منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي المنتدى)
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه)

(فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 سورة المائدة الآيات من 011-015

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:05 pm

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [١١]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

والذكر -كما عرفنا- يعني استحضار الشيء إلى الذهن؛ لأن الغفلة تطرأ على الإنسان وعليه ألا يستمر فيها.

وبعض أهل الإشراق والشطح يتلاعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم: يعلم الله أني لست أذكره.

وحين يسمع الإنسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف، لكن القائل يحلل الأمر التحليل العرفاني.

فيُكمل بيت الشعر بالشطر الثاني:
"إذْ كيف أذكره إذْ لست أنساه".

وهنا ترتاح النفس، ويقول الحق هنا أيضاً: {نِعْمَتَ ٱللَّهِ} ولم يقل: "نعم"؛ لأن كل نعمة على انفراد تستحق أن نشكر الله عليها؛ فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها، أو أن نعمة الله هي كل فيضه على خلقه، فأفضل النعمة أنه ربنا، وسبحانه يقول: {ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}.

ومادام قد جاء بـ "إذ" فالمراد نعمة بخصوصها؛ لأن "إذ" تعني "حين" فالحق يوضح: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت الذي حدثت فيه هذه المسألة؛ لأنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف، إنه يذكرنا بالنعمة التي حدثت عندما همّ قوم ببسط أيديهم إليكم.

وهناك "قبض" لليد و"بسط" لليد.

والبسط المنظور أن ترى النعمة.

وفي الآية تكون النعمة هي كف أيدي الكافرين، ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر.

ولو وقفنا عند بسط اليد؛ لظننا أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبراً للنعم علينا أي أن نعم الله تعبر وتصل إلينا عن طريقهم وبأيديهم، لكن هذا ليس مرادا من النص الكريم؛ لأننا حين نتابع قراءة الآية، نعرف أن كف أيديهم هو النعمة، فهؤلاء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم بالإيذاء.

ويقولون عن بذاءة اللسان: "بسط لسانه" ويقولون أيضاً: "بسط يده بالإيذاء”.

ونعرف أن الحق جاء بـ "إليكم" أو "عنكم" وكلاهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا همّ قوم أن يبسطوا أيديهم إلى رسول الله، ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول الله؛ لأن كل شيء يصيب رسول الله، يصيب المؤمنين أيضاً.

وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق، فهل يعني الحق سبحانه وتعالى بحادثة بني النضير، وكان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبني النضير معاهدة ألا يعينوا عليه خصوم الإسلام وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير المعاونة في الدية، وكان النبي قد أرسل مسلماً في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ، فطالبوا بدية للقتيلين.

ولم يكن عند النبي؛ مالٌ فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين، فقالوا له: "مرحبا" نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد، ثم سلطوا واحداً ليرمي الرسول بحجر.

فصعد الرجل ليلقي على الرسول صخرة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد إلى جانب جدار من بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجاً، ولم ينتظر شيئا.

{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن يتمكنوا من الفعل.

و"الهمّ" هو حديث النفس، فإذا ما خرج إلى أول خطا النزوع فذلك هو القصد، و"الهم" هو الشيء الذي يغلب على فكر الإنسان في نفسه ويكون مصحوباً بغم.

 وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول: "أنا في هم وغم"؛ لأن "الهم" هو الأمر الذي لا يبارح النفس حديثاً ويسبب الغم.

فالهم هو العدو الذي لا يقدر أن يقهره أحد؛ لأنه يتسرب إلى القلب، أما أي عدو آخر فالإنسان قد يدفعه، ونعرف عن سيدنا الإمام علي -رضوان الله عليه وكرم الله وجهه- أنه كان مشهوراً بأنه المفتي؛ فهو يُستفتى في الشيء فيجيب عليه، لدرجة أن سيدنا عمر نفسه يقول: "قضية ولا أبا حسن لها" أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها فيحلها، وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان لا يوجد به سيدنا علي.

وعندما عرف الناس عنه ذلك تساءلوا: من أين يأتي بهذا الكلام؟.

فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه.

فقالوا: إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الأشياء، وقوى تتسلط على قوى، وحاولوا الاتفاق على شيء أقوى من كل الأشياء؛ فقال واحد: الجبل هو أقوى الأشياء.

وقال الآخر: لكنا نقطع منه الأحجار بالحديد.

وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له: يا أبا الحسن ما أشد جنود الله؟.

فأجاب سيدنا علي -كَرَّمَ اللهُ وجْهَهُ- كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود الله وعرف الأقوى وحصر عددهم، وقال سيدنا علي: أشد جنود الله عشرة.

وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل، ودرسها.

قال: الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته؛ والسُّكْر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله الهم.

ولا يمكننا أن نمر على كلمة "الهم" في القرآن إلا أن نستعرض مواقعها في كتاب الله.

وأهم موقع من مواقعها نتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة يوسف عليه السلام حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24].

ولنحقق هذه المسألة، فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلام هذا الأمر، يستبعدون على صاحب العصمة أن يُفكر في نفسه، وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو محتمل.

بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه؛ لأن شغل النفس بهذا الأمر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة.

ولكنهم يُجِلّون ويعظمون -أيضاً- سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا الأمر فضلاً على أن يوسف -عليه السلام- لم يكن قد أرسل إليه، أي أنه لم يكن رسولا آنذاك.

الآية تقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24].

أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلام فهل تم نزوع إلى العمل؟.

لا، لأن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف.

إذن فـ "همَّت به" أي صارت تحب أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف.

وبالنسبة للمُرَاوَدِ وهو سيدنا يوسف، قال الحق: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24].

ونضرب لذلك مثلاً حتى نفهم هذا؛ إذ قال لك قائل: أزورك لولا وجود فلان عندك، هذا يعني أن القائل لم يزرك، وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلام رأى البرهان فلم يهم.

فمن أراد أن ينزه يوسف حتى عن حديث نفسه نقول: الأمر بالنسبة لها أنها همَّت به، وحتى يتحقق الفعل كان لابد من قبول لهذا الأمر، وصار الامتناع لكنّه ليس من جهتها بل جاء الامتناع من جهته.

وهو قد همَّ بها لولا أن رأى برهان ربه.

 لماذا جاء الحق: بأنه همَّ بها لو أن رأى برهان ربه؟

جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على الحكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء.

وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماماً، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه، إنه امتناع ديني.

لا امتناع طبيعي.

وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماماً.

 ونعود إلى الآية التي نحن بصددها: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} وكلمة "قوم" إذا سمعتها ففيها معنى القيام، والقيام هو أنشط حالات الإنسان.

وكما أوضحنا من قبل نجد أن الإنسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما.

ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة، فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الآخرين؛ لأن ثقل جسمه كله على قدميه الصغيرتين، وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة.

وإذا اضطجع فرقعة الاحتمال تتسع.

ولذلك يطلقونها على الرجال فقط؛ لأن من طبيعة الرجل أن يكون قواماً، ومن طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة.

فالقوم هم الرجال.

ومقابل القوم هنا "النساء”.

إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام.

والشاعر يقول:
وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وحين يقول الحق: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونجد هنا أيضاً أن البسط مجال تساؤل، هل البسط يعني الأذى أو الكرم؟.

والحق يقول: {وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ} [الشورى: 27].

هذا (في مجال العطاء) أما في مجال الأذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لأخيه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28].

والأيدي لاتطلق إلا إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى النفس سبق أَن مرّ على العقل من قبل، فمد الأيدي يقتضي التبييت بالفكر، وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول الله والمؤمنين.

 وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

أي أنهم قعدوا للتبييت.

ونحن لا نعرف ذلك التبييت إلا إذا امتدت الأيدي للعمل، فقد مكروا وبيتوا للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول الله أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى يوهنوه ويعجزوه فلا يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده.

بإثباته ومنعه فلا يبرح، أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه، فماذا كان الموقف؟

لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم.

وبسط اليد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤذي المؤمنين كلهم، لأنه لا يستقيم أمر المؤمنين إلا برسول الله، فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل.

ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون أيديهم بالأذى إلى رسول الله وإلى المؤمنين ويكف الله أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك بالعقاب.

 والمكر -كما نعلم- هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الآخر حيث لا نعرف أي ورقة تنمو من أي جذع أو فرع.

والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء.

وهو دليل ضعف لا دليل قوة.

فالأقوياء يواجهون ولا يبيتون؛ ولذلك يقال: إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف؛ لأن الإنسان الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي.

ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعاً لهن على قوة المكر استناداً لقول الحق: {إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76].

وإلى قول الحق: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].

فلا يكيد إلا الضعيف.

ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت، ولو كان قادراً على المواجهة لما احتاج إلى ذلك.

وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم.

 لكنهم لا يقدرون على التبييت بخفاء عن الله، لأنه عليم بخفايا الصدور.

وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

ولنلحظ أن تبييت الله خير.

وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم أعداء الإسلام أنه بعد هذا التبييت لن تنالوا من رسولي، لن تنالوا منه بكل وسائلكم سواء أكانت تعذيباً لقومه أم تبييتا له.

وعلى الرغم من أنهم بيتوا كثيراً إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من بيته في مكة إلى المدينة وهم نائمون: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9].

ونجد العجب في كف أيدي الكافرين عن رسول الله.

فكل أجناس الوجود قد اشتركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء أكانت تلك الأجناس جماداً أم نباتاً أم حيواناً أم إنساناً، نثر رسول الله التراب وهو جماد فأغشي به الكافرين، وصار التراب من جنود الله.

وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام لهم في الغار وهي ترعى الغنم، والأغنام تجد الحشائش فترعاها وتزيل الأثر الذي أحدثه ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 لقد اشترك النبات في كف أيدي الكافرين عن رسول الله، وكذلك الأغنام وهي من الحيوان، وكذلك فرس سراقة التي ساخت وغاصت قوائمها في الأرض، ثم الحمامة التي بنت عشها على الغار، وكذلك العنكبوت الذي بنى بيته على الغار، ورضخت كل جنود الله لأمر الله فشاركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والأعجب من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد كف أيدي الكافرين بالكافرين، فالرسول الذي جاء ليهدي الخلق ويسير بهم إلى النور من الظلمات، نجد الذي يهديه في طريقه إلى المدينة هو أحد الكفار.

 وهكذا نرى أن هداية المعاني تستخدم هداية المادة، والرسول هو الحامل لهداية المعاني يستخدم هداية المادة ممثلة في ذلك الكافر.

ونعرف أن من جنود الإسلام في دار الهجرة كان اليهود -برغم أنوفهم- ألم يقولوا للأوس والخزرج: سيأتي من بينكم نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم؟

فلما سمع الأوس والخزرج أن نبياً ظهر في مكة، قالوا: هذا هو النبي الذي توعدتنا به اليهود، فلا يسبقنكم إليه، فسبقوا إليه وأسلموا وبايعوه، فقد ورد أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.

فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم.

ثم كانت المدينة داراً للهجرة.

هكذا نرى أن الباطل يخدم الحق، والكفر يخدم الإيمان، فها هوذا عبدالله بن أريقط -وكان كافراً- يضع نفسه كدليل للرسول وصاحبه أثناء الهجرة ولا ينظر إلى الجُعْل الذي رصدته قريش لِمَنْ يأتيها بمحمد.

هكذا نجد أن كف الأيدي كانت له صور كثيرة.

وقد تعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأشياء ومواقف رآها الصحابة، ونشأت له خوارق من الحق سبحانه وتعالى تؤيد صدقه، وشاهد تلك الخوارق بعض الصحابة ولا نقول عنها معجزات؛ لأن معجزة الإسلام إلى قيام الساعة هي القرآن.

ولكن رسول الله لم تخل حياته من بعض المعجزات الكونية مثل التي حدثت لغيره من الرسل.

وأرادها الحق لا للمسلمين عموماً ولكن شاهدها بعضهم كما شاهدها بعض الكفار؛ لأن رسول الله كان في حاجة إلى أن يؤكد له الله أنه رسول الله.

فها هوذا سيدنا جابر بن عبدالله يقول: "كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاماً فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئاً، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبَى فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكلّم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أُنظره، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلّمه فأبَى؛ فقمت فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر، فأخبرته فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام فكلّم اليهودي فأبَى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال: يا جابر، جذ واقض؛ فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله".

مثال آخر: كان الماء قليلاً عند قوم من الصحابة فيغمس رسول الله يده في الماء ويشرب كل الناس.

وهل يجرؤ أحد من الذين رأوا تلك المعجزة أن يجادل فيها؟

طبعاً لا، لكن هل هذه المعجزة لنا؟

إن وثقنا فيمن أخبر فلن نستكثر على الله أن يكثر الماء لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن نحن نعلم أن الله قد تكفل بحفظ القرآن ليكون هو المعجزة الباقية فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال: {لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.

وقد ثبت أن رسول الله جمع قليلا من الزاد ودعا ما شاء الله أن يدعو وأطعم به جيشاً.

والذي عاش بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له أن يصدق تلك المعجزات أو لا يصدقها، ولكن على المؤمن الذي علم مقام ومكانة الرسول عند ربه، أن يصدق تلك الخوارق متى ثبت ذلك بطريق يقيني قطعي، ولذلك لا ضرورة لإقامة الجدل مع هؤلاء الذين ينكرون المعجزات الكونية.

ونقول لهم: ليس أحدكم مسئولا بهذه المعجزات، أنت مسئول بمعجزة القرآن فقط.

والخوارق التي وقعت إما أن تكون بغرض تثبيت رسول الله مصداقا لقوله الحق: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].

وإما أن تكون لتثبيت أصحاب رسول الله؛ فقد كانت الأهوال تمر عليهم وتزلزلهم: {هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11].

وكان لابد أن ترسل السماء لهم أيات لتثبت أقدامهم في الإيمان.

والخلاصة أن كل الخوارق الكونية التي حدثت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس المقصود بها عامة المسلمين، ولكن المقصود بها من وقعت له أو وقعت أمامه، ونفض بذلك أي نزاع حول تلك الخوارق؛ لأن المعجزة الملزمة للجميع هي كتاب الله سبحانه وتعالى وقد همّ بالأذى كثير من أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ألم ترد امرأة من اليهود أن تسمّه وكف الله يديها؟

وحكاية بني النضير الذين أرادوا أن يلقوا عليه الحجر، فقام قبل أن يلقى مندوب بني النضير الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم-.

وها هوذا صفوان بن أمية له ثأر عند رسول الله من غزوة بدر يستأجر عمير ابن وهب الجمحي ويقول له: اذهب إلى المدينة واقتل محمداً وعليّ دينك، أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا.

ويذهب عمير إلى المدينة ويدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما جاء بك يا عمير؟

قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه -وكان له ابن أسير لدى المسلمين- قال: فما بال السيف في عنقك؟

فقال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا؟

قال: أصدقني ما الذي جئت له؟

قال: ما جئت إلا لذلك.

فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبيني فقال عمير.

أشهد أنك رسول الله.

قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي.

 وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما آتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام".

ومثال آخر: ما رواه سيدنا جابر -رضي الله عنه- في غزوة ذات الرقاع.

"قال: جاء رجل يقال له غورث بن الحارث فقام على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: من يمنعك مني؟

قال: الله.

فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف وقال: (ومن يمنعك مني)؟

فقال: كن خير آخذ.

 قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟

قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.

فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس".

وعندما سمع الرجل لأول مرة أن الله هو الذي يمنع الرسول منه وقع السيف من يده، ذلك أن ذرات الكفر في الرجل تزلزلت وعاد إلى إيمان الفطرة، وعندما أمسك النبي بالسيف وسأل الرجل: من يمنعك مني؟

لم يقل الرجل: "هبل" أو "اللات" أو "العزى" فالرجل يعلم أن مسألة الأصنام كذب في كذب، ولو كان مؤمناً بآلهته لقال أحد أسمائها.

وعندما تزلزلت ذرات الكفر في كيانه عاد إلى الفطرة الأولى التي لا تكذب أبداً.

وإن كذب الإنسان على الناس جميعاً لا يكذب على نفسه.

وكلمة "الله" هي التي زلزلت كفر الرجل وأعادته إلى الحق.

وفي معركة بدر نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما ابنه عبد الرحمن كان مع الكفار، وبعد أن أسلم ابنه بفترة جلس الولد مع أبيه يتسامران، فقال الابن: لقد رأيتك يوم أحد فصدفت عنك فقال أبو بكر: لكني لو رأيتك ما صدفت عنك.

فقد رأى ابن أبي بكر والده ولم يقتله، ولاشك أن مقارنة نفسية باطنية فكرية قد حدثت بين معزة أبيه وبين مكانة هبل أو تلك الحجارة، وعرف ابن أبي بكر أن والده أفضل بكثير من تلك الأحجار.

ولكن أبا بكر حينما يقول: ولو كنت رأيتك لقتلتك، فالمقارنة النفسية هنا تكون بين الإيمان بالله وبين الابن، ومن المؤكد أن الإيمان يغلب في نفس أبي بكر.

وكل من أبي بكر وابنه كان منطقيا مع نفسه.

ومثال آخر: "عن جابر بن عبدالله أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه فأدركتهم القائلة -شدة الحر في وسط النهار- في وادٍ كثير العضاة -شجر عظيم له شوك- فنزل رسول الله، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سَمُرَة فعلّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي: مَنْ يمنعك مني؟ فقلت له: الله، فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

ولماذا حدث ذلك؟

لأن الفطرة المُستلهمة بدون تدخل من أحد تنضح بالإيمان.

وها نحن أولاء نرى الصحابة في العهد الأول حينما اضطهدوا في مكة وهاجروا هجرتهم الأولى إلى الحبشة؛ هل ذهبوا إليها خبط عشواء؟

أو ذهبوا بتخطيط نبوي كريم؟

لقد درس النبي أولاً الأرض التي تصلح لاستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين.

ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية ووجد أن قريشاً تتمكَّن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي تحمي المهاجرين فيقول لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه".

وبالفعل ذهب المسلمون إلى الحبشة مهاجرين.

وحاولت قريش أن تسترد المسلمين من أرض النجاشي.

وأرسلت قريش بعثة لاستردادهم ورفض النجاشي.

وسمع النجاشي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلم أنه النبي الذي بشر به الإنجيل.

ولاشك أن النجاشي قد أسلم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على النجاشي عندما مات.

وكان إسلام النجاشي مكافأة له من الله؛ لأنه حمى المؤمنين بالله وبرسوله عنده.

وما أعظم المكافأة التي نالها النجاشي أن يموت على الإسلام وأن يصلي عليه سيدنا رسول الله صلاة الغائب.

 إن كل هذا من كف أيدي الكافرين عن المؤمنين وعن رسول الله، ومن أجل أن يثبت الحق للجميع أن المؤمنين على حق وأن الله لن يخذلهم، فلا يخطر ببال المؤمنين أن عدوهم أقوى منهم؛ فالله أقوى من خلقه: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين لأنه -سبحانه- يعد المؤمنين ليكونوا حملة منهجه إلى الخلق.

ولذلك يجب أن يداوم المؤمنون على تكاليف الإيمان وتقوى الله ليكف الله أيدي الكافرين عنهم، فلا يتغلب كافر على مؤمن في لحظة من اللحظات إلا إذا كان المؤمن قد تخلى عن شيء في منهج الله؛ لأن الحق لا يقول قضية قرآنية ثم يترك القضايا الكونية التي تحدث في الحياة لتنسخ هذه القضية القرآنية.

لقد قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ} [الصافات: 173].

إذن فعندما ترى جنداً من المسلمين قد انهزموا فلتعلم أنهم قد تخلوا عن منهج الله فتخلى الله عنهم، بدليل أن بعضاً من المسلمين ساعة لم ينفذوا ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلبهم الكفار، فالله لا يغير سنته من أجل أناس نُسبوا إليه ولم ينفذوا تعاليم منهجه.

والحق يقول: {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

ويقول سبحانه: {فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].

إنك إن انتسبت إلى الإسلام فيجب أن تنتسب إلى الإسلام بحق، وإن رأيت المؤمنين قد دخلوا معركة وانهزموا فلتبحث مصادر تخليهم عن منهج الحق، فسبحانه يقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146-148].

لقد أصاب المقاتلين مع النبي شيء، فلم يضعفوا ولكنهم صبروا وطلبوا من الحق أن يغفر لهم ذنوبهم، لقد عرفوا مصادر ضعفهم واستعانوا بالله على هذا الضعف، فماذا فعل الله لهم؟.

نصرهم سبحانه بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين.

وكل ذلك السلوك الإيماني الذي يقي من الهزيمة وكيد العدو، هو من تقوى الله، حتى يظل المؤمنون في معية الله.

وعندما يكون المسلم في معية الله لا يجرؤ خلق من خلق الله أن ينال منه.

وننظر إلى الهجرة كمثال لذلك؛ لنجد أن سيدنا أبا بكر كان حريصاً على حماية النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فعن أنس بن مالك قال: "لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر: يا رسول الله دعني فَلادخُل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبْلك، قال: "ادخل"، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحراً جاء بثوبه فشقَّه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقيَ جحرٌ فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فلما أصبح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأين ثوبك يا أبا بكر؟" فأخبره بالذي صَنع فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده فقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة" فأوحى الله تعالى إليه: "إن الله قد استجاب لك".

ويرى أبو بكر الكفار وهم يمرون أمام الغار فيقول لرسول الله: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما".

وفي ذلك رد كامل؛ لأن الاثنين في معية الله، ومادام المؤمن في معية من لا تدركه الأبصار فلن تدركه الأبصار، كيف؟.

نحن لا نعرف كل أسرار الله ولكنه القادر الأعلى.

وفي حياة البشر نجد الطفل الصغير قد يخرج بمفرده فيصيبه غيره من الأطفال بالضرر؛ ولكن إذا خرج الطفل مع عائله، مع أبيه مثلاً أو مع أخيه الأكبر، فالأطفال لا يقتربون منه؛ فما بالنا ونحن جميعاً عيال الله؛ وماذا يحدث عندما نتشبث بمعية الله؟.

إذن فتقوى الله هي التي تجعل المؤمن في معية ربه طَوال الوقت.

ومن يُرِدِ المؤمن بسوء فإن جنود الله تحمي المؤمن.

ويذيل الحق الآية: {وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ}.

وإيَّاكم أن تقولوا: إننا بلا عَدَد أو عُدَّة.

إنك مسئول أن تعد ما تقدر عليه وتستطيعه وأترك الباقي لله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ} [الأنفال: 60].

ويقول التاريخ الإيماني لنا إنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.

وقد يقول قائل: هذه المسألة مادية تحتاج إلى عدد وعُدد.

ونرد: إن الحق قد طالب بأن نعد ما نستطيعه لا فوق ما نستطيعه.

وهو سبحانه عنده من الجند اللطيف الخفيّ الدقيق الذي لا يُرى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ} [الأنفال: 12].

ومادام الله قد ألقى الرعب في قلوب الأعداء فالمسألة تنتهي ولا تفلح عُدد أو عَدَد.

ويكون التوكل على الله بعد أن يعد الإنسان ما يستطيعه وهو الاستكمال الفَعَّال للنصر، ولنعلم أن التوكل غير التواكل.

إن المتوكل على الله يقتضي أن يعلم الإنسان أن لكل جارحة في الإنسان مهمة إيمانية، أن تطبق ما شرع الله؛ فالأذن تسمع، فإن سمعت أمراً من الحق فأنت تنفذه، وإن سمعت الذين يلحدون في آيات الله فأنت تعرض عنهم.

واللسان يتكلم، لذلك لا تقل به إلا الكلمة الطيبة؛ فلكل جارحة عمل، وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل، ولنتذكر أن السعي للقدم، والعمل لليد والتوكل للقلب، فلا تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد؛ لأن التوكل الحقيقي أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب، وكم من عاملٍ بلا توكل فتكون نتيجة عمله إحباطاً.

 إننا نجد الزارع الذي لا يتوكل على الله ينمو زرعه بشكل جيد ومتميز ثم تهب عليه عاصفة أو يتغيَّر الجو فيصيبه الهلاك وتكون النتيجة الإحباط.

واحذر إهمال الأسباب؛ أو أن تفتنك الأسباب؛ لأنك إن أهملت الأسباب فأنت غير متوكل بل متواكل.

تنقل عمل القلب إلى الجوارح.

وإذا قال لك واحد: أنا لا أعمل بل أتوكل على الله، قل له: هيا نر كيف يكون التوكل.

وأحضر له طبق طعام يحبه.

وعندما يمد يده إلى الطعام، قل له: اترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك.

 ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تثبيتاً للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها، حتى لا يضيق صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما يفعله اليهود أو المشركون، فإن كان قد حدث معك -يا محمد- شيء من هذا الإنكار والإيلام، فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك، فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ...}.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:06 pm

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [١٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

يُذَكِّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل.

وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ} [آل عمران: 81].

أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه: {خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63].

ويقول سبحانه: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} ولنر "التكتيك" الديني الذي أراده الحق، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛ فاختار سبحانه اثني عشر نقيباً على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط: كيف لا يكون لي نقيب؟.

وحسم الله الأمر، ولم يجعله محلاً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيباً منهم.

 والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية.

وساعة نسمع كلمة "نقيب" نعرف أنها من مادة "النون والقاف والباء"، "والنقب" هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب.

 إن اختيار الحق لكلمة نقيب، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة.

وبذلك يكون كل فرد في السبط له عمله ومكانه المناسب.

ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب.

إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد.

واختار الحق من كل سبط نقيباً، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين.

 ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفاً لإنسان: فلان له مناقب كثيرة، أي أن له فضائل يذكرها الناس، كأنّ على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله، ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ولا يبقى منه شيء.

 إذن فكلمة "نقيب" في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق، لذلك تصف الرجل الفاضل: فلان له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر، وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات.

ومن نفس المادة "النقاب" أي أن تغطي المرأة وجهها.

وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} يعطيهم خصلة إيمانية، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً، وكما قال الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله.

وجاء أيضاً قوله: {وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف، ولكن الله يوضح: "أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل" أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم، فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ لا؛ لأن الله رقيب.

وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} تدل على أن من ولي أمراً فلابد أن يتابعه ويراه.

 وبعد ذلك قال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.

و"لئن" تضم شرطاً وقسماً، كأن الحق يقول: وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات.

ودلت "اللام" على القسم، ودلت "إن" على الشرط فيه "إن" الشرطية.

 والقسم -كما نعلم- يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج إلى جواب أيضاً، فالواحد منا يقول للطالب: إن تذاكر تنجح.

والواحد منا يقول: "والله لأفعلن كذا"، و"الله" هي القسم.

و"لأفعلن" جواب القسم المؤكد باللام.

وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي، وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضاً.

ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟

هل يأتي جوابان: جواب للشرط وجواب للقسم؟.

عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما، هل هو القسم أو الشرط؟؛ لأن المقدم منهما هو الأهم؛ فيأتي جوابه، ويغني عن جواب الثاني.

والمتقدم هنا هو القسم، تماماً مثل قولنا: لئن قام زيد لأقومن، وهنا يكون الجواب جواب القسم، أما إن قلنا: إن قام زيد والله أُكرمْه، فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم.

هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح، أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد.

وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخّرت فهو مُلْتَزَمْ وإن تواليا وقَبْلُ ذو خبر فالشرط رَجَّحْ مطلقا بلا حَذَرْ.

والقسم قد تقدم في هذا الآية، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم، وهو{لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.

وقوله الحق: {أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ} يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى، وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به.

وبعد ذلك: {وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ} وفي كتب الفقه نضع الصلاة، والزكاة في باب العبادات.

وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات، لكن كل مأمور به من الله عبادة؛ لأن العبادة هي أن تطيع مَن تعبد في كل ما أمر به، وأن تجتنب ما نهى عنه، فكل أمر إلهي هو عبادة.

وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ} [الجمعة: 10].

هنا نجد أمراً تعبدياً أن نترك البيع إلى الصلاة، وأمراً تعبدياً ثانياً أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة، وأي إخلال بالأمرين، إخلال بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركةً تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك.

 وقوله الحق: {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعدذ لك لمناقشته، وأن تعزروا الرسل، أي وقرتموهم ونصرتموهم، والعَزْر في اللغة معناه المنع، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو.

لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك.

فالعزر هو المنع، أي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر.

والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم، ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير.

 نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون: علماء المسلمين لا يتفقون على شيء، فمرة يقولون: إن "عزرتموهم" معناها "نصرتموهم"، ومرة أخرى يقولون: إن "عزرتموهم" معناها "منعتموهم”.

ونقول: كل المعاني هنا ملتقية، فالعزر هو الرد والمنع، إما بمنع العدو عن الرسول، وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو، أو الاثنان معاً، ويجوز أيضا أن يكون معنى "عزرتموهم" هو نصرتموهم.

وكذلك يجوز أن يكون معناها "وقرتموهم"؛ لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول.

وبعد ذلك يقول الحق: {وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.

ويدبر الحق لنا سياسة المال، سواء للواجد أو لغير القادر، فالواجد يوضح له الحق: لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك، بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك، وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول، والباقي رُدّه على مَن لم يقدر.

ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به.

ولنذكر جيداً أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1-4].

وحين قال سبحانه: والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟

الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل.

وهذا هو المقصود بقوله الحق: {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4].

أي: أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه.

وهناك حق آخر في المال غير الزكاة؛ بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله.

والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص، أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة.

 وهناك القرض، وهو المال الذي تتعلق به النفس، لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده، ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج، ويسأل دون حاجة، وأيضاً لأن نفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة، وكلما قدم نَظِرَةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.

 فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير.

وكيف يقول سبحانه: {وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟

وكيف يهب الحق للإنسان النعم، ثم يقول له: أقرضني؟

هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها، فالمال مال الإنسان، ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه، ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضاً من الإنسان لله.

ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه: بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا، وهو الحق سبحانه وتعالى؟

لقد وهب كلاً منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكاً لصاحبها.

ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضاً له.

ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه مَنُّ، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا.

ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له.

واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال.

وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو حنيفة بعيداً عن ظل البيت، فسأله صاحب البيت لماذا؟

أجاب أبو حنيفة: خفت أن يكون ذلك لوناً من الربا.

فقال صاحب البيت: لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني.

فقال أبو حنيفة: كنت أقعد وأنت المتفضل علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال.

والقرض الحسن هو الذي لا يشوبه مَنٌّ أو أذًى أو منفعة؛ ولأن القرض دَيْنٌ، وضع الحق القواعد: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لأنه إذا علم أن الدين مكتوب، يحاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليسد هذا الدين، ويستفيد المجتمع من حركته أيضاً.

وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثٌّ عليه.

لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف من الظروف ويتناسى القرض.

ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في أي أزمة، فيريد الحق أن يديم الأسباب التي تتداول فيها الحركة، ولذلك يقال في الأمثلة العامية: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله.

ويكون مال الدنيا كلها معه، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

وفي ذلك حماية للنفس من الأغيار، ولم يمنع الحق الأريحية الإيمانية فقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

وهكذا يحمي الله الحركة الاقتصادية.

ونجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الرحيم بالمؤمنين، وقد بلغه أن واحداً قد مات وعليه دين، فقال للصحابة: صلوا على أخيكم.

لكنه لم يصل على الميت.

وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول الله على هذا الميت وما ذنبه؟

كأن رسول الله أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلاة، ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس ودَفْعاً لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين.

وقال: "مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين.

 وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض حتى لا يحرجه.

ونثق أن الله قد قذف هذا الخاطر في نفس المقرض لأن المقترض يريد أن يسدد القرض.

 أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.

{وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.

وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: "أقرضتم الله إقراضاً"؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.

وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء.

ومثل ذلك قوله الحق: {وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17].

و"أنبتكم" تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتاَ لا إنباتاَ.

فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم.

و"أنبت" يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتاً.

وهكذا قال الله عن القرض: {وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات.

ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟

بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر.

وكلمة "سواء" نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق: {لَيْسُواْ سَوَآءً} [آل عمران: 113].

وسواء معناها وسط، ومتساوون.

والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين.

ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية.

ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيراً من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي.

أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].

والشطر هو الجهة.

والشطر هو النصف.

النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفاً في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق.

وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماماً.

إذن.

فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف.

نقول: صدقت.

{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} والقرآن قد نزل على أمَّةٍ تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّداً من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين.

وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمشي في الوسط.

ولذلك قال الإمام علي -كَرَّمَ اللهُ وجْهَهُ-: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يميناً فيقع.

أو يتجه شمالاً فيقع؛ أو تقع عليه صخرة.

ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يميناً أو يساراً واتجه إلى مقصدك.

ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة: {فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ} [الصافات: 55].

وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يميناً أو شمالاً.

ويقول الحق من بعد ذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ...}.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:07 pm

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [١٣]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وساعة يقول الحق: "ميثاقاً" فالميثاق يتطلب الوفاء.

فهل وفوا بهذا الميثاق؟.

لا، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله.

واللعن هو الطرد والإبعاد، والحق في ذلك يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله.

لقد أثار وجود "ما" هنا بعض التفسيرات، فهناك من العلماء من قال: إنها زائدة، وهناك آخرون قالوا: إنها "صلة”.

ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله.

ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع.

فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [لقمان: 17].

وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [الشورى: 43].

في الآية الأولى لم يورد "اللام" لتسبق "مِن"، وفي الآية الثانية أورد "اللام" لتسبق "مِن"، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات، فقوله: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها، كالمرض، أو موت أحد الأقارب، وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية، أما قوله الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة.

هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر.

ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الأولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ}.

ويقول سبحانه في موقع آخر: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} [المائدة: 19].

وعندما يقوم النحاة بإعراب "بشير" فهم يقولون: "إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد.

إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد، فالإنسان يقول: ما عندي مال.

وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به.

وعندما يقول الإنسان "ما عندي من مال" فـ "من" هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال.

ولذلك فـ "مِن" هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى.

إذن "ما جاءنا من بشير" أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير.

 وها هوذا قول الحق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].

وقد يحسب البعض أن "ما" هنا حرف زائد، ولكنا نقول: ما الأصل في الاشتقاق؟.

إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر.

ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل: "ضرباً زيداً" أي "اضرب زيدا”.

ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل، وكذلك قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.

مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل.

ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر، فيصبح معنى القول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.

إذن "ما" تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل.

وبقيت "ما" لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن "ما" جاءت استفهامية للتعجيب.

أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟

وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد.

وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.

والنقض هو ضد الإبرام؛ لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة.

والنقض هو حل عناصر القضية، كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه.

ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا؟؛

لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفو ليناقش من جديد في الذهن.

كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد.

وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد.

وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق.

{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهم عندما نقضوا المواثيق، طبع الله على قلوبهم؛ لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولاً، وبعد ذلك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فَمَا فيها من كفر لا يخرج، والخارج عنها لا يدخل إليها.

و"قاسية" تعني صُلبة.

وفيها شدة.

والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لأننا نقيس كل موجود على مهمته.

فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلاً.

مثال ذلك؛ نحن لا نقول عن الخُطاف ذمَّاً فيه إنه أعوج.

فالخُطَّاف لابد له من العوج؛ لأن ذلك العوج مناسب لمهمته، إذن فعوج الخطاف استقامة له.

وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة.

إن القلوب القاسية مذمومة؛ لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ} [الزمر: 23].

والقسوة مأخوذة من القَسيِّ وهو الصلب الشديد، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة.

وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحداً منها ويقول: هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها، أهي صلبة في الواقع أم لا؟.

وعندما تكون صلبة يقال لها: دراهم قاسية.

إنّ الذهب لين.

والفضة لينة.

فعندما نقول: إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَهَبٌ ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلاً للتشكيل؛ لأنه عندما يكون ذهباً صافياً على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب، حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له تشكيل الحلي منه.

وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة.

والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول، كالسبائك الذهبية.

 وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة.

الصلابة -إذن- فيما يناسبها محمودة.

وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها.

 ويقول الحق: {يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا: "حطة" فقالوا: "حنطة" {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظٍّ مما ذكروا به، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب، لكنه أيضاً دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم.

فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به.

وياليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].

هي أربعة ألوان من التغيير، النسيان، والكتم، والتحريف، ودسّ أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله.

ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلاة والسلام وكتمانها، ولو كانوا قد آمنوا بها، لكان حظهم كبيراً؛ ذلك أنهم نسوا أمراً كان يعطيهم جزاء حسناً، إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه.

وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان؛ لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل.

وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مُغْفِلين له عن قصد.

ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].

أي أن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى، ولا أدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم، إنهم من بني إسرائيل مثلهم، فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟

إذن فخيانتهم لله متصورة.

و"خائنة" بمعنى "خيانة" مثلها مثل "قائلة" وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر، وفعلها: قال يقيل أي نام وسط النهار أو "خائنة" أي "نفس خائنة”.

أو "خائنة" مثل امرأة خائنة" أو "خائنة" مبالغة كما نقول" راوٍ" و"راوية" ونحن نعني رجلاً، أو نقول "جماعة خائنة”.

إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء.

 والذي يتكلم هنا هو رب العالمين، ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة، إنه أداء لغوي عال.

ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} طبقا لقانون صيانة الاحتمال.

فحين يخاطب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليبين له موقف اليهود منه، ألا يُحتمل أن يُوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول، ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟

وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام.

وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين، ألا يقولون: وما لنا ندخل في هذه الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق بالإيمان؟

فكأن قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان.

ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور.

وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه، وماذا يكون موقفه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن يخبره الحق: بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم؟

ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين عليهم، فإذا فعل اليهود خائنة فلابد أن ينتقموا منهم، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه.

 لم يشأ -سبحانه- أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال: {فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} والعفو هو كما نقول: فلان عفَّى على آثاري، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر.

والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه.

والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث، ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله؟

لا، فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد.

 والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تُخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لأن الإنسان منا له مراحل؛ المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، فلا يقابل العدوان بمثله، وهذا هو العفو، والمرحلة الثانية: ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه، والمرحلة الثالثة: فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسانُ إلى من أساء إليه.

وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق: {وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

وعملية الإحسان مع المسيء أو المعتدي: أهي عملية منطقية مع النفس الإنسانية؟

قد تكون غير منطقية مع النفس الإنسانية، ولكنك أيها الإنسان لا تشرع لنفسك، إنما الذي يشرع لك هو الأعلى من النفس الإنسانية.

والخالق يقول لك: لو علمت ما قدَّمه لك من أساء إليك لأحسنت إليه.

لأنك إن أسأت إلى خلق من خلق الله فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق.

ويأتي الله في صف الذي تحمل الإساءة.

 إذن فإساءة العدو لك جعلت الله في صفك وفي جانبك، ألا يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟

ألا تقول لنفسك القول المأثور: ألا تحسن إلى من جعل الله في جانبك.

إذن هذا هو التشريع: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} والإحسان هنا خرج بالترقي الإيماني عن مرحلة: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

والإحسان أن تفعل شيئاً فوق ما افترضه الله، ولكن من جنس ما افترضه الله؛ والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان هو من يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه.

ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].

ما الذي جاء بالإحسان هنا؟

وتكون الإجابة: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].

وهل يكلف الله خلقه ألا يهجعوا إلا قليلا من الليل؟

لا.

فقد كلف الله المسلم بالصلاة، وأعلمه بأنه حر بعد صلاة العشاء، وله الحق أن ينام إلى الفجر، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر.

لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل.

ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات المحسنين: {وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].

أكلف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟

لا.

بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه، فذكر له أركان الإسلام ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أفلح إن صدق".

ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين: {وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].

ونلحظ أن الحق هنا لم يقل: "حق معلوم" إنما قال: {حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ} فالحق المعلوم هو الزكاة، أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم، وذلك ليفسح سبحانه المجال للطموحات الإيمانية، فمن يزد في العطاء فله رصيد عند الله.

والحق يقول: {فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}؛ لأن الإحسان إليهم يهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم، ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق: {فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل.

فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدواً لك؟

إنه اعتدى مرة وسَكّتَّ أنت عليه، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه.

لابد أنه يهدِّئ من نفسه.

إذن فالعداوة لا تتأجج إلا إذا قابلتها عداوة أخرى.

ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام حين أراد الله أن يجعل العداوة لا من جهة واحدة ولكن من جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لأن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهدأ الطرف المعتدي: {فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].

فهل هم التقطوه ليكون عدواً؟

لا.

لقد التقطوه ليكون قرة عين.

ولكن قدر الله سبق.

كان الأمل في أن يصير موسى قرة عين آل فرعون، ولكن الله أراد أن يقوموا بتربيته، ثم يصير من بعد ذلك عدواً لهم.

وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الأرض.

وموسى السَّامري مثلاً ربَّته السماء بواسطة جبريل، وولدته أمُّهُ منقطعاً في الصحراء، فكان جبريل ينزل عليه بما يُطعمه إلى أن كَبُرَ، وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليُربيه، لكن موسى السَّامري -الذي ربَّاه جبريل- صار كافراً، وموسى بن عمران الذي ربَّاه فرعون أصبح رسولاً إلى بني إسرائيل.

وكلا القدرين أرادهما الله، ولذلك يقول الشاعر:
إذا لم تصادف في بريق عناية فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل

كأن آل فرعون قد قاموا بتربية موسى بن عمران ليكون عدواً لهم لا قرة عين.

والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون، وتجيء العداوة من فرعون لموسى، فيقول الحق: {فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39].

هكذا صارت العداوة من طرفين.

والحق سبحانه وتعالى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم، لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم، ويقولون: لم يعاملنا بمثل ما عاملناه به، ويعترفون به نبياً رحيماً رءوفاً كريماً، ولا يقفون في وجه دعوته.

لكن أيظل العفو والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-؟

لا.

فقد مر الأمر الإلهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس الإنسانية بأن يستعبدها بالإحسان، فإن لم يستعبدها الإحسان فلابد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به الله، ولنقرأ قوله الحق: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ} [لبقرة: 109].

إذن فهناك أمر خفي هو: {حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].

وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها الأمر بتأديبهم.

وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي الإسلام؛ فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة، وعندما يجد أن الإحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو.

وكما قال الشاعر:
أناة فإن لم تغن قدم بعدها وعيداً
فإن لم يغن أغنت عزائمه
من الحلم أن تستعمل الحزم دونه
إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمه

وقال الشاعر:
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجعــن قوماً كالذي كانوا
فلما صَرَّحَ الشر وأضحى وهو عريان
مشينا مشية الليث غَدَا والليث غضبان
بضرب فيه تأييم وتفجيع وإرنان
وطعن كفم الزق غَدَا والزق ملآن
وفي الشر نجاة حيــن لا ينجيك إحسان
وبعض الحلم عند الجهــل للذلة إذعان

ومثل ما جرى للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود، حدث مع النصارى وأورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ...}.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:08 pm

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [١٤]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

لقد قالوا إنهم نصارى.

وأخذ الحق الميثاق منهم، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم، فنسوا حظاً مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق، فتفرَّقوا في عداءٍ ملحوظٍ فِرَقاً شتَّى.

وجاء أمرُ الله كما وعد: {يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ...}.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:09 pm

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [١٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفُرصة والعُذر حتى لا يقولن واحد منهم: لم يبلغني عن رسولي شيء.

 وهناك فترة لم يأت فيها رسول.

وها هوذا رسول من الله يأتي حاملاً لمنهج متكامل.

ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان.

وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام.

مثل الرجم والربا، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].

أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم، ولكن لا ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم.

وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به.

وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض؛ لذلك قال الحق: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ}.

ومعنى ذلك ان كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون.

ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون، وخاصة ظلمانية القيم، إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق.

ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء.

وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئاً، لكن عندما يحمل الإنسان نوراً فهو يمشي على بينة من أمره.

والنور الحسي يمنع من تصادم الحركات في المخلوقات، حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما.

 إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضاً من الضوء، وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر.

وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات، فإذا كان الله قد صنع نوراً مادياً حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل، فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض، ولم نجد أحداً يقول: أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي، ونقول للكافرين والملاحدة: مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا: إن لله نوراً في القيم يجب أن نتبعه.

ويلخص المنهج هذا النور بـ "افعل ولا تفعل”.

فالمنهج -إذن- نور من الله.

ولنقرأ: {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ} [النور: 35].

إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل، سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك، ويضرب سبحانه لنا مثل النور.

{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35].

والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة، إنّها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو "الكيروسيني" وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربية والثريات.

ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا، وطولها أربعون سنتيمتراً ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمتراً؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحياناً على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع.

 ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة.

وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة.

ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي، فهو مصباح في زجاجة.

ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر.

فالمصابيح قديماً كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السَّناج "الهباب" الذي يُسوّد ما حولها، فالسَّناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره.

وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية، ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال.

{كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35].

أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان.

والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية: {ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35].

والكوكب نفسه مضيء، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه.

والمصباح يوقد من ماذا؟.

{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35].

وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون، والشجرة غير عادية: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35].

فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال: {نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ} [النور: 35].

ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية، ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور.

فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات، بدليل أن الله قال: {يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35].

يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد.

وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نوراً إلهياً هو المنهج.

وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية.

ونحن على مقاديرنا نستضيء، فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولداً كهربياً.

وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته.

ولكن عندما تشرق الشمس في الصباح ما الذي يحدث؟.

يطفئ الإنسان تلك المصابيح، فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان، ولكل الكون.

كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله.

ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور أخر.

وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات: {نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور: 35].

والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء "افعل ولا تفعل" أن الله قال بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ} [النور: 36].

ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) كأن النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده.

فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ} [النور: 36-37].

وكلمة: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} لا تعني تحريم التجارة، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله.

وليكن الله على بال المؤمن دائما، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده.

 إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور، وبين لكم الرسول كثيراً مما تختلفون فيه.

 وتسامح عن كثير من خطإيَّاكم، ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة.

فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتُعَدِّلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد.

ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج.

والله قد ضرب المثل بالنور، وهذا النور يهدي إلى "افعل ولا تفعل”.

ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله؟

إنه الرسول، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله؟

الذي يدل على صدقه هو قول الله: {يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174].

فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الله، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:10 pm

والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله.

ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته.

ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب.

وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب.

وهذا الكون فيه معطيات، وهو كون محكم، ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه: {لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ} [يس: 40].

كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها.

فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء.

لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى.

ولذلك يقول سبحانه: {وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ} [الرحمن: 7].

فلا السماء تنطبق على الأرض، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر.

ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ} [الرحمن: 8].

فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه.

{وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ} [الرحمن: 9].

فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق.

وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج بـ "افعل كذا ولا تفعل كذا"، فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج، وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلاً.

إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان.

وهذه الكائنات الموزونة لابد لها من خالق؛ لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان.

ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون.

إذن لابد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق، والدعوى حين تسلم من الضعف، أتكون صادقة أم غير صادقة؟

تكون صادقة تماما.

والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون.

ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا: إنه الذي خلق.

إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدعٍ.

ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد.

 وكان لابد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون، وكان لابد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز.

وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود؛ لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته.

وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو، وهناك جنس أدنى وهو الجماد.

وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان.

والجماد ليس هو الشيء الجامد، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد، والحيوان يستفيد من النبات والجماد، والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان.

أليس من اللائق والواجب -إذن- أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟

فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الله ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ البلاغِ عن الله، وهي معجزة لا يقدر عليها البشر، ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته.

إذن فلابد أن يؤمن كل البشر لو صَدَقُوا الفهم وأخلصوا النية.

 ما هو البرهان إذن؟

البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله.

هذا البلاغ عن الله الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه لابد أن يكون موجودا، لكنه لم يتعرف على أنه "الله”.

إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق، وهو الذي يقدم لنا المنهج.

إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل.

ولذلك أنزل الحق النور العقدي، أنزل -سبحانه- المنهج ليحمي المجتمع من الاضطراب، ولذلك يقول الحق: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ} [المؤمنون: 71].

إذن فالدين جاء من الله ليتدخل في الأمور التي تختلف فيها الأهواء، فحسم الله النزاع بين الأهواء بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".

أي أن تتحد الأهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لأن كل إنسان إن انفرد بهواه، لابد أن نصطدم، ولا نزال نكرر ونقول: إن خلافات البشر سواء أكانت على مستوى الأسرة أم الجماعة أم الأمة أم العالم، جاءت من اختلاف الأهواء، ولكن الأشياء التي لا دخل للأهواء فيها فالعالم متفق فيها تماما، بدليل أننا قلنا: إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين نظريتين، هذا يقول: "شيوعية"؛ وهذا يقول: "رأس مالية”.

إنه لا يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا.

أنَّها أهواء، لذلك تصادما في أكثر من موقع، وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل عليها.

لكن الأمور المادية المعملية.

لم يختلفوا فيها.

ونقول الكلمة المشهورة: "لا توجد كهرباء روسي ولا كهرباء أمريكاني".

ولا توجد كيمياء روسي ولا كيمياء أمريكاني؛ فكل الأمور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها اتفاق، والخلاف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الأهواء.

 فكأن الله ترك لنا ما في الأرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له، وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة له، ويوضح: إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها.

وسيحاول كل فريق منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الآخر من التجارب المادية ولو تلصصها، ولو سرقها، أما الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الاختلاف في الأهواء.

وليت الأمر اقتصر على الاتفاق في الماديات والاختلاف في الأهواء، لا، بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والاختراعات والابتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لأهوائهم.

فكأننا أفسدنا المسألة.

أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه.

 إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة، ولا تستقيم الحياة إلا إن كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى، ولذلك حتى في الريف يقولون: "من يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم"؛ لأن الذي يقول ذلك مؤمن، أي أن الحكم حين يأتي من أعلى فلا غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون، وتدخلت السماء في مسألة الأهواء بالمنهج: افعل هذا ولا تفعل هذا، لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه: أنتم ستتفقون فيها غصباً عنكم، بل ستسرقونها من بعضكم، إذن فلا خطر منها.

 إن الخطر في أهوائكم.

ولذلك اذكروا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمهات المسائل التي يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده الله كان -عليه الصلاة والسلام- يتحمل هو التجربة في نفسه، ولا يجعل واحداً من المؤمنين به يتحمل التجربة، فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها حتى لا يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه، أنهاها الله في رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ} [الأحزاب: 37].

وفي مسألة الماديات والأهواء يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصَلُحَ" قال: فخرج شيصاً، فمَرَّ عليهم فقال: "ما لنخلكم" قالوا: قلت كذا وكذا قال: "أنتم أعلمُ بأمر دنياكم".

إنه -صلى الله عليه وسلم- تركهم لتجربتهم.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52879
العمر : 72

سورة المائدة الآيات من 011-015 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة المائدة الآيات من 011-015   سورة المائدة الآيات من 011-015 Emptyالخميس 13 يونيو 2019, 6:10 pm

السماء -إذن- لا تتدخل في المسائل التجريبية؛ لأنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب التجربة، ورأينا رسول الله يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فلا ندخلها في شئوننا، فلا نقول مثلاً: الأرض ليست كروية، أو أن الأرض لا تدور.

فما لهذا بهذا؛ لأن الدين ليس له شأن بها أبداً، وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية، بل دخل الدين ليحمينا من اختلاف أهوائنا؛ فالأمر الذي نختلف فيه يقول فيه: افعل كذا ولا تفعل كذا بحسم، والأمر الذي لم يتدخل فيه بـ "افعل ولا تفعل" أوضح لك: سواء فعلته أم لم تفعله لا يترتب عليه فساد في الكون، وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه "افعل ولا تفعل"، وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لأن الخلاف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة.

 وهنا يقول: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" و"النور" أهو الكتاب أم غيره؟.

وفي آية أخرى يقول: {يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174].

وهذا القول يدل على أن النور هنا هو "القرآن" وجمع بين أمرين؛ برهان.

أي معجزة، ونور ينير لنا سبيلنا.

{فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا} والإيمان بالله مسألة تطبيقية مرحلية.

"الله" هو قمة الإيمان و"رسوله" هو المبلغ عن الله؛ لأنه جاء لنا بالنور.

إلا أن أهل الشطح يقولون: النور مقصود به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ونقول: نحن لا نمانع أنه نور، وإن كان النص يحتمل أن يكون عطف تفسير، وحتى لا ندخل في متاهة مع بعض مَنْ يقولون: لا ليس الرسول نوراً؛ لأنه مأخوذ من المادة وسنجد مَنْ يرد عليهم بحديث جابر: ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ قال له: نور نبيك يا جابر.

فعن جابر بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال: "يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي".

وحتى لا ندخل في مسألة غيبية لا تستوي الأذهان في استقبالها ونفتن بعضنا.

ويقول فلان كذا ويقول علان كذا.

هنا نقول: مَنْ تجلّى له أن رسول الله نور، نور، نور، فليعرفها هو ويلزمها.

وليس من المفروض أن يقنع بها أحداً كي لا ندخل في متاهة، وعندما يتعرض أحد لحديث جابر -رضي الله عنه- نسأل: أهو قال: أول خلق الله نبيك يا جابر أم نور نبيك يا جابر؟.

قال الحديث: نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي لا يصل إليها إلا أهل الرياضيات المتفوقة، حتى لا تكون فتنة؛ لأن من يقول لك: أنت تقول: النور هو رسول الله، ونقول: على العين والرأس، فرسول الله نور ولاشك؛ لأن النور يعني ألا نصطدم، وجاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمنهج كي ينير لنا الطريق، والقرآن منهج نظامي، والرسول منهج تطبيقي، فإن أخذت النور كي لا نصطدم، فالحق يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن، ونأخذ بالمنهج التطبيقي.

{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} و"مبين" أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقاً لقوله الحق: {مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

أي مما تختلف فيه أهواؤكم.

وسُئل الإمام محمد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون: {مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في أردب الدقيق؟ فقال: انتظروا: واستدعى خبازاً وسأله: كم رغيفا في أردب القمح؟ فقال له: كذا رغيف، فقالوا له: أنت تقول إنه في الكتاب، فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

إن قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ} أي مما تختلف فيه الأهواء أو تفسد فيه حركة الحياة في الأرض.

فربنا هو -سبحانه- جعل أناساً تتخصص في الموضوعات المختلفة.

{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} يعني: يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي مسألة العقيدة في الأرض وننهي الخلاف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس جميعاً، ولا تبقى في الأرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات الإنسانية ولا تتعاند، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

انظر كيف يجمع الإسلام بين أمرين متناقضين: فلم يجيء الإسلام كي يطبع الإنسان ليكون شديداً؛ لأن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة، ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لأن هناك مواقف تتطلب الشدة، فلم يطبع الإنسان في قالب، ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث.

ويقول الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

أي لا تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلاً ولا طبعه ليكون عزيزاً، بل طبعه ليكيّف نفسه التكييف الذي يتطلبه المقام، فيكون مرة ذليلاً للمؤمن وعزيزاً على الكافر.

وقال الإسلام لنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].

أي لابد أن تعرف الطرفين أولاً، ثم تحدد، لأن الوسط لا يعرف إلا بتحديد الطرفين؛ فاليهودية بالغت في المادية، والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية: {وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا} [الحديد: 27].

وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال: "أنا لم أبعث مورثاً"؛ لأنه جاء ليجدد الشحنة للطاقة الدينية، وبرغم الخلاف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد، ومع ذلك فقد جاء من اعتبر الإسلام خصماً عنيفاً عليهم على رغم أن الإسلام ليس خصماً إنما جاء ليمنح الناس حرية الاختيار، وعندما ننظر إلى المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55].

لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم المن والسلوى، و"المن" كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل، وجاء لهم الحق بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السُّماني فقالوا: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61].

إننا نريد مما تخرجه الأرض من بقلها، والذي دعاهم إلى غلوهم في الأمر المادي أنهم قالوا: قد لا يأتي المن، وقد لا نستطيع صيد الطير، نحن نريد أن نضمن الطعام.

إذن فالغيبيات بعيدة عنهم فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلام، وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم مادي، كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيماً، لكن الخلاف دب بينهم، فكان ولابد أن يأتي دين جديد يجمع المادية المتعقلة الرزينة المتأنية، والروحانية المقسطة التي لا تفريط فيها ولا إفراط، إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالاثنتين في صلب دين واحد.

فقال لنا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ} [الفتح: 29].

وهذه كلها قيم تعبدية.

فيكون هؤلاء ماديين وروحانيين في آن واحد.

ويتابع الحق: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ} [الفتح: 29].

كأن الله ضرب في التوراة مثلاً لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: يا من أسرفتم في المادية سيأتي رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع، فتكون أمته مخالفة لكم تماماً.

فأنتم ماديون وقوم محمد ركع سجد، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود.

أي: ما فقدتموه أنتم في منهجكم سيوجد في أمة محمد.

ويقول الحق: {وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ} [الفتح: 29].

فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في الإنجيل ما فُقد عند النصارى.

إذن فدين محمد -صلى الله عليه وسلم- جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان ديناً وسطاً بين الاثنين.

فقال: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطاً يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الآخرة.

ويقول الحق بعد ذلك: {يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ...}.



سورة المائدة الآيات من 011-015 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة المائدة الآيات من 011-015
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة المائدة الآيات من 066-070
» سورة المائدة الآيات من 071-075
» سورة المائدة الآيات من 001-005
» سورة المائدة الآيات من 081-085
» سورة المائدة الآيات من 021-025

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الشيخ محمد متولي الشعـراوي :: المائدة-
انتقل الى: