دلالة حديث:
((فمن أعدى الأول؟!)) على أن المقصود بنفي العدوى نفي الاعتقاد الخاطئ في العدوى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى))، فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل، تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول؟!))[28]، وهذا الحديث يدل على أن المقصود بنفي العدوى نفي الاعتقاد الخاطئ في العدوى، من وجهين:
الوجه الأول:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي: أرأيت الإبل، تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ أي مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح تسبب عدوى الجرب scabies، وما دامت مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح سبَّبت عدوى الجرب، فالعدوى موجودة ومؤثرة، ولم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الأعرابي، ولم يقل له: هذا ليس بصحيح، أو هذا خطأ، أو مثل ذلك.
الوجه الثاني:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول؟!))؛ أي: من الذي سبَّب العدوى؟ أو من الذي أنزل العدوى؟ أو من الذي قَدَّرَ حدوث العدوى؟ وسبب مرض الجرب في البعير انتقال الطفيل المسبب للجرب Sarcoptes Scabiei إلى البعير، ثم تكاثره داخل جلد البعير، فيسبب التهابات بالجلد على هيئة بثور تظهر نتيجة الحكة، وكل ذلك بتقدير الله -عز وجل- ولو شاء الله عدمَ حدوث ذلك، لما حدث.
والمقصود أن البعير الأول حدث له مرض الجرب بقضاء الله وقدره، وكذلك الثاني، أو المرض الأول نزل من عند الله وكذلك الثاني، أو انتقل العدوى في الأول بأمر الله، وكذلك الثاني، مما يدل على أن العدوى موجودة، ولكن لا بد من الالتفات لمسبب الأسباب، وعدم اعتقاد أن الأمراض تأتي من نفسها، أو تنتقل من نفسها، أو تؤثر من نفسها.
هل حديث: ((لا يعدي شيء شيئًا)) ينفي حدوث العدوى؟
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعدي شيء شيئًا، لا يعدي شيء شيئًا))، ثلاثًا، قال: فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، إن النقبة تكون بمشفر البعير، أو بعجبه، فتشتمل الإبل جربًا؟ قال: فسكت ساعةً، ثم قال: ((ما أعدى الأول؟ لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة، خلق الله كل نفس، فكتب حياتها وموتها، ومصيباتها ورزقها)) [29]، وهذا الحديث لا ينفي حدوث العدوى، بل ينفي حدوث العدوى بذاتها، من وجوه:
الوجه الأول:
كان السائد عند الناس في العصر النبوي وما قبله أن العدوى تنتقل بنفسها وتعدي بنفسها -إذ لم يكن علم الميكروبات اكتشف بعد- فصحح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفهم، وقال بعدم إمكان حدوث العدوى بنفسها؛ فالمرض المعدي لا يعدي بنفسه، ولكن بواسطة انتقال الميكروب من شيء إلى غيره؛ لذلك قال: ((لا يعدي شيء شيئًا))؛ أي: المرض المعدي لا يعدي أحدًا بذاته، بل الذي يحدث هو انتقال الميكروب من إنسان أو حيوان إلى إنسان أو حيوان آخر، أو العكس، ثم يتكاثر الميكروب، ثم يحدث المرض؛ أي الذي ينتقل هو مسبب المرض causative microorganism لا المرض disease بتقدير الله عز وجل، والقول بغير ذلك جهلٌ بالطب والواقع.
وعلم الميكروبات Microbiology اكتشف عام 1673م على يد أنتوني فان ليفنهوك Antony van Leeuwenhoek.
الوجه الثاني:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي: إن النقبة تكون بمشفر البعير، أو بعجبه، فتشتمل الإبل جربًا؛ أي: مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح تسبب عدوى الجرب scabies، وما دامت مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح سببت عدوى الجرب، فالعدوى موجودة ومؤثرة، ولم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الأعرابي، ويقل له: هذا ليس بصحيح، أو هذا خطأ، أو مثل ذلك.
الوجه الثالث:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أعدى الأول؟))؛ أي: ما سبب العدوى؟ أو ما مصدر حدوث العدوى host؟ أي ما مصدر العامل الممرض؟ أي: أين كان يعيش قبل ذلك؟
وسبب مرض الجرب في البعير انتقال الطفيل المسبب للجرب Sarcoptes Scabiei إلى البعير، ثم تكاثره داخل جلد البعير، فيسبب التهابات بالجلد على هيئة بثور تظهر نتيجة الحكة، وكل ذلك بتقدير الله -عز وجل- ولو شاء الله عدم حدوث ذلك، لما حدث.
الوجه الرابع:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة))، فقرن نفي العدوى مع نفي صفر مع نفي الهامة، والعدوى موجودة، والتشاؤم بصفر موجود من جهة اعتقاد الناس، والهامَة موجودة من جهة اعتقاد بعض الناس؛ لذلك فالنفي في الأمور الثلاثة ليس نفيًا للوجود، لكن نفي الاعتقاد الخاطئ عند الناس في العدوى وصفر والهامة.
الوجه الخامس:
قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((خلق الله كل نفس، فكتب حياتها وموتها، ومصيباتها ورزقها))، مما يدل على أن المقصود أن كل شيء في الكون يحدث بتدبير الله ومشيئته، وكذلك العدوى تحدث بتدبير الله ومشيئته؛ فلا يجوز الاعتقاد في الأسباب ونسيان المسبِّب.
أقوال للنبي صلى الله عليه وسلم تشهد بأنه يثبت حدوث العدوى:
يوجد العديد من الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يثبت حدوث العدوى، وليس إثبات العدوى فحسب، بل يثبت أن العدوى لا تنتقل من نفسها، بل عن طريق عامل مسبب للمرض (الكائنات الدقيقة والطفيليات)، وليس إثبات عامل مسبب للمرض فحسب، بل وضع تدابير للوقاية من العدوى، وللحد من انتشار الوباء، مما يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ومن ضمن هذه الأحاديث ما يلي:
الحديث الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى))، فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل، تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول؟)) [30]، وهذا الحديث يثبت حدوث العدوى، من وجهين:
الوجه الأول:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي: أرأيت الإبل، تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ أي: مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح تسبب حدوث العدوى بالجرب scabies، ولم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الأعرابي، ويقل له: هذا ليس بصحيح، أو هذا خطأ، أو مثل ذلك.
الوجه الثاني:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول؟))؛ أي: من الذي سبَّب العدوى؟ أو من الذي أنزل العدوى؟ أو من الذي قدر حدوث العدوى؟ والسؤال عن سبب حدوث العدوى، أو الذي أنزل العدوى، أو الذي قدر حدوث العدوى - دليل على حدوث العدوى، فلا يجوز أن أقول: من فعل كذا؟ ولا يوجد فعل أصلاً.
الحديث الثاني:
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعدي شيء شيئًا، لا يعدي شيء شيئًا))، ثلاثًا، قال: فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، إن النقبة تكون بمشفر البعير، أو بعجبه، فتشتمل الإبل جربًا؟ قال: فسكت ساعةً، ثم قال: ((ما أعدى الأول؟ لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة، خلق الله كل نفس، فكتب حياتها وموتها، ومصيباتها ورزقها)) [31]، وهذا الحديث يثبت حدوث العدوى، من وجهين:
الوجه الأول:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي: إن النقبة تكون بمشفر البعير، أو بعجبه، فتشتمل الإبل جربًا؛ أي: مخالطة البعير الأجرب للبعير الصحيح تسبب حدوث عدوى الجرب scabies، ولم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الأعرابي، ويقل له: هذا ليس بصحيح، أو هذا خطأ، أو مثل ذلك.
الوجه الثاني:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أعدى الأول؟))؛ أي: ما سبب العدوى؟ ما مصدر حدوث العدوى؟ والسؤال عن سبب حدوث العدوى دليل على حدوث العدوى، فلا يجوز أن أقول: من فعل كذا؟ ولا يوجد فعل أصلاً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أعدى الأول؟))؛ أي: ما سبب حدوث العدوى؟ أو ما مصدر حدوث العدوى؟ يدل على أن العدوى لا تنتقل من نفسها، ولا تحدث من نفسها، بل عن طريق سبب.
وهذا يعتبر سبقًا علميًّا في العصر النبوي، الذي لم يكن فيه علم الكائنات الدقيقة قد اكتشف بعد؛ فالحديث يثبت أن العدوى لا تنتقل من نفسها، بل عن طريق عامل مسبب للمرض، وهو إما كائن دقيق microorganism، أو طفيل parasite، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم من عند نفسه لقال بما هو سائد في عصره أن العدوى تنتقل بنفسها.
الحديث الثالث:
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يورد ممرض على مصح)) [32]؛ أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلا تنتقل العدوى [33]، مما يدل على حدوث العدوى، وهذا يعتبر من التدابير للحد من انتشار الأمراض المعدية.
الحديث الرابع:
عن عبدالله بن عامر: أن عمر خرج إلى الشأم، فلما كان بسرغ، بلغه أن الوباء - أي الطاعون - قد وقع بالشأم، فأخبره عبدالرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم به بأرض، فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه)) [34]، وهذا الحديث فيه نهي عن دخول المناطق التي بها مرض الطاعون، والنهي عن الخروج من المناطق التي بها طاعون، سواء أكان الشخص مصابًا بهذا الوباء أم لا؛ لئلا ينتشر الطاعون في البلاد الأخرى، والطاعون أحد الأمراض الوبائية، مما يدل على إثبات النبي صلى الله عليه وسلم لحدوث العدوى، بل فيه وضع تدبير للحد من انتشار الوباء.
وفي الحديث منع أي شخص من دخول المناطق التي انتشر فيها نوع من الوباء، والاختلاط بأهلها، وكذلك يمنع أهل تلك المناطق من الخروج منها، سواء أكان الشخص مصابًا بهذا الوباء أم لا، وهذا يسمى في الطب: الحجر الصحي للحد من انتشار الوباء.
والوباء ينتقل من مكان توطنه إلى المناطق الخالية منه عن طريق الخروج من البلد التي بها وباء لبلد أخرى ليس بها وباء، أو دخول بلد بها وباء ثم الخروج منها لبلد أخرى.
وإن قيل:
لماذا نُهِيَ الشخص السليم الذي في مناطق الوباء عن الخروج من المنطقة التي بها الوباء؟
فالجواب:
لأن هذا الشخص وإن كان سليمًا في الظاهر فقد يكون حاملاً للمرض وهو لا يدري asymptomatic carrier، أو آثار المرض لم تظهر بعد خلال فترة حضانة المرض incubation period.
وفترة حضانة المرض هي الفترة التي تمر من لحظة التعرض للكائن الدقيق أو الطفيل المسبب للعدوى، وحتى ظهور أعراض المرض، وليس معنى حدوث العدوى infection حدوث المرض disease؛ فقد تحدث العدوى ولا يحدث مرض؛ لأن مناعة الشخص قوية، أو الميكروب ضعيف، لكن يكون الشخص حاملاً للمرض.
والشخص الحامل للمرض قد ينقل المرض لغيره؛ لذلك من حكمة الشريعة النهي عن الخروج من أرض الوباء لبلد أخرى وإن كان سليمًا في الظاهر، فمن علَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك؟
الحديث الخامس:
عن أبي هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد)) [35]، ومرض الجذام من الأمراض المعدية، وتزداد العدوى في الجذام الأسدي؛ ولذلك جاءت الشريعة باجتناب المريض بمرض مُعدٍ كيلا ينتشر المرض عن طريق المخالطة أو الاتصال، فمن علَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك؟
ومن هنا يتبين -بما لا يدع مجالاً للشك- أن السنة النبوية توافق العلم والواقع، والمرض المعدي لا ينتقل بنفسه، بل الذي ينتقل مسبب المرض، وليس كل من حدثت له عدوى يصاب بالمرض المعدي، بل هذا يعتمد على مناعة الشخص وقدرة الميكروب على إحداث المرض، فإذا أراد الله أن يمرض الشخص هيأ له أسباب المرض، وإذا لم يشأ، لا يحدث المرض حتى ولو توافرت أسبابه!
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
=====================
الحواشي:
[1] رواه البخاري في صحيحه رقم 5772، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2225.
[2] رواه البخاري في صحيحه رقم 5707.
[3] رواه البخاري في صحيحه رقم 5776، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2224.
[4] رواه البخاري في صحيحه رقم 5773، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2220.
[5] رواه البخاري في صحيحه رقم 5772، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2225.
[6] رواه البخاري في صحيحه رقم 5707.
[7] رواه البخاري في صحيحه رقم 5776، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2224.
[8] رواه أبو داود في سننه رقم 3910، وصححه الألباني.
[9] إعانة المستفيد؛ لصالح الفوزان 2/ 7 - 9.
[10] رواه البخاري في صحيحه رقم 5772، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2225.
[11] رواه البخاري في صحيحه رقم 5753، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2225.
[12] رواه البخاري في صحيحه رقم 5094.
[13] رواه مسلم في صحيحه رقم 2225.
[14] تحفة الأحوذي 8/92.
[15] مطالع الأنوار على صحاح الآثار؛ لابن قرقول 6/5.
[16] كشف المشكل من حديث الصحيحين؛ لابن الجوزي 2/268.
[17] مفتاح دار السعادة؛ لابن القيم 2/255.
[18] شرح المشكاة؛ للطيبي 7/2261.
[19] رواه البخاري في صحيحه رقم 5707.
[20] فتح المجيد شرح كتاب التوحيد؛ لعبدالرحمن حسن ص 309.
[21] الملل والنِّحَل للشهرستاني 3/81.
[22] انظر حاشية كتاب التوحيد؛ لابن قاسم ص 216.
[23] القول المفيد؛ لابن عثيمين ص 564.
[24] رواه مسلم في صحيحه رقم 2231.
[25] رواه البخاري في صحيحه رقم 5776، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2224.
[26] التمهيد لشرح كتاب التوحيد؛ لصالح آل الشيخ ص 340.
[27] القول المفيد؛ لابن عثيمين ص 570.
[28] رواه البخاري في صحيحه رقم 5773، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2220.
[29] رواه أحمد في مسنده رقم 8343.
[30] رواه البخاري في صحيحه رقم 5773، ورواه مسلم في صحيحه رقم 2220.
[31] رواه أحمد في مسنده رقم 8343.
[32] رواه مسلم في صحيحه رقم 2221، ورواه أحمد في مسنده رقم 9612.
[33] القول المفيد؛ لابن عثيمين ص 565.
[34] رواه البخاري في صحيحه رقم 5730.
[35] رواه البخاري في صحيحه رقم 5707.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/sharia/0/77177/#ixzz5UKCU92ff