الحلم والاحتمال والعفو 1350
الحلم والاحتمال والعفو

وأمَّا الحلم والاحتمال، والعفو مع المقدرة، والصبر على ما يكره، وبين هذه الألقاب فرق، فإن الحلم: حالة توقر وثبات عند الأسباب والمحركات.

والاحتمال: حبس النفس عند الآلام والمؤذيات.

ومثلها الصبر، ومعانيها متقاربة.

وأما العفو فهو ترك المؤاخذة.

وهذا كله مما أدَّبَ اللهُ تعالى به نبيه ﷺ، فقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199).

روي أن النبي ﷺ لَمَّا نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عليه السلام عن تأويلها، فقال له: «حتى أسأل العليم».

ثم ذهب فأتاه، فقال: يامحمد، إن الله يأمرك أن تصل مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرمك، وتعفو عَمَّنْ ظلمك.

قال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. (لقمان 17)

وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (الأحقاف 35)

قال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا (النور 22).

وقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (الشورى43).

ولا خفاء بما يؤثر من حلمه واحتماله، وأن كل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، وهو ﷺ لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرًا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلمًا.

حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي التغلبي وغيره، قالوا: حدثنا محمد بن عتاب، حدثنا أبو بكر بن واقد القاضي وغيره، حدثنا أبو عيسى، حدثنا عبيد الله، قال حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيّرَ رسولُ الله ﷺ بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تُنتهك حُرمة الله تعالى، فينتقم لله بها».

وروي أن النبي ﷺ لمَاَّ كُسِرَتْ رباعيته وشُجَّ وجهه يوم أحُدٍ شَقَّ ذلك على أصحابه شقًا شديداً، وقالوا: لو دعوت عليهم! فقال: «إني لم أبعث لعاناً، ولكني بعثت داعياً ورحمة». «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

وروي عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه، فقال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (نوح: 26).

ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون.

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحُسن الخُلُق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر ﷺ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم، فقال: فإنهم لا يعلمون.

ولَمَّا قال له الرجل: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ـ لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله، ووعظ نفسه، وذكرها بما قال له، فقال: ويحك! فمن يعدل إن لم أعدل! خبت وخسرت إن لم أعدل!.

ونهى مَنْ أراد من أصحابه قتله. ولَمَّا تصدَّى له غورث بن الحارث ليفتك به، ورسول الله ﷺ منتبذ تحت شجرة وحده قائلاً، والناس قائلون، في غزاة، فلم ينتبه رسول الله ﷺ إلا وهو قائم والسيف صلتًا في يده، فقال: مَنْ يمنعك مني؟ فقال الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي ﷺ، وقال: مَنْ يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه.

فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.

ومن عظيم خبره في العفو، عفوه عن اليهودية التي سَمَّتْهُ في الشاة بعد اعترافها على الصحيح من الرواية.

وأنه لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره، وقد أعلم به وأوحي إليه بشرح أمره، ولا عتب عليه فضلاً عن معاقبته.

وكذلك لم يؤاخذ عبد الله بن أُبي وأشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته قولاً وفعلاً، بل قال لِمَنْ أشار بقتل بعضهم: «لا، لئلا يُحدث أن محمداً يقتل أصحابه».

وعن أنس (رضي الله عنه): كنت مع النبي ﷺ، وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك.

فسكت النبي ﷺ، ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده.

ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي.

قال: لا. قال: لِمَ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

فضحك النبي ﷺ، ثم أمر أن يُحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر.

قالت عائشة (رضي الله عنها): ما رأيتُ رسول الله ﷺ منتصرًا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حُرمة من محارم الله.

وما ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله.

وما ضرب خادمًا ولا امرأة.

وجيء إليه برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك.

فقال له النبي ﷺ: لن تراع، لن تراع، ولو أردت ذلك لم تسلط علي.

وجاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينًا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب، مُطْلٌ، فانتهره عمر وشَدَّدَ له في القول، والنبي ﷺ يتبسَّم.

فقال رسول الله ﷺ: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحُسن القضاء، وتأمره بحُسن التقاضي. ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعًا لِمَا روعه، فكان سبب إسلامه.

ذلك أنه كان يقول: ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلمًا. فاختبرته بهذا، فوجده كما وصف.

والحديث عن حلمه عليه الصلاة والسلام وصبره وعفوه عند المقدرة أكثر من أن نأتي عليه، وحسبك ما ذكرناه مما في الصحيح والمصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواترًا مبلغ اليقين: من صبره على مقاساة قريش، وأذى الجاهلية، ومصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم، وحكمه فيهم، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم، وإبادة خضرائهم، فما زاد على أن عفا وصفح، وقال: ما تقولون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وقال أنس رضى الله عنه: هبط ثمانون رجلاً من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله ﷺ، فأُخِذُوا، فأعتقهم رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (الفتح: 24).

وقال لأبي سفيان ـ وقد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب، وقتل عمه وأصحابه ومثَّل بهم، فعفا عنه، ولاطفه في القول: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأوصلك وأكرمك؟.

وكان رسول الله ﷺ أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضًا، ﷺ.

من كتاب الشفا يتعريف حقوق المصطفى
للعلامة القاضي عياض

الرابط:
https://www.azhar.eg/ProphetMohamed/ArtMID/6111/ArticleID/10492/