(58) الأعضاء المندوبون في المؤتمر:
لَمَّا حضر الأعضاء المندوبون من قِبَلِ دُوَلِهِمْ لحضور المؤتمر على حسب رغبة الميكادو الذي أصدر أمره الرسمي بانعقاده، استُقبلوا أحسن استقبال وأعِدَّ لهم محال للسُّكنى لائقة بكرامتهم وكرأمَّة الدول المُرسِلة لهم، وأعِدَّ لهم كُلَّ ما يلزم لكُلِّ وفد إلَّا الأطعمة فإنها لم تكن على مصاريف الحكومة اليابانية كغيره، والسبب في هذا ليس البُخل أو الاقتصاد ولكن لعدم معرفة ما يوافق كُلَّ وَفْد من أنواع المآكل؛ فلذلك جعلوا لهم حرية اختيار الأطعمة.

ولم يكد يستقر قدم هؤلاء الوفود، حتى حدثت ضَجَّة كبرى بين المُبشرين المسيحيين واضطربت أفكارهم أيُّمَا اضطراب، سواء في ذلك الكاثوليك منهم والأرثوذكس، والبروتستنت، وقد اجتمع بعض أعضاء هذه الوفود من غير المُسْلِمين بالمبشرين وسألوهم عن نتيجة أعمالهم من التبشير، وأخذوا فكرهم من جهة الدِّين الذي يميل إليه اليابانيون أكثر من سواه من الأديان الأخرى.

فأجابهم المبشرون بما معناه:
إننا لا يُمكننا أن نجزم جزمًا حقيقيًّا، أو نرى رأيًا صائبًا من خصوص الدِّين الذي هو أكثر موافقة لليابانيين، وذلك أن منهم مَنْ اعتنق الدِّين المسيحي، وبعد أن أوضحنا لهم قواعده وتعاليمه وعنينا في ذلك ما عانيناه من المشاق رأيناهم رفضوا كُلَّ ما أُلْقِي إليهم رفضًا تامًّا، ولم نعلم السبب الذي ألجأهم إلى هذا الرفض حتى كنا نجتهد في إزالة ما علق بأذهانهم.

ومنهم مَنْ دخل في الدِّيانة المسيحية ومكث مُدَّةً يتعبَّدُ، ثُمَّ خالفها واتبع شريعة “كونفوشيوس” ويدَّعون أن هذه الشريعة من مبادئها أن تؤلِّف بين القلوب على أننا إذا تصفحنا تعاليمها تجدها كلها خُرَافَاتٍ، وأوهام باطلة، واعتقادات فاسدة، ومهما كان فلابُدَّ من وجود سبب دعاهم إلى مخالفة الدِّين المسيحي بعد أن اعتنقوه.

ولو كان رفضهم مبنيًّا على أن الدِّينَ المَسِيحِيَّ غيرَ مُؤَلِّفٍ بين القلوب، فهذه أيضًا دَعْوَى منقوضة؛ لأن الدِّين المسيحي الذي يأمر بالإحسان إلى المُسيء والصَّفح عنه لا يصح أنْ يُقال فيه إنه غير مؤلِّف بين القلوب.

وإذا كانت دعواهم أنه غير مُوافق للعقل فكان الواجب عليهم أن يُعرِبوا عن ما في ضمائرهم من وجوه النقد والاعتراض الدَّال على صدق دعواهم، وبصرف النظر عن هذا كله فإننا نجد الذين يدينون بهذه الشريعة على تمام الوفاق والاتحاد مع مَنْ اعتنقوا الدِّين المسيحي، وقد يجوز بل هو الأقرب إلى الصواب أن هذا التآلف والتوافق الموجود بين الطائفتين ناتج عن محبَّة الوطن الذي هم فيه سواسية على اختلاف المُعتقدات، وناهيك بتفاني اليابانيين في محبَّة وطنهم.         

وإننا في حالة ذهول، واندهاش، وحيرة عظمى:
أولًا: من عدم ثبات اليابانيين على حالة واحدة من جهة الدِّين الذي يعتنقونه.

ثانيًا: من جهة الأتعاب والمشقات التي نعانيها في كُلِّ آن في سبيل إرشادهم إلى الدِّين المسيحي.

ثالثًا: على كثرة المصاريف التي نصرفها في هذا السَّبيل، وليست هذه المصاريف قاصرة على ما نحتاجه من مآكل ومشارب وملبس ومسكن، بل إننا نساعد الفقراء منهم الذين يدخلون في الدِّين المسيحي.

ومن المصائب أننا بعد أن نساعدهم ونصرف عليهم المصاريف الفادحة يتركون الدِّيَانَة المسيحية.

وبِمَا أنَّ حرية الأديان في اليابان مستوفية كُلَّ ما لها من شروط الحرية، ولم نفلح نحن مع مُكثنا هذه المُدَّةَ الطويلة، فكيف بنا لو كانت هذه الحرية مفقودة؟!

والأغرب من هذا كله أنَّ كثيرًا من الذين اعتنينا بتربيتهم من أبناء اليابانيين وأدخلناهم في مدارسنا، وصرفنا عليهم المبالغ الطائلة من وجوه كثيرة غير المأكل والمشرب يخالفوننا تمام المُخالفة، وهم ليسوا بالعدد القليل بل يُعَدُّونَ بالآلاف وبذلك تكون المصيبة مضاعفة مصيبة ارتدادهم عن الدِّين، ومصيبة المصاريف الكثيرة، ومصيبة تعبنا الذي ذهب أدراج الرياح، فنحن الآن في حيرة ما بعدها حيرة.

فلَمَّا سمع الوفود من المبشرين هذه الأقوال وعرفوا ما لقوه من الشدائد مع عقم النتيجة صاروا في حيرة من أمرهم، واعترتهم الدهشة وقالوا: إذا كان هؤلاء مكثوا مُدَّةً طويلة، وصرفوا مبالغ طائلة، وفتحوا مدارس عديدة، وللآن لم يحصلوا على ثُمَّرة أتعابهم، فكيف بنا ونحن حديثو العهد بالقدوم إلى اليابان؟

فأجابهم المُبشرون بما مَفَادُهُ:
إنكم لا تدعوا القنوط يأخذ منكم مأخذه وداوموا على الثبات في جلسات المؤتمر، ولا تضجروا، ولا تتخذوا ما لقيناه من المتاعب والمصاعب باعثًا على إحجامكم، فإنكم ستحضرون المؤتمر الذي يُؤلَّف من أعيان وأشراف القوم، وربما اختاروا جميعهم ديننا واستحسنوه فاعتنقوه، وإذا كان هذا فإنَّ أهل الطبقة الوسطى منهم يتبعونهم وبالطبع يتبعهم الفقراء؛ لأنهم إذا رأوا الأكابر منهم والعقلاء فيهم فعلوا أمرًا فهُمْ تابعون لهم، وحسْبُكم أن يكون لكم حزبٌ من الأعيان الذين يدينون بالدِّين المسيحي، فإن هذا من أقوى الأسباب التي تكُلِّل مسعاكم بالنجاح؛ حيث تكونون قد خدمتم دينكم ودُوَلكم التي اختارتكم لهذه المُهِمَّة، فلم يقع قول المُبشرين هذا لديهم موقع القبول والاستحسان وقالوا لهم: إذن أنتم الآن لا تعرفون كيف تُستمَال قلوب عقلاء الأمَّة وأمرائها، مع أنكم مكثتم هنا السِّنينَ العديدة، ولم يكن في وسعكم أن تستميلوا قلوب البُسطاء الذين لا قدرة لهم على المجادلة في أي مسألة دينية، ومن هذا يُستدَل أيضًا على أنكم جاهلون تمام الجهل بسياسة التبشير وجذب القلوب إليكم.

هذا، والذي أراه ويراه كُلُّ عاقل منصف أن المُبشرين لم يدَّخروا وسعًا في استمالة قلوب اليابانيين؛ لأنهم بارعون في هذا السبيل فلا حق للمندوبين في وصفهم بالعجز، ولكن اليابانيين أنفسهم عاملوهم على مقتضى المثل المشهور عندهم وهو “أكرم الغريب ولا تجهل نواياه".