وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إذن: فالمعفوْن من الجهاد هم: الضعيف والمريض، والذي لا يجد قوتاً، ولا يجد راحلة؛ فيطلبها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول له رسول الله: (لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ومن في مثل هذه الحالة يحزن مرتين ولا يفرح؛ الحزن الأول: بسبب عجز المسلمين في ذلك الوقت أن يملكوا ما ينهض بنفقات المقاتلين أو أن يجهزوا لهم وسائل الانتقال إلى ميدان القتال، والحزن الثاني: بسبب عدم تواجده في ميدان القتال مشاركاً ومجاهداً، ولا يبقى له إلا مشاركة الاستطاعة بجهاد يختلف عن الجهاد في ميدان القتال.
إنه جهاد حماية القاعدين من إشاعات المنافقين.
ذلك أن المنافقين لن يسكتوا عن محاربة الإيمان، بل سيرجفون بنقل الأخبار الكاذبة إلى أهالي المقاتلين، وهم من نسميهم في الاصطلاح الحديث "الطابور الخامس"، وهم من يُثبِّطون همم ومعنويات أهالي المقاتلين.
إذن: فمن قعد عن القتال بسبب عذر حقيقي فله جهاد آخر في حماية الجبهة الداخلية من أهالي المقاتلين في مواجهة حرب الإشاعات التي يقودها المنافقون.
وهكذا نجد الجهاد فريضة من فرائض الإسلام، ومجاهدة غير المسلمين تكون لأمرين...
الأمر الأول: حين يُعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الدَّاعي ليُسكتوه عن الدَّعوة إلى الله.
والأمر الثاني: أن ينتشر المسلمون في الأرض ليُعْلوا كلمة الله، ليس إكراهاً عليها، فالدين لا إكراه فيه، والسَّيف الذي حُمل في الإسلام، لم يُحمل ليفرض ديناً، وإنما حُمل ليكفل حرية الاختيار للإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بلا إكراه.
وتحرير اختيار الإنسان؛ إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه ديناً آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها، فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه.
إذن: فالإسلام لم يفرض بالسيف، وإلا فمن الذي فرض الإسلام على الذين سبقوا إليه حين كان ضعيفاً لا يملك أن يحمي من دخل فيه؟
وما دام الجهاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد، إما فرض عين -إن غلب المؤمنون على أمر مكروه، وإما فرض كفاية- إن قام به البعض سقط عن الباقين.
ولم يعذر الله من الجهاد إلا هذه الطوائف؛ الضعفاء بشيخوخة أو صغَر، والمرضى أصحاب الداءات، والذين لا يجدون ما ينفقون، وهم قسمان: قسم لا يجد ما ينفقه على نفسه، وقسم لا يجد ما ينفقه على الحرب، أي: لا يجد أدوات القتال أو الراحلة التي يركبها.
ورفع الحق سبحانه الحرج عن هؤلاء، ووظَّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك.
أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد: ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال.
فهذا إذن بالقعود، لكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون.
ولذلك قال الحق: (تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ) وكلمة "تفيض أعينهم" توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين.
والفيض دائماً للدموع، والدموع هي ماء حول العين؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال: "بكيت دما”.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنين على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى: "فاضت دموعهم"، ولم يقل: "بكوا دماً بدل الدموع"، وإنما قال: (وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ)، فكأن العين ليس فيها ماء، ولا دم، ولم يعد إلا أن تفيض العين على الخد، وذلك إظهار لشدة الحزن في القلب، وهذا المجاهد لا لوم عليه ولا ذنب؛ لأنه فعل ما في وسعه وما في طاقته وعبر عن ذلك بحرقة مواجيده على أنه لم يكن من أهل الجهاد.
ثم يقول الحق سبحانه: (إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى...).