(59) الجلسة الأولى من المؤتمر:
لَمّا وصل الوفود المنتدَبون من قِبَلِ الدُّوَلِ إلى عاصمة اليابان صدر أمر الميكادو بانعقاد المؤتمر، وكان الحاضرون فيه من الأعضاء وغيرهم يبلغ نحو المائة والعشرين رجلًا من أكابر رجال الدولة اليابانية بين عالم فيلسوف، ووزير خطير، وعالم اجتماعي، وعظيم سياسي، وغير هؤلاء مِمَّنْ لهم دراية تأمَّة بسائر العلوم والفنون، وكانت الجلسة تحت رئاسة الميكادو نفسه.

وأوَّلُ ما فُتِحت الجلسة عُرِضت على الحضور القاعدة الأساسية لهذا المؤتمر، وهي أن الغرض من هذا المؤتمر هو البحث في أصول كُلِّ دين ومذهب يريد أهله أن يعتنقه اليابانيون على شرط أن تكون كُلُّ الأدلة التي يُؤتَى بها على صحة كلِ دين مطابقة للعقل، وإلَّا فلا حاجة إلى البحث فيه.

وبعد ذلك قام أحد الأعضاء المنتدَبين من قِبل دولتنا العليَّة، وقال ما معناه: أمَّا ما يرمي إليه المؤتمر من أن الواجب على أهل كُلِّ دين ومذهب أن يبيِّنوا قواعد دينهم، ومذهبهم بالأدلة والبراهين المطابقة للعقل، فأقول إني كفيل بأنَّ كُلَّ برهان ودليل أقيمه على صحة الدِّين الإسلامي لا يخرج عن دائرة المعقولات سواء ذلك في الأمور الكلية والجزئية من أمور دين الإسلام؛ إذ الشارع لم يضع قواعد الدِّين عبثًا، بل لابُدَّ هناك من حكمة بالغة يريدها بالأوامر والنواهي وكل أنواع المعاملات والعبادات، وإني زعيمٌ أيضًا بأنْ أجيبَ عن كُلِّ اعتراض أو سُؤال في شُبهة ربما تَعْرِض لأحَدٍ، بشرط أن يكون السؤال أو الاعتراض في الأمور المتعلِّقة بجوهر الدِّين.
•••
وعلى أثر قوله هذا قام الكونت “هيجيكان” وقال ما معناه: حيث إن جناب المندوب العثُمَّاني قال ما هو المقصود من عقد هذا المؤتمر واشترط على نفسه أن يأتي بالأدلة والبراهين على صحة دين الإسلام، وكذلك اشتراطه بأن يُجِيبَ على الاعتراضات والأسئلة فيما لو عُرضت شُبْهة من الشُّبَهِ بما يُطابق العقل فما عليه الآن إلَّا أن يبدأ فيما تكفَّل به واشْتَرَطه على نفسه، ثُمَّ جلس.

وقام بعده المندوب العثُمَّاني وقال ما مُلخصه من الخطبة التي ألقاها باللغة الفرنسوية: اقتضت حكمة الله تعالى أيها الأفاضل أنه عندما يرسل الرُّسُلَ إلى الأمم التي تعبد ما سواه أنه يرسلهم بتعاليم ومعجزات مناسبة لأحوال وأطوار هذه الأمم لتكون الحُجَّة أبلغ والبرهان أقوى؛ ولذلك إذا اطلعنا على سيرة كُلِّ نبيٍّ وعلى كُلِّ ما أيَّدَهُ به اللهُ من المُعجزات نجد أن شريعة سيدنا عيسى -عليه السلام- ومعجزاته خِلاف شريعة سيدنا موسى ومعجزاته وهلم جرًّا.

وما ذلك إلَّا لأنَّ أمَّة كُلِّ نبي تغاير الأخرى في المعتقدات والعوائد كما تقدَّم، ولأجل بيان هذا الإجمال أقول: لَمَّا أرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى إلى فرعون وهو أحَدُ ملوك الفراعنة الذين حكموا مِصْرَ كان هذا الطاغية قد زاد في طغيانه إلى أن ادَّعى الرُّبوبيَّة في الأرض وطمحت به نفسه إلى أن يصعد إلى أسباب السماء، وبلغت به درجة الكفر إلى أن قال للمصريين: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"، كما حكى اللهُ ذلك عنه، وبلغت به درجة الغرور بالمُلك إلى أن قال: "أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي"، فلمَّا جاء موسى -عليه السلام- يدعوه إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، كبر عليه الأمر فلم يؤمن فأيَّد اللهُ نبيه ورسوله موسى بالمُعجزات وهي الأمور الخارقة للعادة وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، فمن هذه الآيات والمعجزات إرساله تعالى القمل والضفادع التي ملأت بقاع الأرض ومنازل القوم، حتى ضاقوا بها ذرعًا، ولم يقدر إلاههم فرعون على وقاية نفسه ووقايتهم منها، وكذلك صيرورة ماء البحر والآبار إلى دماء، حتى كادوا يهلكون عطشًا، وكل ذلك لأجل أن يُظهِر الله سبحانه وتعالى لفرعون وجنوده أنهم ضعفاء لا يملكون من الأمر شيئًا وأن فرعون لو كان إلاهًا حقيقة لَمَا عجز عن دفع هذه المصائب التي حَلَّتْ به وبقومه.

ولَمَّا كان السحر في ذلك العصر فاشيًا، وكان العلماء بارعين قالوا: إن موسى ساحر فحاجَّهم موسى وطلب منهم المناظرة يبرهن لهم أنه نبيٌ مُرسلٌ لا ساحر، فأمر فرعون بعقد مؤتمر يحضره كُلُّ السَّحرة الماهرين في علم السِّحر، وفعلًا أرسل في المدائن حاشرين أن ائتوني بكل ساحرٍ عليم، وكان موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فلما جاء اليوم الموعود وحضر السحرة وكان أغلبهم من مدينة “عين شمس” بمصر، أمرهم فرعون بأن يعملوا عملهم، فألقوا سحرهم وهو عصي وحبال كانت معهم فصارت أفاعي ملأت الأرض، حتى صار المنظر مريعًا من تلك الحيَّات، فأوحى الله -سبحانه وتعالى- إلى نبيه موسى بأن يُلقي العصا فألقاها فإذا هي ثعبانٌ التقف كُلَّ الحيَّات التي ألقاها السَّحرة ففزع فرعون وجنوده، أمّضا السَّحرة فإنهم اعتقدوا أن فعل موسى خارج عن طاقة كُلِّ ساحر، وأنه لابُدَّ وأن يكون نبيًّا صادقًا فآمنوا به، وصَدَّقُوهُ، وخرُّوا لله ساجدين، وقالوا آمنا برب موسى وهارون.

ولكن فرعون مع وضوح الدليل على عجز السحرة أخذته العزة بالإثُمَّ، فلم يؤمن وقال للسحرة إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل؛ إذ آمنتم به قبل أن آذن لكم، فلم يرجعوا عن اعتقادهم في صدق نبوة موسى وصبروا على أذى فرعون لمَّا تبيَّنَ لهم من الدليل القاطع والحُجَّة الدَّامغة؛ إذ العقل لا يقبل أن يعتقد أنَّ ما فعله موسى من قبيل السحر؛ حيث أفرغ السحرة جهدهم في إلقاء السحر، حتى لم يبقَ باب لديهم إلَّا طرقوه، ولما لم يجد فرعون من طريقة بها يدحض حجة موسى اعتمد على قوته فأمر الله سيدنا موسى أن يرحل من أرض مصر هو وقومه الذين آمنوا معه من بني إسرائيل فرحل فتبعه فرعون، حتى إذا قارب اللحوق به على ساحل البحر الأحمر أمَرَ اللهُ موسى أن يضرب بعصاه البحر فضربه فانفلق ومرَّ به موسى وقومه فاتَّبعهم فرعون وقومه، وبعد ذلك نجا موسى ومَنْ معه أمَّا فرعون فإنه أدركه الغرق هو وقومه، ولَمَّا أحَسَّ فرعونُ بالهلاك قال: "إني آمنت أنه لا إله إلَّا الذي آمنت به بنو إسرائيل"، فلم يُقْبَلُ منه هذا الإيمان؛ لأنه لولا خوفه من الغرق لم يَقُلْ هذه الجُملة، ولو كان مؤمنًا حقًّا لكان صدَّق موسى من قبلُ لَمَّا أتاه بالآيات الأخرى السابقة.

وكذلك فعل موسى مع بني إسرائيل بعد هذه الحادثة من المعجزات التي يقبلها العقل والتي هي مناسبة لحالة قومه، فإنهم ارتدوا بعد الإيمان وأخذوا ينتقلون من حالة الكفر إلى حالة الإيمان، وكان موسى يظهر لهم من الآيات ما ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله.

ومثال ذلك أنه لما استسقاه قومه قال الله له: اضرب بعصاك الحجر فضرب فانفلق منه اثنتا عشرة عينا تجري منها المياه، هذه أيها الأفاضل سيرة موسى -عليه السلام- مع فرعون والذين اتبعوه، فترون منها أن الدلائل والمعجزات التي أتى بها كانت مطابقة لحالة القوم في ذلك العصر.         

ولَمَّا أرسل اللهُ -سبحانه وتعالى- عيسى بن مريم -عليه السلام- كان فَنُّ الطبِّ في ذلك العصر راقيًا جدًّا، فأيَّدَهُ اللهُ بالمعجزات التي يعجز عنها أكابر الأطباء فكان يُبْرِئ الأكمة، والأبرص، والأعمى بإذن الله تعالى، وكذلك كان يُحيي الموتى بإذن الله تعالى، وهكذا كان إرسال الرُّسُلِ -عليهم الصلاة والسلام- إلى الأمم السابقة.

ولَمَّا أرسل اللهُ تعالى نبينا مُحَمَّدًا -عليه الصلاة والسلام- أيَّدَهُ بمعجزات باهرات، وآياتٍ بيِّنًاتٍ، وأكبر هذه الآيات وأوضح هذه البراهين الدَّالة على صدقه هو القرآن الذي تحدَّى به فصحاء العرب؛ لأنهم كانوا في ذلك العصر على جانب عظيم من الفصاحة والبلاغة، فلَمَّا عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن قالوا: إنه قول شاعر، فقال لهم: إن كان هذا قول شاعر وفيكم مَن ْيقول الشعر فأتوا بسورةٍ من مثله، أو أي آية من آياته فعجزوا جميعًا.

وكذلك كانت المعجزة في نفس النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ كان أفصحُ العرب لسانًا وأوضحهم بيانًا مع كونه أمِّيًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فجاءهم بالشريعة الإسلامية وقرَّر قواعدها وبيَّن أحوالها، وكان يُعَلِّمُ العربَ من أمور الدِّين ما لم يقدر أن يأتي بمثله أكبر العلماء المشترعين من يوم أن خلق اللهُ العالمَ إلى يومنا هذا.

فكون هذه المعجزات وهذه الآيات وهذا الدِّين الذي سأبَيُّنُ لكم قواعده يأتي بهما رَجُلٌ أمِّيٌّ لم يعرف القراءة ولا الكتابة، مع ما كان عليه العرب من الفصاحة والبلاغة لدليلٌ على أنه النبي الصادق وأن دينه هو الدِّين الصحيح الذي يقبله العقل كُلَّ القبول، كُلُّ ما تقدم يا حضرات الأفاضل أتيتُ به استدلالًا على أنَّ صاحب الشريعة الإسلامية وهو سيدنا مُحَمَّدٍ بن عبد الله نبيٌ حقًّا ورسولٌ صدقًا.

جاءنا هذا النبيُّ -عليه السلام- بأصل هذا الدِّين وهو الشهادة بأن الله واحد في ذاته وفي صفاته، لا شريك له في مُلكه وأنه قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وأنه ليس له شكل مخصوص محسوس بحاسة البصر حتى يحويه مكان، بل هو بخلاف كُلِّ ما يتصوره الذهن وأنه لم يلد ولم يولد.

أمَّا كونه واحدًا في ذاته وفي صفاته فهذه قضية مقبولة عقلًا؛ لأنه لو كان في هذا الكون آلهة مُتعددة لفسدت الأرض؛ لأنه لو فُرِض ذلك لحصل الخُلْف فيما بينهم، والقاعدة المعروفة عقلًا أن تعدُّد الرؤساء في مصلحة واحدة مخلٌّ بها، مفسدٌّ لها؛ إذ ربما تكون إرادة هذا الإله اقتضت أن يخلق خلقًا لم يرد خلقه الإله الآخر، ولا يخفى ما في هذا من المنازعات وتضارب السلطات، وهذه أيضًا يتناول الشركة إذ لو كان للإله شريك لفسدت الحال أيضًا؛ لأنه لو أراد مثلًا أحد الشريكين أن يجعل المحيط الهندي أرضًا يابسة، والثاني اقتضت رغبته أن يبقى على ما هو عليه لوقع الخلاف بينهما، وعلى هذا إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإن اتفقا فلابُدَّ من وقوع أحد أمرين: إما جعل البحر يابسًا، وإما بقاؤه على ما هو عليه، وعلى كلا الأمرين فالذي ينفِّذ مرغوبه دون الآخر يوصف بالقدرة ويوصف الآخر بالضعف؛ لأن العدول عن رغبته إلى إنفاذ رغبة الآخر يُعد نقصًا في قدرة الثاني، وهذا لا يجوز في حقِّ الإله، وإن اختلفا فلابُدَّ من غلبة أحدهما وهو أيضًا داخل فيما تقدَّم من وصف أحدهما بالعجز والضعف أمام الآخر القوي، وهذا لا يجوز أيضًا في حقِّ الإله.

فَنَتَجَ من هذا كله أن الإله لابُدَّ وأن يكون واحدًا، وأنه لو كان له شركاء لخرب الكون ولم يدُمْ يومًا واحدًا عامرًا.

وأمَّا استحالة كونه مُعينًا محسوسًا بحاسة البصر فهذا أيضًا لا يقبله العقل؛ لأنه إذا كان كذلك يكون قد تحيَّزته الجهة، ومتى تحيَّزته جهة مخصوصة تكون قد خلت منه باقي الجهات الأخرى، وهذا ينافي العلم بكل شيء في الوجود؛ إذ يكون علمه منحصرًا في الجهة التي هو فيها وهذا لا يكون من شأن الإله الذي لا يخفى عليه شيءٌ في السماء أو الأرض، ورُبَّ قائل يقول: قد يجوز أن يكون له علم بكُلِّ شيء في الجهات التي لم يكن موجودًا فيها، فردًّا على هذه الدَّعوى نقول: وما هو الدَّاعي إذن لوجوده في جهة مخصوصة دون الأخرى مع أن الكون كله مِلْكٌ له يتصرَّف فيه كيف يشاء؟

وإن قيل إنه ينتقل من مكان إلى آخر نقول أيضًا: وما هو الدَّاعي لهذا التنقل وهذه الحركة؟ إن كان لأجل تعهد الخلق فهذا أيضًا باطل؛ لأن التنقل وتعهد الخلق يقضي بأنه عاجز عن تعهد خلقه في وقت واحد، وهذا أيضًا من دلائل استحالة وصف الإله بالقدرة، وأمَّا استحالة كونه والدًا أو مولودًا، فهذا لأنه لو كان كذلك لكان مثل الحوادث...

وعلى هذا يَرِد الاعتراض الآتي:
إذا كان الإله والدًا فهو يقضي بأنه كان مولودًا قبل أن يكون والدًا وبصرف النظر عن هذا الاعتراض، فإنه إن كان والدًا يكون شبيهًا بخلقه ومتى كان الإله شبيهًا بخلقه بطل كونه إلهًا لما يقتضيه معنى التنزيه عن التشبيه بالمخلوقات شأن الإله الحقيقي...

وإذا كان مولودًا يَرِد أيضًا الاعتراض الآتي:
إذا كان الأمر كذلك ووالده إله قبله فهذا يقضي بالدور والتسلسل؛ إذ هو يقضي بأن والد الإله إذن كان مولودًا لوالد آخر، وهذا الوالد يكون إلهًا أيضًا وهلم جرًّا، وهذا لا يقبله العقل البتة.

فنتج من كُلِّ هذا أن الإله لابُدَّ وأن يكون واحدًا في ذاته وصفاته، وأنه لا مكان له يحويه، وأنه لم يكن والدًا ولا مولودًا.
•••
هذا هو ملخص الخطبة التي ألقاها المندوب العثُمَّاني، ولولا خشية الإطالة لذكرتها حَرْفِيًّا، ولَمَّا تلا حضرته الخطبة كان الكُلُّ ملقيًا إليه سمعه مُصغيًا إلى ما يقوله، وفي أثناء ذلك كانت علامات الدَّهشة، والاستغراب، والإعجاب به ظاهرة من ملاحظات العيون؛ إذ كُلُّ واحد كان يلقي بلحظاته إلى الآخرين، شأن المندهش المستغرب، ولكن هيبة الموقف جعلت القوم كأن على رءوسهم الطير.
•••
وبعد ذلك قام أحد المندوبين الأمريكان وقال ما معناه بالاختصار: قام حضرة المندوب المُسْلِم وقال في ضمن كلامه: إنَّ موسى ضرب البحر فانفلق… إلخ، وضرب موسى البحر بالعصا وانشقاقه له هذا أمْرٌ غير مُسلَّمٌ؛ لأن البحر لا يُشَق لإنسان مهما كانت درجته، وإنما كون موسى وقومه اجتازوا البحر ونجوا وفرعون اجتازه فغرق، فهذا كما ورد في التاريخ المُعوَّلُ عليه أن البحر كان في حالة المد والجزر، واجتياز كلٍّ منهما كان في حالة الجزر ولكنهما لَمَّا توسطا في البحر حصل المَدُّ فغرق فرعون وقومه، وموسى نجا من الغرق هو وقومه؛ لأنه لم يدركه المَدُّ، وزيادةً على ذلك كان متقدِّمًا أمام فرعون، ومكث المندوب الأمريكاني يتكلم بنحو هذا الكلام...

ولَمَّا انتهى من سفسطته قام المندوب العثُمَّاني مُفَنِّدًا أقواله بما معناه بالاختصار:
ليس للمعترض وجه في الاعتراض لأني قلت أولًا إن انفلاق البحر لسيدنا موسى هو مُعجزة، ولا شَكَّ أن المُعجزة أمر خارق للعادة المألوفة، وذلك أن موسى لَمَّا ألقى العصا وصارت ثعبانًا والتقفت كُلَّ ما فعله السَّحرة لم يُصدِّقوه، وقالوا إن هذا أيضًا من قبيل السِّحر فأمرهُ اللهُ بالمسير نحو البحر وضربه بالعصا؛ ليظهر لهم معجزة أقوى من الأولى، وأيضًا قد كان أخبر سيدنا موسى قومه بأنه ستظهر معجزة أخرى على يديه والمُرادُ بها انفلاق البحر.

وعلى فرض أنه حصل مد وجزر في البحر، فبحر مثل البحر الأحمر مهما كانت درجة الجزر فيه فلا يمكن لأيِّ أحَدٍ أن يَمُرَّ منه لبُعد عُمْقِهِ، اللهم إلَّا إذا كان سباحة، ولو كان سباحة فغير ممكن ذلك أيضًا؛ لأنه كان فيمن معه النساء، والأطفال، والأمتعة، والجمال، والدواب، فمن المحال أنْ يَمُرَّ الكُلُّ سالمين.

وبصرف النظر عن هذا وهذا، فلماذا حصل المَدُّ والجزرُ في هذا اليوم المخصوص والساعة والدقيقة المخصوصتين؟

لا شك أن الجواب عن هذا معروف بالبداهة لدى كُلِّ ذي مُسكة من العقل.

ولَمَّا انتهى المندوب العثُمَّاني من رِدِّ الاعتراضات أبدى كُلُّ الحضور استحسانهم لِمَا ألقاهُ، وأُعجِبوا به كثيرًا.

أمَّا المُعترض فإنه صار كأنه أُلْجِمَ بلجام من حديد؛ حيث لم يجد في كلام المندوب وجهًا للاعتراض مَرَّةً ثانية، وبعد ذلك قام المندوب الثاني الأمريكاني وتكُلَّم في أصول الديانة المسيحية، ثُمَّ تبعه آخر إيطالي، فآخر ألماني والكُلُّ كانوا متفقين في الموضوع الذي تكلموا فيه، ولولا أن المقام لا يسمح بِسَرْدِ ما قالوه تفصيلًا لكنتُ أتيتُ به كذلك، ولكني أُرجِئ هذا إلى الجزء الثاني من هذه الرِّحلة؛ إذ الغرضُ الوحيدُ أنْ أذكرَ أعمال الجلسات مُلخَّصة تلخيصًا، نظرًا لتشوُّق القُرَّاءِ إلى الإحاطة بها إجمالًا بَادِئَ بِدْءٍ.
•••
هذا الذي ذَكَرْتُهُ هو خُلاصة ما دار البحث فيه في الجلسة الأولى من المؤتمر، وبعد أن انتهى المندوبون من مباحثاتهم انفضَّت الجلسة بعد أن حُدِّدَ لها ميعاد بعد يومين من تاريخ انعقاد الجلسة الأولى.

هذا، وقد صارت خطبة المندوب العثُمَّاني حديث القوم في النوادي العمومية والخصوصية، وبلغ إعجابُ القوم بها أيُّمَا مبلغ مُعجبين بما أثبته فيها من المباحث التاريخية الدقيقة.

وبينما القومُ في فرح وسرور؛ إذ كان المُرسلون المسيحيون في كَدَرٍ زَائِدٍ؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن اليابانيين يحفلون بالدِّيَانَةِ الإسلامية لِحَدِّ هذا القَدْرِ، ولكنَّ الحقَّ غالبٌ على أمره مهما حاول إبطاله المُبطلون.