(65) شهامة اليابانيين في زمن الحرب الرُّوِسيَّة:
إننا نقرأ في كُتُبِ سيرة مَنْ تَقَدَّمَ من الشُّجْعَانِ وخطباء حَوْمَةِ الميدان في عصر الجاهلية كعنترة الفوارس، والحارث بن عبَّاد، وعمرو بن معد يكرب، والحارث بن ظالم وغيرهم، فيقفُ الفكر موقف المُندهش من تلك الشجاعة التي تُضرَبُ بها الأمثالُ من سائر الأجيال، وقد يُخَيَّلُ للقارئ أنَّ الزمن لا يسمحُ بوجود أناس كهؤلاء في النَّجدة والشَّجاعة وقوة البَأسِ، ولكنَّ الذي شاهد حالة اليابانيين أثناء حُروبهم مع الرُّوسيا يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة؛ إذ آلاف منهم يمثلون هؤلاء الشجعان في حماسهم وقوَّة بأسهم، ولم يقتصر الأمر فيهم على الرَّجَال، بل اشترك النساء معهم في هذه الفضيلة؛ إذ كان المَوْتُ عندهم في سبيل حُبِّ الوطن أشهى من الماء العذب في الهجير، وصوت المدافع لديهم ألذ في أسماعهم من رنَّات المثالث والمثاني وشَجْوِ الأغاني، والدِّمَاءُ المُتلطخة بها أجسامهم أبهى في نظرهم من الدِّيبَاج وفاخر الثياب.

لَمَّا دَارَتْ رُحَى هذه الحرب كانت محال الملاهي ومعاهد التمثيل في بلاد اليابان أندية، ويجتمع فيها الرجال والنساء من كل الطبقات، وتُلقَى فيها الخُطب الحماسيَّة وتُمثَّلُ الروايات التي تبعث في القوم رُوحَ الغيرة على الوطن إلى غير ذلك من الأناشيد الوطنية التي تُجرِي دمَّ الشجاع في العروق، وتُحَبِّبُ المَوْتَ إلى النفوس في سبيل الذوْدِ عن الوطن والمُحَامَاةِ عن الجامعة القومية، وكلما أُنْشِدت أنشودة أو مُثِّلَتْ رواية أو عُمِل أي مظهر من هذه المظاهر كان الحُضُورُ يصيحون بقولهم: “بنزاي بنزاي”، ومعنى هذه أن الحياة في المَوْتِ في سبيل الدفاع عن شرف الوطن.

ومِمَّا حدث في ذاك الوقت وتناقلته جَرَائِدُ العالم مُعجبَة بهمَّة وشجاعة اليابانيين أنه مُثِّلتْ رواية في أحَدِ المراسح وموضوعها أنَّ الرُّوسَ قبضوا على اثنين من اليابانيين وحكموا عليهما بالإعدام رميًا بالرَّصَاصِ، فلمَّا مُثِّلت هذه الرواية كانت إحدى النساء ضِمْنَ الحُضُور فأثَّرَ فيها المَنظر تأثيرًا عظيمًا وتخلل الحماس بين الدَّم واللحْمِ منها، وقالت على ملأ الحاضرين: لو كنتُ أستطيعُ الذهابَ إلى الحرب لكنتُ أشاركُ أبناءَ وطني في حَوْمَةِ الميدان، ولكن سأفعل ما ينيلني هذه الإرْبَةِ، ثُمَّ بعد انقضاء وقت التمثيل كُلَّفَتْ ولدها الوحيد البالغ من العمر نحو الخمس والعشرين سنة بأن يذهب إلى نظارة الحربية ويَتَطَوَّعَ في الجيش، فأجاب ابنها طلبها وتوجَّه إلى نظارة الحربية وقدَّمَ تطوعه فلم يُقبَل منه؛ لأنَّ قانون العسكرية عندهم لا يُجِيزُ قَبُولَ الوحيد في الجيش، سواء ذلك في زمن الحرب أو غيره فعاد إلى أمِّهِ كَاسِفَ البَالِ حزينًا وأخبرها بالأمر، فلم يكن منها إلَّا أنَّها أخذت بيده ودخلت غرفة في البيت وتناولت سكينًا، وقالت له: اذهب إلى الحرب؛ حيث لا أمَّ لك تكون وحيدها وبَقَرَت بطنها بالسِّكِّينِ، وهذه الحادثة وقَعَتْ في شهر أبريل سنة 1904، فهكذا تكون الوطنية وهكذا يكون حُبُّ الوطن.

وبمثل هذه المرأة فلْيَقْتدِ القواد والأبطال:
ولو كان النساء كمثل هذي
لفُضِّلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال


فليُقارن القارئ بين هذه المرأة وبين المرأة الرُّوسيَّة التي أرادت أن تظهر بمظهر المُدافع عن وطنه في نفس هذه الحرب، فكان فِعْلُهَا ينطبق عليه: “ليتها لا تزني ولا تتصدق”.

 وذلك أنَّ إحْدَى الفتيات الرُّوسيَّات لَمَّا بلغها خبر تدمير الأسطول الرُّوسي في بورت آرثر خلعت عذار الحياء والعفاف وأخذت تبيع عِرْضَهَا للفُسَّاق، فلمَّا عَلِمَ بها البوليس وقبض عليها قالت: إنِّي فعلتُ هذا لأجل أن أجمع شيئًا من المَالِ أُكْتَتبُ به ضِمْنَ المُكتتبين في إنشاءِ الأسطول.

ولَوْ أنَّهَا ماتت كَمَدًا ولم تفعل هذا الفعل الذَّمِيمَ لكانت حقيقة خَدَمَتْ الوطن خِدْمَةً تُذكَرُ فَتُشْكَرُ.

وإذا كانت شهامة نساء اليابان بلغت هذه الدرجة فكيف إذن تكون شهامة الرجال، لا شك أن الرجال يكونون في هذه المِزْيَةِ أقوى من النساء، وعليه نُورِدُ هنا ما وقع لاثنين قَبَضَ عليهما الرُّوسُ وحَكَموا عليهما بالإعدام رميًا بالرصاص، فكتب كلاهما خطابًا إلى أهله يُعَزِّيهِمْ فيه على فقده، أمَّا الأوَّلُ فَكَتَبَ إلى وَالِدِهِ، والثاني كَتَبَ إلى أولاده...

وهذا نَصُّ الخطاب الأوَّلِ بعد الدِّيبَاجَةِ:
إنك يا والدي العزيز قد أدَّبتني أحسن التأديب، وربَّيتني أفضل التربية، واعتنيت بي كُلَّ الاعتناء منذ ظهوري في هذا الوجود إلى هذه اللحظة التي أنا أخاطبك فيها، ومع اعترافي لك بهذا الفضل الذي لا يُقاوم بشُكران، وإنْ بذلت فيه جهد استطاعتي، فلا أزال واقفًا عند حَدِّ العَجْزِ والتقصير، بل كلما تَقَدَّمْتُ أنا في العُمْرِ وأنت في الشيخوخة زِدْتُ في التقصير، ولم أكافئك على حُسْنِ عنايتك بي؛ لأنك كلما ألمَّ بي شيءٌ من نُوَب الزمن تشعر بمثل ما أشعر به من الألم ويقعُ بقلبك أسوأ وقع، فأنا دائمًا سبب تعبك وإقلاق خاطرك، فاغفر لي يا والدي هذا التقصير واجعله منةً لاحقة بمننك السَّابقة، وإني الآن يا والدي لا أجد وسيلة توصلني إلى رضاك عني سوى هذا الموقف الذي أنا واقف فيه الآن، أنت تعلم يا والدي أني ذهبت إلى منشوريا لأؤدي واجبًا نحو وطني وإمبراطوري المُعظَّم وأداء هذا الواجب هو الفخر الباقي مدى الأعصار، فاعلم يا أبت أني اليوم واقف موقف الإعدام أسيرًا لدى الرُّوسِ، وفُوَّهات البنادق مُصوَّبة نحوي، وإني ليسرني كثيرًا أن أموت وأنا قائم بمهمتي التي انتدبني إليها وطني وإني أيضًا أشعر بل أوقن أن هذا الموقف يسرُّك أكثر؛ إذ ترى لك نجلًا لابسًا حُلة أرجوانية من الدماء هي حلة الشرف الذي ألبسنيها وطني المحبوب، كما لا أشك في أنك تقول مفتخرًا إن لي ابنًا يموت موت الأشراف في سبيل الدفاع عن كرامة وطنه وإمبراطوره الجليل، وهذا هو أكبر مُعزٍّ لك على فقدي كما أنه أعظم تسلية لي على تقصيري في خدمتك جزاء عنايتك بي وحجتك إياي فإذا تصورتني بعد هذا الحين فتصورني وأنا في أسمى درجات الفخار.

وهذا هو الخطاب الثاني بعد الديباجة:
اعلموا يا أبنائي الأعزاء أني لم أحتمل ألمَ فراقِكم ولم أذهب إلى منشوريا إلَّا لأجل أن أدافع عن الوطن وأفديه بنفسي، وامتثالًا لأمر إمبراطورنا المُعظَّم، ولكني آسف كُلَّ الأسف؛ إذ لم أتمكن من إتمام واجبي؛ لأني أُسِرْت ووقفتُ موقف الإعدام وجنود الرُّوس محيطة بي، ولكني لم أحفل بهم وببنادقهم المُصوَّبة نحوي، بل أنا ثابت الجأش لم يتزعزع لي قدم ولم يرتعد مني عضو، وكنت أود أن أعود إليكم بعد أن أتمِّم واجبي مُكُلَّلًا بأكاليل النصر ولكن حال القدر دون ما أريد فلا يحزنكم موتي بعيدًا عنكم؛ لأن أباكم مات ميتة الفخر والمجد، فافخروا بأبيكم الذي قُضي عليه وهو يحامي عن أوطانه واتخذوه قدوةً لكم ولا تهملوا في دروسكم وبروا بوالدتكم وأقاربكم، واعملوا بما فيه خيركم وخير الوطن ورضاء إمبراطورنا المحبوب.

فإذا كان هذا مبلغ ما وصل إليه اليابانيون في حُبِّ الوطن العزيز فنِعْمَ القومُ، ونِعْمَتِ وطنيتهم.

أما الأمر الذي كان يأسف عليه هذان الرجلان هو أنهما كانا يَوَدَّانِ من صميم فؤادهما أنْ يعيشا وينظرا الرُّوسَ مدحورين في ساحة الوغى ويعودان إلى بلادهما حاملين راية الانتصار، وأن يقفا أمام إمبراطورهما مُهنِّئينَ إياهُ بالفوز المُبين.

وهذان الخطابان تناقلتْهما أغْلَبُ الصُّحُفِ إعجابًا بشهامة اليابانيين:
ذي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ من تعالى
هكذا هكذا وإلا فلا لا