قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب):"لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُمِصْرَعلى سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض،والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحيفيلسوف العمارة ومهندس الفقراء:هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية،وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول،اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن،ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كوروناغير المتوقعة للبشريةأنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباءفيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض..فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي(رحمه الله)قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني،وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
لحن الاستهلال... الحلم والواقع - الجنة المفقودة: الريف. - طوب اللبن: الأمل الوحيد لإعادة بناء الريف. - الطين للتسقيف بهتيم: التجربة والخطأ. - النوبة: تكنيك قديم للتقبية ما زال باقياً. - البناءون النوبيون يعملون: النجاحات الأولى - عزبة البصري: إبليس في كمين. - سرقة إحدى المقابر تتسبب في مشروع إسكان رائد. - مولد القرنة الجديدة: الموقع.
الجنة المفقودة: الريف لو أعطيت مليون جنيه، ماذا سوف تفعل بها؟
هذا سؤال كانوا يسألونه لنا دائماً عندما كنا شباباً، سؤال يطلق من الخيال هائماً، ويطلق فينا أحلام اليقظة.
وكانت هناك إجابتان محتملتان لدي: إحداهما أن اشتري يختاً، واستأجر أوركسترا، وأبحر حول العالم مع أصدقائي مستمعين إلى باخ وشومان وبرامز؛ والأخرى أن أبني قرية يتبع فيها الفلاحون أسلوب الحياة الذي أتمناه لهم.
وكان لهذه الأمنية الثانية جذور عميقة ترتد إلى طفولتي.
لقد أحسست دائماً بحب عميق للريف، ولكنه كان حباً لتصور، وليس لشيء أعرفه حقاً فالريف، المكان الذي يعيش فيه الفلاحون.
لم أكن أراه إلا من نوافذ القطار عندما نذهب إلى الإسكندرية لقضاء إجازة الصيف، ولكن هذه الخبرة العابرة أضيفت لها صورتان متباينتان حصلت عليهما من أبي وأمي بالتتالي.
أما أبي فكان يتجنب الريف.
فهو بالنسبة له مكان مليء بالذباب والبعوض، والماء الملوث، وكان يمنع أطفاله من أن تكون لهم أي علاقة به ورغم أنه كان يمتلك العديد من الضياع في الريف إلا أنه لم يكن يزورها قط، ولا يقترب من الريف لأكثر من المنصورة، العاصمة الإقليمية، حيث كان يذهب مرة كل سنة ليلتقي بوكلائه في الأرض ليقبض إيجاره.
وحتى السنة السابعة والعشرين من عمري لم أضع قط قدماي على أي من ممتلكاتنا في الريف.
أما أمي فقد قضت جزءاً من طفولتها في الريف، فكانت تحتفظ له بأمتع الذكريات، وكانت تتوق حتى أخر يوم في حياتها للعودة إليه.
وكانت تقص علينا حكايات عن الخراف الوديعة التي تتبعها في سيرها، وعن كل حيوانات المزرعة، والدجاج والحمام وكيف كانت تنشئ الصداقات معها وتظل ترقبها طوال العام.
وكانت الحيوانات الوحيدة التي رأيناها عن قرب هي الخراف التي تشتري لعيد الأضحى، والتي ما أن نقيم صداقة معها حتى تؤخذ لتذبح.
أو قطعان العجول الصغيرة التي كانت تساق من خلال الشوارع إلى المذبح.
وقصت علينا أمي كيف ينتج الناس في الريف كل ما يحتاجونه لأنفسهم، وكيف أنهم لا يحتاجون أبداً إلى شراء شيء غير قماش ملابسهم، بل وكيف أن السمار اللازم لمكانسهم ينمو بطول القنوات في المزرعة.
ويبدو أنني قد ورثت شوق أمي، الذي لم يتحقق، للعودة إلى الريف، وكنت أعتقد أن الريف يعطي الفرصة لحياة أبسط وأسعد وأقل قلقاً مما تفعل المدينة.
وقد اتحدت هاتان الصورتان في خيالي لتنتجا صورة للريف كجنة، ولكنها جنة يعتمها من فوقها سحب من الذباب، وجداولها التي تجري تحت الأقدام قد أصبحت موحلة وموبوءة بالبلهارسيا والدوسنتاريا.
ولازمتني هذه الصورة وجعلتني أشعر أنه ينبغي عمل شيء ليستعيد الريف المصري نعيم الجنة.
وإذا كانت المشكلة قد بدت لي بسيطة آنذاك، فسبب ذلك أني كنت شاباً بلا خبرة، على أنها كانت ومازالت مسألة تشغل الجانب الأعظم من أفكاري ونشاطاتي من وقتها حتى الآن، مشكلة كلما تكشف لي تعقدها عبر السنين لم يؤد ذلك إلا لتعزيز اقتناعي بأنه ينبغي عمل شيء لحلها.
إلا أن ((الشيء)) الذي يحلها هكذا لا يمكن أن يكون مما يصلح لذلك إلا إذا كان ملهماً بالحب.
إن من يكون عليهم أن يحولوا الريف لن يستطيعوا القيام بذلك بناء على توجيهات عالية تصدر من المكاتب الوظيفية في القاهرة، وإنما سيكون عليهم أن يحبوا الفلاح بما يكفي لأن يعيشوا معه، وعليهم أن يتخذوا مسكنهم في الريف، وأن يكرسوا حياتهم للأداء العملي في الموقع مباشرة، من أجل إصلاح الحياة الريفية.
وبسبب من إحساسي هذا تجاه الحياة الريفية، وجدتني مدفوعاً عندما أتممت دراستي الثانوية إلى أن أقدم طلباً لدخول مدرسة الزراعة.
على أنه كان هناك امتحان يعقد للطلبة الذين يطمحون لدخول هذه المدرسة.
ووقتها، كانت خبرتي العملية بالفلاحة تقتصر فحسب على ما كنت أراه من نوافذ القطار، ولكني ظننت أنني ربما أعوض ما لدي من أوجه قصور بأن أدرس النظريات الزراعية من المراجع.
ودرست بعناية كل شيء عن كل محصول لوحده وذهبت لأواجه الممتحنين (كان الامتحان شفوياً).
وسألني المُمتحن: ((لو كان لديك حقل قطن وأردت أن تزرع فيه أرزاً، ماذا ستفعل؟)) ((ياله من سؤال سخيف)) هكذا فكّرت، ثم أجبت: ((الأمر بسيط سوف اقتلع القطن وأزرع الأرز)).
ولم يقل شيئاً، ولكنه سألني عن الزمن الذي يستغرقه نمو الذرة.
وخانتني الذاكرة، فقلت ستة شهور بدلاً من ستة أسابيع.
وسألني المُمتحن: ((أمتأكد أنت؟، ألا تكون سبعة شهور هي الأقرب؟)) وفكّرت في الأمر، وكنت قد لاحظت من القطار أن حقول الذرة يمكن أن تكون كبيرة جداً ولم أكن أرى قط أي فرد في داخلها.
لابد أن حصاد الذرة يتطلب زمناً طويلاً.
وقلت: ((نعم، ربما سبعة شهور))، وقال الممتحن: ((أو حتى ثمانية شهور؟))، وقلت: ((حسناً، نعم أظن ذلك)).
وقال الممتحن: ((أو هي تسعة؟)).
وهنا بدأ يخطر لي أنه لعله لا ينظر لإجابتي بما تستحقه من الاحترام.
وصرفوني في أدب، ولم أدخل مدرسة الزراعة.
***
وذهبت بدلاً من ذلك إلى الفنون التطبيقية، حيث اخترت دراسة العمارة.
وبعد تخرجي ذهبت يوماً للإشراف على بناء مدرسة في طلخا.
وطلخا مدينة ريفية صغيرة على النهر في شمال الدلتا، مقابل المنصورة.
وكان موقع المدرسة خارج المدينة.
وبعد أول يوم، أو يومين غيّرت طريقي عامداً لأتجنّب اختراق المدينة.
فقد بلغ من اشمئزازي من منظر ورائحة الشوارع الضيقة الغارقة في الطين وكل أنواع القذر، حيث تلقى بانتظام كل قمامة المطابخ -الماء الوسخ، وقشور السمك، والخضروات العطنة وبقايا الذبائح- وبلغ من اكتئابي من مظهر الدكاكين الصغيرة الرزية، وواجهاتها المفتوحة على ما في الشارع من روائح وذباب، وهي تعرض سلعها البائسة على المارة المبتلين بالفقر، بلغ من هذا كله أني لم اعد استطيع تحمل مرور خلال المدينة.
وظلت صورة هذه المدينة تلازمني، ولم اعد أستطيع التفكير إلا في استسلام هؤلاء القرويين لحالهم استسلاماً يائساً وفي نظرتهم للحياة نظرة ضيقة قاصرة، وتقبلهم الذليل لكل هذا الوضع المروع الذي يجبرون فيه على إنفاق حياتهم كادحين في سبيل المال وسط المباني الزرية في طلخا.
وكان ما يتبدّى من لامبالاتهم يمسك بخناقي وكنت أتعذّب من عجزي أمام هذا المشهد، فمن المؤكّد أن هناك شيئاً ما يمكن عمله؟
ولكن ما هو؟
إن الفلاحين جد غارقين في بؤسهم بما لا يسمح لهم بالمبادرة إلى التغيير.
إنهم يحتاجون لبيوت لائقة، ولكن البيوت غالية.
وفي المدن الكبيرة ينجذب الرأسماليون إلى عائد الاستثمار في الإسكان، وكثيراً ما تقدم الهيئات العامة -الوزارات ومجالس المدن، الخ- تسهيلات واسعة للمواطنين.
ولكن لا الرأسماليون ولا الدولة يبدو أنهم يرغبون في أن يأخذوا على عاتقهم تمويل بيوت الفلاحين، التي لا تعود بأي إيجار على الرأسماليين، ولا تعود على السياسيين إلا بأقل الأمجاد؛ وهكذا فإن كلا الطرفين ينفضان أيديهما من الأمر، ويظل الفلاحون يعيشون في القذر.
وقد تقول أن الله لا يعين إلا من يعينون أنفسهم، ولكن هؤلاء الفلاحين لا يستطيعون ذلك.
وهم لا يكادون حتى يستطيعوا تحمل ثمن البوص لتسقيف أكواخهم، فكيف يمكنهم أن يأملوا شراء أعواد الحديد الصلب أو الخشب أو الإسمنت لإقامة بيوت جديدة؟
وكيف يمكنهم أن يدفعوا أجر البنّائين لإقامة البيوت؟
لا.
إنهم وقد نُبذوا من الله ومن البشر، يجرون معه سنوات حياتهم القصيرة العليلة القبيحة فيما يولدون فيه من قذر وجهد.
وهذا الحال يشارك فيه الملايين في مصر، أما في المعمورة كلها فإنه يوجد حسب تقدير الأمم المتحدة.. 800,000,000 فلاح -ثلث سكان العالم- محكوم عليهم الآن بالموت قبل الأوان بسبب سوء إسكانهم.
وتصادف أن كانت إحدى عزبنا قريبة من طلخا.
وانتهزت الفرصة لألقي نظرة عليها.
وكانت خبرة مروِّعة.
لم تكن لدي حتى ذلك الوقت أي فكرة عن القذارة المخيفة والقبح الذي يعيش فيه الفلاحون في عزية.
وشاهدت مجموعة أكواخ من الطين.. منخفضة، مظلمة، قذرة، بلا نوافذ ولا مراحيض ولا مياه نظيفة، والماشية تعيش عملياً في نفس الحجرة مع الناس؛ لم يكن هناك أدنى صلة في خيالي من ريف شاعري.
وكل شيء في هذه العزبة التعيسة يخضع للاقتصاديات؛ المزروعات تمتد مباشرة حتى عتبات الأكواخ التي تتزاحم في ذات فناء العزبة القذر لتترك أقصى مساحة ممكنة للمزروعات التي تدر المال؛ وليس ثمة ظل، فظل الأشجار يعوق نمو القطن؛ وما من شيء مما يفعل يكون فيه نظرة اعتبار للكائنات البشرية التي تنفق حياتها هناك.
***
وحلت هذه الصورة مكان الصورة الأولى للجنة الريفية ذات الجداول الموحلة.
على أنه ربما كان من حسن الحظ أن العزبة كانت ملكنا، فقد أدَّى ذلك إلى أن يخطر ببالي أننا نحن أنفسنا المسئولون.
لقد كان أول جزء أراه من الريف هو إحدى عزب عائلتنا، وقد قنعنا بأن نحيا ونحن نجهل بؤس الفلاحين هذا الذي يثير السقم.
وبالطبع فقد حثثت والديّ على إعادة بناء العزبة.
وقد فَعَلا.
ولكني إلى جانب بناء العزبة وبيوت الفلاحين نفسها كنت مهتماً للغاية بالحصول على بيت يبني هناك لعائلتنا.
فقد أحسست أن السبب الرئيسي لسوء حال العزبة هو أن أحداً منا لا يزورها، وأن أحسن ضمان لاستمرار رفاهتها هو أن يعيش أفراد عائلتنا هناك كثيراً بقدر الإمكان ولحسن الحظ كانت هناك استراحة صغيرة من غرفتين، أمكنني إصلاحها وإعادة تشكيلها، وإن اعتقد والديّ أنني مجنون، وفي النهاية فقد ثبت في الحقيقة أن فيها ما يمتع حتى أخي أقام هناك وكان يأتي بالضيوف إليها، بحيث أنها ظلت تقريباً مسكونة دائماً.
طوب اللبن - الأمل الوحيد لإعادة بناء الريف. الملكة حتشبسوت تصنع الطوب اللبن (الخير أقصى الخير مثله كالماء يصنع الجميل لكل الأشياء ثم يمضي بلا تذمُّر إلى أماكن يزدريها البشر ولكنه هكذا، قريب بالطبيعة للطريق). *لاوتزى.
إنه بالتأكيد لوضع شاذ إن أي فلاح في مصر يحوز قدر فدان من الأرض باسمه يمتلك منزلاً، بينما ملاك الأراضي من أصحاب المائة فدان أو أكثر لا يتحملون دفع ثمن منزل.
إلا أن الفلاح يبني منزله من الطين، أو طوب اللبن، الذي يحفره من الأرض ويجففه في الشمس.
وهاهنا، في كل عشة وكوخ متداع في مصر، كانت الإجابة على مشكلتي.
فهنا طيلة السِّنين والقرون ظل الفلاح يستثمر بحكمة وهدوء مادة البناء الظاهرة، بينما نحن بأفكارنا الحديثة من التعليم المدرسي لا نحلم أبداً باستخدام مادة مضحكة هكذا مثل الطين لعملية خلق جدية للغاية، مثل المسكن.
ولكنه لِمَ لا؟
من المؤكد أن بيوت الفلاحين قد تكون ضيقة ومظلمة وقذرة وغير مريحة، ولكن هذا ليس نتيجة خطأ من طوب اللبن.
فليس هناك ما لا يمكن إصلاح أمره بالتصميم الجيد وحسن الانتقاء.
لماذا لا نستخدم لبيوتنا في الريف هذه المادة التي أرسلت من السماء؟
ولماذا حقاً لا تجعل بيوت الفلاحين أنفسهم أفضل؟
لماذا ينبغي أن يكون هناك أي فارق بين بيت الفلاح، وبيت المالك؟
هيا نبنيها معاً من طوب اللبن ونصممها معاً تصميماً جيداً، وسوف يمكن لهما معاً أن يوفرا لمالكيهما الجمال والراحة.
وهكذا أخذت أصمم بيوتاً ريفية من طوب اللبن، وأنتجت عدداً من التصميمات، بل وأقمت في 1937 معرضاً في المنصورة، ثم بعدها في القاهرة، حيث ألقيت محاضرة عن تصوري للبيت الريفي, قد تأتت عن هذه المحاضرة عدة فرص للبناء.
وكانت هذه البيوت في غالبها لعملاء أغنياء، وكان فيها بالتأكيد تحسين عن نمط البلدة القديم للبيت الريفي، إلا أن سبب ذلك في أغلبه أنها كانت أكثر جمالاً.
على أنها بالرغم من جدرانها الاقتصادية المصنوعة من طوب اللبن، لم تكن أرخص كثيراً من المنازل المبنية من المواد الأكثر تقليدية، والسبب هو غلو ثمن خشب الأسقف.
الطين للتسقيف، بهتيم: التجربة والخطأ سرعان ما بدأت الحرب* بعد ذلك؛ وتوقف كل البناء، فقد انقطعت تماماً إمدادات الحديد والصلب والخشب، وصادر الجيش ما كان موجوداً في البلد من قبل من تلك المواد.
على أني وأنا مازلت مأخوذاً برغبتي في البناء في الريف، أخذت أبحث عن وسائل للتغلب على نقص مواد البناء، وعلى الأقل فمازال لدي طوب اللبن!
ثم خطر لي أنه مادام لديَّ طوب اللبن وليس من شيء أخر، فإني لست بأسوأ حالاً من أجدادي الأقدمين.. إن مصر لم تكن بالتي تستورد دائماً حديد الصلب من بلجيكا والخشب من رومانيا، وإن كانت قد ظلت دائماً تبني البيوت.
ولكن كيف كانوا يبنونها؟
الجدران نعم.
أستطيع أيضاً أن أبني الجدران، ولكن ليس لدي شيء أسقفها به.
ألا يمكن استخدام طوب اللبن لأسقف به بيوتي من فوق؟
ما الرأي في نوع الأقبية**؟
والمعتاد أنه حتى تسقف غرفة بقبو، فإن البنَّاء يأتي بنجَّار لصنع شدَّة خشبية قوية، يجب إزالتها عندما يتم صُنع القبو، وهذه تكون قبواً خشبياً كاملاً، يجري بكل طول الغرفة، وتمسك به دعامات خشبية وتستقر عليه مداميك قبو البناء أثناء صنعها.
إلا أن طريقة الإنشاء هذه بالإضافة إلى تعقيدها وتطلبها لمهارة خاصة للتأكد من أن لبنات إسفين القبو تتجه إلى المركز من القوس، فإنها أيضاً مما يتجاوز وسائل الفلاح فهي من نفس نوع الوسيلة المستخدمة في بناء أحد الجسور.
ثم تذكَّرت أن القدماء أمكنهم بناء الأقبية دون شدة خشبية كهذه ففكرت في أن أحاول فعل نفس الشيء.
وحوالي ذلك الوقت كان قد طُلب مني أن أضع بعض التصميمات للجمعية الملكية الزراعية، وضمَّنت أفكاري الجديدة في هذه البيوت.
وشرحت ما أريده للبنَّائين، فحاولوا إقامة أقبية بدون استخدام الشدات الخشبية.
وسرعان ما انهارت الأقبية.
ولم تحرز المحاولات المتكررة أي نجاح.
كان من الواضح أنه إذا كان القدماء قد عرفوا طريقة بناء القبو بدون شدة خشبية فإن السر قد مات معهم.
وتصادف أن كان أخي الأكبر وقتها مديراً للأعمال في خزان أسوان.
واستمع إلى أخبار فشلي.
وأنصت متعاطفاً، ثم ذكر أن النوبيين في الحقيقة يبنون أقبية، يقيمونها أثناء تشييدها بدون استخدام أي دعامة مطلقاً، وذلك لتسقيف بيوتهم وجوامعهم.
وانفعلت أشد الانفعال؛ فلعل القدماء رغم كل شيء لم يدفنوا سرهم معهم في مقابرهم ذات الأقبية المستفزة.
ولعل الجواب عن كل مشاكلي، ذلك التكنيك الذي سيجعلني أخيراً أستخدم طوب اللبن في كل جزء من البيت، ينتظرني هناك في النوبة. ---------------------------------------------------- * يقصد بدء الحرب العالمية الثانية 1939 (المترجم). ** القبو هو الطلق المعقود في البناء بعضه إلى بعض في شكل قوس، وكلمة القبو لها معنى آخر في العربية هو بناء تحت الأرض لحفظ الأغذية والمشروبات، والمقصود هنا وفي كل الكتاب المعنى الأول. (المترجم). ----------------------------------------------------
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52465 العمر : 72
موضوع: النوبة - تكنيك قديم للتقبية مازال باقياً السبت 28 ديسمبر 2019, 7:40 pm
النوبة - تكنيك قديم للتقبية مازال باقياً
قرية دهميت فى النوبة
ذات صباح في فبراير 1941 غادرت القطار في أسوان، في صُحبة عدد من الطلبة والمدرسين من مدرسة الفنون الجميلة.
يقومون برحلة دراسية للمواقع الأثرية، وانتهزت الفرصة للذهاب معهم لمشاهدة ما ينبغي رؤيته في النوبة.
وكان انطباعي الأول هو عن معمار أسوان نفسها الذي يتصف إلى حد بالغ بعدم التميز.
إنها مدينة إقليمية صغيرة، تبدو كقاهرة رثة مصغرة مزروعة في الريف؛ نفس واجهات المباني المتداعية، نفس واجهات الدكاكين المبهرجة، نفس الجو المعتذر ذو العلاقات السقيمة لشيء لعله قد يصبح جو مدينة.
قرية صغيرة كئيبة للعين، تتلف المشهد الدرامي البديع للجندل الثاني.
لم يكن في أسوان شيء مما أطلبه؛ وبالتأكيد ما من علامة تشير إلى تلك الإشاعات عن التكنيكات التي أتيت بحثاً عنها.
وكان من خيبة أملي أنني كدت أقرر أن ألازم فندقي.
على أني قمت برحلة عبر النهر، ذلك أن أخي كان قد أخبرني أنني يجب أن ألقي نظرة على القرى التي في الضواحي بدلاً من أسوان نفسها.
وما أن دخلت أول قرية، وهي ((غرب أسوان)) حتى أدركت أنني قد وجدت ما جئت من أجله.
كان ذلك عالماً جديداً عليّ، قرية بأكملها من بيوت رحبة جميلة، نظيفة، ومتجانسة، كل بيت فيها أجمل من البيت التالي.
ليس هناك في مصر أي قرية تشبه ذلك، إنها قرية من بلاد الأحلام، لعلها من قرى مدينة قديمة مخبوءة في قلب الصحراء الكبرى - وقد احتفظ بها مهندسها المعماري طيلة القرون بلا تلوث من أي تأثيرات أجنبية، أو لعلها كانت من أطلنطس* نفسها.
لم يكن ثمة أثر لما يحدث عادة في القرية المصرية من حشد تعس للبيوت، وإنما كل بيت يتلو الآخر سامقاً، مرتاحاً مسقوفاً سقفاً نظيفاً بقبو من الطوب، وكل منزل مُزيَّن على نحو فريد أنيق حول المدخل بأشغال المُخرَّمات الطوبيةClaustra **، حليات بارزة وخطيَّة من الطين.
أدركت أنني إنما أنظر إلى الأثر الحي الباقي لمعمار التراث المصري، إلى طريقة بناء كانت بمثابة نمو طبيعي من المشهد الخلوي الطبيعي، هي جزء منه بمثل ما تكونه نخلة الدوم في المنطقة.
وكان الأمر كرؤيا معمارية من عهود ما قبل السقوط: قبل أن تؤدي النقود، والصناعة، والجشع، والتكبر إلى فصم المعمار عن جذوره الحقيقية في الطبيعة.
وإذا كنت قد أحسست بالسعادة، فإن الرَّسَّامين الذين أتوا معي كانوا في حال غامر من النشوة.
واتخذوا مجالسهم في كل ركن، وفضوا لوحات رسمهم، ونصبوا الحوامل، وأمسكوا لوحات الألوان والفرش وبدأوا العمل، وأخذوا يحملقون ويصرخون، ويشيرون؛ إنها لهدية نادرة نفيسة بالنسبة لأي فنان.
وحاولت أثناء ذلك أن أجد من يستطيع أن يخبرني عن المكان الذي يعيش فيه البناءون الذين أبدعوا في بناء هذه القرية.
ولكني ها هنا كنت أقل حظاً؛ ويبدوا أن كل الرجال كانوا يعيشون بعيداً عن المكان، ويعملون في المدن، فلم يكن هناك سوى النساء والأطفال، وكانوا أشد خجلاً من أن يتحدثوا.
وكانت الفتيات يكتفين بالجري بعيداً وهن يكركرن ضاحكات.
ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً، وعدت ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً، وعدت إلى أسوان وقد استثيرت شهيتي وإن كانت لم تشبع مطلقاً، فواصلت بحثي عن بنّاء يعرف سر بناء هذه الأقبية.
وتصادف أن تحدثت مع النادل في الفندق عن مطلبي، فأخبرني أن هناك حقاً بنائين يعيشون في أسوان، وأنه سيوصلني إليهم.
ويبدو أنه لم يكن هناك عمل كثير ليقوم به البنّاء المحترف لبناء منازل طوب اللبن.
ذلك أن كل رجل في القرية أياً كان عمله المعتاد يستطيع أن يقيم لنفسه منزلاً مقبياً، وهكذا فإن تلك القلة من البنائين كانت توظف للعمل لحساب سكان المدن الإقليمية مثل أسوان، ممن قد فقدوا مهارات البناء بالطريقة التراثية وعلى كل، فقد كان هناك بناءون قليلون جداً يبنون الأقبية، وقال النادل أنه سيعرفني للمعلم بغدادي أحمد علي، أكبرهم سناً.
وفي اليوم التالي ذهبت مجموعتنا لرؤية الجبَّانة الفاطمية في أسوان.
وهي مجموعة من الأضرحة المتقنة ترجع إلى القرن العاشر، بنيت بالكامل من طوب اللبن، حيث الأقبية والقباب تستخدم بأسلوب واثق فخيم.
ويوجد أيضاً على مقربة من أسوان دير رهبان القديس سيمون، وهو مبنى قبطي من نفس الفترة, هنا أيضاً قد استخدمت قباب وأقبية من طوب اللبن، ولكن معمار الدير تتكشف فيه البساطة والتواضع بما يكون مثالاً للدير، وهذا يثبت أن لهذا النوع من المعمار القدرة على أن يتوافق توافقاً يتساوى جودة في الإلهامات المتباينة للديانة الإسلامية والمسيحية.
ومن بين أشياء أخرى لاحظت بدهشة واهتمام عظيمين أن المطعم له رواق واسع يعتمد اعتماداً كليّاً على منظومة حاذقة من أقبية رئيسية وثانوية وذلك لتجنب أي حشو ثقيل فيما بين السطح المقوس للقبو والسطح الأفقي للأرضية من فوقه.
وفي هذا إثبات للحجة بأن مباني طوب اللبن يمكن أن ترتفع إلى طابقين وتظل قوية بما يكفي لبقائها لألف عام.
كنت هكذا أحصل على مزيد ومزيد مما يؤكد ظنوني بأن المواد والأساليب التراثية للفلاح المصري هي أكثر من لائقة لأن يستخدمها المهندسون المعماريون المحدثون، وأن حل مشكلة الإنسان في مصر يكمن في تاريخ مصر.
ومع هذا فقد بقي عليَ أن أتعلم الطريقة المحلية لصنع الأقبية.
وكنت قد وُعِدْتُ بلقاء مع هذا المعلم البناء، ولكنه لم يظهر.
ولم يصل بغدادي أحمد علي في النهاية إلا عند أخر لحظة بالضبط لزيارتنا، وعندما كنا بالفعل على الرصيف في انتظار القطار، وعندها، والقطار يزعق بصبر نافذ، ووسط هسيس البخار وقعقعة العربات، وصيحات الحارس والركاب والمودعين، لم يكن لدينا من الوقت إلا ما يكفي للمصافحة بالأيدي وتبادل العناوين قبل أن يحملني القطار بعيداً إلى الأقصر.
* * *
كانت هذه الرحلة المعمارية بالنسبة لي رحلة قنص وراء أقبية طوب اللبن، وبعد أسوان، ذهبنا للأقصر، حيث أبهجني بوجه خاص أن أتفحَّص صوامع قمح الرامسيوم -مخازن طويلة مقبية، بنيت من طوب اللبن منذ 3400 عام-، إنها كما يبدو مادة تتحمَل تحمُّلاً جيداً.
ومن الأقصر ذهبنا إلى تونة الجبل، حيث وجدت المزيد من الأقبية التي يبلغ عمرها 2000 عام، وكان أحدها يدعم درجاً ممتازاً.
ومن عجب أنني في جولة واحدة قصيرة شاهدت الدليل القائم على انتشار البناء بالأقبية خلال التاريخ المصري كله، إلا أنني حسب ما تعلمناه في مدرسة العمارة ما كنت لأظن أن أحداً قبل الرومان كان يعرف كيف يبني عقداً وعلماء الآثار يقصرون انتباههم على الآنية المهشمة والنقوش المطموسة، ومن آن لآخر قد تدبُّ الحيوية في دراساتهم الصَّارمة عندما يكتشفون خبيئة من الذهب.
أما بالنسبة للعمارة فليس لديهم أي رؤية و لا أي وقت لها.
وهم في وسعهم أن يغفلوا عن المقولات المعمارية التي تقع تحت أنوفهم مباشرة -وثمة كتب تذكر أن قدماء المصريين لم يتمكنوا من بناء القباب-، على أنني قد رأيت قبة مصرية قديمة في مقبرة سينب، في الوسط تماماً من جبانة الجيزة.
ولا يمكن أن يكون ثمَّة شك في أن تكنيك بناء الأقبية والقباب -بطوب اللبن أيضاً- كان تكنيكياً مألوفاً تماماً للمصريين في عهد الأسرة الثانية عشرة.
البناءون النوبيون يعملون - النجاحات الأولى عندما عُدْتُ إلى القاهرة، كتبت مباشرة إلى أسوان في طلب البنائين لم يكن هناك وقت يضيع، ذلك أن مزرعة الجمعية الملكية للزراعة كانت ومازالت بلا سقف بعد أن تهاوت أول محاولة لنا لبناء الأقبية.
وخلال أيام قليلة، التقيت وأبو أحمد وعبد الرحيم وأبو النور -بناءون من أسوان- وفي اليوم التالي كانوا يعملون في المزرعة.
ومنذ نفس اللحظة الأولى للقائي بهم، كان منهم ما يعد بعصر جديد للبناء، فعندما سألتهم عن الطريقة التي يفضلونها لدفع أجرهم، باليوم أو بالقطعة، كانوا أبسط من أن يروا أي فارق بين الاثنين.
والآن، فإن العامل العادي يفضل كثيراً أن يأخذ أجره باليومية، لأنه عندها يستطيع أن ينال فترات راحة عديدة، وأن يكيف نفسه بتناول القهوة كل نصف ساعة أو ما شابه، وأن يمط من العمل بحيث يستمر مصدر دخل له لأسابيع كثيرة.
ومع هذا لم يخطر قط لهؤلاء البنائين الأسوانيين أنه يمكن أن يكون هناك توقيتان لإنهاء عمل ما، يعتمدان على طريقة دفع الأجر، وقالوا ببساطة أنهم سيبنون سقف الغرفة مقابل 120 قرشاً وعندما سألتهم كم من الوقت سيستغرق ذلك قالوا: ((يوم ونصف اليوم)).
ومائة وعشرون قرشاً هي 1.2 جنيه.
ويكلف الطوب ما يقرب من جنيه واحد، وهناك عاملان لمساعدتهم يكلفان جنيهاً واحداً آخر، وهكذا فإنه يبلغ 3.4 جنيه مصري يكون لدينا غرفة من 3م × 4م يتم بناؤها في يوم ونصف اليوم.
ولو أنها صنعت من الإسمنت لتكلفت ما يقرب من 16 جنيهاً مصرياً، ومن الخشب 20 جنيهاً.
والحقيقة أنهم ما أن بدأوا العمل حتى استغرقوا بالضبط يوماً ونصف اليوم لتسقيف الغرفة الواحدة.
وإن تم الاتفاق على الشروط فقد طلب البناءون أن يصنع لهم النوع الخاص من قوالب الطوب التي يستخدمونها للأقبية.
وهي مصنوعة بقش أكثر من المعتاد لتكون خفيفة.
وكانت مقاييسها هي 25سم × 15سم × 5سم (10 بوصة × 6 بوصة × 2 بوصة) وعليها علامتان من أخدودين مائلين متوازيين، يرسمان بالأصابع من زاوية للأخرى فوق الوجه الأكبر.
وهذه الأخاديد مهمة جداً لأنها تمكن القوالب من الالتصاق بالسطح الطيني بواسطة الامتصاص.
وهكذا صنعنا قوالب الطوب وجففناها ، بعد مرور أسبوع ذهبنا إلى الموقع.
ولاحظت ونحن في طريقنا أن البنائين لم يكن لديهم أي أدوات سوى قدومهم.
وسألتهم ((وأين المسطرين معكم؟)).
فقالوا ((إننا لا نستخدم مسطرين، والقدوم فيه الكفاية)).
وعند مسرح فشلنا كانت الجدران مازالت قائمة وإن كان القبو الذي حاولناه قد انهار.
وكان في كل غرفة جداران جانبيان يبعدان بثلاثة أمتار، وجدار طرفي أعلى قليلاً سيبني القبو عليه.
ووضع البناءان سقالتين عبر الجدارين الجانبيين على مقربة من الجدار الطرفي، وصعدا عليهما، وتناولا حفنات من الطين، وخطا قوساً مبدئياً بمونة طينية على الجدار الطرفي.
ولم يستخدما أي مقياس أو أداة، و إنما اتبعا بالعين وحدها قطعاً مكافئاً مضبوطاً، طرفاه على الجدارين الجانبيين.
ثم استخدما القدوم في تشذيب المونة الطينية لجعل حدودها أكثر تحدداً.
وبعدها، وقد وقف واحد منهما في كل جانب، أخذا في رص الطوب.
وجعلت الطوبة الأولى قائمة على طرفها فوق الجدار الجانبي، ووجهها المشقوق مبسوطاً على مونة الطين التي فوق الجدار الطرفي ودقاها جيداً في هذه المونة.
ثم أخذ البنّاء بعض الطين وصنع إزاء الطرف الأسفل لهذه الطوبة حشوة صغيرة وتدية الشكل، بحيث يكون المدماك التالي مائلاً بعض الشيء تجاه الجدار الطرفي بدلاً من أن يقف قائماً في استقامته.
وحتى يتم كسر خط الوصلات ما بين قوالب الطوب يبدأ المدماك الثاني بنصف طوبة، تنتصب على طرفها العلوي طوبة كاملة.
ولو كانت الوصلات في خط مستقيم، لقلت بذلك قوة القبو وربما انهار.
ثم يقوم البنّاء بوضع مزيد من حشو الطين إزاء هذا المدماك الثاني، بحيث أن المدماك الثالث يكون ميله حتى ميلاً أكثرحدة عن الخط العمودي.
وبهذه الطريقة قام البناءان بالتدريج بتنفيذ بناء المداميك المائلة وكل منها يعلو لارتفاع أكثر قليلاً على خط تحديد القوس، حتى يلتقي خطا قوالب الطوب المقوسان عند القمة.
وكلما كان البناءان ينتهيان من بناء مدماك كامل، فإنهما كانا يحرصان على إدخال حشوات جافة تقطع من الحجارة أو كسر الفخار، وذلك في الفراغات ما بين قوالب الطوب التي تكوِّن المدماك (في المنحنيات الخارجية لأسافين القبو).
ومن الأهمية بمكان ألا يوضع ملاط طيني بين أطراف قوالب الطوب في كل مدماك، ذلك أن الطين قد ينكمش لما يصل إلى 37 في المائة من الحجم، وانكماش كهذا سيشوه بصورة خطيرة من القطع المكافئ، بحيث قد ينهار القبو.
فأطراف* قوالب الطوب يجب أن تتلامس أحدها بالآخر وهي جافة بلا ملاط.
وعند هذه المرحلة كان للقبو الوليد سمك ستة قوالب طوب بالطول عند القاعدة وسمك طوبة واحدة بالطول عند القمة، بحيث بدا مائلاً بزاوية لها اعتبارها على الجدار الطرفي.
وهكذا فإنه قدَّم واجهة مائلة تُرص من فوقها المداميك التالية، بحيث تصبح قوالب الطوب مدعومة دعماً متيناً؛ وهذا الميل، حتى بدون الأخدودين، يمنع قوالب الطوب من السقوط، مثلما قد يحدث لطوبة ناعمة على واجهة عمودية.
وهكذا يمكن بناء القبو كله مباشرةً في العراء، من غير دعامة أو شدة خشبية ومن غير أدوات، ومن غير تخطيط مرسوم؛ لم يكن هناك غير بنائين يقفان على سقالة وصبي من تحتهما يلقي بقوالب الطوب لأعلى، ليمسكها البناءان بحذق في الهواء، ثم يضعانها بعفوية على الطين ويطرقانها في مكانها بقدوميهما.
كان الأمر بسيطاً بما لا يُصدَّق وكانا يعملان بسرعة وبدون انشغال بال، وبدون أدنى تفكير بأن ما يفعلانه هو عمل جِدُّ رائع من الأعمال الهندسية، فهذان البنَّاءان كانا يُطبقّان بفهم حدسي خارق قوانين الاستاتيكا وعلم مقاومة المواد.
وطوب التربة ليس مما يستجيب للحني ولا للانحراف؛ وهكذا فإن القبو صُنِعَ في شكل قطع مكافئ يطابق شكل رسوم منحني عزم الانحناء.
وبهذا تزول الحاجة لأي حني ويسمح لمادة البناء أن تعمل فحسب تحت تأثير الانضغاط.
وبهذه الطريقة أصبح من الممكن إنشاء السقف بنفس اللبنات الطينية المستخدمة للحوائط.
والحقيقية أن بحراً من ثلاثة أمتار يمد بطوب اللبن لهو عمل تقني فذ في نفس عظمة بحر* من ثلاثين متراً بالإسمنت ويؤدي إلى نفس الإحساس بالانجاز.
كانت الطريقة من البساطة والطبيعة بحيث خلبت لُبِّي تماماً.
إن المهندسين والمعماريين الذين يهتمون بأساليب البناء الرخيصة للجماهير قد ابتكروا كل الأنواع من الوسائل المعقدة لإنشاء الأقبية والقباب.
وكانت مشكلتهم هي الاحتفاظ بمكونات البناء في مكانها حتى يكتمل الإنشاء، وتراوحت حلولهم ابتداءً من قوالب طوب ذات أشكال عجيبة تشبه قطعاً من لعبة تجميع الصور المقطعة Jigsaw ولكنها ذات أبعاد ثلاثية، ومروراً بشتى وسائل نصب السقالات، ووصولاً إلى الحيلة ذات التطرف التي تنفخ فيها بالونة ضخمة في شكل القبة المطلوبة ليرش الإسمنت من فوقها أما بنائيَّ فلم يحتاجا إلا إلى قدُّوم وزوج من الأيدي.
وفي خلال أيام معدودة كان قد تم تسقيف كل البيوت، وغُطيَتْ الغرف، والممرات، والمقاصير** (Loggia) كلها بالأقبية والقباب؛ لقد حَلَّ البنَّاءون كل مشكلة كانت تقلقني (حتى بناء الدرج).
ولم يبق إلا الانطلاق لتطبيق منهجهم في كل مصر.
وحدث أن كان لي صديق، وهو طاهر العمري، ويمتلك عزبة في سدمنت الجبل على طرف صحراء الفيوم.
وكانت في موقع جميل وتقع بالضبط على حرف ما يشبه جرف لهضبة تطل على قناة "بحر يوسف ووادي النيل" ولسوء الحظ فإنها كانت إلى حد ما بعيدة عن الطريق المطروق، بحيث أن صديقي لم يكن يستطيع أن يُشرف عليها إشرافاً مستمراً، وبالتالي فإن الفلاحين المحليين الذين يتشهون الخشب، سرقوا كل الأسقف التي في العزبة فكان هناك العديد من المباني وكلها قد فغرت فاهاً وهي مفتوحة للسماء، وكان أحسن موضوع يصلح للعرض التالي لبنائيَّ. * * * والآن وقد ثبت أن التسقيف رخيص هكذا، فقد كان يمكننا أن نتحمل نفقة أي توسع لنا.
فكل ما كنا نحتاجه هو الطين، وكان لدينا منه ما يكفي تماماً؛ وهكذا لم تكن هناك حاجة لأن نبخل بالنسبة للمساحات المسقوفة.
وشرعنا في إنشاء سقوف للحظائر والمخازن ومساكن العمال، وكنا نعمل في حال بالغ من الابتهاج فغطّينا العزبة كلها في وقت لا يُذكر بأسقف طينية لطيفة..
وسعد بذلك طاهر العمري.
وكان هناك بناء قصد به أن يكون مخزناً، قد تم تسقيفه بقبة ذات نبل، وبلغ من سروره بالمخزن أن اتخذه كقاعة للموسيقى.
على أن المباني كلها كانت تسر العين.
وسواء كانت مخصصة للحمير أو للبشر أو كمخازن فحسب فإنها كلها كانت ذات إيقاع مقوسي يثير الرضا ويبدو وكأنه قد تأتي عن غير عمد إذ وضعنا تصميم الأقبية، إلا أنه مما لا يكاد ينتج قط فيما لو استخدمت الخطوط المستقيمة والأسقف السطحية. ---------------------------------------------------- * البحر معمارياً هو المسافة الأفقية بين عمودين أو كتفين أو جدارين وكل عقد أو قبو أو قبة له بحره. ** مقصورة (Loggia): شرفة مسقوفة، مكشوفة من جانب أو أكثر، أو رواق خارجي، أو حجرة مقعد. (المترجم). ---------------------------------------------------- وهذه هي النقطة العظيمة الثانية بشأن مساكن طوب اللبن ذات الأسقف المقبية.
فهي إلى جانب كونها رخيصة، فإنها جميلة.
وهي لا يمكنها إلا أن تكون جميلة، ذلك أن البنية الإنشائية تملي الأشكال ومادة البناء تفرض المقياس، وكل خط يحترم توزيع الضغوط، ويتخذ البناء شكلاً طبيعياً ومُرضياً.
وفي الحدود التي تفرضها مقاومة مادة البناء -الطين- وحسب قوانين الاستاتيكا، يجد المهندس المعماري نفسه فجأة حُرّاً في تشكيل الفراغ بمبناه، وأن يطوق حجماً من الجو الفوضوي ليصل به إلى أن يصبح ذا نظام ومعنى بمعيار الإنسان، بحيث أنه أخيراً لا يحتاج في بيته لأي زخرفة توضع بعد ذلك.
فالعناصر الإنشائية نفسها تمد بما يشوق العين إلى مالا نهاية.
القبو، والقبة، والخناصر المدلاة، والخناصر المعقودة، والعقود، والجدران، كلها تعطي المهندس المعماري مجالاً بلا حدود لإحداث تفاعل له مبرره بين خطوط مقوسة تجري في كل اتجاه بسريان متناغم الواحد منها للآخر.
وكان لي صديق آخر يعيش في المرج، خارج القاهرة مباشرة، وهو حامد سعيد.
وكان فناناً يعيش مع زوجته في خيمة، وسبب ذلك في جزء منه أن يكون قريباً من الطبيعة التي كان يعشقها عشقاً جمّاً، وفي جزء آخر لأنه لا يستطيع تحمل ثمن منزل.
وعندما سمع عن مزرعة الجمعية الملكية للزراعة في بهتيم وكيف كانت تكلفة بنائها رخيصة، فإنه اهتم بالأمر أشد الاهتمام، ذلك أنه ظل لزمن يحتاج إلى مرسم.
وذهب ليلقي نظرة على المباني، وعندما رأى النوعية الفريدة للنور في مقصورة ذات سقف مقبى، قرر في الحال أن يبني لنفسه مقصورة مماثلة.
وكان لبعض أقاربه عزبة، أقمنا فيها مرسماً يتكون من حجرة واحدة كبيرة ذات قبة، ومخدع مقبى مبيت في الجدران، وأصونة مبيتة في الجدار، ومقصورة مفتوحة عند طرفها تطل على الحقول وعلى منظر يطرد بلا انقطاع لفدان أثر فدان من أشجار النخيل.
وقد صنع له الطوب في نفس الموقع -وكانت التربة رملية- فلم يحتج حتى للقش، وبنى البنَّاءون البيت مقابل 25 جنيهاً فحسب.
والتقطنا بعض شبابيك خشبية قديمة جميلة جداً لتستخدم للنوافذ، وبعض الأبواب المهملة لتستخدم للأصونة، وكلها كان قد أهمل شأنها زمناً طويلاً إذ حلّت مكانها التجهيزات البرَّاقة ذات الأسلوب الأوروبي.
وإجمالاً فإنه حصل على كوخ صغير ساحر كمرسم بما يقرب من 50 جنيهاً. * * *
عزبة البصري: إبليس في كمين كان ثمَّة قرية أخرى صغيرة، أو هي بالأولى كَفْرٌ، يتكوَّن مما يقرب من خمسة وعشرين بيتاً، تقع خارج المعادي على بُعْدٍ يقرب من تسعة أميال من القاهرة؛ وكانت تُسمَّى عزبة البصري، ويسكنها في أغلبها اللصوص.
وفي عدالة صارمة تم اكتساح الكَفْرِ تماماً بفيضان مفاجئ مما يحدث كل عشرين عاماً أو ما يقرب، وتعهَّد الهلال الأحمر المصري إسكان العائلات التي فقدت مسكنها.
وقد تجلّت يَدُ الله في هذا الفيضان أوضح التجلّي، فلم يقتصر الأمر على إنزالها العقاب بالآثمين، وإنما أدَّت أيضاً إلى رَدِّ ممتلكات مسروقة لواحد على الأقل من ضحايا هؤلاء.
وكان هذا الرجل الضحية هو أمين رستم، الذي سُرق إطاران من سيارته في وقت كان من الصعب فيه الحصول على الإطارات بوسيلة شريفة، وحيث كان الإطار الواحد يُجلب بوسائل غير شريفة بما يساوي 80 إلى 100 جنيه.
وكان رستم يعرف أن المُجرم -هو والإطارين- موجودين في عزبة البصري، على أن الشرطة لم تكن لتفعل شيئاً بهذا الشأن.
وعلى أي حال فقد فارت يوم الفيضان دوَّامة من المياه، وإذا بإطاري رستم الاثنتين وهما يُبحران في مرح ليصلا إلى قسم الشرطة، حيث حطّا الرِّحال برشاقة، ليستعيدهما هو.
للهلال الأحمر لجنة للسيدات فيها المُنَفِّذ لما لدى سيدات القاهرة من دوافع خيرية، وقد أخذت هذه اللجنة على عاتقها مسئولية إعادة بناء عزبة البصري.
وتوصَّلت عن طريق رئيسة اللجنة حرم سرى* باشا إلى أن أعرض خدماتي بشأن هذا الموضوع، وذهبتُ لألقي نظرة على القرية المُخرَّبة، والتي تبيَّن أنها كانت مبنية بطوب اللبن ولكن بطريقة فيها قصُورٌ بالغ.
فكان للبيوت على مستوى الدور الأرضي حائط من الطين سُمْكُهُ طوبة واحدة لا غير، ومن الطبيعي أنه مِمَّا لا يمكن توقعه أنه سيقاوم سيلاً من المياه.
وهكذا فإن الجدران ما لبثت أن تقوَّضت فانهارت البيوت.
وعلى كُلٍّ، فلم يكن ثمَّة جدل حول استخدام طوب اللبن في ذلك الموقع.
فبيوت طوب اللبن عند استخدام جدران سميكة بما يكفي وأساسات حجرية، تستطيع أن تظل باقية، حتى بعد طوفان نوح.
وأعددت تصميماتي وتقديراتي.
وحسبت تكلفة عشرين بيتاً بما يصل إلى 300 جنيه مصري.
وقدَّمتُ ذلك إلى اللجنة وقد أفعمت حماساً.
وكم أنفقنا من ساعات العصر ونحن نشرب الشَّاي ونُدخن السَّجائر في حديث متقطِّع عن القرية، ومَرَّ اجتماع إثر اجتماع، وقرار إثر قرار، واعتراضات، واقتراحات، ومُراوغات، وأفكار برَّاقة، وشكوك خطيرة حتى لقد كان في استطاعتنا أن نبني عشر قرى بأيدينا نفسها في ذلك الوقت الذي أضعناه هكذا.
وكان البنَّاءون لديَّ مُستعدِّين، والسُّكان مازالوا يقيمون في الخيام، وليس ما يبدو أنه يوضع موضع التنفيذ!
وأخيراً وسط أحد الاجتماعات، وأنا أتوسَّل أن يُسمح لي على الأقل ببناء منزل واحدٍ لأوضح -لا غير- أنه مما يمكن تنفيذه، وإذ بحرم عبُّود* باشا فجأة تقول: ((يبدو أنك رجل من النوع العملي، هاك، خذ دفتر شيكاتي، اكتب المبلغ الذي تشاء، وخذ النقود وانطلق لتبني لنا بيتك))، ووافقت على هذا العرض؛ كنت أعرف من قبل أني استطيع بناء بيت ب 150 جنيهاً مصرياً، وهكذا أخبرت اللجنة بذلك.
ولكن مهندساً معمارياً آخر كان في هذه اللحظة يجلس في اللجنة ممثلاً لوزارة الشئون الاجتماعية، همس لي: ((لا تكن مغفلاً، اكتب مبلغاً أكبر، إنك لن تستطيع تنفيذه بهذا المبلغ)) وقلت له: ((أنا أعرف تماماً ما أفعله، لقد بنيت من قبل بمثل هذا المبلغ، وأنا أعرف أنه يمكنني تنفيذه)).
وبهذه النقود التي توافرت لي من مصدر خاص، كان يمكنني أن انطلق للعمل، فما عاد في وسع اللجنة بعد أن تُماطل لأكثر من ذلك.
وفي خلال أربعين يوماً كان البيت قد اكتمل.
كان مبنىً أنيقاً للغاية، ذا غرفتين واسعتين ومضاجع مبنية في الجدران كما سبق، وأصونة مبنية في الجدران، ومساحة رحبة للتخزين، ومقصورة كبيرة وفناء مُسَوَّرٌ وإجمالاً فقد تكلّف بالضبط 164 جنيهاً مصرياً.
وإذ نجحتُ هكذا توقعتُ أن سيُعهد إليَّ بمُهمة إكمال البيوت التسعة عشر الأخرى المطلوبة، ولكن سُرعان ما أتت حرم سري باشا بعد ذلك وبيَّنت لي أنه لما كان للجنة مهندسُها المعماري الخاص بها، والذي عليه أن يُصمِّم البيوت لهم، فإنها لا تستطيع أن تعهد بالمهمة إليَّ.
وداريت من خيبة أملي، وتقبَّلت متلطفاً اعتذارها.
على أن البيت ظلَّ هناك، وأصبح له استخدام مُفيد غاية الفائدة؛ بل إننا أقمنا فيه حفلاً أو حفلين، وأتى أناسٌ كثيرون لرؤيته والإعجاب به.
وقد تعوَّدتُ أن أحِسَّ أنا نفسي بإعجابي به كلما مررت به كل يوم بالقطار ما بين القاهرة والمعادي، وكان في استطاعتي أن أراه على مبعدة من النافذة، وكنت أحرص دائماً على التطلع إليه في كل مرة أمر فيها به.
وذات يوم تطلّعت من النافذة، فإذا بالبيت ليس هناك، ونظرتُ ثانية وتساءلتُ عمَّا إذا كنت قد أخطأت النظر؟، أو أن هذا لم يكن هو الموقع؟، أو أنني ركبت القطار خطأ؟، ولكني كنت مصيباً تماماً.
لقد اختفى البيت ليس إلا.
وذهبت إلى الموقع لأرى ما حدث.
وهناك وجدت بيتي الجميل وقد تبدَّد لقطع تنتشر على الأرض.
وحتى في تلك اللحظة، كان لديَّ الوقت الكافي لأن ألحظ كيف كان البيتُ قوياً، وكيف أن القبو لم يتهاو إلا في قطع كبيرة، كقطاعات من شكل بيضاوي، أجزاء متينة متجانسة كقطع من جلد مدبوغ، ذلك أن اللبنات الطينية تماسكت في محارة واحدة مُتراصَّة. ---------------------------------------------------- * حسين سِرِّي باشا رأس الوزارة في عهد فاروق (المترجم). * عبُّود باشا من كبار رجال الأعمال في عهد فاروق، وكانت زوجته هذه انجليزية (المترجم). ---------------------------------------------------- و أخبروني مع تقديم الاعتذارات، أنه كان من الضروري لسُوء الحظ أن يُهدم البيت لأنه لم يكن يتجانس مع البيوت التي صمَّمها المهندس المعماري الخاص بهم، ولكنهم واثقون أني أتفهم الأمر.
وكان ذلك المهندس المعماري الخاص بهم قد أوفد أحد مساعديه، وهو شاب كان وقتها مشهوراً أساساً ببنائه لنسخة أمينة لكوخ سويسري بين أشجار النخيل والإبل التي في طريق الأهرام، وهو هنا قد أنتج نسخته من الأكواخ الملائمة لأن يعيش الفلاحون فيها.
وقد رأيت رسوماته فيما بعد، وكانت تُبَيِّنُ صفاً من عشرين بيتاً أسمنتياً، يتكون كل منها من حجرتين مربعتين وممر عرضه تسعين سنتيمتراً في نهايته دورة مياه.
ولم يكن هناك حتى أي مطبخ، دع عنك الاحتياجات من مثل المضاجع المبنية والأصونة، ولم يكن في هذه المباني أي إلهام معماري أكثر مما يلهم به صف من مخابئ الغارات الجوية.
وأدركت تماماً أن بيتي لم يكن ليتجانس مع هذه البيوت.
وفي وقت لاحق اكتشفتُ سبباً آخر جعل المهندس المعماري الخاص باللجنة عازفاً عن استدعاء أي مُقارنات، فقد تكلّفت إقامة بيوته العشرين 22.000 جنيه مصري بالإجمال.
على أنه رغم قصر حياة هذا البيت الصغير، ورغم أنه فشل في تحقيق هدفه الرئيسي من التأثير في الهلال الأحمر، إلا أنه قد نجح في التأثير في أناس آخرين.
فقد أدَّى إلى أن كلفتني شركة نترات شيلي بمهمة لبناء بعض الاستراحات في سفاجة على البحر الأحمر.
وقد أعطاني هذا الفرصة لتوسيع فريقي من البنَّائين ولأن ازداد إدراكاً لقدراتهم.
وقد أحسنا القيام بعملنا هناك، حتى أنه أمكن لرئيس البنَّائين بغدادي أحمد على أن يدَّخر ما يكفي للقيام برحلة إلى الحجاز ليُصبح حاجاً.
ووصلنا إلى أن أصبح أحدنا يعرف الآخر معرفة أفراد العائلة الواحدة، ووجدت أن احترامي لهؤلاء الرجال يتزايد كل يوم كلما عملت معهم. * * *
سرقة أحدى المقابر تتسبَّب في مشروع إسكان رائد أثناء حياة بيت عزبة البصري القصيرة حدث أن رآه أيضاً أناس مُعيَّنون يعملون في مصلحة الآثار، ولم يكن ذلك حقاً من باب الاهتمام الأثري، وإنما هو من باب استيفاء مطلب جد عملي وشائق.
ففي مصر، كما قد يتبادر إلى الذهن بسهولة، تُعَدُّ مصلحة الآثار من بين أهم المصالح الحكومية، وكانت المصلحة قد نال منها مؤخراً فضيحة كبرى.
فمن بين الآثار القديمة التي كانت مسئولة عنها كانت هناك جبَّانة طيبة القديمة التي تقع في مكان يُسَمَّى القرنة، عبر النهر عند الأقصر التي بُنيت هي نفسها فوق موقع مدينة طيبة القديمة.
وتتألّف هذه الجبَّانة من ثلاثة أجزاء رئيسية: وادي المُلوك إلى الشمال، ووادي المَلكات إلى الجنوب، ومقابر النُّبلاء في الوسط على سفح التل المواجهة للأراضي الزراعية.
وقرية القرنة قد بُنيت على موقع مقابر النبلاء هذه.
وتوجد ها هنا قبور كثيرة جداً بعضها معروف قد تمَّ إخلاؤه وتنظيفه، وبعضها مازال غير معروف للمصلحة وبالتالي فهو مازال مليئاً بأشياء ذات أهمية أثرية عظيمة. * * * وثمَّة سبعة آلاف فلاح يعيشون في القرنة وقد احتشدوا في خمس مجموعات من البيوت، قد بُنيت من فوق ومن حول هذه القبور.
سبعة آلاف فرد يعيشون من فوق الماضي بالمعنى الحرفي تماماً للكلمة.
وهم -أو أبائهم- قد اجتذبهم إلى القرنة منذ ما يقرب من خمسين عاماً مقابر أجدادهم الغنيَّة، ومن وقتها وهذا المجتمع كله يعيش على نقب هذه القبور.
وكان اقتصادهم يعتمد تقريباً اعتماداً كلياً على سرقة القبور؛ فالأرض الزراعية من حولهم ما كان في الإمكان أن تقيم أوْد عدد يبلغ سبعة آلاف من الأفراد.
وعلى أي حال فقد كانت الأرض في معظمها مِلكاً لعدد قليل من أثرياء المُلّاك الزراعيين.
ورغم أن أهل القرنة قد أصبحوا خبراء لا يُبارون في تحديد موقع المقابر المُختفية، وكانوا من أبرع اللصوص، إلا أنهم لم يقوموا بمهنتهم على نحو حكيم.
فقد نقَّبوا القبور بطيش، مستنفذين أنفس الكُنوز وذلك في زمن سبق كثيراً الزمن الذي أصبحت الآثار فيه مما يجلب ثمناً عالياً حقاً.
وقد أخبرني حكيم أبو سيف أحد مفتشي الآثار، أنه في عام 1913 قدَّم له أحَدِ الفلاحين سَلَّة كاملة من الجعارين مقابل عشرين قرشاً، وأنه رفضها!
واليوم فإن الجعارين يبلغ ثمنها خمسة جنيهات على الأقل لكل جعران واحد.
ولم تكن الغنيمة تقتصر على الجعارين، كما أن الفلاحين لم يكونوا كلهم بهذه السذاجة.
ففي وقت اكتشاف مقبرة أمنحتب الثاني -وهي مقبرة سليمة من الأسرة الثامنة عشرة- سُرق قارب مقدس بواسطة أحد الحُرَّاس.
وقد اتخذ لنفسه عائد العملية أربعين فداناً.
على أن عمليات لصوص المقابر هذه ينبغي ألا يُنظر إليها نظرة جِدُّ مستخفة.
فرغم كل براعتهم، ورغم خِفَّة ظلّهم، ومع كل ما هم فيه من فقر لا يستحقونه، إلا أن الضَّرر الذي يُحدثونه هو مِمَّا لا يُقاس .
إنهم يحفرون ويبيعون، وما من أحَدٍ يعرف مصدر ما يعثرون عليه، مِمَّا يعني خسارة كبيرة لعلم المصريات.
وهم أحياناً يفعلون ما هو أسوأ؛ فلو وجد أحَدُ هؤلاء اللصوص صدفة كِنزاً من الذهب، فإنه يصهره.
وهكذا فإن هناك جواهر وصحافاً، وتماثيل صغيرة -روائع من مشغولات الإنسان، لا تُقدَّرُ بثمن في أي سوق- تذهب مباشرةً إلى البوتقة لتتحول إلى قوالب خسيسة، تباع بالسعر الجاري للذهب.
ويمكننا مما تبقى من الأعمال الفنية -ككنوز مقبرة توت عنخ أمون، والطبق ذي الرسومات الجميلة الذي عثر عليه حديثاً في تانيس- أن نحصل على بعض فكرة عن التخريب الخبيث الذي ظل متصلاً. وقد رأيت مسز برويير، وهي زوجة أحد علماء الآثار، في بيت أحد الفلاحين قضبان خام من الذهب لابُدَّ أنها كانت من قبل كنوزاً يمكن أن تتخذ موضعها المشرف في أي متحف في العالم. * * * وبالطبع فإن الفلاحين كانوا يقعون كفريسة طبيعية لتجار المدينة، فالتُّجَّار وحدهم هم القادرون على الاتصال بالمُشترين من الأجانب فاقدي الضمير، وبذا فإنهم استطاعوا استغلال موقف سكان القرنة الضعيف بشراء مُنتجهم النّفيس بما يقل كثيراً عن قيمته الحقيقية.
وهكذا كان الفلاحون يتحمَّلون كل المخاطر، وينمون مهاراتهم ليقوموا بالجانب الشاق من العمل؛ بينما التجار يجلسون في آمان تام، يُشجِّعون تخريب الممتلكات العامة، ويزيدون ثراءً على حساب ما يغنمه أهل القرية بمجهودهم الشاق. * * * وفي النهاية، فإن العائد المُتناقض من سرقة المقابر أرغم السُّكان على الدخول في مغامرات أكثر خطورة وعلى القيام بعمليات تزييف أكثر تهوراً (ذلك أن تزييف الآثار كان مهارة عارضة نماها فيهم موقفهم المُحرج) حتى حدثت في نهاية الأمر فضيحة لا مثيل لها.
فقد تم انتزاع وسرقة نقش صخري بالكامل من أحد القبور - أثر قديم مشهور ومصنَّف.
كان الأمر وكأن أحداً قد سرق نافذة من كاتدرائية شارتز أو عموداً أو عمودين من البارثينون.
وقد أحدثت هذه السرقة رجَّة بحيث كان على مصلحة الآثار أن تتخذ إجراءً ما إيجابياً بشأن مُشكلة القرنة.
وكان هناك من قبل مرسومٌ ملكيٌ بنزع ملكية الأرض التي بُنيت عليها بيوت القرنة وأن تُلحق ملكية كل منطقة مدينة الموتى بالحكومة كأرض للمنفعة العامة.
وقد أعطى هذا المرسوم لأهل القرنة الحق في الاستمرار في استخدام البيوت الموجودة، ولكنه منع أي إضافات أو توسعات جديدة.
والآن فقد كان يتوجَّب إصدار مرسوم آخر وزراي لنزع ملكية البيوت أيضاً، بهدف إخلاء المنطقة الأثرية كلها من مغتصبيها غير المرغوب فيهم.
على أن إصدار المرسوم شيء، وتنفيذه شيء آخر تماماً، إلى أين سيُنقل سبعة آلاف فرد؟
إن بيوت أهل القرنة لو تَمَّ شراؤها بالثمن الجاري‘ فإن أصحابها لن ينالوا من المال ما يكفي لشراء أرض جديدة وبناء بيوت جديدة.
وحتى لو تم تعويضهم بسخاء، فإنهم وحسب سينفقون النقود في اتخاذ مزيد من الزوجات وبهذا فإنهم يصبحون مشردين بلا أرض ولا مال.
وكان الحل الوحيد هو إعادة تسكينهم، على أن هذا الاقتراح كان حتى ذلك الوقت اقتراحاً مُكلّفاً للغاية.
فقد قُدِّرَ مبلغ مليون جنيه لقريةٍ مشابهةٍ تماماً كان يجري بناؤها للعمال في امبابة خارج القاهرة مباشرةً.
وكان هذا هو الوقت الذي تنبَّهت فيه مصلحة الآثار إلى المباني.
وقد تصادف أن خطرت نفس الفكرة على نحو مستقل لكل من عثمان رستم مدير الهندسة والحفائر، و م. ستوبلير مدير قسم الترميمات في مصلحة الآثار، بحيث اقترح كل منهما على الأب درايتون المدير العام للمصلحة، الاتصال بي بشأن قرية القرنة الجديدة.
وكانا قد شاهدا نموذجيّ من بنايات طوب اللبن، بيوت الجمعية الملكية الزراعية، وبيت الهلال الأحمر، وقد تأثّرا تأثّراً متماثلاً بإمكانات مادة البناء، ورخص تكلفة استخدامها.
وبالتالي فقد ذهب درايتون لرؤية هذه المباني ووافق على الاقتراح، وكانت النتيجة أنه صرَّح لي بإجازة أتغيب فيها عن مدرسة الفنون الجميلة لمدة ثلاث سنوات حتى أبني القرية.
وهكذا كنت في سبيلي لتحقيق أمنية طفولتي، وأنا آمل أن يكون ذلك بتكلفة أرخص بعض الشيء من المليون جنيه. * * *
انعقدت لجنة اختيار موقع للقرنة الجديدة، وتكوَّنت من ممثلين لمصلحة الآثار (رئيس قسم التفتيش، وعثمان رستم، وكبير مفتشي الأقصر)، وعمدة القرنة، ومشايخ النجوع الخمسة فيها وإيَّاي.
وكان على هذه اللجنة أن تعثر على موقع يبتعد تماماً عن كل الآثار القديمة، مما يعني أنه لا يمكن إقامة القرية الجديدة على التلال التي تعلو وادي النهر، وهو الأمر الذي كان يبدو معقولاً بأكثر، ذلك أن هذه التلال كانت مُكتظّة بالمقابر لمسافة تقرُب من ثلاثة أميال ونصف الميل بطول حافة الأرض الزراعية التي تمتلكها القرية، وذلك من وادي المَلكات حتى وادي القرود؛ وأخيراً استقر رأيُنا على رقعة من الأرض الزراعية قريبة من الطريق الرئيسي والخط الحديدي، وتنخفض في أحد الأحواش، أي في حقل جاف باستمرار تتم وقايته من ماء الفيضان بمنظومة من الجسور.
وتم شراء الأرض شراءً جبرياً من مالكها بولس حنا باشا؛ كان هناك خمسون فداناً، ثمن كل فدان منها 300 جنيه مصري.
ومهما كان مشروع بناء قرية كاملة هو في النهاية مشروع جذَّاب، إلا أن الأمر فيه أيضاً ما يُحبط بعض الشيء عندما يواجه المرءُ بخمسين فداناً من أرض بكر وبسبعة آلاف فرد من سُكَّان القرنة كان عليهم أن يخلقوا لأنفسهم حياة جديدة هناك.
وكان هؤلاء الأفراد جميعهم، بما هم عليه من صلة قرابة في شبكة مُعقَّدة من صلات القرابة بالدَّم وبالزواج، وبعاداتهم وميولهم، وبصداقاتهم وعداواتهم -كائناً اجتماعياً في توازن رهيف، يتكامل حميماً مع طوبوغرافية القرية، وصميم لبناتها وأخشابها- هذا المجتمع بأسره كان يلزم أن يتم تفكيكه ليُعاد بناؤه في موقع آخر.
وحتى أصدقك القول، فقد كانت سعادتي من أول الأمر مشوبة بأكثر من ذلك من عامل يثير الهواجس.
فقد كان غريباً بما يكفي أن تُقام قرية بأكملها دون الرجوع إلى مصلحة المباني الأميرية، بل إن ما يثير الخوف أكثر من ذلك أن أجد نفسي المسئول الوحيد عن خلق هذه القرية، ولي مطلق الحرية لأن أفعل بالموقع ما أشاء.
كان الأمر يحتاج إلى مهندس معماري واثق من نفسه جد الوثوق ليبدأ البناء هناك على مرأى من معبد الدير البحري، والرامسيوم، وتحت نظرة الأعين المُنذرة لتمثالي ممنون وهي تُحدِّقُ ببرود عبر الريف تجاه موقعنا.