http://ar.assabile.com/read-quran/surat-al-maeda-5
سورة المائدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [١]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(نـال شــرف تنسيــق هــذه السـورة الكريمـة: أحمد محمد لبن)
البداية -إذن- عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام.
وسورة المائدة -كما نعلم- جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدَّين والميراث، وكلها أحكام لعقود، فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا: لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود، فحافظوا عليها وأوفوا بها.
ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضاً المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات.
وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء، وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية.
وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول، ولم يقل: "يا أيها المؤمنون"، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمراً عابراً يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني.
وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق.
الله -سبحانه وتعالى- لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعاً أولاً إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} أي يا من آمنتم بالله إلهاً.
والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر.
وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ}؛ لأن لكل إيمان تبعة.
{يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ فـ "أوفوا" على سبيل المثال فيها "وفى”.
والمضارع هو "يفي"، وفي أفعالها "أوفى" و"وَفَّى"، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفاً وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ} [النجم: 37].
وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
ولابد أن يكون قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ} شرحاً لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء، فالتوفية هي الإتمام.
والحق يقول: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود.
والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام.
وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف.
وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بآداء التكليف، لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئاً منها بل إنّه يوفيها بلا تدليس.
والحق هنا يخاطب المؤمنين: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} أي أننا أمام "إيمان" و"عقد”.
وشرحنا معنى الإيمان، أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له.
وسمي العقد عقداً؛ لأن العقد هو الربط، أي شيء لا ينحل من بعد ذلك.
ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم "عقيدة”.
لأنها الأمر المعقود، وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غداً.
والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفو إلى العقل ليُبحث من جديد، بل إنه مستقر وثابت في القلب.
ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود.
والعقود -كما نعلم- هي جمع لـ "عقد" وبالإسلام عقود كثيرة، تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ} [الأعراف: 172].
ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده، وإيَّاك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت.
لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أَرْضَه لك.
وإيَّاك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر، لا، إنه تسخير الحق للفرس.
ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}[يس: 71-72].
وعلى المؤمن أن يتذكر أيضاً أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه، وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض؛ ليضع عليه الأحمال الثقيلة، ويأمره فيقوم. أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير، وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير.
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72].
ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان؛ فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضاً، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخاً للخفر، فيأمر أن يستحم الحمار، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز، ولم يعص الحمار في الحالتين.
إنه التذليل.
إيَّاك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل.
وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد.
{ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل "بسم الله الرحمن الرحيم”.
وإيَّاك أن تقبل على العمل بقوتك وحدها.
فالعمل إنما ينفعل لك لأنه سبحانه قد أخضعه لك.
وأنت تبدأ العمل باسم الله لأنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة.
ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لآدم: {فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ} [طه: 123].
والعهد الذي قال فيه الحق: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
وهذا عهد لكل البشر، والمسلمون عاهدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العقبة بأن ينصروه ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم.
وعاهدوا الرسول في الحديبية.
إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود، وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو الإيمان بالله؛ فما جاء من الله الذي آمنت به يُعتبر عقداً أنت شريك فيه، لأن العقد يكون دائماً بين طرفين، ولم يرغم الله أحداً على الإيمان به، ولكن الإنسان يؤمن بالله اختياراً.
ومادام المؤمن قد آمن بالله من طوع اختياره، فلابد أن يتبع منهجه.
ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلاً: يارب إن ما تأمر به سأفعله.
وهذا اعتراف بالعقد.
وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع الله، وبذلك يشترك العبد مع الله في هذا التعاقد؛ لأن إيمان العبد بالله يجعله طرفاً في العقد. والإله يشرع له، وينفذ العبد التشريع ليتلقى الجزاء الأوفى.
العقد إذن قد يكون بين العبد وربِّه، أو بين العبد وخلق الله المساوين له، أو بين العبد ونفسه، لكنهم أطلقوا على العقد الذي بين الإنسان ونفسه اسماً هو "العهد" وهو النذر، كأن ينذر العبد الصيام أو الصلاة، ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد الله على ذلك.
والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الأساسي وهو العقد الأول.
إنّه الإيمان بالله.
إذن فقول الحق: {أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} أي نفذوا ما أمر الله به حلالاً، وامتنعوا عن الشيء الذي جعله الحق حراماً.
ولا داعي -إذن- للاختلاف في معنى "العقود" والتساؤل: هل هي العقود التي بين العبد وربه، أو بين العبد والناس، أو بين العبد ونفسه، فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به.
{يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ} سبحانه يستهل السورة بالوفاء بالعقود، ثم إعلان تحليل بهيمة الأنعام.
ونعرف أن الإنسان قد طرأ على الكون، وأنه سبحانه قد خلق الكون أولاً.
ثم خلق الإنسان فيه، وهذا من رحمة الله بالإنسان فلم يخلق الإنسان أولاً، بل خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق الإنسان، وحين طرأ الإنسان على الكون وجد فيه قوام الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان.
وقمة المسخرات للإنسان هي الحيوان؛ لأن الجماد والنبات يخدمان الحيوان، ويشترك الحيوان مع الإنسان في أنّ له حياة ودماء وجوارح.
وجاء الحق هنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ} ويأمرنا بأن نوفي بالعقود، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخراً لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام.
كأن {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ} حيثية مقدمة من الحق.
ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبنى للمجهول في "أحلت"؛ لأن الإيمان جعلنا طرفاً في أن تكون بهيمة الأنعام حِلاً لنا.
ووقف العلماء عند "بهيمة الأنعام”.
وفي اللغة العربية نجد صيغة "فعيل" التي تأتي بمعنى "فاعل" وتأتي بمعنى "مفعول"، مثلما نقول "الله رحيم" أي أنه راحم؛ هو "فاعل"، ونقول "فلان قتيل" أي مقتول أي مفعول به.
و"بهيمة الأنعام" هنا تأتي بأي معنى، أهي بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟، و"بهيمة" إن نظرنا إلى أنّها مبهمة؛ لأن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا ولا نعرف حركتها أو إشارتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة.
وتصلح أن تكون فعيلة بمعنى فاعل؛ لأنها لا تفهم، ونحن المبهمون عليها.
ونقول: هي محكومة بالتسخير.
ولم يصنف الإنسان طعامها وهو العلف إلا بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله، إذن فهي التي علمت الإنسان صنف طعامها.
فلا يقولن إنسان: إنها بهيمة لا تفهم، وليعرف أنها لم تخلق لتفهم مسائل الإنسان، لأنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها.
ودليلنا أن الله امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علّمهم منطق الطير، فقد حزّ في نفس الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهو الطائر فقد فهم أن السجود لا يكون إلاّ لله الواحد القهار لا للشمس، وهكذا نرى الإنسان يتعلم الكثير من أخلاق الحيوانات وعاداتها؛ ولذلك نجد هواة تربية الحيوانات يتعرفون على طعام هذه الحيوانات بعد أن يتتبعوها ويعرفوا ماذا تأكل، وعن أي شي تبتعد، والفلاح يقدم البرسيم للجاموس ولا يقدم له النعناع؛ لأنه رأى الجاموس وهو حرّ لا يأكل النعناع بل يأكل البرسيم، وقال الحق على لسان النمل: {ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18].
نحن إذن الذين لا نفهم لغة النمل، ونجد البهيمة محكومة بالغريزة، لكن الإنسان يملك العقل، لكنه يغطي عقله بالهوى.
وقول الله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} دليل على أن الذي أحلها، جعل التحليل لها في التسخير بدليل أن الحبل إن التف حول رقبة جاموسة أو رقبة خروف وقبل أن يختنق نجد الحيوان يمد رقبته، فيقول الناس: لقد طلب الحلال، فنادوا الجزار.
وكأنه -وهو الحيوان- يطلب الذبح لينتفع الناس به، وكأنه يحس بالخسارة إن ضاع لحمه بلا فائدة، وهذا دليل على أنه مُذلَّلٌ، أما الحيوان غير المُحلّل فمن العجيب أنه لو حدث معه ذلك لما مَدَّ رقبته.
والأنعام هي المذكورة في قوله الحق: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ} [الأنعام: 143].
وكذلك قول الرحمن: {وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ} [الأنعام: 144].
إنها ثمانية أزواج؛ ثم ألحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظباء وحمر الوحش، ولم يحرم إلا كل ذي ذنب كالسباع وكل ذي مخلب من الطير، ولو لم يقيد الله هذا التحليل لانصرف بدون قيد، ولأسأنا إلى أنفسنا بأكل الميتة والموقوذة والمتردية، ولكن الحق أنقذنا من ذلك وحرَّم علينا تلك الأشياء الضارة.
{يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} إذن فمن حق الله عليكم أيها المؤمنون أن توفوا بالعقود؛ لأنه قدم لكم الكون بكل أجناسه وكل عناصره لخدمتكم.
وأحلّ أقرب الأجناس إلى الإنسان لما فيه من حياة وحس وحركة، فيقول: {غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ولو لم يضع الحق ذلك التشريع لأكَل الإنسان -وهو مُحْرِمٌ- بهيمة الأنعام، وقد حرم سبحانه الصيد في اثناء الإحرام، وكذلك في حمى الحرم.
والحَرَم -كما نعلم- مركزه الكعبة، وحول الكعبة المسجد.
وتختلف مناطق الإحرام وتسمى الميقات المكاني، فالميقات المكاني للحج والعمرة لمن كان خارج الحرم (ذو الحليفة) وذلك للمتوجه من المدينة وهي (آبار علي)، والجحفة وهي الآن (رابغ) للمتوجه من مصر والشام المغرب، و(يَلَمْلَم) للمتوجه من تهامة، و(قَرْن المنازل) للمتوجه من نجد اليمن ونجد الحجاز، و(ذات عرق) للمتوجه من المشرق والعراق وغيره.
أما الميقات المكاني للحج لمن بمكة فهو مكة نفسها، أما ميقات العمرة المكاني لمن بالحرم فهو الخروج لأدنى الحل وهي الجعرانة ثم التنعيم (مسجد عائشة) ثم الحديبية.
والميقات الزماني للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، أما ميقات العمرة الزماني فهو جميع السنة إلاّ إذا كان محرماً بحج أو بعمرة أخرى أو كان ذلك قبل النفر لانشغاله بالرمي والمبيت فيمتنع الإحرام بها.
والتنعيم والجعرانة والحديبية، تلك هي حدود الحرم.
والصيد في حدود الحرم حرام، وفي كل زمان وعلى كل إنسان، أما في غير الحرم، فالصيد حرام لمن كان محرماً فقط، وغير المحرم من حقه الصيد.
وبذلك يؤدب الحق سبحانه وتعالى خلقه ويجعلهم على ذكر دائم للمنهج فيأتي لهم في مكان ويقول لهم: الصيد محرم في هذا المكان، والطعام والشراب محرم في هذا الزمان؛ كصوم رمضان.
وعدة الشهور عندنا كمسلمين اثنا عشر شهرا.
أربعة منها حُرُم.
ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
وفي الميقات يحرم الصيد على الحاج فقط، وهذا انضباط إيماني.
وعندما يأتي الإنسان إلى الميقات فهو يحرم، أي يغير وضعه ويلبس لباساً خاصا بالحج، يلبسه كل الناس ليكون الكل سواسية؛ لأن الناس إنما يميزون بهندامهم وهيئاتهم، فيأمر سبحانه أن يطرح الإنسان هذا التمايز من فور الإحرام.
وما كان من الحلال أن يفعله المسلم قبل الميقات وقد منعه الإسلام منه لا يجرؤ على أن يفعله بعد الميقات والإحرام.
ويستطيع المسلم قبل الميقات أن يحلق ويتطيب ويصطاد ويقطع من النبات؛ لكنه ما إن يبدأ الإحرام يمتنع عن ذلك حتى يستعد لما يشحن أعماقه بالوجود مع المنعم لا مع النعمة، هذا هو التهيؤ للدخول إلى بيت المنعم، ولذلك يضع المسلم النعمة على جانب ليبقى مع المنعم.
ويمنع الإنسان أن يصيد في الحرم محرماً كان أو غير محرم ليشعر الكل أن الحرم لله فقط.
وتستعد كل النفوس للقاء المهابة.
ويمتنع الإنسان من أول الميقات عن أشياء كثيرة بداية من الصيد والاستمتاع بالحقوق الزوجية؛ ثم يدخل منطقة يحرم فيها الصيد على كل الناس كرمز للمهابة.
ويحج المسلم في حياته مرة واحدة كأداء للفريضة؛ وفي كل مرة تحج وتقصد بيت ربّك يوضح الله لك فيها: لا تنشغل بالنعم لأنك ذاهب إلى المنعم، ويمحو سبحانه بالحج كل الذنوب.
{غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإن أردناها محرمين فهي صحيحة، وإن أردناها للحرم فهي صحيحة؛ لأن الصيد محرم في منطقة الحرم للحاج أو لغيره.
ويذيل الحق الآية: {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وسبحانه بدأ الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} هكذا نرى أن التذييل منطقي يتفق فيه آخر الآية مع صدرها؛ لأن الله حين يخاطب المؤمنين الذين آمنوا به، فمن لوازم الإيمان أن ينفذوا حكم الله الذي آمنوا به ومادام المؤمن قد آمن بالله إلهاً فليتجه إلى ما يريده الله من أحكام ليفعلها لكن عمومية الآية قد تجعل واحداً يعزل عجز الآية عن صدرها، رغبة في التشكيك في الإسلام، فيقول: إن الله يقول إنه يحكم ما يريد، وقد أراد من الناس من يؤمن ومن لا يؤمن، فكيف يقول: {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}، بينما لا يؤمن الكل؟.
ونقول: لا تعزل عجز الآية عن صدرها؛ لأن الله إنما يخاطب في هذه الآية من آمن به رباً، ومن آمن بالإله يعمد ويقصد ويتجه إلى ما يريده الله من حكم ليطبقه.
ولا يعتقدَنَّ أحد أنّ الكافرين خارجون عن إرادته سبحانه في قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} فالذي تمرد على حكم الله يقتضيه المنطق أن يظل متمرداً على حكم الإله.
لكن المتمرد على حكم الله التكليفي الشرعي لا يجرؤ ولا يملك أن يكون منطقياً مع نفسه، فإن حكم الله عليه بالضعف.
فليقل للضعف: لا، أنا لن أضعف وأنا قوي.
لا أحد يملك من مثل هذا الأمر شيئاً.
المتمرد يأخذه ملك الموت وهو غير مريض، فماذا إذن يصنع تمرد المتمرد إزاء الموت؟ إذن هناك أمور يخضع فيها الإنسان -كل إنسان- لحكم الله.
وخضوع الإنسان لحكم الله في بعض الأمور أقوى من خضوع المؤمن لها؛ لأن المؤمن حين آمن بالله يستقبل الموت -على سبيل المثال- كحكم من الله، أما المتمرد الذي لا يصلي ولا يؤدي أي أمر تكليفي، ويتعرض للأغيار بما فيها الموت، فهو يعاني من كل ذلك مشقَّة وَحِدّة تفوق حدة استقبال المؤمن للأغيار أو الموت.
إذن فقوله الحق: {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} هو قضية عامة؛ لأن الذي تمرَّد على حكمه سبحانه فيما له فيه اختيار، كان من الواجب أن يكون منطقياً مع نفسه، فيتمرّد على حكم يُجريه الله عليه، وذلك بعكس كثير من الأحكام الوضعية فإنها لا تقوى على هذا التمرُّد، ويكون هنا حُكم الله أقوى؛ لأن المُتمرِّد لن يجرؤ على الرَّدِّ على أمر الله.
فلا يظنَّنَّ ظانٌ أن الله جعل للاختيار في العبد طلاقة، لكنه جعل للاختيار في العبد تقييداً، وللقدرة القادرة طلاقة، فإن تمرَّد مُتمرِّدٌ على الإيمان؛ فلن يجرؤ على التمرُّد في أشياء أخرى.
إذن فالله يحكم ما يريد.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا...}.