أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة التوبة الآيات من 121-125 الإثنين 16 سبتمبر 2019, 2:45 pm | |
| وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كل شيء -إذن- محسوب، فحتى هؤلاء الذين أنفقوا، فالله سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيُجازيهم عليه، وهؤلاء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته، فالله سبحانه يكتب لهم الخير.
وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنشر الدعوة.
وجاء قول الحق: (وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ...).
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة التوبة الآيات من 121-125 الإثنين 16 سبتمبر 2019, 2:45 pm | |
| وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذه الآية جاءت عقب آيات المتخلفين عن الغزو مع رسول الله، وجاءت بعد أن بَيَّنَ اللهُ سبحانه مزايا المجاهدين وما يُثيبهم الله به جزاء هذا الجهاد في قوله سبحانه: (ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (التوبة: 120-121).
كانت تلك هي الحيثيات التي ترغِّب الناس في الجهاد ترغيباً يخرجهم عمّا ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية.
وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا: إنها تتمة لآيات الجهاد، وما دام الله قد رغَّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحده، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستقبل وحي الله.
واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيَّن أن الإسلام مُنزَّل من الله على رسوله ليبلغه للناس؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين: أمر يحمله إلى الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنساناً يضحي بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لابد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص.
لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يوحي به الله.
إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولاً.
ومن السامعين لرسول الله ثانياً؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يُعْلِمون؟
إذن: فلابد أن يحافظ المسلمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلاد.
فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمراً واحداً، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله.
فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض، فقال: (وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً).
وساعة تسمع "كَانَ" منفيةً فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي: ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي: جميعاً، بدون أن يبقى منهم أحد.
و (كَآفَّةً) مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول: "أريد أن أكفّف الثوب" معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن: فمعنى كلمة (كَآفَّةً): جميعاً.
ولنا أن نتساءل: لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعاً، أليس الجهاد إعلاماً بمنهج الله؟
نقول: نعم هو إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لابد أن تكون عنده حصيلة يُعْلِم بها، وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منهج السماء حين ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إذن: فلابد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض جميعاً، ولو انصرف كل هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام؛ لذلك قال الحق: (وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً) وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي: لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم.
ونحن نعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة أناس كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن يقلل من فصاحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إنها فصاحة دون من خطب، ودون من قال، ودون من شعر، فجاء الرد عليهم من الحق: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (يس: 69).
أي: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يُعلِّمه الشعر؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلَّمه، لماذا؟
لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- مُرْتاض على صناعة البيان وأساليب الأدب، وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، ويعلن -صلى الله عليه وسلم- أن هذا البيان ليس من عنده.
وقد عاش الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعراً، فكل ما جاء به بلاغاً عن الله لا يُنسب لمحمد، ولكنه منسوب إلى رَبِّ محمد.
وقوله الحق: (وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (يس: 69) أي: لا يصح أن يكون الأمر، رغم استعداد محمد -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وكان من الممكن أن يُعلِّمه رَبُّهُ الشعر وفنون القول؛ ولذلك حينما قال أناس: إن القرآن من عند محمد، جاء القول الحق مبلِّغاً محمداً: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (يونس: 16).
وقد عاش بينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين عاماً ولم يقل قصيدة أو مقالة.
ومَنْ الذي يستطيع أن يُؤَخِّرَ عبقريته إلى الأربعين؟
نحن نعلم أن ميعاد بَدْء العبقرية إنما يظهر من قبل العشرين، أي: في العقد الثاني من العُمر، ولا أحد يُؤَخِّرُ ظهور عبقريته.
إذن: فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما نزل عليه القرآن بالترغيب في الجهاد كادت المدينة تخلو من المسلمين؛ فجاء قوله الحق: (وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
وفي هذا القول الكريم محافظة على أمرين؛ أمر استقبال وحي الله، وأمر الإعلام به، وبذلك يتنوع الجهاد، طائفة تستقبل، وطائفة تُعلِّم وترسل؛ لأنهم لو تركوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- جميعاً، فكيف يصل الوحي من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المؤمنين؟
ولو أنهم جلسوا جميعاً في المدينة فمن الذي يسيح في الأرض معلِّماً الناس؟
أما إذا بقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه، في فترة لا قتال فيها، فهذا أمر مختلف؛ لأنها ستكون فترة استقبال فقط.
وكذلك إن خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن يصحبوه؛ لأن الرسول القادر على استقبال الوحي من الله موجود معهم، وكذلك الإعلام بالرسالة موجود.
إذن: فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الخارجين للجهاد، فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد، وظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فعليهم أن ينقسموا قسمين: قسماً يبقى مع رسول الله ليتعلم منهج الله، وقسماً يخرج إلى القتال.
حين كان الرسول يخرج إلى القتال فالمهمة تسمى غزوة، وإذا لم يخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأرسل جماعة للقتال سُمِّيت العملية بـ "السَّرِية”.
ولم يخرج عن التسمية بالسرية إلا عملية واحدة سُمِّيت غزوة ولم يخرج فيها رسول الله، وكان المفروض أن تُسمى سرية ولكنها سميت غزوة.
وقد خرجت المهمة عن اصطلاح السرية إلى اصطلاح الغزوة، رغم أن رسول الله لم يحضرها؛ لأن المعركة حدث فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات، فقد كانت معركة حاسمة وقُتل فيها عدد من المسلمين، وحمل الراية مقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل، فحملها ثالث، وكانت المعركة حامية الوطيس فقالوا: لا يمكن أن نسمي تلك المعركة بـ "السَّرية" بل هي غزوة؛ لأن فيها عنفاً شديداً.
لم يلحظوا شيئاً واحداً وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام الانطباق على مؤتة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في المدينة والمسلمون خارجون للغزو وأرسل إلى القوات: إن مات فلان في القتال فيليه فلان، وإن مات فلان ففلان يخلفه، أي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قد سلسل أمور الغزوة قبل أن تبدأ.
وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات، من بين مثيلاتها، من الحملات المحددة التي لم يخرج فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المقاتلين، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم مُقدّماً بمن سيموت من هؤلاء الخارجين إلى القتال.
ثم وصلت الحملة إلى موقعها ودار القتال، وكان الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة والتفت الصحابة فسمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلم؛ قال: أخذ الراية فلان فقُتل، ثم أخذها بعده فلان فقُتِل.
ثم قال: وأخذها بعده فلان، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقصّ المعركة وهو في المدينة فقالوا: لم يقل ذلك إلا لأنه شهد.
وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن الأمر قد دار كما رواه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المدينة، وقد حدث مطابقاً غاية التطابق، فقالوا: شهدها رسول الله؛ وما دام قد شهدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي غزوة.
ونعود إلى الآية التي يقول فيها الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ) (التوبة: 122).
وساعة تسمع كلمة "لولا" فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظاً قريبة من بعضها، فـ "لو" و "لولا" و "لوما" و "هلاَّ"، هي -إذن- ألفاظ واردة في اللغة، وإذا سمعت كلمة "لو" فهذا يعني أن هناك حكماً بامتناع شيئين.
شيء امتنع لامتناع شيء، مثل قولك: "لو كان عندك زيد لجئتك" وهنا يمتنع مجيئك لامتناع مجيء زيد، فكلمة "لو" حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جئتني في بيتي لأكرمتك.
إذن: فأنا لم أكرمك لأنك لم تأت.
وتقول: "لولا زيد عندك لجئتك" أي: أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد.
إذن: فـ "لولا" حرف امتناع لوجود.
ونلحظ أن "لولا" هنا جاء بعدها اسم هو "زيد"، فماذا إن جاء بعدها فعل، مثل قولك: "لولا فعلت كذا"؟
هنا يكون في القول حضٌّ على الفعل، مثل قوله الحق: (لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) (النور: 12).
ومثل قوله: (لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ) (النور: 13).
ومثلها أيضاً "لوما" مثل قوله الحق: (لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ) (الحجر: 7).
وأيضاً قولك: "هَلاَّ”.
فهي أيضاً تحضيض مثل قولنا: "هلا ذاكرت دروسك"؟
وأنت بذلك تستفهم بـ (هل)، وجئت بالمد لتصبح (هلاَّ)؛ لتحثه على المذاكرة.
أو قولك: "هلا أكرمت فلاناً؟" وفي هذا حَثٌّ على أن تكرم فلاناً.
والأسلوب هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهم: (وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً) ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ)، والقسمان يذهب أحدهما للإعلام وللجهاد.
والقسم الثاني يظل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يستقبل منهج السماء.
وقوله الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ) فيه كلمة (نَفَرَ) وهي من النفور.
لكنها استعملت دائماً في مسألة الخروج للحرب، مثل قوله الحق: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ) (التوبة: 38-39).
ولماذا يجيء الحق بالنفرة في الجهاد؟
نقول: لأن الذي يعوق الإنسان عن الجهاد حبه لدَعَته، ولراحته، ولسعادته بمكانه، وبأهله، وبماله، فإذا ما خرج للقتال شَق ذلك على نفسه، ولذلك يقول الحق: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216).
وفي ذكر أمر الكُرْه إنصاف لهم، فصحيح أن القتال أمر صعب ويكرهه الإنسان، لكن الحق قد كتبه، والمسلم إذا استحضر الجزاء عليه فهو يحتقر ما يتركه؛ لأنه قليل بالنسبة لعطاء الله؛ لذلك ينفر المؤمن الحق من الذي يملكه، ويذهب للثواب الأعلى، وهذا هو معنى التحديد في أنهم سمّوا الجهاد نفرة، فحين يقارن المؤمن بين حصيلة ما يأخذه من الجهاد وما يمسكه عن الجهاد لتساءل: ما الذي يجعلني أتمسك بالأقل ما دام هناك عطاء أكثر؟
فلما جاءت (فَلَوْلاَ نَفَرَ) فهموا أن هذه الآية من تتمة الكلام عن الجهاد، ولتبقى طائفة من المؤمنين؛ لتسمع من رسول الله الوحي، وقد يتساءل المسلم حين يقرأ الآية ويجد قوله الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ)، هنا يقول المسلم لنفسه: وهل تنفر الطائفة التي تتفقه في الدين، إنها الفرقة الباقية والمستقرة مع رسول الله في المدينة؟
ونجيب: إن قوله الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) نجد فيه كلمة (فِرْقَةٍ) وهي الجماعة، والجماعة إنما تنقسم إلى طوائف.
مثلما نسمي في الجيوش "الفرقة الأولى" و"الفرقة الثانية" و"الفرقة الثالثة"، ثم نقسم الفرقة الواحدة إلى: "جماعة الاستطلاع" و"جماعة التموين" و"الشئون المعنوية"، ونجد كلمة (طَآئِفَةٌ) وهي تعني "بعض الكثرة”.
وما دام الحق قد قال: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) فهذا يعني أنه سبحانه قسمهم إلى طائفتين، إحداهما تنفر، والأخرى تبقى لتتفقه في الدين.
إذن: فكأن أسلوب القرآن أسلوب أدائي كل ينفر لمهمته.
(فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) يبين أن طائفة منهم تكون قتالية والأخرى إعلامية مهمتها (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ) فمن يجلس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليستمع إليه، فهو يجهز للمقاتل حيثيات ما يجاهد على مقتضاه، وحين يرجع المقاتلون يُبلِّغهم من جلس مع الرسول ما نزل عليه -صلى الله عليه وسلم- من وحي، ويتناوب المسلمون الجلوس مع الرسول في المدينة، والقتال، وكل طائفة تؤدي مهمتها.
وهناك من العلماء من رأى رأياً آخر، وأخذ المسألة كلها مكتملة على بعضها، وقال: إن من بقي مع رسول الله له لون آخر من المجاهدة، ولأنه يأخذ من الرسول -صلى الله عليه وسلم- علْماً جديداً، يتبادله مع المقاتلين في ساحة القتال بعد أن يعودوا، فالمقاتلون في ساحة الجهاد يعودون بما يؤكد نصرة الله للقلة على الكثرة، وإمداد الله سبحانه للمؤمنين بالملائكة، وتهدم العدو، والمعجزات التي رأوها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنبوع الماء من بين أصابعه في حال قلة المياه عند العطش.
ثم إنهم يسمعون من المجاهدين الجالسين لتلقي العلم أخبار الوحي والفقه، وهكذا يتكافأ المؤمنون في المهام، وكأنهم البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً.
وما تقدم هو فهم للآية إذا كانت خاصة بالجهاد، فماذا إذا كان للآية موضوع آخر غير الجهاد؟
نقول: إن الجهاد إعلام بمنهج الله في الأرض، والإعلام بمنهج الله في الأرض يقتضي المنهج المعلوم من السماء الذي يوضح مصير المجاهدين، ومصير المتخلفين.
وهو هنا سبحانه يوضح أمر استقبال ما نجاهد من أجله.
(فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ) أي: يذهب بعض المسلمين إلى البلاد التي حول المدينة؛ ليقولوا للناس حقيقة الإسلام، وأيضاً أن يأتي آخرون من البلاد الأخرى لِيَعْلَمُوا أمر الدين، ويعلموه لأهاليهم.
ويكون قول الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) مقصود به هؤلاء الذين يأتون من الأماكن البعيدة عن المدينة؛ ليجلسوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسمعوا، ويتفقهوا في الدين؛ ليرجعوا إلى مجتمعاتهم، ويعلموهم أمور الإيمان.
إذن: فالآية إما أن تكون من تتمة آيات الجهاد، وإما أن تكون أمراً مستقلاً للذين يبعد بهم المكان عن منبع المنهج، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم من يأتون إليه من أي مجتمع؛ ليرجعوا بعد ذلك لقومهم، ويبلغوهم مطلوبات المنهج، وهذه مسألة بعيدة عن القتال.
إذن: تكون النفرة للتفقه في الدين على أي معنى، ليس هناك فرق بين الطائفة الباقية التي تتفقه؛ لتعلِّم الطائفة التي تجاهد، أو الطائفة التي تجاهد تتفقه بالمعجزات وبالأحداث التي حدثت أثناء قتالهم وتعلمها للطائفة التي لم تخرج للقتال.
أو أن المعنى هو الأمر الثاني الذي لا قتال فيه، بل يتناول أمر استقبال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لطائفة من كل بلد ليسمعوا منه -صلى الله عليه وسلم-، وقد سماها الحق "نفرة"؛ لأنها جهاد في البحث في المنهج وتعلمه، وهي نفرة النفرة؛ لأن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فهماً لحيثيات الدفاع عن هذا المنهج المنزَّل من الله.
وقوله الحق: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ) علمنا منه أن الفرقة هي الجماعة، والجماعة إما أن تنقسم إلى أفراد وإما إلى طوائف، والفرقة أقلها ثلاثة؛ لأنها جمع.
وحينما يذهب اثنان من هذه الفرقة للتعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعودان للبلاغ عنه -صلى الله عليه وسلم- نكون أمام خبر من شاهدين اثنين بأن النبي قال كذا وأبلغ بكذا، وكذلك قد يصح أن يكون المبلِّغ عن الرسول شاهداً واحداً، واختلف العلماء المسلمون فيما بينهم، هل يأخذون الخبر عن واحد فقط مبلِّغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم لابد من الأخذ بالخبر من شاهدين اثنين؟
وقد جاءت الآية صريحة في أنه (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) والفرقة أقلها ثلاثة، والطائفة إما أن تكون اثنين وإما أن تكون شخصاً واحداً يرجع إلى قومه؛ ليفقههم في الدين، ويؤدي البلاغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتحفَّظ البعض على ذلك بأن قالوا: إن الذي نفر ليس فرداً من الفرقة، بل طائفة من الفرقة، ومفردات الفرقة طوائف لا واحد، وكلمة طائفة مقصود بها الجماعة.
والنفرة لها علة محددة يذكرها الحق: (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ) فالتفقُّه إذن هو سبب النفرة، مثلما نبعث بعثة في أي بلد متقدم؛ لنأخذ بعلوم الحضارة، فإن خرج واحد عن حدود البعثة؛ ليلعب، ويلهو، فهو لم يحقق النفرة.
لابد إذن من أن يستوعب كل واحد في البعثة أنه قد جاء للتفقه.
والفقه في اللغة: هو الفهم، ويقال عن أي أمر تفهمه: فقهتُ الأمر الفلاني.
فإن فهمت في الهندسة فهذا فقه، وإن فهمت في العلوم فهذا فقه، ولكن المعنى الذي غلب هو الفقه لأحكام الله؛ لأن هذا الأمر هو أهم أمور الحياة، فالفقيه في الدين هو من يبيّن للناس حدود المنهج بـ "افعل" و "لا تفعل”.
إذن: الفقه مطلقاً هو الفهم، لكنه أصبح مصطلحاً يعني فهم أحكام الله؛ لأنه هو الذي يحدد الصواب والخطأ.
ولا يقال: "الفقيه" إلا لمن فَقُه.
وهناك فرق بين فَقه وفَقُه.
فَقُهَ في دين الله، أي: أصبح الفقه عنده ملكه، وساعة تسأله في أي موضوع لا يتردد، بل يجيب؛ لأن الفقه صار ملكه عنده، والملكة: الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل.
وكذلك الفقه.
وهكذا نعرف أن معنى فَقِهَ: "فهم شيئاً”.
أما فَقُهَ فمعناها: صار الفقه عنده مَلَكَة.
وقوله الحق: (لِّيَتَفَقَّهُواْ) أي: ليعلموا أحكام الله، ويصير هذا العلم: من بعد ذلك مَلَكَة عندهم.
ولكنْ ماذا إن نفروا لشيء آخر مثلما ينفر واحد من البدو ليسأل جماعته: إلى أين تذهبون؟
فيجيبون: نذهب إلى رسول الله لنسمع منه، فيذهب معهم.
لكنه لا يسمع بل يذهب هنا أو هناك، ولا يجلس لتفقُّه العلم، على الرغم من أن علّة نفوره مع غيره هي التفقّه في الدين؛ وليعلم حقائق هذا الدين؛ لينذر به قومه حين يعود إليهم، فالفقيه لا يطلب جاهاً، أو رئاسة، أو وظيفة، بل هو يبين للناس متطلبات الحركة على هذا المنهج الحق، ولينذرهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي: يتجنَّبون ما يضرُّهم.
وحين ندقق في هذا الأمر نجده عدة مراحل: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) هذه هي المرحلة الأولى، ثم (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ) هذه هي المرحلة الثانية وهي التفقه، أما الثالثة فهي (وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ)، ومن تفقه لغير هذا؛ ليشار إليه بالبنان مثلا.
نقول له: أنت من الذين قال الله فيهم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 103-104).
إذن: فالتفقه يكون للدعوة تبشيراً وإنذاراً؛ حتى يتجنب القوم ما يضرهم.
ويقول سبحانه بعد ذلك: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة التوبة الآيات من 121-125 الإثنين 16 سبتمبر 2019, 2:54 pm | |
| يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى.
ولنا أن نتساءل: لماذا -إذن- جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد؟
أجيب: شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر؛ لتعلُّم الفقه، وليعلِّم غيره؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلُّم، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله.
وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين: فرقة تنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تَتَعَلم وتعلِّم، وتتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة، ومن بعد ذلك يتجهون إلى الكفار.
(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ) وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال: (وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) (التوبة: 36).
إذن: فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك فيه تأمين لمعسكر الإيمان؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحاله أكثر من علمك بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم.
فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك "كماشة" بلغة الحرب، فلابد أن تحمي ظهرك أولاً.
من شر العدو الأقرب.
إذن: فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب.
ولا تَعارض بين قوله الحق: (قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ) وقوله سبحانه: (وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً)؛ لأن معنى (كَآفَّةً) أي: جميعاً، ولكن الجماعة لها أولوية.
فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، ومتى ضممته إليك نقصت أرضاً من عدوك، وأصبح زائداً فيك، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه.
ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار: اعتبروا أيها الكفار، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم، وما ينقص من أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان.
وما دام الحق قد جاء بكلمة "قتال" فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة، وجرأة تُجَرِّىء على القتال، وصبر عليه، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعته، وأحسَّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك؛ ولذلك يقول الحق: (وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً) والغلظة صفة، ويقال: غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَة، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة.
وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين؛ في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف.
إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك، وغلظة تتحمَّل من عدوّك.
ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيها الحق: (ٱصْبِرُواْ) (آل عمران: 200).
ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً، فيأتي الأمر من الحق: (وَصَابِرُواْ) (آل عمران: 200).
أي: حاول أن تغلبه في الصبر.
وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء المعركة؛ لأن العدو قد يستنيم المؤمن؛ لذلك جاء الأمر من الحق: (وَرَابِطُواْ) (آل عمران: 200).
أي: استقر أيها المؤمن في الأرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى.
إذن: فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمّل، والتحمُّل يقتضي صبراً، والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن تصابره أي: تصبر أكثر منه، وهي مأخوذه في الأصل من "نافس فلان فلاناً.
أي سابقه وحاول أن يسبقه"، والمنافسة من النفس، والحق يقول: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).
أي: تنافسوا في الخير، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء آخر خمس أو ستَّ مرات في اليوم.
وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً.
فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر.
أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان.
وقلنا قديماً: إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك الطعام، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات؛ ولذلك لم يملِّك الله الهواء لأحد أبداً، وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض، ولذلك سُمّي استنشاق الهواء وزفيره بالتنفس، وهو من النفس، وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح، والأساس هو نَفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة.
وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله.
وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه: (وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً) أي: غلظة تحمل بها على العدو، وغلظة تتحمَّل من العدو، وأن تصبر، وتصابر، وترابط.
وكيف يطلب الله منا أن تكون لنا غلظة عليهم مع أنه قال لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
فإن هذا ينفي الغلظة، وأقول: لِنُفرق بين أمرين، أمر الغلظة في أن تكون الحجة قوية، وأمر الغلظة التي يتطلبها القتال، أما المعايشة والمآكلة والملاطفة، فهذه تحتاج إلى لين ورِقَّة.
وقوله الحق: (وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً) يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك إن تَطَلّبَ الأمرُ فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا: إن الله لم يطبع المؤمن على الغلظة، ولم يطبعه على الشدة، ولم يطبعه على العزة، بل قال: (أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29).
وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).
ويُنهي الحق الآية: (وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ).
إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتِك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان.
ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحارى مقفرة أو طريقاً موحشاً، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح؛ فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة.
أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى.
وما دام الله مع المتقين، ولله معيَّة مع المتقين فلابد أن يمدهم بمدده؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله: (أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ) لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم، فيدخل على الكافر بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان، فيقول: أسلمت واستسلمت، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر، ويعتبرها مغنماً.
لذلك يأتي التحذير في قول الحق سبحانه: (أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ) فإن سلَّم لك واستسلم؛ فاستأسره، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقاتل، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوباً، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا وهنا تكون معيه الله لك (أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ).
إذن: فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة.
فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة؛ فلابد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة.
ولذلك يقولون: الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كميّاً وفي البيت صبيّاً، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها.
هكذا نفهم قوله الحق: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123).
أي: كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن استعملها لله؛ لتضمن أن تكون في معية الله.
ويقول سبحانه بعد ذلك: (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ...).
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله الحق: (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ) يعني: إذا نزلت، ونعلم أن هناك "نَزَل" و"أَنْزلَ" و"نَزَّل" فـ "أنَزَل" للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ثم نزّله الحق نجوماً.
فالتنزيل معناه: موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزله الحق، ونزل به جبريل -عليه السلام-، -على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل -عليه السلام-، بالقرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحق سبحانه يقول: (وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء: 105).
وفي آية أخرى يقول سبحانه: (نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ) (الشعراء: 193).
وهنا يقول الحق: (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ) والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛ أوله مثلاً: (بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ) وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: (بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ) ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان.
وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟
إن المقصود هو نزول بعض من القرآن.
وتتابع الآية: (فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان.
ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.
وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل -ولله المثل الأعلى- أنت تأتي بمطرقة مثلاً.
وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.
إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لابد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه.
فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه.
لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به.
وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ.
هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.
فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لابد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة.
وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.
إذن: فأخْرِج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استَقبل الاثنين.
لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق.
ويصف سبحانه المصرين على الكفر: (وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ) (التوبة: 93).
أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها.
إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تنفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر.
فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.
ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه.
إذن: لابد أن تخرج ما في ذهنك أولاً.
لتستقبل القرآن.
فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء.
أما الكافرون والمنافقون، فمنهم من يقول: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع.
ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجهه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأَكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق: (وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً) (محمد: 16).
ويقول: (وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (فصلت: 44).
إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر.
هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ) وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.
إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف.
ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفاً فيه اختلاف بينهم (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.
فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
والمثال: هو قول الإمام على -كرَّم الله وجهه-: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً.
أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولا.
ثم ينفذ متطلبات الآية.
وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص.
وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً) هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟
لابد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله يخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً).
ويرد الحق سبحانه: (فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) و "يستبشر" أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط.
وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديد من الله.
هذا هو معنى "يستبشر”.
أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: (وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم...).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 17 سبتمبر 2019, 1:13 am عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة التوبة الآيات من 121-125 الإثنين 16 سبتمبر 2019, 2:55 pm | |
| وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
والرجس: هو الشيء المستقذر، وتكون القذارة حسية، ومرة تكون معنوية.
فالميتة مثلاً قذارتها حسية؛ لأنها ماتت ودمها فيها، والدم -كما نعلم- له مجريان؛ مجرى للدم قبل أن يكرر، ومجرى آخر للدم بعد أن يكرر، والدم قبل أن يكرر يمر على الرئة والكلى فتنقيه الرئة والكلى من الأشياء الضارة التي تصل إليه نتيجة تفاعلات أعضاء الجسم المختلفة.
وبعد أن تتم تنقيته عن طريق الرئتين والكلى يصير دماً صالحاً.
فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة رجساً.
والخمر أيضاً نجاسة حسية ورجس.
وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق: (إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ) (المائدة: 90).
إذن: فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضاً، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته.
وفي ذلك يقول الحق: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ) (الأنفال: 11).
وهنا يقول الحق: (وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ) ولأنهم يكفرون بالله وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجساً على رجسهم ويصبح كفرهم مركَّباً، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر.
ويقول سبحانه بعد ذلك: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي...). |
|