِياع.        

والمدن العظمى أولى من سائر البنادر وتحت المملكة أولى من سائر ما عداها من مدن تلك المملكة؛ فحينئذ لا عجب أن قيل: إن باريس التي هي قاعدة ملك الفرنسيس من أعظم بلاد الإفرنج بناء وعمارة، وإن كانت عماراتها غير جيدة المادة، فهي جيدة الهندسة والصناعة، على أنه ربما يقال أيضًا: أن مادتها جيدة إلا أنها ناقصة؛ لعدم كثرة حجر الرخام فيها، ولخلوها عن بعض أشياء آخر - كيف لا؟ وأساس حيطانها من أحجار النحاتة، وكذلك الحيطان الخارجية، وأما الداخلية ذاتها تتخذ من الخشب الجيد في الغالب، وأما عواميدها فهي غالبًا من النحاس، فقل إن كانت من الرخام، كما أن تبليط الأرض يتخذ من حجر البلاط، وقد يكون من الرخام الأسود مع البلاط؛ وذلك أن الطرق دائمًا مبلطة بحجر البلاط المربع، والحيشان مبلطة بالبلاط المذكور، والقيعان بالآجر أو بالخشب، أو بالمرمر الأسود مع البلاط المشغول، وجودة الحجر أو الخشب تختلف باختلاف يسار الإنسان.

ثم إن حيطان الغرفات والأرض من خشب كما تقدم، وهم يطلونه بالطلاء، ثم يسترون الحيطان بورق منقوش نقشًا نظيفًا، فهو أحسن من عادة تبييض الحيطان بالجير، فإن الورق لا يعود منه شيء على من مس الجدار، بخلاف الجير، بل وهو أهون مصرفًا وأعظم منظرًا وأسهل فعلا خصوصًا في (أوضاتهم) المزينة بأنواع من الأمتعة التي لا يمكن الإفصاح عنها، غاية ما يقال: إن الفرنساوية يحاولون أضعاف نور (الأرض) بوضع الستائر الملونة، خصوصًا الخضراء، وأرض أوضهم مبلطة بخشب أو بنوع من القرميد الأحمر، ويحكون أرض (الأوضة) كل يوم بالشمع الأصفر، المسمى عندهم شمع الحك، وعندهم حكّاكون بالأجرة، معدون لذلك بالخصوص، وتحت أسرتهم، المكسوَّة بالمخيشات وبالمشرجات وغيرها، سجادات عظيمة يطئونها بالنعال، وفي كل (أوضة) مدخنة للنار، وهي على شكل صفة القلل مرخمة بجيد الرخام، وفوقها ساعة "بشتختة"١ وحول الساعة من الجهتين آنية من تقليد الرخام الأبيض، أو من البلور، فيها أزهار أو تقليد أزهار، وحول هذا من الجهتين القناديل الإفرنجية الدولابية التي لا يدرك صورتها حقيقية إلا من رآها موقودة، وفي غالب (أوضهم) آلات الموسيقى المسماة "البيانو" (بكسر الباء وضم النون)، فإذا كانت (الأوضة) أوضة شغل وقراءة ففيها طاولة مشتملة على آلات الكتابة وغيرها، مثل سكاكين قطع الورق المصنوعة من العاج أو البقس٢ أو غيرهما، وأغلب (الأوض) مشحونة بالصور، خصوصًا صور الأقارب، وفي (أوضة) الشغل أيضًا قد توجد صورة "عجيبة" وأشياء من غرائب ما كان عند القدماء على اختلافهم.

وربما رأيت على طاولة الشغل أوراق الوقائع على اختلاف أجنساها، وربما رأيت كذلك في (أوض) الأكابر (النجفات) العظيمة التي توقد بشموع العسل، وربما رأيت أيضًا في (أوضهم) في يوم تبقى الناس طاولة وعليها جميع الكتب المستجدة والوقائع وغيرها لتسلية من أراد من الضيوف أن يسرح ناظره، وينزه خاطره في قراءة هذه الأشياء، وهذا يدل على كثرة اهتمام الفرنساوية بقراءة الكتب، فهي أنسهم.

ومن التوقيعات اللطيفة:
الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشى ظرفًا، ومن لك بروضة تقلب في حجر وبستان يحمل في كم.

وما أحسن قول بعضهم شعرًا:
دفتري مؤنسي وفكري سميري
ويدي خادمي، وحلمي ضجيعي
ولساني سيفي، وبطشي قريضي
ودواتي عيشي، ودرجي ربيعي


وقال آخر:
لنا جلساء ما يمل حديثهم
ألبَّاء مأمونون غيبًا ومشهدًا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مسددًا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب
وإن قلت أحياء فلست مفندًا


ومن كلام بعضهم:
نعم المحدث الدفتر، ومن كلام بعض الظرفاء: ما رأيت باكيًا أحسن تبسمًا من القلم.        

ثم إن جميع هذه التحف يكمل الأنس بها بحضور سيدة البيت -أي: زوجة صاحبه التي تحيي الضيوف أصالة، وزوجها يحييهم بالتبعية- فإن هذه (الأوض) بما احتوت عليه من اللطائف من (أوضنا) التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق٣ الدخان من يد خادم في الغالب قبيح اللون.

وأما السقوف فإنها من الخشب النفيس، ثم إن البيت في العادة مصنوع من أربع طبقات، بعضها فوق بعض ما عدا البناء الأرضي، فلا يحسب دورًا وقد يصل إلى سبعة أدوار، وغيرها تحت الأرض من المخادع التي تستعمل أيضًا لربط الخيل، أو المطبخ وذخائر البيت، وخصوصًا النبيذ والخشب للوقود.

ثم إن البيت عندهم كما في بيوت القاهرة، مشتمل على عدة مساكن مستقلة ففي كل دور من أدوار البيت جملة مساكن، وكل مسكن متنافذ (الأوضات)، وقد جرت عادتهم بتقسيم البيوت إلى ثلاث مراتب.

المرتبة الأولى: بيت عادي.
والثانية: بيت لأحد من الكبار.
والثالثة: بيوت الملك وأقاربه ودواوين المشورة ونحوها.


فالأول يسمى: بيتًا، والثاني يسمى: دارًا، والثالث يسمى: قصرًا أو (سراية).

ويمكن أيضًا تقسيم البيوت من حيثية أخرى إلى ثلاث مراتب أيضًا:
المرتبة الأولى: البيوت التي لها حاجب، ولها باب كبير يسع دخول العربة منه.
والثانية: البيوت التي داخلها دهاليز ولها بواب، ولا يمكن أن تدخل العربة من بابها.
والثالثة البيوت التي لا بواب لها، أي لا مكان للبواب فيها يسكن فيه.

ووظيفة البواب في باريس أن ينتظر الساكن إلى نصف الليل، فإذا أراد الساكن أن يسهر في المدينة زيادة عن الليل، فعليه أن ينبه البواب لينتظره، ولكن لا بد أن يعطيه بعض شيء، وليس على الحارات بواب أصلاً، وليس لها أبواب كما في مصر.

ثم إن العقارات بباريس غالية الثمن والكراء، حتى إن الدار العظيمة قد يبلغ ثمنها مليون فرنك، يعني نحو ثلاثة ملايين قروشًا مصرية، ثم إن كراء المساكن في باريس قد يكون لمجرد المسكن، وقد يستأجرها الإنسان بفراشها العظيم وجميع أثاثها وآلاتها.

وآلات البيت عند الفرنسيس هي آلات الطباخة والمأكل بأجمعها، بطقمها المشتمل على الفضيات ونحوها، وآلة الفراش للنوم، وهو في الغالب عدة طراحات؛ إحداها من الريش، وملاية فرشة تتغير كل شهر، وحرامات الغطاء، ثم آلات التجمل، وتلقي الزوار، وهي الكراسي المكسوة بالحرير ونحوه والشزلانات٤ المكسوة كذلك، والكراسي العادية والآلات العظيمة المنظر؛ كالساعات الكبيرة المسماة عندهم: "بندول" وكأواني الأزهار العظيمة، وغيرها من أواني القهوة المموهة بالذهب وكالنجعة المعلقة التي تتقد بالشموع المكررة، وكخزانة الكتب التي لها باب من (القزاز) يظهر منه ما فيها من الكتب جيدة التجليد، وكل إنسان له خزنة كتب، سواء الغني أو الفقير؛ حيث إن سائر العامة يكتبون ويقرءون.

والغالب أن الرجل ينام في (أوضة) غير التي تنام فيها زوجته، إذا تقادم الزواج.

ومن العوائد التي لا بأس بها:
أن قصر ملك فرنسا وقصور أقاربه تنفتح حين خروج السلطان وأقاربه كل سنة إلى الإقامة في الخلاء مدة أشهر، فيدخل سائر الناس للفرجة على بيت الملك وأقاربه، فيرون أثاث البيت وسائر الأشياء الغريبة، ولكن لا يدخل أحد إلا بورقة مطبوعة مكتوب فيها الإذن بدخول شخص أو شخصين أو أكثر، وهذه الورقة توجد عند كثير من الناس، فإذا طلبها الإنسان ممن يعرفه أعطاها له، فترى في البيت ازدحامًا عظيمًا للفرجة على جميع ما في حريم الملك وأقاربه، وقد دخلت ذلك عدة مرات فرأيته من الأمور العجيبة التي ينبغي التفرج عليها، وفيه كثير من الصور التي لا تمتاز عن الناس إلا بعدم النطق، وفيه مصور كثير من ملوك فرنسا وغيرهم، وكل أقارب السلطنة وكل الأشياء الغريبة.

وأغلب الأشياء الموجودة في حريم السلطنة مستحسنة من جملة جودة صناعتها لا نفاستها بالمادة؛ مثلاً سائر الفراش كالكراسي والأسرِّة حتى كراسي المملكة مشغولة شغلاً عظيمًا بالقصب المخيش، ومطلية الذهب إلا أنه لا يوجد بها كثير من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية في جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر.

ثم سائر الأغنياء "بباريس" يسكنون في الشتاء في نفس المدينة وقد أسلفنا في ذكر طبيعة إقليم "باريس" أن كل بيت به مداخن تتقد فيها النيران في القيعان (والأود) وأما في مدة الحر، فمن له يسار سكن في الخلاء؛ لأن القصور بالخلاء أسلم هواء من داخل المدينة، ومن الناس من يسافر في بعض بلاد فرنسا أو ما جاورها من البلاد؛ ليستنشق رائحة البلاد الغريبة، ويطلع على البلاد، ويعرف عوائد أهلها، خصوصًا في مدة من السنة تسمى عندهم مدة التعطيل، أو مدة الفراغ، يعني البطالة، حتى النساء فإنهن يسافرن وحدهن، أو مع رجل يتفق معهن على السفر، وينفقن عليه مدة سفره معهن؛ لأن النساء أيضًا متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها، أو ليس أنه قد يأتي منهن من بلاد الإفرنج إلى مصر؛ ليرى غرائبها من الأهرام والبرابي٥ وغيرها، فهن كالرجال في جميع الأمور.

نعم قد يوجد منهن بعض نساء غنيات مستورات الحال يمكن من أنفسهن الأجنبي، وهن غير متزوجات فيشعرن بالحمل، ويخشين الفضيحة بين الناس، فيظهرن السفر لمجرد السياحة أو لمقصد آخر ليلدن، ويضعن المولود عند مرضِع بأجرة خاصة ليتربى في البلاد الغريبة، ومع هذا فالأمر ليس بشائع، وبالجملة "ما كل بارقة تجود بمائها" ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك، وهو الأغلب لاستيلاء فن العشق في فرنسا على قلوب غالب الناس ذكورًا وإناثًا وعشقهم معلل؛ لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج.

ومما يمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ، وإن كانت بالنسبة لبيوت أهل الفلمنك كلاشيء فإن أهل الفلمنك أشد جميع الأمم نظافة ظاهرية، كما أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أيضًا أعظم أهل الدنيا نظافة، ولم يقلدهم ذراريهم وهم القبطة في ذلك.

وكما أن باريس نظيفة فهي خالية أيضًا من السميات، بل ومن الحشرات فلا يسمع بأن إنسانًا فيها لدغته عقرب أبدًا، وتعهد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب، وبيوتهم دائمًا مفرحة بسبب كثرة شبابيكها الموضوعة بالهندسة وضعًا عظيمًا يجلب النور والهواء داخل البيوت وخارجها وظرفات٦ الشبابيك دائمًا من (القزاز) حتى إذا أغلقت فإن النور لا يحجب أصلاً، وفوقها دائمًا الستائر: للغني والفقير، كما أن ستائر الفرش التي هي نوع من الناموسية غالبة لسائر أهل باريس.
-----------------------------------
١  نوع من المناضد الصغيرة ذات الأدراج.
٢  اسم لنوع من الأشجار.
٣  الشبق: أنبوبة مجوفة من عود خشبي يثبت في أحد طرفيها الحجر الذي يوضع فيه التبغ وكانت تستعمل للتدخين في ذلك العصر.
٤  التي يسمى واحدها بالشازلون، أي الكراسي الطوال.
٥  المسلات.
٦  يريد ما يسمى الضرفة: المصراع.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:10 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:52 pm

الفصل الخامس
في أغذية أهل باريس وفي عاداتهم في المآكل والمشارب
اعلم أن قوت أهل المدينة هو الحِنطة، وهي في الغالب صغيرة الحبوب، إلا إذا كانت منقولة من البلاد الغريبة فيطحنونها في طواحين الهواء والماء، ويخبزونها عند الفران فيباع الخبز في دكانه، وسائر الناس لها مرتب يومي تشتريه من الخباز، وعلة ذلك توفير الزمان والاقتصاد فيه؛ لأن سائر الناس مشغولون في أشغال خاصة؛ فصناعة العيش في البيوت تشغلهم.

ثم إن المُحتسب يأمر الخبَّازين أن يكون عندهم كل يوم من العيش ما يكفي المدينة وفي الحقيقة لا يمكن فقد العيش أبدًا بمدينة باريس، بل ولا فقد غيره من أمور الأغذية.

وأدم أهل هذه المدينة اللحوم والبقول والخضراوات والألبان والبيض وغيرها، والغالب تعدد الأطعمة ولو عند الفقراء، ثم إن المذابح عندهم تكون بأطراف المدينة لا داخلها، وحكمة ذلك أمران: دفع الوخم، ودفع أضرار البهائم إذا انفلتت، وكيفية الذبح تختلف عندهم، فأما ذبح الضأن فإنه أهون من ذبح غيره، فإنهم ينفذون السكين وراء زوره يعني بين زوره ورقبته، ثم يقطعونه بعكس ما نفعل، وأما ذبح العجول فإنه مثله، وأما الثيران فيضربونها بمقامع من حديد في وسط رأسها فيدوخ من عِظم الخبط، ثم يكررون ذلك عدة مرات، فيقطع الثور النفس مع بقاء الحركة، ثم يذبحونه كما تقدَّم من ذبح الضأن، ولقد بعثت خادمًا لي مصريًا إلى المذبح ليذبح ما اشترى منه كما هو عادتي، فلمَّا رأى معاملة الثيران بمثل ذلك الأمر البشع جاء يستجير، ويحمد الله تعالى؛ حيث لم يجعله ثورًا في بلاد الإفرنج، وإلا لذاق العذاب كالثيران التي رآها، والعجول والثيران تكون من البقر؛ إذ لا وجود للجواميس بهذه البلاد إلا للفرجة.

وأما ذبح الطيور فإنه على أنواع مختلفة: فمنهم من يصنع فيها كالغنم، ومنهم من يقطع لسان الطائر، ومنهم من يخنقه بفتلة خيط، ومنهم من يذبحه من قفاه إلى غير ذلك.

وأما الأرانب فإنها لا تذبح أبدًا، بل تخنق ليحقن فيها دمها.

وأما ذبح الخنازير فلم أره؛ لأن له مذبحًا مخصوصًا، والظاهر أنهم يصنعون بها كالعجول، ثم من الأمور التي بها راحة للناس بمدينة "باريس" محال الأكل المسماة "الرسطراطور" أي "اللوكنجة"،١ فإنها مستوفية لما يجده الإنسان في بيته بل أعظم، وقد يجد الإنسان ما يطلبه حاضرًا، وفي هذه "الرسطراطور" غرف لطيفة متعددة مستوفية لآلات البيوت، وربما يوجد فيها محال للنوم مفروشة بأعظم الفراش، وكما يوجد في "الرسطراطور" أنواع المآكل والمشارب يوجد فيها أنواع الفواكه والنُقَل.

وعادة الفرنساوية الأكل في طباق كالطباق العجمية أو الصينية، لا في آنية النحاس أبدًا، ويضعون على (السفرة) دائمًا قدام كل إنسان شوكة وسكينًا وملعقة، والشوكة والملعقة من الفضة، ويرون أن من النظافة (أو الشلبنة)٢ ألاّ يمس الإنسان الشيء بيده، وكل إنسان له طبق قدامه، بل وكل طعام له طبق، وقدام الإنسان قدح فيصب فيه ما يشربه من (قزازة) عظيمة موضوعة على (السفرة) ثم يشرب فلا يتعدَّى أحد على قدح الآخر.

وأواني الشرب دائمًا من البلور والزجاج، وعلى السفرة عدة أوان صغيرة من الزجاج أحدها فيه ملح، والآخر فيه فلفل، وفي الثالث خردل إلى آخره.

وبالجملة فآداب سفرتهم وترتيباتها عظيمة جدًا، وابتداء المائدة عندهم (الشوربة) اختتامها الحلويات والفواكه، والغالب في الشراب عندهم النبيذ على الأكل بدل الماء.        

وفي الغالب، خصوصًا لأكابر الناس، أن يشرب من النبيذ قدرًا لا يحصل به سكر أصلاً؛ فإن السكر عندهم من العيوب والرذائل، وبعد تمام الطعام ربما شربوا شيئًا يسيراً من العرقي، ثم إنهم مع شربهم من هذه الخمور لا يتغزلون بها كثيرًا في أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب أصلاً، فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون في ذلك معاني ولا تشبيهات ولا مبالغات، نعم عندهم كتب مخصوصة متعلقة بالسكارى، وهي هزليات في مدح الخمرة، لا تدخل في الأدبيات الصحيحة في شيء أصلاً.

ويكثر في "باريس" شرب الشاي عقب الطعام؛ لأنهم يقولون إنه هاضم للطعام، ومنهم من يشرب القهوة مع السكر، وفي عوائد أغلب الناس أن يفتتوا الخبز في القهوة المخلوطة باللبن، ويتعاطوها في الصباح - وإذا أردت بعض شيء يتعلق بالمأكل والمشرب فراجع فصل المآكل والمشارب في ترجمتنا كتاب: "قلائد المفاخر".

ثم إن الغالب أن ما يقطعه أهل هذه المدينة من المآكل والمشارب كل سنة يكون هذا تقريبه، فمن الخبز ما تزيد قيمته على خمسة وثلاثين مليونًا من الفرنكات، وتأكل من اللحوم نحو واحد وثمانين ألف ثور، وأربعمائة وثلاثين ثورًا، ومن البقر نحو ثلاثة عشرة ألف بقرة، ومن الضأن أربعمائة وسبعين ألف كبش، ومن الخنازير الوحشية والأهلية نحو مائة ألف خنزير، ومن السمن بنحو عشرة ملايين من الفرنكات، ومن البيض بنحو خمسة آلاف فرنك.

ومن غرائب الأشياء أن فيها التحيل على عدم عفونة الأشياء التي من شأنها العفونة؛ فمن ذلك ادخار اللبن بكيفية خاصة خمس سنين من غير تغير، وادخار اللحم طريًا عشر سنوات، وادخار الفواكه لوجودها في غير أوانها، ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها، فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ.

وأما خمَّاراتها فإنها لا تُحصى؛ فما من حارة إلا وهي مشحونة بهذه الخمَّارات، ولا يجتمع فيها إلا أراذل الناس وحرافيشهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها بقولهم ما معناه: الشراب، الشراب! ومع ذلك فلا يقع منهم في سُكرهم أضرار أصلاً.

وقد اتفق لي ذات يوم وأنا مار في طريق في "باريس" أن سكراناً صاح قائلاً: يا تركي، يا تركي، وقبض بثيابي، وكنت قريبًا من دكان يباع فيه السكر ونحوه، فدخلت معه، وأجلسته على كرسي.        

وقلت لرب الحانوت على سبيل المزح: هل تريد أن تعطيني بثمن هذا الرجل سُكَّرًا أو نَقَلاً؟ فقال صاحب الحانوت: ليس هنا مثل بلادكم، يجوز التصرف في النوع الإنساني؟ فما كان جوابي له إلا أنني قلت: إن هذا الشخص السَّكران ليس في هذا الحال من قبيل الآدميين، وهذا كله والرجل جالس على الكرسي، ولا يشعر بشيء، ثم تركته بهذا المحل وذهبت.
------------------------------------
١  يريد (اللوكاندة): الفندق.
٢  التظرف.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:10 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:54 pm

الفصل السادس
في ملابس الفرنسيس
من المعروف عندنا أن غطاء رأس الإفرنج (البرنيطة)، وأن نعالهم في الأكثر الصُّرم السَّوداء، و(التاسومات): وأن لباسهم في الغالب هو الجُوخ الأسود، وأمَّا الفرنساوية فإنها في الغالب أيضًا على هذا الملبس إلا أنهم لا يلزمون ملبسًا خاصًا، بل كل إنسان يلبس باختياره ما تأذن له العادة بلبسه، والغالب أن لبسهم ليس زينة، وإنما هو في غاية النظافة.

ومن العوائد العظيمة:
انتشار لبس القمصان والألبسة والصديريات تحت ملابسهم، فإن الموسر يغير في الأسبوع عدة مرات، وبهذا يستعينون على قطع عرق (الواغش)١ فلذلك كان لا أثر للقمل ونحوه إلا عند مَن اشتد به الفقر.

وملابس النساء ببلاد الفرنسيس لطيفة بها نوع من الخلاعة، خصوصًا إذا تزيَّنّ بأغلى ما عليهن، ولكن ليس لهن كثير من الحلي فإن حليَّهن هو الحلق المذهب في آذانهن، ونوع من الأساور الذهب يلبسنه في أيديهن خارج الأكمام، وعقد خفيف في أجيادهن، وأما الخلاخل فلا يعرفنها أبدًا، ولبسهن في العادة الأقمشة الرقيقة من الحرير أو (الشيت) أو (البفت) الخفيف، ولهن في البرد شريط فروة فيضعنه على رقابهن، ويرخين طرفيه كالمآزر؛ حتى يصل بطرفيه إلى قرب القدمين.

ومن عوائدهن:
أن يحتزمن بحزام رفيع فوق أثوابهن، حتى يظهر الخصر نحيفًا ويبرز الردف كثيفًا، ومما أنشده الحاجري في ديوانه، وإن كان فيه خروج قوله:
ومزنر ياليتني أستاذه
كيما أفوز بضمة من خصره
القس يسقيه شبيهة خده
والمسلمون بأسرهم في أسره
فوحقه لولا رشاقة قدِّه
ما رقَّ إسلامي لشدة كفره


ومن خصال النساء أن يشبكن بالحزام قضيبًا من صفيح من البطن إلى آخر الصدر؛ حتى يكون قوامهن دائمًا معتدلاً لا اعوجاج به، ولهن كثير من الحيل.

ومن خصالهن التي لا يمكن للإنسان أن لا يستحسنها منهن عدم إرخائهن الشعور؛ كعادة نساء العرب، فإن الفرنسيس يجمعن الشعور في وسط رءوسهن، ويضعن فيه دائمًا مشطًا ونحوه، ومن عوائدهن في أيام الحر كشف الأشياء الظاهرية من البدن؛ فيكشفن من الرأس إلى ما فوق الثدي، حتى إنه يمكن أن يظهر ذلك من الأمور المُخلة عند أهل هذه البلاد، ولكن لا يمكن لهن أبدًا كشف شيء من الرجلين، بل هن دائمًا لابسات للشرابات، الساترة للساقين، خصوصًا في الخروج على الطرق، وفي الحقيقة سيقانهن غير عظيمة أصلاً، فلا يصلح لهن قول الشاعر:
لم أنسه إذ قام يكشف عامدًا
عن ساقه كاللؤلؤ البراق
لا تعجبوا إن قام فيه قيامتي
إن القيامة يوم كشف الساق


وملابس الحزن عند الفرنسيس هي علامة حزن تلبس مدة معلومة، ولها محل معلوم؛ فالرجل يضع علامة الحزن في (برنيطته) مدة معلومة، والمرأة في ثيابها والولد على فقد أبيه أو أمه يلبس علامة الحزن ستة أشهر، وعلى فقد الجدة أربعة أشهر ونصفًا والزوجة على فقد الزوج سنة وستة أسابيع، وعلى فقد الزوجة ستة أشهر، وعلى فقد الأخ أو الأخت شهرين، وعلى فقد الخال، والخالة، والعم، والعمة ثلاثة أسابيع، وعلى فقد أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات أسبوعين.

ثم إن ما يباع في باريس من الجوخ كل سنة بنحو مليون من الفرنكات تقريبًا ومن الحرير بثلاثة ملايين من الفرنكات، ومن الفراوي بمليون من الفرنكات، ولعل السبب في ذلك هو أن الفراوي تشتري من خصوص باريس، لأهل باريس.

ومن المتداول عند الفرنساوية استعمال الشعور العارية لنحو الأقرع ورديء الشعر، بل قد يستعملونها في اللحى والشارب للتقليد، وقد شاعت عندهم تلك العادة من زمن "لويز الرابع عشر" ملك فرانسا؛ حيث إن هذا الملك كان يلبسها، ولا يخلعها من رأسه أصلاً إلا عند النوم، وما زالت إلى الآن مستعملة، لكن للأقرع أو رديء الشعر، ومن الغريب أنها تستعمل الآن في مصر بين نساء القاهرة.
-------------------------------
١  يريد: الحشرات.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:10 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 8:59 pm

الفصل السابع
في مُنتزهات مدينة باريس
اعلم أن هؤلاء الخلق؛ حيث إنهم بعد أشغالهم المعتادة المعاشية لا شغل لهم بأمور الطاعات، فإنهم يقضون حياتهم في الأمور الدنيوية، واللهو، واللعب، ويتفننون في ذلك تفننًا عجيبًا.

فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى "التياتر"١ (بكسر التاء المشددة، وسكون التاء الثانية)، "والسبكتاكل"٢ وهي يلعب فيها تقليد سائر ما وقع، وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرًا عجيبة؛ وذلك لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى، وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات، فكم فيها من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخى بعد فراغ اللعب باللغة اللاطينية ما معناه باللغة العربية: "قد تصلح العوائد باللعب".

وصورة هذه "التياترات" أنها بيوت عظيمة لها قبة عظيمة، وفيها عدة أدوار كل دور له (أود) موضوعة حول القبة من داخله، وفي جانب من البيت مقعد متسع يطل عليه من سائر هذه (الأود) بحيث إن سائر ما يقع فيه يراه من هو في داخل البيت، وهو منور (بالنجفات) العظيمة، وتحت ذلك المقعد محل للآلاتية، وذلك المقعد يتصل بأروقة فيها سائر آلات اللعب، وسائر ما يصنع من الأشياء التي تظهر، وسائر النساء والرجال المعدة للعب، ثم إنهم يصنعون ذلك المقعد كما تقتضيه اللعبة، فإذا أرادوا تقليد سلطان مثلاً في سائر ما وقع منه، وضعوا ذلك المقعد على شكل (سراية) وصوروا ذاته، وأنشدوا أشعاره، وهلم جرا.        

ومدة تجهيز المقعد يرخون الستارة لتمنع الحاضرين من المنظر، ثم يرفعونها ويبتدئون باللعب، ثم إن النساء اللاعبات، والرجال يشبهون العوالم في مصر.

واللاعبون واللاعبات بمدينة باريس أرباب فضل عظيم، وفصاحة، وربما كان لهؤلاء الناس كثير من التآليف الأدبية والأشعار، ولو سمعت ما يحفظه اللاعب من الأشعار وما يبديه من التوريات في اللعب، وما يجاوب به من التنكيت والتبكيت لتعجبت غاية العجب.

ومن العجائب أنهم في اللعب يقولون مسائل من العلوم الغريبة والمسائل المُشكلة ويتعمقون في ذلك وقت اللعب، حتى يظن أنهم من العلماء، بل الأولاد الصغار التي تلعب، تذكر شواهد عظيمة من علم الطبيعيات ونحوها، ثم إنهم يبتدئون اللعب بآلات الموسيقى،٣ ثم يلعبون ما يريدون لعبه، واللعبة التي تظهر تكتب في ورقة وتلصق في حيطان المدينة، وتكتب في التذاكر اليومية ليعرفها الخاص والعام وفي الليلة يلعبون اللعبات، وبعد فراغ كل لعبة ترخى الستارة، فإذا أرادوا مثلاً لعب شاه العجم ألبسوا لاعبًا لبس ملك العجم، وأحضروه وأجلسوه على كرسي.. وهكذا.

وهذه (السبكتاكلات) يصورون فيها سائر ما يوجد، حتى إنهم قد يصورون فرق البحر لموسى عليه السلام، فيصورون البحر ويجعلونه يتماوج حتى يشبه البحر شبهًا كليًا، وقد رأيت مرة في الليل أنهم ختموا (التياتر) بتصوير شمس وتسييرها، وتنوير (التياتر) بها حتى غلب نور هذه الشمس على نور النجف، حتى كان الناس في الصباح، ولهم أشياء أغرب من هذا، وبالجملة (التياتر) عندهم كالمدرسة العامة، يتعلم فيها العالم والجاهل.

وأعظم (السبكتاكلات) في مدينة باريس المسماة "الأوبرة" (بضم الهمزة وتشديد الباء المكسورة، وفتح الراء) وفيها أعظم (الآلاتية) وأهل الرقص، وفيها الغناء على الآلات والرقص بإشارات كإشارات الأخرس، تدل على أمور عجيبة، ومنها (تياتر) تسمى: "كوميك" فيغنى فيها الأشعار المفرحة.

وبها (تياتر) تسمى:
"التياتر الطليانية" وبها أعظم (الآلاتية)، وفيها تنشد الأشعار المنظومة باللغة الطليانية، وهذه كلها من (السبكتاكلات) الكبيرة، وفي باريس "سبكتاكلات" أخرى وهي مثل تلك إلا أنها صغيرة.

وهناك أيضًا (سبكتاكلات) يلعبون فيها الخيل والفيلة ونحوها، ومنها (التياتر) المسماة "تياتر فرنكوني" (بكسر الفاء وفتح الراء وسكون النون وضم الكاف وكسر النون الثانية)، وفيها فيل مشهور بالألعاب الغريبة معلم تعليمًا عجيبًا.

وكما أن أكبر (التياترات) "الأوبرة" فأصغرها (تياتر) تسمى: تياتر "الكمت" وهي معدة لنزاهة الصغار كالحاوي في مصر "والكمت" اسم معلم هذه السبكتاكل٤ وكل اللاعبين واللاعبات صغار السن، وهذه (التياتر) يوجد بها كثير من الشعبيثيات) و(السيم)٥ ونحوها، ولو لم تشتمل (التياتر) في فرانسا على كثير من النزعات الشيطانية لكانت تعد من الفضائل العظيمة الفائدة، فانظر إلى اللاعبين بها فإنهم يحترزون ما أمكن عن الأمور التي يفتتن بها المخلة بالحياء، ففرق بعيد بينهم وبين عوالم مصر، وأهل السماع ونحوهم.

ولا أعرف اسمًا عربيًا يليق بمعنى (السبكتاكل) أو (التياتر) غير أن لفظ (سبكتاكل) معناه منظر أو منتزه أو نحو ذلك، ولفظ (تياتر) معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب ومحله، ويقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خياليًا، بل الخيالي نوع منها.

وتشتهر عند الترك باسم (كمدية) وهذا الاسم قاصر إلا أن يتوسع فيه، ولا مانع أن تترجم لفظة (تياتر) أو (سبكتاكل) بلفظة: خيالي، ويتوسع في معنى هذه الكلمة، ويقرب من تصوير (السبكتاكل) أو هو منها مواضع، يصور فيها للإنسان منظر بلد أو أراض أو نحو ذلك؛ فمن ذلك (بانورمه)٦ وهو محل تنظر فيه فترى المدينة التي تريد تصويرها، ففي صورة مصر ترى كأنك على منارة السلطان حسن مثلاً والرميلة تحتك، وباقي المدينة، ومنها (كسمورمه)،٧ وفيه صورة بلدة ثم أخرى وهكذا.        

ومنه (ديورمه٨) وفيه صورة دار، ومنها (أورانومه٩) وفيه صورة الفلك الأعظم، وسائر ما يحتوي عليه مصورًا على مذهب الإفرنج، فالمتفرج فيه يمكنه أن يطالع علم الفلك، ومنها (أوروبرمه١٠) وفيه صورة بلاد الإفرنج.

ومن المتنزهات محال الرقص المسماة "البال" وفيه الغناء والرقص، وقل إن دخلت ليلاً في بيت من بيوت الأكابر إلا وسمعت به الموسيقى والمغنى، ولقد مكثنا مدة لا نفهم لغنائهم معنى أصلاً، لعدم معرفتنا بلسانهم.

ولله در من قال في مثل هذا الأمر:
ولم أفهم معانيها، ولكن
شجت كبدي، فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معَنَّى
يحب الغانيات ولا يراها


(البال) قسمان: (بال) عام، ويدخله سائر الناس، (كالبال) في القهاوي والبساتين، (وبال) خاص، وهو أن يدعو الإنسان جماعة للرقص والغناء والنزهة ونحو ذلك؛ كالفرح في مصر، و(البال) دائمًا مشتمل على الرجال والنساء، وفيه وقدات عظيمة، وكراسيّ للجلوس.

والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسيّ خال قام لها رجل وأجلسها، ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائمًا في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه، ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت.

ومن المنتزهات جمعية الناس، كضمة١١ مصر، إلا أن فيها دائمًا آلات الموسيقى والغناء والرقص، وبين كل نوبة من المسيقى والغناء يقسم على الحاضرين بعض مطعومات ومشروبات خفيفة.        

وبالجملة فالموسيقى بالأصالة، والشراب الخفيف بالتبعية هما حظ هذه المجالس.

وكما قال الشاعر:
هل العيش إلا ماء كرم مصفق١٢
ترقرقه في الكأس ماء غمام
وعود "بنان" حين ساعد شدوه
على نغم الأوتار ناي "زنام"١٣

وقد قلنا إن الرقص عندهم فن من الفنون، وقد أشار إليه المسعودي في تاريخه المسمى: "مروج الذهب" فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض، فليس كل قوي يعرف المصارعة، بل قد يغلبه ضعيف البنية بوساطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء، وظهر أن الرقص والمصارعة مرجعهما شيء واحد يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العياقة والشلبنة لا من الفسق؛ فلذلك كان دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهييج الشهوات، وأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا، وكل إنسان يعزم امراة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهنّ، ولا يكفيهن واحد ولا اثنان، بل يحببن رؤية كثير من الناس يرقصن معهن لسآمة أنفسهن من التعلق بشيء واحد.

وكما قال الشاعر:
أيا من ليس يرضيها خليل
ولا ألفا خليل كل عام
أراك بقية من قوم موسى
فهم لا يصبرون على طعام


وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة؛ بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمسُّ المرأة أيّامّا كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء، ومدحهن عد هذا من الأدب، وصاحبة البيت تحيي أهل المجلس.

ومن النزه:
المواسم العامة التي تصنع في الصيف، ومبناها على الرقص والآلات، وتسبيب البارود، ونحو ذلك.

ومن المواسم العامة عندهم أيام تسمى أيام (الكرنوال) وتسمى عند قبطة مصر أيام الرفاع،١٤ وهي عدة أيام يرخص لسائر الناس فيها سائر التقليدات والتشكلات، فيتشكل الرجل بشكل امرأة، والمرأة في صورة رجل، ويتراءى (الخواجة) في صورة راع ونحو ذلك، وبالجملة فيباح سائر ما لا يضر براحة المملكة وانتظامها.

ويقول الفرنساوية إن هذه الأيام أيام جنون، ويدور بهذه البلدة فحل أسمن فحول فرنسا، في موكب عظيم مدة أيام الزفر١٥ الثلاثة، ثم يذبحونه ويعطون لصاحبه (بخشيشًا) في نظير تسميته له؛ حتى يسمن سائر الناس عجولهم.

ومن منتزهات باريس الحدائق العظيمة العامة؛ ففي باريس نحو أربعة بساتين كبرى يتماشى فيها العام والخاص، فمنها حديقة (التولري)١٦ التي بها قصر الملك، وهي من أعظم المنتزهات، يدخلها المتجملون من الناس، ويحجز الأسافل من دخولها فكأنها مصداق قول بعض الظرفاء:
لو كنت أملك للرياض صيانة
يومًا لما وصل اللئام ترابها


ومنها حديقة تسمى "الشمزليزه"،١٧ ومعناه بالعربية: رياض الجنة، وهي من أرق المنتزهات وأنضرها، وهي بستان عظيم يبلغ أربعين "أربانًا" و"الأربان" هو قياس يقرب من الفدان، ومع أن طول طريقها نحو ألف قامة، فإنها موضوعة بحيث إنك إذا مددت نظرك رأيت طرفها الثاني قدام عينيك، وفي هذه الروضة العظيمة دائمًا شيء من الملاهي لا يمكن حصره، وسائر أشجار هذا البستان متصافة، متوازية بعضها مع بعض، رتبت بحيث إنه يوجد مدخل من كل الجهات، فهو على سمت الخطوط المستقيمة من سائر الجهات.

وفي وسط كل جملة من الأشجار يوجد محل مربع، وهذه الحديثة يتصل أحد جوانبها بنهر السين، وبينها وبينه رصيف، وبجانبها الآخر بيوت بأطراف الخلاء، وفيها كثير من القهاوي (الرسطواطورات)، يعني بيوت الأكل وفيها سائر أنواع الطعام والشراب، وهي مجمع الأحباب والأكابر، وبها كثير من المرامح للخيل، ويدخل فيها الأكابر بالعربات المزينة، وفيها عدة آلاف من الكراسي بالأجرة، يجلس عليها في زمن الربيع نهارًا وفي زمن الصيف ليلاً، وأعظم اجتماع الناس فيها يوم الأحد، فإنه يوم البطالة عند الفرنساوية، وبالجملة فهذه الحديقة محل المواسم والأفراح العامة والزينات، وبها تتماشى سائر النساء الجميلات.١٨

ومن المتنزهات المحال المسماة "البلوار"، وهي الأشجار المتصافة المتوازية، وقد أسلفنا بيانها، وهي محل يتماشى فيها سائر الناس، في سائر الأيام، وفيه أعظم قهاوي باريس، وتدور فيه الآلاتية المتنقلون بآلاتهم، وفيه كثير من محال (التياترات)، وبه أيضًا تدور النساء اللواتي يتعرفن بالرجال، سيِّما بالليل، فهو في جميع الليالي، وفي ليلة الاثنين، يحوي كثيرًا من الناس، فترى فيه كل عاشق مع معشوقته، ذراعه في ذراعها إلى نصف الليل.

ويصلح هنا قول الشاعر:
لا تلقَ إلا بليلٍ من تواصله
فالشمس نمامة والليل قواد
كم عاشق وظلام الليل يستره
لاقى الأحبة والواشون رقاد


وقال آخر:
أيها الليل طر بغير جناح
ليس للعين راحة في الصباح
كيف لا أبغض الصباح وفيه
بان عني أولو الوجوه المِلاح


ولا يمدح الليل إذا من ترقب فيه وصال محبوبه، وتفقد فيه نيل مطلوبه، بخلاف من كثر فيه حرقه، وزاد أرقه، وطال سهاده، وطار رقاده، فإنه يهوى الصباح؛ ليذهب همه ويرتاح، قال الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
على صفحات الجو شُدَّت بيذبل


وقال آخر:
ليلَى وليلي نفى نومي اختلافهما
بالطَّوْل والطُّول، يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت
بالطَّول ليلى، وإن جادت به بخلا


وقال من يشكو من الليل:
يا ليل طل، أو لا تطل
لا بد لي أن أسهرك
لو كان عندي قمري
ما بت أرعى قمرك

وقال آخر مثله:
يا ليل طلْ، يا شوق دُمْ
إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد
إن صح أن الليل كافر


وهذا أيضًا من باب الشكوى.

ومن المنتزهات أيضًا سوق تباع فيه الأزهار، وفي هذا السوق تجد سائر الأشجار والنباتات والأزهار الغريبة النادرة ولو في غير أوانها، حتى إن الإنسان يمكنه أن يجدد بستانًا في يوم واحد بأن يشتري سائر ما يحتاج، ثم يزرعه في يوم، وبالجملة فلا يمكن أن الإنسان يتمتع بهذه المتنزهات إلا بصحة البدن.
----------------------------
١  Le Théàtre.
٢  Le spectacle.
٣  في المطبوع ورسمت "الموسيقى" هكذا كلما ذكرت في الكتاب.
٤  Spectacles.
٥  هي "الشعبثيات": يريد بها ألوان الشعوذة، ويريد بالسيم: ما يشبه خيال الظل.
٦  Panorama.
٧  Cosmorama.
٨  Diorama.
٩  Uranorama.
١٠  L’europeorama.
١١  الضمة: جماعة يسيرون حول العريس ليلة العرس يغنون ويصفقون.
١٢  المصفق: الشراب المحول من إناء إلى آخر ليصفو.
١٣  بنان وزنام: موسيقيان، والشعر للبحتري في الخليفة المتوكل.
١٤  الأيام السابقة للصيام.
١٥  أكل لحم الطيور، كما يسمى في بعض بلاد مصر إلى اليوم.
١٦  Jardins ies tuileries.
١٧  Chemps-Elysées.
١٨  في المطبوع: الجمالات.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:11 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:01 pm

الفصل الثامن
في سياسة صِحَّةِ الأبدان بمدينة باريس
لَمَّا كان من ضروريات الحكمة الاعتناء بحفظ صحة الأبدان، وكان الإفرنج أحكم الأمم؛ كثر اعتناؤهم بهذا الفن، وبتكميل آلاته ووسائطه، وكانوا أشَدَّ الناس مُسارعة لِمَا فيه نفع للبدن؛ كالحمَّامات والمحام الباردة المياه، وترييض الجسم وتعويده على الأمور الشاقة، كالعوم، وركوب الخيل، والألعاب التي يخف بها البدن.

والحمَّامات في باريس متنوعة، وفي الحقيقة هي أنظف من حمَّامات مصر، غير أن حمَّامات مصر أنفع منها وأتقن وأحسن في الجملة؛ وذلك أن الحمَّام في مدينة باريس عدة خلوات، في كل خلوة مغطس من نحاس يسع الإنسان فقط، وفي بعض الخلوات مغطسان، وليس عندهم مغطس عام كما في مصر، ولكن هذه العادة أسلم بالنسبة للعورة؛ فإنه لا طريقة أن يطلع إنسان على عورة آخر، حتى إن الخلوة التي فيها مغطسان بين كل مغطس ستارة تمنع أن ينظر الإنسان صاحبه، وليس في دخول الإنسان هذه المغاطس الصغيرة لذة كالدخول في الحمَّامات، ولا يعرق الإنسان بها أبدًا؛ إذ الحرارة لا توجد إلا في المغطس لا في الخلوة أبدًا وإن كان يمكن أن يوصي الإنسان على حمَّام بالبخار، فإنهم يصنعون له ذلك ولكن بثمن آخر غير الثمن المعتاد.

وفي الحمَّام صفان من الخلاوي:
صف للرجال وصف للنساء، وكما أنه يوجد حمَّامات مستقرة يوجد حمَّامات منقولة، فإذا طلب الإنسان حمَّامًا في بيته، أو كان مريضًا، أو نحو ذلك، فإنهم يحملون إليه في عربة كالبرميل الماء البارد في شقة، والساخن في أخرى ومعها محم، فيوضع المحم في بيت الإنسان، ويملأ من الماء المُسخَّن، فيغتسل الإنسان منه، ثم بعد فراغه يحملونه إلى بيت الحمَّام.

ومن الحمَّامات حمَّام يضع فيه الإنسان بعض بدنه لبعض الأمراض، فيُسَمَّى نصف حمَّام، والحمَّامات بباريس كثيرة، وأشهرها ثلاثون حمَّامًا تقريبًا.

ومن أمور الرياضات النافعة لصحة البدن مدارس يتعلم فيها علم السباحة، وهي ثلاثة مكاتب على نهر السين، ومنها مدارس لتخفيف البدن، وجعله قابلاً للأشياء العجيبة كالبهلوانية، والمصارعة، ونحو ذلك.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:11 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:03 pm

الفصل التاسع
في الكلام على اعتناء باريس بالعلوم الطبية
اعلم أن مدينة باريس هي أعظم مدن الإفرنج التي يرحل إليها الغرباء، لتعلم العلوم خصوصًا العلوم الطبية، وقد ينتقل إليها المرضى من بلاد بعيدة للبحث عن تداويهم فيها، والعلوم الطبية التي تسمى أيضًا علم الحكمة هي: علم الطب والجراحة والتشريح وفن (الفسيولوجيا)١ ومعرفة داء الإنسان من حاله، وسياسة الصحة لحفظها، وتطبيب الحيوانات وغير ذلك.

والحكماء في باريس كثيرون جدًا، حتى يوجد في كل خط عدة حكماء، بل الطرق مملوءة من الحكماء حتى إن الإنسان إذا أصيب في الطريق بداء فإنه لا بد أن يجد الحكيم حالاً؛ لكثرة الحكماء بهذه البلدة.

ووضع المرضى بالنسبة للأطباء مختلف، فمن المرضى من يطلب الطبيب ليزوره عنده، وللحكيم قدر معلوم على كل مرة يأتيها إليه، ومن المرضى من يذهب إلى الطبيب في بيته، وللطبيب ساعات معينة يمكث فيها قصدًا في بيته لتلقي الناس، ومن المرضى من ينتقل مدة معينة في بيت يسمى بيت الصحة، معَد لمن يدفع قدرًا معينًا في نظير أكله وشربه وسكناه وتطبيب بدنه وخدمته ونحو ذلك.

وفي باريس بيوت حكماء معدة لمن ابتلي بخلل شيء من عظام البدن؛ كالأحديداب فإنه يدخل بيتًا من هذه البيوت للتطبيب، فيقومون بدنه بشيء من علم الحيل، كما إذا كان إنسان مقطوع أحد الأطراف، فإنهم يجبرون ذلك بأن يضعوا له من المعدن أو الخشب شيئًا في محله.

وفي هذه المدينة أيضًا بيوت يدخل فيها النساء الحوامل المشرفات على الولادة، ليلدن فيها ويقضين فيها مدة النفاس، وفي هذه البيوت توجد القوابل وسائر ما يحتاج إليه في الولادة.

ومن المواضع المعدة للمرضى والتي يوجد فيها الأطباء المارستانات العامة، فيدخلها المرضى للعلاج والإقامة مدة المرض بلا عوض.

ثم إن الأطباء في باريس فرقتان:
 إحداهما أطباء عامة لمطلق الأمراض على تنويعها، والأخرى لداءات خاصة، وبذلك أن علم الطب متسع جدًا، فقلّ أن يشتغل إنسان بسائر فروعه ويحققها، فاحتاج أطباء الفرنساوية إلى أن الطبيب بعد أن يقرأ فروع العلوم الطبية ينبغي له أن يختار منها فنًا ليصرف فيه همته، ويتقوى فيه ويتبحر؛ حتى يشتهر ويمتاز عن غيره من الأطباء بتحقيق ذلك الفن؛ حتى يجلب إليه من به داء يدخله شيء من ذلك الفن؛ فلذلك يوجد في باريس أطباء مثلاً لخصوص مرض الرئة، وأطباء لمرض العين تسمى: "المحلاتية" وأطباء لأمراض الأذنين، وأطباء لداء الأنف وتجبيره، حتى إن من أطباء الأنف من يمكنه بالحيلة أن يرجع الأنف المجدوع صحيحًا.

وفي باريس أطباء تستعمل جاذبية المغناطيس الإنسانية، للاستعانة على مداواة الإنسان، وتفصيل ذلك أن في باريس جماعة من الطبائعية، تزعم أنه ثبت عندهم أن بدن الإنسان يشتمل على مادة سيالية، يعني جاذبية المغناطيس الإنسانية، يعني أن هذه المادة لها خاصية المغناطيس: وتحصل هذه بتقريب اليد عدة مرات كالمسح، فينعس الإنسان، أو تغيب حواسه، حتى لا يحس شيئًا، فإذا غاب وكان مريضًا بمرض شديد عالجه الحكماء بقطع شيء أو بفتح شيء من بدنه من غير أن يشعر بشيء أبدًا، وقد جرب ذلك في قطع ثدي امرأة، بعد مغناطيسيتها، فمكثت عدة أيام ثم ماتت، فقال علماء المغناطيسية: إنها ماتت بسبب آخر لا بألم القطع، فإنها عاشت بعده، فالمغناطيسية نافعة لمعالجة الأمراض العصبية.

وفي باريس أيضًا حكماء لخصوص مداواة خلل العقل، أو لألم أعضاء التناسل، أو الحصوة، ولخصوص الأمراض الجلية المنفرة وغيرها؛ كالجذام والجرب.

وفي باريس أيضًا حكماء لتوليد النساء، فإن العادة أيضًا في باريس أن المرأة يولدها رجل حكيم عارف بأمور الولادة.

وبها حكماء لمعالجة البياضة التي تنزل بالعين، والماء الذي يعميها، وبها حكماء لأوجاع الصدر وداء الفالج الذي هو شلل بعض الأعضاء، فيداوونه بعلاج يسمى: "الإكمبكتور"٢ (بكسر الهمزة والكاف، وسكون الميم، وضم الباء، وسكون الكاف، وضم التاء) يعني شكات دبابيس كثيرة دقيقة، فيخرجون بذلك شيئًا من الدم، ينفع لتخفيف ضرر هذا الداء، وبها حكماء لعلاج اختلال خلقة الإنسان، وهذا العلاج يسمى: "الأرتوبيدي"٣ (بضم الهمزة، وسكون الراء، وضم التاء، وكسر الباء، وسكون الياء، وفتح الدال) يعني فن إصلاح خلل أعضاء الأطفال، فمن الحكماء من يصلح خلل الفم أو الوجه، ومنهم من يشتغل بتدبير الأعضاء الناقصة لسد خللها بأعضاء أخرى مدبرة.

ثم إن فروع العلوم الطبية كثيرة، فالمشهور منها فن التشريح، وفن تمييز أمراض الإنسان من حال طبيعته، وفن الكيمياء العقاقيرية، وفن أسباب الأمراض الباطنية الطبية، وعلم الجراحة الطبية، ووضع العصابة على الجراح، والتضميد بالمراهم، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض ظاهرية، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض باطنية، وفن معالجة النفساء، وتوليد الحامل، وعلم الطبيعة التي تدخل الطب، وعلم العقاقير والأدوية المفردة أو المركبة، وصناعة المعاجلة ومباشرة المريض.

ومدارس الحكمة بمدينة باريس منافعها شهيرة؛ فمنها مدرسة كبيرة تسمى "أكدمة الصكمة السلطانية، وهي ديوان الحكماء السلطانية وهي مجعولة لحاجة المملكة الفرنسية، ومباشرة الأمراض العامة الضرر، كالأمراض الوبائية، والأمراض التي يعتقد الفرنساوية أنها معدية، وكمرض فصل البهائم.

ومن وظيفة علماء "أكدمة الحكمة" معالجة سائر الناس بما تجعله المملكة موقوفًا على النفع العام، كإشهار تلقيح البقري، لإخراج الجدري، وامتحان الأدوية الجديدة، والأدوية المكتومة، وامتحان الأدوية المعدنية الأصلية أو المصطنعة، لإدخالها في الأدوية، وبالجملة فأهل هذه الجمعية السلطانية أعظم الحكماء الفرنساوية.

ولنذكر هنا بعض ما يتعلق بمارستانات باريس في فصل فعل الخير، وقد أسلفنا بعض شيء من ذلك في الفصل السابق.

ولنذكر لك نبذة من فن قانون الصحة، وتدبير البدن؛ حتى تتم فائدة هذه الرحلة، وهذه النبذة ترجمتها في باريز لقصد استعمال جميع الناس بمصر لها، لصغر حجمها، فهي وإن كانت تخرجنا عما نحن بصدده، إلا أن منفعتها عظيمة، وثمرتها جسيمة.
----------------------------------
١  Physiologie.
٢  L’acuponcture.
٣  L’orthopédie.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:12 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:05 pm

الفصل العاشر
في فِعْلِ الخير بمدينة باريس
اعلم أن غالب الناس ببلاد الإفرنج وسائر البلاد التي تكثر الصناع والنجامة فيها يعيشون من كسب أيديهم، فإذا حصل للإنسان منهم مانع كمرض أو نحوه، فقد معيشته واضطر إلى أن يعيش من غير كسب يده، كأنّ يتكفف الناس، أو نحو ذلك، فشرعت المارستانات المعدة لفعل الخير، حتى إن الإنسان لا يسأل ما في أيدي الناس، وكلما كثرت صنائع بلدة وكثر كسبها كثرت أهاليها فاحتاجت إلى مارستانات أكثر من غيرها، ومعلوم أن مدينة "باريس" من أعمر المدن وأكثرها صناعة ونجامة؛ فلذلك كثرة مارستاناتها وجمعيات فعل الخير بها سادة لخلل شح أفراد أهلها وبخلهم؛ لما تقدم أنهم بمعزل عن الكرم من العرب، فليس عندهم حاتم طي، ولا ابنه عدي، ولم يخرج من بلادهم معن بن زائدة الشهير بالحلم والندى الذي قال فيه الشاعر:
يقولون: معن لا زكاة لماله
وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال حول لم يكن في دياره
من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت نائله
هو البحر من كل النواحي أتيته
ولجته المعروف والبر ساحله
إذا مر بالوادي فتبكي تلاله
عليه وبالنادي فتبكي أرامله
تعوّد بسط الكف حتى لو انه
أراد انقباضًا لم تطعْه أنامله
ولو كان ما في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله


ولم يسمع في بلادهم عند ملوكهم ووزرائهم شيء ولو يسيرًا مما يحكى عن بني العباس والبرامكة أصلاً، فالملك المنصور المشهور بالدوانقي١ أكرم الكرماء بالنسبة إليهم، نعم إن البلاد المتحضرة يقل إكرامها، وأيضًا يرون أن إعطاء القادر على الشغل شيئًا فيه إعانة له على عدم التكسب.

وفي مدينة باريس ديوان لتدبير المارستانات، وأهله خمس عشرة نفسًا للمشورة العامة، وفي هذا الديوان خمس نظارات: النظارة الأولى: لمباشرة المارستان، النظارة الثانية: لمباشرة مهمات المراستان، والخدمة للمرضى والعقاقير العامة، النظارة الثالثة: مباشرة الأوقاف، النظارة الرابعة: مباشرة الفقراء في بيوتهم وإعانتهم، النظارة الخامسة: مباشرة مصاريف المارستان وتوابعها، ولا يدخل الإنسان المارستان إلا إذا أثبت مرضه.

يقول الحكماء:
ومن قام من مرضه في المارستان وأراد أن يخرج منه قبل أن يتم شفاؤه وترجع له قوته أخذ من الوقف بعض شيء يستعين به على قوته؛ حتى يمكنه الرجوع إلى أشغاله.

وأعظم مارستان "بباريس" المارستان المسمى: "أوتيل ديو" يقرب أن يكون معناه "بيت الله" وهو موقوف على المرضى والجرحى، ولا يدخل فيه الأطفال ولا أرباب الداء العضال، ولا المجانين ولا النفساء ولا أرباب الأمراض المزمنة، ولا المبتلى بالإفرنجي، فإن كل داء من هذه الأشياء له مارستان خاص.

ومن المارستانات الشهيرة في "باريس" مارستان يسمى "ستلويز" وهو معد لأرباب الأمراض المزمنة، ولأرباب الدمامل والقوبة، والحكة، والجرب، ونحو ذلك.

وفي باريس مارستان للقطاء، يعني الأطفال الذين يلتقطونهم من الطرق فيدخل فيه الذين يهملهم أهلهم كأولاد الزنا ونحو ذلك.

"وبباريس" مارستان أيضًا للأيتام، وفيه يدخل الأولاد الفاقدون لأهاليهم، وهو موقوف على نحو ثمانمائة ذكر وأنثى.        

فالذكور فيه في جهة، والإناث في أخرى، ويباشر هذا المارستان ديوان يدبره فلا يوضع الصغير في المارستان إلا بأمر هذا الديوان، وإذا بلغ الإنسان إحدى عشرة سنة في السن فإنه يخرج بإذن أهل ذلك الديوان من هذا المارستان، ويسكن عند معلم صنعة ومصرفه يخرج من وقف المارستان، ولمعلم الصنعة أن يتبنى الصغير، أي يأخذه وينزله منزلة ابنه، ولكن بشرط أن يثبت لأهل ذلك الديوان يساره وفضله وحسن حاله.

ومن جملة مارستانات "باريس" مارستان موقوف لتلقيح الجدري بوضع البقري.

ومنها: مارستانان يسمَّيان "مارستاني الشيخوخة والهرم" فأحدهما للذكور، والآخر للنساء، ومنها مارستان لأصحاب الداء العضال، موقوف على أربعمائة وخمسين مريضًا ذكرًا وخمسمائة وعشرين مريضة".

ومنها: مارستان العميان، من أهل "باريس" أو غيرها من العمالات، فلهم فيه الأكل والشرب، وسائر ما يحتاجون إليه في تعليمهم ونحو ذلك.

ومنها: مارستان المجانين، وفيه (قشلة)٢ عظيمة تسمى مارستان السقط، وفيه يوضع مجاريح الحروب ومقاطيع الأيدي أو الأرجل أو نحو ذلك، وهو من أنظف وأعظم المارستانات، وفيه ستة عشر طبيبًا، وجائحيًا، وستة عقاقيرية لصناعة الأدوية.

ويوجد في "باريس" زيادة عن هذه المارستانات ديوان عام يسمى "ديوان الإحسان" المقصود منه تكميل الخير الذي لا يمكن في المارستانات، كما إذا أحرقت تجارة تاجر أو انكسر، فإنه يجبر من هذا الديوان بشروط معلومة.

وفي كل خط "بباريس" ديوان إحسان، والإحسان فيه قسمان: إحسان حالي وإحسان حولي، فالأول يعطى للفقير الذي وقف حاله أو حدث له ما يعطله، والثاني لمن به حالة دائمة تمنعه من الشغل، ومن فعل الخير بمدينة "باريس" إنه يوجد بشاطئ نهرها علب وحوائج بها روائح لتشميم الغريق والمغمى عليه والجريح ونحو ذلك ليفيق، ويوجد أيضًا بهذه المواضع عدة رجال من أهل الخبرة، لينهضوا لإسعاف من وقعت له حادثة عارضة.

ومن هذا كله يتبين أن فعل الخير بمدينة "باريس" أكثر منه في غيرها بالنسبة للجملة أو للمملكة، لا لكل واحد على حدته فإنه قد يشاهد في طرقها أن بعض الناس الذين لا يذهبون إلى المارستانات الموقوفة ونحوها يقع في وسط الطريق من الجوع، وربما تراهم ينهرون السائل، ويردونه خائبًا، زاعمين أنه لا ينبغي السؤال أبدًا؛ لأنه إذا كان السائل قادرًا على الشغل فلا حاجة إلى السؤال، وإن كان عاجزًا عنه فعليه بالمارستانات ونحوها؛ ولأن السائلين عندهم أصحاب حيل في تحصيل الأموال في غالب الأحوال، حتى إنهم يتشكلون في صورة المجاريح ونحوهم؛ ليشفق الناس عليهم ويرقوا لحالهم.

ومن فعل الخير أنهم يجمعون عند الحاجة أشياء لمن نكبه الزمان حتى يصير بها غنيًا، فمن ذلك أنهم جمعوا لأولاد "الجنرال ني" نحو مليونين من الفرنكات يعني ستة ملايين من القروش.
-------------------------------
١  المنسوب إلى (دوانق)، وهي جمع (دانق) كصاحب، وهو سدس الدرهم.
٢  القشلة: المستشفى.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:12 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:07 pm

الفصل الحادي عشر
في كَسْبِ مدينة باريس ومهارتها
اعلم أن المركوز في أذهان هؤلاء الطوائف محبة المكسب والشغف به، وصرف الهمة إليه بالكلية، ومدح الهمة والحركة وذم الكسل والتواني، حتى إن كلمة التوبيخ المستعملة عندهم على ألسنتهم في الذم هي لفظة الكسل والتنبلة، وسواء في محبة الأشغال العظيم والحقير، ولو حصل من ذلك مشقة أو مخاطرة بالنفس.

فكأنهم فهموا قول الشاعر:
حب السلام يثني عزم صاحبه
عن المعالي، ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقًا
في الأرض أو سلمًا في الجو واعتزل
ودع غمار العلا للمقدمين على
ركوبها، واقتنع منهن بالأمل


إلى أن قال:
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوِّل في الدنيا على رجل


ثم إن أعظم التجارات وأشهرها في "باريس" معاملات الصيارفة، والصيارفة قسمان: صيارفة المملكة أو (الميري)، وصيارفة "باريس"، ووظيفة صيارفة الدولة بالنسبة للتجارة أن يضع الناس ما يريدون وضعه، ويأخذوا كل سنة ربحه المعين في قانونهم، فلا يعد عندهم هذا الربح ربا إلا إذا زاد عما في القانون، وللإنسان أن يأخذ ما وضعه من المعاملة عند صيارفة الدولة متى أراد، ومثل ذلك صيارفة "باريس" فإنهم يأخذون ويعطون الأموال بالمرابحة، وهم يعطون الربح أزيد مما تعطيه صيارفة بيت المال الذين هم صيارفة المملكة، ولكن المال الموضوع عند صيارفة المملكة آمن من الموضوع عند صيارفة الدولة، فإن ما يأخذونه يكون دينًا على الدولة، والدولة دائمًا موجودة.

ومن أمور المعاملات المهمة عند أهل "باريس": جمعية تسمى "الشركاء في الضمانة" فإنها تضمن لمن يدفع لها كل سنة قدرًا هينًا مخصوصًا سائر ما يتلف في بيته بحادثة قهرية، كما إذا احترق بيته أو حانوته أو نحو ذلك، فإنها ترجعه له كما كان، وتدفع له قيمته.

وفي مدينة باريس معامل سلطانية ومعامل غير سلطانية: فمنها معامل المعادن كأشغال الفضة والذهب واتخاذ الآنية منهما، ومنها معامل الصيني (والفرفوري)١ ومعامل الشمع الإسكندراني ومعامل الصابون والقطن والجلود المدبوغة، وشغل السختيان،٢ ونحو ذلك، وصناعتهم تعظُم جودتها شيئًا فشيئًا؛ حتى إنهم كل نحو ثلاث سنوات يعرضون أشغالهم على رءوس الأشهاد، ويظهرون ما اخترعوه وما كملوه.

وفي باريس عدة خانات عظمى، توجد فيها سائر المبيعات، ووكائل وحوانيت وبيوت للتجارة أو الصناعة مكتوب على واجهتها اسم التاجر واسم تجارته، وبعض الأحيان قد يكتب اسم المتجر، ألا يمكن أن يشرع الإنسان في التجارة إلا إذا دفع لبيت المال شيئًا ولو هينًا، فيأخذ (نيشانًا علامة على الإذن له في التجارة، فيحتاج أن يكون معه (النيشان)، وعلى تجارته.

وللتجارة مكتب مخصوص يسمى مكتب التجارة، يتعلم فيه التلامذة علم التجارة، وعلم تمييز صفات أنواع الأشياء المبيعة، ومعرفة الأثمان والقيم.

وفي هذا المكتب خمس عشرة مدرسة، وفيه تلامذة من أقاليم عديدة، وبمقتضى قانون ذلك المكتب أنه بدفع القدر المعين يقبل من أراد الدخول للتعليم من سائر الأمم.

ومن الأمور التي تعين على النجامة والكسب تعمير طرق البر والبحر؛ فمن ذلك صناعة الخلجان والقوارب التي تسير بالدخان ونصب القناطر، ونصب دواوين تسفير العربات الكبيرة (والتليغراف) وهي الإشارة، ونصب البريد بالساعي، والبريد بالخيل وغير ذلك.

فانظر إلى مدينة "باريس" فإن حولها أربعة خلجان تأتي منها المتاجر، وفي نهر السين تسير قوارب على صورة العربات، وقوارب تمشي بالنار سريعة السير، وبمدينة "باريس" جملة أنواع من العربات مختلفة الشكل والاسم والسير والاستعمال، فمنها عربات معدَّة لوسْق الأمتعة من "باريس" إلى البلاد البرانية، وتسمى "رولاجة"٣ ومنها جنس معد لوسقه بالناس ليسافروا فيه، ويسمى "الدلجنس" ومنها عربات صغيرة للسفر إلى المحال القريبة من "باريس" تسمى "كوكو"٤ (بضم الكافين) ويدفع فيها على كل رأس قدر معلوم، كالسفر في السفن، وفي "باريس" عربات تستأجر إلى أجل معلوم، كيوم أو شهر أو سنة، والعربات العادية في "باريس" هي: الفياكرة وهي ما فيها مقعد فيه سدلتان متقابلتان، تسعان ستة أنفس، ولها حصانان يسحبانها "والكيريولة" وهي نصف "الفياكرة" فلها سدلة واحدة: وركوب "الفياكرة"٥ أو "الكيريولة" تكون أجرته بالساعة، أو يستأجر من محل إلى محل آخر، وأجرة محدودة لا تزيد ولا تنقص، ووجودها في سائر طريق "باريس" أكثر من وجود الحمير في طريق القاهرة، وقد تجددت الآن عربات كبيرة تسمى "الأمنيبوسة"٦ معناها: لكل الخلق، وهي عربات كبيرة تسع كثيرًا من الخلق، مكتوب على بابها أنها تمشي إلى الحارة الفلانية، فكل الناس الذاهبين إلى حارة واحدة يركبونها، ويدفع كل منهم قدرًا معينًا، وهي موجودة في أمهات خطوط "باريس" ومن العربات جنس ينقل أمتعة البيوت، ومنها عجلات البياعين ويسوقونها، ويدورون بها في الطريق ليبيعوها، وهذه العجلات قد يسحبها حصان، وقد يسحبها حمار، وقد يسحبها شخص واحد أو مع كلبه، وبها أجناس أخر من العجلات لحمل الحجارة والتراب وغير ذلك.

وأما البريد المسمى عند الفرنسيس البسطة" فإنه من أهم المصالح النافعة في التجارات وغيرها، يسهل فيه إخبار الغير بواسطة المكاتبات التي تذهب عاجلاً، ويأتي ردها في أسرع ما يكون.        

وتدبيرها بكيفيتها التي هي عليها من أعظم ما يمكن، فإن المكاتيب التي تبعث في البلد وأن العمالة تصل إلى صاحبها من غير شك؛ لأن سائر نمرة البيوت مكتوب عليها بالرقم عددها المسمى "النمرة" فيها يمتاز البيت عما عداه، والمكتوب الذي تبعثه الإنسان تضعه في محل المكاتيب الموضوع في كل حارة، فيأتي الساعي ويأخذه، فيصل المكتوب إلى الحارة الأخرى، ويأتي رده في يومه.

ثم إن الفرنساوية يحترمون أمور المراسلات غاية الإمكان، فلا يمكن لإنسان أن يفتح مكتوبًا معنونًا باسم آخر ولو كان متهمًا بشيء، ولما كان احترام المراسلات بباريس على هذه الحالة كثرت الرسائل بين الأحباب والأصحاب، خصوصًا بين العشاق، لأمن الإنسان على مكتوبه من أن يفتحه غير المرسل إليه، المعنوَن باسمه، وأعلام العشق بين العاشق ومعشوقته يكون بالمراسلة، وبها أيضًا يحصل الوعد بالمواصلة، وفي باريس محل لإرسال المعاملات والحوائج مع الساعي أيضًا، من غير خوف أبدًا ومن الأمور النافعة في التجارات (الجورنالات) فيكتبون فيها كثيرًا من البضاعة النافعة أو الجيدة الصنعة، ويمدحونها، ليروجوا السلع، وليعلِّموا الناس بها، وصاحب البضاعة يدفع لهم شيئًا في نظير ذلك، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وقد يطبع التاجر الذي يرى ترويج سلعته عدة أوراق صغيرة، ويرسلها مع خدم في سائر البيوتات، ولسائر المارين بالطرق، ويفرقها عليهم مجانًا؛ ففي هذه الأوراق يذكر اسمه واسم دكانه، وما عنده من المبيع، ويعين القيمة لسلعته.

وبالجملة ففي مدينة باريس يباع سائر ما يوجد في الدنيا سواء كان خطيرًا أو حقيرًا، ومن أعظم الأشياء دكاكين العقاقيرية، فيها توجد سائر الأدوية مجهزة، وسائر العقاقير التي وجه الأرض المعروفة الاسم والخاصية.

وسائر الخلق "بباريس" يحبون الكسب والتجارة، سواء الغني والفقير، حتى إن الصغير الذي لا يمكنه التكلم إلا بالأشياء الصغيرة إذا أعطيته فلسًا يفرح به ويصفق بيديه قائلاً ما معناه بالعربية: كسبت وقنيت؛ ولولا أن كسبهم مشوب في الغالب بالربا لكانوا أطيب الأمم كسبًا، وإذا كسدت تجارة أحدهم كما هو غالب في تلك البلاد فسد حاله، وآل أمره إلى تطلب ما في أيدي الناس، وربما أخذ معه مكتوبًا من أحد الكبار يدل على كساد حاله، وأنه يستحق الإعانة، ويكثر وقوع مثل هذا الأمر في هذه المدينة وإن كثر أخذها وعطاؤها.

وتداول الأمطار والرياح لا يمنع الإنسان منهم عن الخروج إلى شغله، يقولون بلسان حالهم: اليد الفارغة تسارع إلى الشر، والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم.

وأهل "باريس" أغنياء جدًا، حتى إن المتوسط منهم أغنى من تاجر عظيم من تجار القاهرة، فلا يرضون قول الشاعر:
ولا فخر إلا بالنوال وبالعطا
وليس بجمع المال عز ولا فخر


بل يحرصون على الأموال، ويسلكون سبيل الحرص زاعمين أنه يزيد في الأرزاق، ولا يقتدون بقول الشاعر:
وليس يزاد في رزق حريص
ولو ركب العواصف كي يزادا


وقد يوجد بها من أهالي الحرف الدنيئة من إيراده كل سنة أبلغ من مائة ألف فرنك، وذلك من كمال العدل عندهم، فهو المعول عليه في أصول سياساتهم، فلا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدى مرة وجار، ولا شك أنه تأسس في قلوبهم قول الشاعر:
والملك الجبار والمنيع
ما عنده هاد، ولا شفيع
دعية الجبار مرعى الحرب
والملك العادل نصف الخصب


وهذا لا يمنع من أنهم يدفعون (الميري) عن طيب خاطر، لما أنهم يرون أن الخراج عمود الملك إذا دفع كل إنسان منهم ما هو عليه قادر، فمال (الميري) هو قوام صورة الممالك، وإحسان مصرفه في استحقاقه خير مما هنالك.

 قال الشاعر:
والمال أس لقيام الصورة
وخير منه صالح المشورة


ولما كانت رعيتهم رائعة كان الدولة عندهم لها إيراد سنوي عظيم، فإن إيراد الدولة الفرنساوية كل سنة نحو تسعمائة وتسعة وثمانين مليونًا من الفرنكات.

ومن جملة أسباب غنى الفرنساوية أنهم يعرفون التوفير، وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه، وجعلوه علمًا متفرعًا من تدبير الأمور الملكية، ولهم فيه حيل عظيمة على تحصيل الغنى، فمن ذلك عدت تعلقهم بالأشياء المقتضية للمصاريف، فإن الوزير مثلاً ليس له أزيد من نحو خمسة عشر خادمًا، وإذا مشى في الطريق لا تعرفه من غيره، فإنه يقلل أتباعه ما أمكنه داخل داره وخارجها وقد سمعت أن قريب ملك الفرنسيس المسمى: الدوق "درليان" وهو الآن السلطان الذي هو من أعظم الفرنسيس مقامًا، وأكثرهم غنى، له من الأتباع وسائر من طرفه من العساكر ونحوها (كالبستانجية) والخدم وغير ذلك نحو أربعمائة نفس لا غير، والفرنساوية يستكثرون ذلك عليه، فانظر الفرق بين باريس ومصر؛ حيث إن العسكري بمصر له عدة خدم.
-----------------------------------
١  نوع من الصيني.
٢  نوع من الجلد.
٣  Roulage.
٤  Coucott.
٥  fiacre.
٦  Omnibus.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:13 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:10 pm

الفصل الثاني عشر
في دين أهل باريس
قد تقدم لنا في الشرطة أن دين الدولة هو دين النصارى "القاثوليقية" وقد بطل هذا الشرط بعد الفتنة الأخيرة، وهم يعترفون للبابا الذي هو ملك رومة بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم، وكما أن الدين القاثوليقي هو دين الدولة الفرنساوية كذلك هو دين غالب الناس عندهم، وقد يوجد "بباريس" الملة النصرانية المسماة: "البروتستانتية" وغيرها، ويوجد بها كثيرٌ من اليهود المستوطنين، ولا وجود لمسلم مستوطن بها.

وقد أسلفنا أن الفرنساوية على الإطلاق ليس لهم من دين النصرانية غير الاسم، فهم يدخلون في اسم الكتابيين، فلا يعتنون بما حرمه دينهم، أو أوجبه، أو نحو ذلك؛ ففي أيام الصيام في "باريس" لا ينقطع أكل اللحم في سائر البيوت، إلا ما ندر، كبعض القسوس، وبيت ملك الفرنسيس القديم، وأما باقي أهل المدينة فإنهم يستهزؤون بذلك ولا يفعلونه أبدًا، ويقولون: إن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام.

ولا تعظم القسوس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدًا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار والمعارف، ويقال: إن غالب ممالك الإفرنج مثل "باريس" في مادة الأديان، ثم إن "مسيو دساسي" لما اطلع على ذلك كتب عليه ما نصه: قولك أن الفرنساوية ليس لهم دين ألبتة، وإنهم ليسوا إلا بالاسم فيه نظر.

 نعم إن كثيرًا من الفرنساوية خصوصًا من سكان "باريس" ليسوا نصارى إلا بالاسم فقط لا يعتقدون اعتقادات تدينهم، ولا يتعبدون بعبادات النصرانية، بل هم في أعمالهم لا يتبعون إلا أهواءهم، تشغلهم أمور الدنيا عن ذكر الآخرة، تراهم ما دامت حياتهم لا يهتمون إلا باكتساب الأموال بأي وجه كان، وإذا حضرهم الموت ماتوا كالبهائم، ولكن فيهم أيضًا من يقيم على دين آبائه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات، وهم طائفة لا تحصى من الرجال والنساء، ومن العوام والخواص.

بل ومن المشهورين بفضل العلم والأدب، غير أنهم في ورعهم وتقاهم على مراتب شتى: منهم من يشارك عامة الناس تصرفاتهم، ويحضر معهم في محافل اللذات أعني "السبكتاكل" "والبال" ومجامع الأغاني، ومنهم المتقشفون المعرضون عن كل ما تشتهيه الأنفس، وهؤلاء أقل عددًا، وإن دخلت كنائسنا أيام الأعياد المعظمة ظهر لك صحة قولي.

هكذا انتهت عبارته والحامل له على ذلك: كونه من أرباب الديانة، وعددهم نادر ولا حكم له.

ومن الخصال العادية المهولة ببلاد الفرنسيس أو بلاد "القاثوليقية": عدم الإذن بزواج القسيسين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم، فإن عدم زواجهم يزيدهم فسقًا على فسقهم.

ومن الخصال الدميمة:
إن القسيسين يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم؛ ليغفروها لهم، فيمكث القسيس في الكنيسة على كرسي يسمى كرسي الاعتراف، فسائر من أراد أن تغفر ذنوبه يذهب إلى كرسي الاعتراف، داخل باب بينه وبين القسيس حائل كالشبكة، فيجلس، ثم يعترف قدامه بذنوبه، ويستغفره، فيغفر له، وقد عرف عندهم أن أكثر من يدخل الكنيسة أو يذهب إلى الاعتراف يكون من النساء والصغار.

وهذا موافق لقول بعض شعراء العرب:
إن من يدخل الكنيسة يومًا
يلق فيها جآذرًا وظباء


ودرجة القسيسية عندهم مختلفة؛ فأولهم الكردينال وهو بعد "البابا" في الرتبة؛ وذلك أن البابا قبل توليته يشترط أن يكون "كردينالاً" ثم بعده "المطران" ثم بعده "الأسقف" ثم "الخوري" ثم "نائب الخوري" ثم "الشماس".

وعند الفرنساوية أعياد دينية متنقلة:
يعني لا تقع في يوم معين كل سنة، بل هي دورية ومرتبة في الغالب على وقوع عيد الفصح.

فمن أعيادهم الغريبة:
"عيد الرفاع" وقد تقدم، ومنها عيد ظهور السيد المسيح، ويسمى عند الفرنسيس: عيد الملوك، وذلك أن كل عائلة تصنع فطيرة عظيمة، وتضع فيها حبة فول في عجينها، ويقسمون الفطير على الندامى، فكل من جاءت حبة الفول في نصيبه فهو الملك، فإن جاءت في نصيب رجل فإنه يسمى باسم الملك، ويخاطب فوق المائدة وتمام الليلة بخطاب الملوك، ثم يختار من النساء امرأة يجعلها الملكة، فتخاطب أيضًا بذلك الخطاب، وإن جاءت الفولة من نصيب امرأة فإنها أيضًا تختار من الحاضرين شخصًا كالزوج لها، وتطلق عليه اسم الملك، فيكون سائر إكرام الليلة للملك والملكة، برسوم خاصة، وقوانين مألوفة، وهذه الكيفية تصنع في سائر البيوت في مدينة "باريس" حتى بيت ملك الفرنسيس.

ومن جملة بدع القسيسين:
أنهم يصنعون في عيد القربان موكبًا ويلبسون فيه حللاً مطرزة، ويدورون المدينة بشيء يسمونه "البونديو" وكلمة "البونديو" مركبة من كلمتين: الأول: "بون" ومعناها: طيب، أو عظيم، والثانية "ديو" ومعناها: الإله، فكأنهم يقولون: إن الإله حاضر في الجحفة،١ التي بين أيدي القسوس، والمراد عندهم "بالبونديو" عيسى عليه السلام، والفرنساوية يعرفون أن هذه الأمور من باب الهوس الذي يدنس بلادهم، ويزري بعقول أهلها، غاية الأمر أن العائلة السلطانية كانت تعين القسيسين على هذه الأمور، فتمتثل الرعية لذلك مع غاية الحط والتشنيع.

وللقسيسين بدع لا تحصى، وأهل باريس يعرفون بطلانها، ويهزءون بها، ولهم أعياد أخر لا يسعها هذا الكتاب.

ثم إن لكل إنسان من الفرنساوية عيدًا وهو يوم مولد القديس الموافق له في اسمه فإذا كان إنسان اسمه بولص مثلاً فإن عيده يكون عيد "ماري بولص"، فنرى كل إنسان اسمه بولص"يصنع وليمة ويشهر عيده، وفي عيد الإنسان يهادونه بأنواع الأزهار".
------------------------------
١  الجحفة: بقية ماء في حوض.



المقالة الثالثة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 12:13 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المقالة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: المقالة الثالثة   المقالة الثالثة Emptyالأحد 28 يونيو 2020, 9:36 pm

الفصل الثالث عشر
في ذكر تقدم أهل باريس في العلوم والفنون والصنائع، وذكر ترتيبهم، وإيضاح ما يتعلق بذلك
الذي يظهر لمن تأمَّل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعة في هذا العصر بمدينة "باريس" أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وإنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء "باريس" بل ولا في الحكماء المتقدمين كما هو الظاهر أيضًا، غير أن صاحب النقد السديد قد يقول: إن سائر الفنون العلمية التي يظهر أثرها بالتجارب، معرفة هؤلاء الحكماء بها ثابتة، وإتقانها عندهم لا نزاع فيه، كما يشهد لذلك قول بعض أجلة الحكماء: "الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها".

وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن له مبعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلاً، فإنهم محققون فيه: وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له.

ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى.

وإنما نقول هنا: إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذي ذكره صاحب متن السلم في الاشتغال بعلم المنطق.        

فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسُّنَّة، حتى لا يغترَّ بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه.

وقد قلت جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها:
أيوجد مثل "باريس" ديار
شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح
أما هذا وحقكم عجيب!


ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة، وإذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبينة بنفسها.

وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها.

وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمنون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ.        

فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم، وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، ولما غير ذلك فهو ضياع مثلاً إذا أراد إنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وإن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولى، وأنه عبر في محل الواو والعكس أحسن، ونحو ذلك.

ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، وتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم.

فالواحد منهم كما قال الشاعر:
عشق المعاني الغر وهو مراهق
وافتض أبكار الفنون وليدا


فإن قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك بدلاً من قوله لا أعرف أصل هذا الشيء بما معناه "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" ونحو ذلك، فأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق.

والعادة أنهم يزوجون أولادهم قبل تمام تعلمهم، وهذا يكون غالبًا في عشرين إلى خمس وعشرين سنة، فقلَّ منهم مَنْ كان في سن العشرين، ولم يبلغ درجة التدريس، أو يتعلّم صنعته التي يريد تعلّمها، غير أنه قد يمكث مُدَّةً طويلة ليتمكّن من العلوم والفنون غاية التمكُّن، وهذا السِّنُّ في الغالب تظهر به براعة الإنسان وحُسْنَ طالعته.

كما قال الشاعر:
إذا ما أول الخطّي أخطا
فما يرجى لآخره انتصار
إذا جاز الفتى عشرين عاما
وما بلغ المراد فذاك عار


فكأن هذه١ السِّنُّ عند سائر الأمم سِنُّ انتهاء الناجب، فانظر إلى الأخضري فإنه في سن إحدى وعشرين سنة قد نظم رسالة السلم وشرحها، وكذلك العلامة الأمير فإنه في دون العشرين بيسير صنف مجموعة فتورك٢ على قول الأخضري:
ولبني إحدى وعشرين سنة
معذرة مقبولة مستحسنة


بأنه وهو في دون ذلك السِّنِّ ألَّف في أصعب من ذلك المقام، وما قلناه بالنسبة لأرباب المعارف من الإفرنج.

وأمَّا علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء، ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية التي من جملتها علم الأحكام والسياسات.

ومعرفة العلماء في فروع الديانة النصرانية هينة جدًا، فإذا قيل في فرنسا: هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأخرى (ي)، ويظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا، عن كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفأس، ومدارس بخارى ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية كعلوم العربية.        

والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية، والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات، وستعرف بعض هذا إن شاء الله تعالى.

ومما يستغرب: أن في رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا في شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهرًا على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب في الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلامًا كثيرًا يقرب من كلام بعض شعراء العرب مخاطبًا لمحبوبته بقوله:
ولقد ذكرتك والوغى بحر طغى
والنقع ليل والأسنة أنجم
فحسبته عرسًا ونحن بروضة
وأنا وأنت بظله نتنعم


وقول الآخر:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
برقت كبارق ثغرك المتبسم


وقول صاحب لامية العجم:
لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت
برشقة من نبال الأعين النجل٣
ولا أهاب صفاح البيض تسعدني
باللمح من خلل الأستار في الكلل٤
ولا أخل بغزلان تغازلني
ولو دهتني أسود الغيل بالغيل٥


ولنذكر لك مجامع العلماء، والمدارس المشهورة، وخزائن الكتب، ونحو ذلك لتعرف به مزية الإفرنج على غيرهم.

فمن خزائن الكتب:
الخزانة السلطانية، وفيها سائر ما أمكن الفرنساوية تحصيله من الكتب في أي علم كان بأي لغة كانت، مطبوعة أو منسوخة، وعدة ما فيها من الكتب المطبوعة أربعمائة ألف مجلد، وفيها مبلغ عظيم من الكتب العربية الخزائنية التي يندر وجودها بمصر أو بغيرها، وفيها عدة مصاحف لا نظير لها أبدًا، ثم إن المصاحف التي عند الفرنساوية في خزائنهم غير مهانة، بل هي مصونة غاية الصون، وإن كان عدم إهانتها حاصلاً غير مقصود، غير أن الضرر في كونهم يسلمونها لمن يريد أن يقرأ القرآن منهم أو يترجمه أو نحو ذلك، وتوجد المصاحف للبيع في مدينة "باريس"، وبعضهم لخص من القرآن العظيم سائر الآيات التي اختارها للترجمة ثم ترجمها، وضم إليها قواعد الإسلام، وبعض شعبه، وقال في كتابه إنه يظهر له أن دين الإسلام هو أصفى الأديان، وأنه مشتمل على ما لا يوجد في غيره من الأديان.

ومن خزائن الكتب:
الخزانة المسماة خزانة "مسيو" وتمسى خزانة "الأرسنال"٦ ومعنى "أرسنال" (ترسانة) وهي أعظم الخزائن بعد الخزانة السلطانية، وبها نحو مائتي ألف مجلد مطبوعة، وعشرة آلاف منسوخة، وأغلب هذه الكتب كتب تاريخ وأشعار، خصوصًا الأشعارالإيطاليانية.

ومنها:
خزانة "مزارينه"٧ وفيها خمسة وتسعون ألف مجلد مطبوعة، وأربعة آلاف منسوخة.

ومنها:
خزانة "الأنسطيطوت"٨ أي دار العلوم، وفيها خمسون ألف مجلد.

ومنها:
خزانة المدينة، وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائمًا في الزيادة، وكتبها آداب.

ومنها:
خزانة بستان النباتات،٩ وفيها عشرة آلاف مجلد في العلوم ولفيها خزانة الرصد السلطاني، وفيها كتب علم الهيئة.

ومنها:
خزانة مكتب الحكمة، ومنها خزانة "أكدمة١٠ الفرنسيس" وهي خمسة وثلاثون ألف مجلد، وكل هذه خزائن موقوفة.

وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدًا:
فمنها ما يشتمل على خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد في كل خزانة منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنيف عن ذلك ولا حاجة لتسميتها هنا.

ولكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان "بباريس" من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب، لما أن سائر الناس تعرف القراءة والكتابة، وسائر بيوت الأعيان فيها خلوة مشتملة على خزانة الكتب، وعلى آلات العلوم وأدواتها، وعلى التحف الغريبة التي تتعلق بالفنون، كالأحجار التي بحث عنها علم المعادن ونحو ذلك، ففي "باريس" كثير من الخزائن التي يقال لها "خزائن المستغربات"،١١ فيوجد بها ما تتشوق إليه نفوس الفضلاء ليستعينوا به على الغوص في الطبيعيَّات كالمعادن والأحجار والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات، وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء.

وتعلق هذه الأشياء العلوم إن الإنسان يدرس ما يراه في الكتب ويقابله، فإن رأى في كتاب تعريف حجر كذا، وحيوان كذا، وكان الحجر أو الحيوان نصب عينه قابله مع الأوصاف المذكورة في الكتب، وأنفع الأشياء بالنسبة للطبيعيات بمدينة "باريس" البستان السلطاني المسمى "بستان النباتات" وفيه سائر ما يعرفه البشر من الأمور الخارجة من الأرض الغريبة، ويزرع بأرضه سائر النباتات الأهلية التي يعالجون تطبعها عندهم بقوة الصناعة والحكمة، فيطالع طلبة علم العقاقير والحشائش دروسهم ويقابلون ما في الكتاب على ما يرونه، ويأخذون فرعًا من كل صنف من الحشائش يضعونه في نحو ورقة، ويكتبون اسمه وخاصيته.

وفيه أيضًا سائر مراتب الحيوانات الحية غريبة أو أهلية برية أو وحشية، فيوجد بها نحو الدب الأبيض والأسود، والسبع، والضبع، والنمورة والسنانير الغريبة، والإبل، والجواميس، وغنم بلاد التبت، وزرافة سنار، وفيلة الهند، وغزلان البربر، والأيل، وبقر الوحش، وأنواع القردة، والثعالب، وسائر أنواع الطيور المعروفة لهم، وسائر هذه الحيوانات التي تراها حية بهذا البستان تراها ميتة أيضًا محشوة بالتبن، يراها الإنسان على صورة الحية، كبو البقر الذي يصنعه الفلاحون بوادي مصر.

ويوجد في هذا البستان أروقة مملوءة بالمعادن النفيسة، وسائر الأحجار سواء كانت (غشيمة)١٢ أو طبيعية، فترى فيها مراتب الطبيعيات الثلاثة يسافر أجناسها وأنواعها وأنصافها، ففيها كثير من الأشياء التي لا يمكن أن نجد لها أسماء عربية كحيوانات بلاد أمريكية أو نباتها وأحجارها.

وكل هذه الأشياء موضوعة بهذا البستان كالعينة أو الأنموذج من كل شيء، ومكتوب على كل شيء اسمه باللغة الفرنساوية، أو اللاطينية، مثلاً في القاعة التي فيها سبع مكتوب عليها اسم السبع باللغة الفرنساوية وهو "ليون" وهكذا.

ومما وقع في هذا البستان ما اشتهر أن بعض السباع قد مرض، فدخل حارسه، ومعه كلب فقرب الكلب من الأسد، ولحس جرحه فبرئ الجرح، فحصلت الألفة بين الأسد والكلب، وخلت محبة الكلب في قلب الأسد فصار الكلب يتردد دائمًا على الأسد، ويتملق إليه، ويراه كأنه من أصحابه، فلما مات الكلب مرض الأسد لفرقته، فوضعوا معه كلبًا آخر، امتحانًا لتطبعه، فتسلى به عن الميت، ولا زال معه.

وفي بستان النبات رواق يسمى "رواق التشريح" وفيه جميع "الموامي" أي الجثث المحنطة المصبرة ونحوها من الجثث.

ويوجد بهذا الرواق بعض شيء من جثة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي "كليبر" وقتل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن محال العلوم الفلكية "الرصد السلطاني"١٣ بمدينة "باريس" وهو من أغرب المراصد الموجودة على ظهر الدنيا، وذلك أنه مني من مجرد الحجارة بغير دخول الحديد أو الخشب في مادته، وهو على شكل مسدس الأسطحة المتوازية القائمة الزوايا، موجه الضلوع الأربعة إلى الجهات الأربع: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، في طرف الجهة الجنوبية صومعتان مثمنتًا الزوايا، وفيه طرف الجهة الشمالية صومعة ثالثة مربعة وهي باب الرصد، وفيه رسم الفرنسيس في رواق في الدور الأول خط نصف نهارهم، فخرج ذلك الخط يقسم الرواق قسمين متساويين فمن هذا الخط يحسب الفرنساوية درجة الطول، فينسبون إليه غيره من الأماكن المغايرة له في السمت، وقد أسلفنا ذلك موضحًا في الفصل الأول من المقالة الثانية، وارتفاع سطحه ثلاث وثمانون قدمًا فوق الأرض، وهو منقسم إلى عدة أروقة مناسبة لحاجة أشغال الفلك.

فمن هذه الأروقة ستة لها ممارق مفتوحة قطر كل ممرق ثلاثة أقدام، وهو موضوع على كيفية يمكن معها رؤية السماء، ويعين فيها على ما يحتاج إلى رصده، فترى منها النجوم وأنت في المخادع التي تحت الأرض، وفي هذه الأروقة امتحنوا ثقل الأجسام الطبيعية، وميزان الهواء، وفي هذا الرصد رواق كبير فيه آلات، وعلى قلته آلة تعديل الرياح المسماة: "الأنيمومتر"١٤ بها تقاس قوة الرياح وفيها طشت يسمى: "دن العيار" يعدل به ماء المطر الذي ينزل كل سنة.

ومخادع هذا المرصد هي داخلة في الأرض التي عمقها يساوي سمك حيطان الرصد، وإلى هذه المخادع ينزل بدرج على الدوران والانعطاف؛ كدرج المنارة، وعدة درجها ثلثمائة وستون، ووظيفة هذه المخادع أنها قد تفيد الطبائعية والكيماوية أن يصنعوا بها تجاربهم بأن يجمدوا فيها المائعات، ويبردوا بها الأجسام، ليعرفوا مزاج الأهوية، وفيها رواق يسمى "رواق المناجاة" أو رواق الأسرار؛ وذلك أن فيه أمرًا عجيبًا من قرع الصوت للأذن، أي وصوله بالهواء إليها، وذلك أن بالرواق عمودًا يقابله عمود آخر، فإذا وضع الإنسان فمه على العمود، وأسر بكلام فإنه يسمعه الإنسان الذي بالعمود الآخر، ولا يسمعه من يقرب منه، وهذه الأمور يفهمها من له إلمام بخاصية الصوت.

ومن المحال العلمية بمدينة باريس موضع يقال له: "الكنسروتواز" (بضم الكاف، وسكون النون، وكسر السين، وسكون الراء، وفتح الواو، وسكون التاء) كلمة فرنساوية معناها المخزن أو المحفظ، أو نحو ذلك، وفي هذا المحل جميع الآلات سواء العظيمة وغيرها، خصوصًا الآلات الهندسية، كآلات الحيل، وتحريك الأثقال، ويزعم الفرنساوية أنه ليس في الدنيا نظير هذا المخزن، وفي هذا المحل يرد الصدى صوت الشخص برد عجيب.

ثم إنه يكثر بباريس مدارس سائر العلوم والفنون والصنائع، وقد سلف الكلام على اعتناء الفرنساوية بالحكمة يعني علم الطب ولهم فيها مدارس كثيرة.

ولنذكر هنا محال العلماء ومراتبهم فنقول:
 إن العلماء في مدينة "باريس" لهم مجامع عظيمة تسمى بأسماء مختلفة، فمنها ما يسمى: "أكدمة"، ومنها ما يسمى: مجمعًا أو مجلسًا، "الأنسطيطوت" عندهم اسم عام يشتمل على جميع اجتماع "الأكدمات" أي المجالس الخمس، وهي: "أكدمية" اللغة الفرنساوية و"أكدمية" العلوم الأدبية، ومعرفة الأخبار والآثار، و"أكدمية" العلوم الطبيعية والهندسية، و"أكدمية" الصنائع الظريفة،١٥ و"أكدمية" الفلسفة، وقولنا "أكدمية" أو "أكدمة" أو "قدمة" هو لفظ مأخوذ من اسم مكان في مدينة "أثينا" كان أفلاطون الحكيم يعلِّم فيه تلاميذه، ومنه قيل لطائفة من الفلاسفة القدماء: "الأكدميون" وكان يقال لهذا المكان "من أكدمية" لأن صاحبه كان شخصًا يونانيًا اسمه: "أكدمس"، وقد جعل هذا المكان وقفًا لأهل مدينة "أثينا"، وصيروه بستانًا يتماشون فيه، ويتفرجون، فكان يدرس فيه أفلاطون، ومنه قيل لجماعة أفلاطون "أكدميون" ويقال لهم "أفلاطونيون" وهم مشهورون أيضًا في كتب العربية بالإشراقيين (بالقاف، والفاء) ويقال لهم أيضًا إلهيون، ويطلق "أكدميون" الآن عند الفرنساوية فيفهم منه بمجرد إطلاقه أهل أكدمة الفرنسيس، وهم كبار علماء الفرنساوية، فإذا قيد فالمعنى ظاهر كما إذا قيل: "أكدمة مصر"، فالمراد بها الجامع الأزهر؛ لأن المراد به ديوان أكابر علماء مصر.

فأوّل علماء "باريس" بل وعلماء فرنسا ديوان العلوم المسمى: "أكدمة الفرنسيس" وأهلها أربعون عالمًا، كل واحد من الأربعين يسمى: عضوًا، يعني أن هذا الديوان بأربابه كالبدن، وكل واحد كالعضو منه، وفي الغالب أن أرباب هذا الديوان لهم فضل عظيم على من عداهم من الفرنساوية، ووظيفتهم تأليف القواميس الفرنساوية، وأنهم يمتحنون مؤلفات العلوم الأدبية وكتب التاريخ، وقد اتفق أن بعض علماء الفرنسيس قد بلغ درجة عالية في العلوم، وصلح لأن يكون من أرباب هذا هذه "الأكدمة" بدل واحد من أربابها مات، وكان هذا العالم كثير المجون، فتوقفوا في قبوله في هذا الديوان، فما كانت حيلته إلا أنه كان دائمًا يعرّض بهجو أهلها، فمن نوادر وقائعه: أنه مر ذات يوم ومعه بعض أصحابه على هذه "الأكدمة" فتحدث مع أصحابه، فتذاكروا في فضل علماء "أكدمة" فقال: لا شك أن عقول أرباب هذا الديوان كعقل أربعة، يشير بذلك إلى بعض الأمثلة١٦ الفرنساوية، من قولهم في مدح الإنسان: إن له عقلاً كعقل أربعة ومشيرًا إلى أن عقل كل عشرة منهم كعقل واحد، فظاهر عبارته من باب المدح وباطنها غير ذلك.

ومن نوادره:
أنه كتب قبل موته كعادة الفرنساوية على رخامة قبره المهيَّأ له بيت شعر باللسان الفرنساوي يقول فيه ما معناه بالعربية:
هنا قبر من لم يك شيئًا أيمه
كلا ولا من علما أكدمه


ومعناه:
هذا قبر من لم يصل إلى درجة أيّاما كانت حتى لو بلغت هذه الدرجة في الحقارة درجة هؤلاء العلماء.

وهناك أكدمة تسمى "أكدمة تقييد الفنون الأدبية" وأهل ديوان هذه الجمعية ثلاثون نفسًا، ووظيفتها الاشتغال بالألسن النافعة، وبآثار الأمم وأخلاقها، وغالب شغلها تكميل آداب العلوم الفرنساوية بما خلت عنه، مما هو في كتب علوم اللغات الغريبة؛ كاللاطينية، والعربية، والفارسية، والهندية، والصينية، واليونانية، والعبرانية، والقبطية وغيرها.

ومن الأكدمات الأكدمة المسماة "أكدمة العلوم السلطانية" وأهلها منقسمون أحد عشر قسمًا، لكل قسم منهم فرع مخصوص فتكون فروعهم اثني عشر فرعًا: فأهل القسم الأول: يشتغلون بالرياضيات، كالهندسة والحساب: وأهل القسم الثاني بعلوم الحيل كعلم جر الأثقال ونحوه، والثالث: بالعلوم الفلكية والرابع: بالعلوم الجغرافية، والعلوم التجريبية، والخامس: بعلم الطبيعة العامة، والسادس: بالطبيعة، والسابع: بعلم المعادن والأحجار، والثامن: بعلم الحشائش، والتاسع: بتدبير مصاريف الأرض، والعاشر، بتطبيب الدواب، والحادي عشر: بالتشريح، والثاني عشر: بفن الطب والجراحة.

ومنها:
الأكدمة السلطانية المسماة: "أكدمة مستظرفات الفنون"،١٧ وهي خمسة فروع: الأول: فن الرسم، الثاني: في النحاتة، والثالث: فن العمارات، الرابع: فن النقاشة، والخامس: فن تركيب حروف الموسيقى.

ومنها:
مكتب الفنون الظريفة، وهو مكتب موقوف على تعليم علم الرسم وتوابعه، وفيه يتعلم الرسم، والنقاشة والعمارة.

ومن مجالس العلوم جمعية تسمى:
"أثينة الفنون" وهي تعين على تقدم الفنون والصنائع، وهي كالحكم الذي ينفذ الأشياء، ويقضي فيها برأيه.

ومنها:
"أثينة باريس" السلطانية، وهي محل علوم وفنون، ولا يكون فيها الإنسان للتعلم إلا إذا دفع شيئًا يسيرًا كل سنة، والمدرسون فيها أرباب فضل.

ومنها:
جمعية تسمى "الجـمـعـيـة الفـيلوماتـيـة"١٨ ومعناه: محبو العلوم - والغرض من هذه الجمعية الإعانة على التقدم في علوم التولّدات، وهي مرتبة الحيوانات والنباتات والمعادن.

ومنها:
جمعية تشتغل بعلوم الإنشاء والبلاغات والغرض من هذه الجمعية تدوين العلوم الأدبية، وحفظ غريبها؛ حتى لا تفسد لغة الفرنسيس، وإذا اخترع الإنسان معنى غريبًا، أو أجاب عن سؤال غريب أو قال شعرًا مقبولاً، فإنهم يعطونه جائزة ذلك.

ومنها:
جمعية تسمى: "حسن الدروس" ووظيفتها تعليم الآداب القاثوليقية، والدين القاثوليقي.

ومنها:
جمعية تسمى "أكدمة أبناء أبلون" يعني الأدباء، وهي مجلس أرباب الفنون الأدبية.

ومنها:
جمعية تسمى: "الجمعية الأسياتية"١٩ يعني في لغات أهل آسيا، أو اللغات المشرقية، ووظيفتها تحصيل كتبها الغريبة، وترجمتها إلى الفرنساوية، أو طبعها لتشتهر.

ومنها:
جمعية تسمى "الجمعية الجغرافية" وهي معدة لتحسين وتكميل علم الجغرافيا، فهي تقوى الناس على السفر إلى البلاد المجهولة الأحوال، فإذا سافر فيها إنسان ورجع يطلبون منه سائر ما علقه عليها، فتأخذ ما علقه وتقيده وتدخله في كتب الجغرافيا؛ ولذلك كان ذلك العلم عند الفرنساوية دائمًا يأخذ في الكمال.        

وبالجملة:
فهذه الجمعية هي التي تخدم سائر ما يتعلق بالجغرافيا، كطبع (الخرطات) ونحوها.

ومنها:
الجمعية "الغرماتيقية" يعني المشتغلة بنحو اللغة الفرنساوية فإن علم النحو يسمى في اللسان الفرنساوي "الأغرمير" وباللاطينية وبالإيطالية "أغرماتيقا" ووظيفة هذه الجمعية: الاشتغال بتصحيح اللغة وتجديد اصطلاحات، أو إبقاء الاصطلاحات القديمة؛ لأن اللسان الفرنساوي لسان غير قار القواعد كتابة وقراءة.

ومنها:
جمعية تسمى "جمعية المولعين بالكتب الخزائنية" ووظيفة أهل هذه الجمعية الحث على طباعة الكتب النافعة النادرة.

ومنها:
جمعية للخطاطين، وأهلها يشتغلون بإجادة الخط.

ومنها جمعية تسمى:
جمعية المغناطيسية الحيوانية، وهي جماعة تقول: بوجود سيال مغناطيسي في الحيوان.

ومنها:
جمعية "حفظة آثار القدماء"، وهي جمعية معدة لحفظ سائر ما يوجد من الآثار الباهرة عند القدماء؛ كبعض مبانيهم، ومومياهم، وملبسهم ونحو ذلك، والبحث عن ذلك؛ ليتوصل به إلى دراسة عوائدهم، ففي ذلك يوجد كثير من الأمور النفيسة المأخوذة من بلاد مصر، كالحجر المصور عليه فلك البروج المأخوذ من "دندرة" فإن الفرنساوية يتوصلون به إلى معرفة الفلك على مذهب قدماء أهل مصر، فإن مثل ذلك يأخذونه بغير شيء إلا أنهم يعرفون مقامه، فيحفظونه، ويستخرجون منه نتائج شتى، ومنافع عامة.

ومنها:
مكتبة تسمى "مكتبة الأطوال"، وأهلها اثنا عشر: ثلاثة مهندسون، وأربعة فلكيون، وأربعة بحرية، وواحد جغرافي، فيشتغلون بعلم الهيئة، وتأليف (الرزنامات) السنوية، وتحرير الزيجات،٢٠ وذكر أطوال البلاد.

ومنها:
الجمعية السلطانية في علوم الفلاحة، وتحرير توفير المصاريف البرانية والجوانية وأهل هذه علماء، أغنياؤهم يعطون الجائزة لمن يخترع شيئًا جديدًا نافعًا.

ومنها:
جمعية لتحسين الأصواف، ووظيفة أهلها مباشرة ما يتعلق بالغنم.

ومنها:
جمعية تعين على حث الفرنساوية على البراعة في الفنون والصنائع، وهي تعين الصنائع بسائر أنواعها على التقدم، فإذا اقترح إنسان شيئًا نافعًا أخذ من أهل هذه الجمعية تحفة عظيمة وشهرة.

وفي باريس مدارس سلطانية تسمى: "الكوليج"٢١ (بضم الكاف، وفتح اللام، وسكون الياء)
وهي مدارس يتعلم فيها الإنسان العلوم المهمة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة (كوليجات) يدرس فيها صناعة الإنشاء والتآليف، والألسن القديمة الغريبة، والعلوم الرياضيات، وعلم التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، وأصول الطبيعيات، يعني كتبها الصغيرة، وعلم الرسم، وعلم الخط وفيها مراتب للطلبة، فإن الإنسان يسلك فيها في العادة مرتبة كل سنة، ففي كل سنة من ست سنين يخرج الإنسان من مرتبة إلى أعلى، فهي بالترقي، لا بقوة الفهم ولا بغيره، فلا يمكن للإنسان أن يتعدى أبدًا (مرتبته).

وهناك (كوليجان) آخران غير سلطانيين، وفيهما يدرسان ما يوجد في (الكولجات) الخمسة السابقة، وفيها (كوليج) آخر يسمى (كوليج الفرنساوية السلطاني) وهو أعظم جميعها فيتعلم فيه الرياضيات، والطبيعة المخلوطة بالحساب، والطبيعة العملية، والهيئة، والطب، والتشريح العمليان، وفيه تعلم اللغات: العربية والفارسية، والتركية، والعبرانية، والسريانية، والهندسة، ولغة أهل الصين، وعلومهم، ولغة التتار، والحكمة اليونانية التي هي فلسفة اليونان، وعلم الفصاحة والبلاغة في اللسان اللاطيني، وعلوم بلاغة اللغة الفرنساوية، وهذا (الكوليج) يشتمل على أكابر المدرسين، وفيه ستة آلاف طالب.        

ومن أشهر المدارس:
مدرسة "بوليتقنيقا"٢٢ (بضم الباء وكسر اللام، وسكون الياء والقاف، وكسر التاء والنون، وسكون الباء) يعني مدرسة كليات العلوم، وفيه يدرس الرياضيات، والطبيعيات، لتربية مهندسين في علم الجغرافيا، وفي العسكرية، فمهندسو الجغرافيا يهندسون القناطر والأرصفة والطرق والجسور والخلجان، وكل آلات الحبل ورفع الأثقال، وأما مهندسو العلوم العسكرية، فهم يهندسون القلاع والحصون والبروج، والتوقي من ضرر الأعداء، واتخاذ العراضي، وهندسة تسييب البارود، وأرباب هذه المدرسة محققون، لهم باع في سائر العلوم، ويكفي في فضل الإنسان أن يكون من تلاميذها.

ومنها:
مكتب يسمي "مكتب الفروع الفقهية" فيدرسون فيه أحكام المعاملات والجنايات ونحوها.

ومنها:
مكتب موقوف على تعليم علم الرسم، فيدرس فيه الذكور والإناث علم التصوير.

ومنها:
مكتب الغناء السلطاني فيتعلم فيه أيضًا الذكور والإناث علم الألحان الصوتية والغناء الكنائسي.

ومنها:
مكتب موقوف أيضًا على الرسم والرياضيات، لتكون وسائل للفنون، فيتعلم فيه الحساب، والهندسة، والقياس، ونحاتة الحجر والخشب، وعلم المساحة، وتصوير البهيمة، والآدمي، والأزهار وأنواع الزينة.

ومنها:
مكتب القناطر والجسور: وفيه يتعلم هندسة الطرق والخلجان والأرصفة.

ومنها:
مكتب سلطاني لتعلم علم المعادن، وفيه يتعلم وسائط كشف المعادن واستخراجها.

ومنها:
مدرسة الفنون والحرف يتعلم فيهما علما الكيمياء والهندسة الداخلان في الحرف والفنون، وفيها يوجد سائر آلات الصنائع الموجودة إلى هذا العصر.

ومنها:
مكتب يسمى: مكتب اللغات المشرقية المستعملة، وفيه يتعلم الفارسي والماباري والعربية الأصلية والدارجة ولغة الترك والأرمن والروم.

ومنها:
مكتب يسمى "مكتب الأرليغولوغي"٢٣ (يفتح الهمزة وسكون الراء وكسر اللام، وسكون الياء، وضم الغين واللام وكسر الغين الأخيرة) يعني تفسير الكلمات المكتوبة من قديم الزمان في اللغات القديمة، فيفسرون فيه النقود والمعاملات المكتوبة في الأزمنة السالفة والأحجار المنقوشة، وترجمة الهياكل القديمة المكتوبة.

ومنها:
مكتب سلطاني يتعلم فيه تواريخ الدول وسياساتها ونحو ذلك.

ومنها:
مكتب سلطاني للموسيقى والإنشاء، والخطابة، وفيه يتعلم أهل اللعب والغناء والآلاتية، من الذكور والإناث، وأهل التعلم به أربعمائة نفس.

ومنها:
مدرسة بستان السلطان، التي هي بستان النباتات، وبها يقرأ ثلاثة عشر درسًا في جملة فروع؛ كعلم الحشائش، والطبيعيات، والكيميا، والمعادن، والتشريح، والمقابلة بين أجزاء بدن الآدمي والبهيمة.

ومنها:
مكتب يسمى "مكتب البستنجية"٢٤ وفيه يتعلم علم زراعة الشجر، وحفظه من البرد وتطبيع٢٥ النباتات الغريبة المنقولة على إقليم المحل الذي نقلته إليه.

ومنها:
مكتب تقليم الأشجار غير المثمرة لإخراج ثمرها.

ومنها:
مكتب تعليم النباتات والمعادن لمن يريد السفر في بلاد ليميز نباتها ومعدنها.

ومنها:
مكتب يسمي: "طب البهائم"،٢٦ وفيه يتعلم تطبيب البهائم، وفيه مارستانات للحيوانات المريضة، وفيه مدرسة كيميا، ومدرسة لعلم الطبيعة، وفيه العقاقير، وبستان حشائش، ومكتب للفلاحة العملية، وجملة أجناس من البهائم، معدة لتجربة اختلاف أصناف البهائم وأصولها، فيطلقون فيه صنفًا مثلاً من الخيل على صنف آخر، كحصان عربي على حجرة٢٧ أندلسية ليتولد منها صنف آخر.

ومنها:
مكتب الصم البكم، وهو موقوف على مائة نفس، ويدخلون فيه من إحدى عشرة إلى ست عشرة، فيتعلم فيه القراءة والكتابة، والحساب واللسان، والتاريخ، والجغرافيا، وصنعة من الصنائع، وفي هذا المكتب (ورشة) يتعلم فيها علم الطباخة، والنقاشة، والنجارة والخراطة والخياطة، (والصرماتية) ونحوها.

ومنها:
مكتب العميان السلطاني، وهو موقوف على جملة محصورة من العميان، فيتعلمون القراءة على شيء مكتوب لهم كتابة مخصوصة فيمسونها باليد، ويتعلمون أيضًا علم الجغرافيا، على خرطات مخصوصة أيضًا، ويتعلمون التاريخ واللغات، والرياضيات، والموسيقى بالصوت وبالآلة، وغير ذلك من الحرف كشغل الجرابات ونحوه، وغير ما ذكرناه يوجد أيضًا عدة مدارس.

ويوجد في "باريس" أيضًا مكاتب تسمى:
"البنسيونات" جمع "بنسيون" (بفتح الباء وسكون النون، وكسرالسين، وضم المثناة التحتية، وسكون الواو) وهي مكاتب يتعلم فيها الصغار الكتابة والقراءة وعلوم الآلات كالحساب، والهندسة، وغيرها، كالتاريخ، والجغرافيا، وهي نحو مائة وخمسين (بنسوينا) وفيها أكل الإنسان، وشربه، ونومه، وغسل ثيابه، ونحو ذلك، فيدفع أهالي الأولاد قدرًا معلومًا في السنة.

وغير البنسيونات المذكورة يوجد بيوت صاحبها عالم، فيأخذ عنده عدة أولاد، ليأكلوا معه، ويشربوا معه، ويعلمهم بنفسه، أو يحضر لهم معلمين عنده، وغير هذا كله فكثير من الناس يحضر لأولاده المعلم في البيت كل يوم ليعلمهم عهده.

ومن الأشياء التي يستفيد منها الإنسان كثير الفوائد الشاردة التذاكر اليومية المَسَّمَاة: "الجرنالات"،٢٨ جمع "جرنال" وهو يجمع اللغة الفرنساوية على "جرنو" وهي ورقات تطبع كل يوم، وتذكر كل ما وصل إليهم علمه في ذلك اليوم، وتنشر في المدينة وتباع لسائر الناس، وسائر أكابر "باريس" يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوي، وهذه "الجرنالات" مأذون فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها، وأن تستحسن وتستقبح ما تراه حسنًا أو قبيحًا، وأن تقول رأيها في تدبير الدولة، فلها حرية تامة، ما لم تضر بذلك، فإنه يحكم عليها وتطلب بين يدي القاضي.

"والجرنو" عصب، فكل جماعة لها في رأيها مذهب كل يوم تقويه وتحاميه، وتؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من "الجرنالات" أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس الذين لا يتحاشون الكذب إلا من حيث كونه عيبًا.

وبالجملة فكتاب "الجرنو" أسوأ حالاً من الشعراء عند تحاملهم أو محبتهم.

"والجرنالات" مختلفة الأنواع والأصناف، فمنها ما هو معد لذكر أخبار داخل مملكة الفرنسيس وخارجها، ومنها ما هو مخصوص بأمور المملكة فقط، وما هو للمعاملات وما هو للطب، ولكل علم على حدته؛ كعلم الطب إلى آخره.

والجرنال الواحد ينطبع منه غالبًا للبيع خمسة وعشرون ألف نسخة، وكل جرنال تكثر نسخه على حسب رغبة الناس، وأرباب "الجرنو" يعرفون الأخبار الغريبة قبل غيرهم؛ لأن لهم مراسلات مع سائر البلاد، وهم في الواقع كخطباء الأمة يتعرضون للمدح والذم، والاستحسان والاستقباح، والتحسين والتقبيح، والإغراء والتحذير، إلى غير ذلك، وقبلهم في ذلك المؤلفون، وربما اتخذ المؤلفون خطابات أرباب "الكازيطات"،٢٩ مادة لهم وأعلى درجة منهم أرباب الخطابات بالجمعيات العمومية الذين هم من أعضاء المجالس، وهم أعلى طبقة في الاعتبار من الشعراء.

فإذا نظرت وجدت هذا على نسق العرب في قديم الزمان، فقد قال أبو عمرو بن العلاء ما نصه: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب؛ لفرط حاجتهم إلى الشعر، الذي يقيد عليهم مآثرهم٣٠ ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم، ومن غزاهم، ويهيب٣١ من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابُهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبه ورحلوا إلى السوقة، وتشرعوا٣٢ إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر؛ ولذلك قال الأول: الشعر أدنى مروءة السري٣٣ وأسرى٣٤ مروءة الدنيّ، ولقد وضع٣٥ قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده إلا رفعة.

ومن جملة علوم "باريس" الدفاتر السنوية، والتقويمات الجديدة، والزيجات٣٦ المصححة، ونحو ذلك، فكل سنة يظهر فيها كثير من (الروزنامات) المشتملة على التواقيع وعلى غرائب العلوم والفنون، وعلى كثير من أمور الدولة، وعلى تسمية أكابر الدنيا، وتسمية أعيان فرنسا، وتعيين بيوتهم ودرجاتهم ووظائفهم، فإذا احتاج الإنسان إلى اسم واحد، وإلى بيته راجع في ذلك الكتاب.

وفي "باريس" (أوض) القراءة أو خلوات القراءة، فيذهب الإنسان فيها، ويدفع قدرًا معلومًا، ويقرأ سائر "الجرنالات" وغيرها من الكتب، ويستأجر منها ما يحتاجه من الكتب ويأخذه عنده ويرجعه.

ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية وخاناتهم، وتجارات الكتب، فإنها من التجارات الرائجة مع كثرتها وكثرة المطابع، وكثرة التآليف التي تنطبع كل سنة فإنها يعسر حصرها، وأغلبها المقصود منه الكسب لا النفع، ولا تمر سنة بمدينة "باريس" إلا ويخرج من المطبعة كتب معدومة النظير، واغتناؤهم بالمعارف هو أحسن ما ينبغي أن يمدحوا بهن.

قال الشاعر:
إذا شئت أن تحظى من الكتب كلها
بأطيب مروي وأحسن مسموع
فطالع مجاميع الدفاتر، إنها
تفرق من همِّ الفتى كل مجموع


وقال آخر:
اجعل جليسك دفترًا في نشْره
ليريك من حكم الزمان نشورا
ومفيد٣٧ آداب، ومؤنس وحشة
وإذا انفردت فصاحبًا وسميرا


وبالجملة فلا يمكن وصف مدينة "باريس" مع تفصيل علومها وفنونها، إلا أنه يمكن التعبير عن ذلك إجمالاً كما ذكرنا.
------------------------------
١  في الأصل (هذا).
٢  تورك: اعتمد.
٣  عين نجلاء: واسعة جميلة.
٤  الغِيل: الشجر الكثير الملتف، والغَيَل: جمع غيلة، وهي القتل خدعة.
٥  الكلل: جمع كلة، وهي الستر الرقيق.
٦  Arsenal la Bibliothéque.
٧  Mazarine.
٨  Bibliotheque de L’Institut.
٩  La Bibliotheque du Jardin des Plantes.
١٠  Bibliotheque de L’Academie Fançaise.
١١  يريد الطب البيطري: “Les musées”.
١٢  غشيمة أي: غفلا، خامًا.
١٣  l’Observatiere Royal.
١٤  Anémomètre.
١٥  الفنون الجميلة  Les Beaux Arts يريد بها.
١٦  يريد الأمثال.
١٧  Les Beaux Arts.
١٨  La Socièté philomathique.
١٩  La Société Asiatique.
٢٠  التقاويم.
٢١  Collége.
٢٢  L’Eçole polytechnique.
٢٣  L’Ecole de L’archéologie.
٢٤  البستنجية: البستانيين - يريد علم فلاحة البساتين.
٢٥  التطبيع: جعلها تتطبع بحالة الإقليم الجديد.
٢٦  يريد الطب البيطري.
٢٧  الحِجرة بكسر الحاء: الأنثى من الخيل.
٢٨  المصحف Jis Journaux.
٢٩  الكازيطات Gazettes هي الصحف.
٣٠  في الأصل: باثرهم - تحريف.
٣١  هيب إلى فلان: جعله مهيبًا عنده.
٣٢  يريد: اتخذوا إلى أعراض الناس طريقًا.
٣٣  السّريّ: صاحب الشرف والمروءة.
٣٤  أسرى: أشرف.
٣٥  وضع من فلان: حط من قدره.
٣٦  الزيجات: التقاويم.
٣٧  الأصل: "معيد" وهو تحريف.



المقالة الثالثة 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
المقالة الثالثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المقالة الأولى
» المقالة الثانية
» المقالة الرابعة
» المقالة الخامسة
» المقالة السادسة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: تخليـــــص الإبـريــــــز-
انتقل الى: