(26) مدينة جُدَّة:
هذه المدينة قديمة العهد وبعض المؤرخين قال إنها كانت مستعمرة للفرس الذين جاءوا إلى بلاد اليمن وطردوا الحبشة منها، وأقروا سيف بن ذي يزن على مُلك التبابعة أجداده كما ثبت ذلك من التواريخ الصحيحة، والعَأمَّة تقول جَدَّة بفتح الجيم والصواب ضَمُّهَا.

وهي تبعد عن مكة بنحو خمسة وستين ميلًا وبجوارها سلسلة جبال منخفضة خالية من الأشجار، والنبات، وكانت هذه المدينة في العصر الأول محاطة بأسوار وبروج حصينة ومُحِيط بها خندق، وكان لها ستة أبواب مفتوحة من السور ولكل باب طريق موصل إلى البحر، ولم تزل آثار السور والأبواب والخندق موجودة إلى الآن، وأول ما وصلت الباخرة إلى مدخل الميناء أخذت تسير ببطْء حذرًا من أن تصطدم ببعض الشِّعاب الحجرية الكثيرة التي في مدخل الميناء، وقيل إن هذه الصخور هي أشجار المرجان النابتة في قاع البحر، وهذه الميناء هي أحسن ميناء على البحر الأحمر من حيث هي أول بلد يدخلها الحاج بعد ينبع في بلاد جزيرة العرب.

وبهذه المدينة تجار من الأوروبيين والهنود لهم حوانيت كثيرة، مما جعل لها أهمية تجارية أكثر من ينبع، وشوارعها متسعة لطيفة، ومن أهم شوارعها من حيث رونق البناء هو الشارع الممتد من البحر فالشارع المُسمَّى باسم أُمِّنا حواء، وفيه قبرها وهو ذو ثلاث قباب وإلى هذه المدينة يُنسَب رجال من أكابر العلماء مثل: عبد الملك بن إبراهيم الجدي، وعلي بن محمد بن علي بن أبي نصير، وأبو الحسن أحمد بن محمد الفينقي، وأبو بكر محمد بن عبد الرحمن القطان الذي روى عنه العلمَ والحديث عبدُ الله بن السمرقندي الشهير.

وقد اخْتبَرتُ من أخلاق أهل جدة ما دلَّني على أنهم أهل كرم وسخاء، خصوصًا مع الغريب عنهم البعيد منهم، ولم تكن على نصيب من العلوم؛ لأن الذين يعرفون القراءة والكتابة منهم قليلون جدًّا.

وقد أسعدني الحظ بمعرفة رجل فاضل غذَّته العلوم والآداب بلِبَانِها، وحنَّكته التجارب حتى إنه يُعَد من رجال السياسة الخبيرين بأحوال الأمم الاجتماعية على أدب فيه، وكمال ظرف وهو حضرة الفاضل الحاج إسماعيل الليثي من قبيلة تُدعَى بهذا الاسم، وقد مكثت زمنًا قليلًا وأنا أحادثه في كثير من الشئون السياسية، والأحوال الاجتماعية، ونحو ذلك من الفنون الأدبية فكان في كُلِّ موضع من مواضع الحديث يُجِيد ويفيد، حتى عرفت منه ما لم أكن أعرفه من أحوال بلاد جزيرة العرب التي تنقلها الجرائد مُحرَّفة عن الحقيقة.

وبهذه المدينة مسجد شهير يُسمَّى مسجد الأبنوس، وغيره من المساجد التي أقل منه في الدرجة.
•••
ومنازل كبراء هذه المدينة تُبنَى من الحجر الصخري، وأعظم أبنيتها دار الرسومات، ومنزل الوالي، ثُمَّ أقلعتْ الباخرة قاصدة مدينة عدن.