منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة البقرة: الآيات من 256-260

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48361
العمر : 71

سورة البقرة: الآيات من 256-260 Empty
مُساهمةموضوع: سورة البقرة: الآيات من 256-260   سورة البقرة: الآيات من 256-260 Emptyالخميس 18 أبريل 2019, 6:16 pm

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [٢٥٦]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256].

والإكراه هو أن تحمل الغير على فعل لا يرى هو خيراً في أن يفعله.

أي لا يرى الشخص المكرَه فيه خيراً حتى يفعله.

ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم، كأن نرغم الأبناء على المذاكرة، وهذا أمر لصالح الأبناء، وكأن نجبر الأطفال المرضى على تناول الدواء.

ومثل هذه الأمور ليست إكراهاً، إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لأن أحداً لا يسره أن يظل مريضاً.

إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم.

ولذلك يقول الحق سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256].

ومعنى هذه الآية أن الله لم يُكره خلقه -وهو خالقهم- على دين، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصي أمره.

فيقول سبحانه: {لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد: 31].

لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً، أن المجيء قهراً يثبت له القدرة، ولا يثبت له المحبوبية، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب، فيقولتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256] أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.

فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟.

لا، إنّ الرسول جاء لينقل عن الله لا ليُكره الناس، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين، وإلا لو أكرههم لما أرسل الرسل، ولذلك يقول المولى عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].

إن الرسول له مهمة البلاغ عن الله؛ لأن الله لم يرد خلقه مكرهين على التدين، إذن فالمبلغ عنه لا يُكره خلقه على التدين، إلا أن هنا لبساً.

فهناك فرق بين القهر على الدين، والقهر على مطلوب الدين، هذا هو ما يحدث فيه الخلاف.

تقول لمسلم: لماذا لا تصلي؟

يقول لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256]، ويدعي أنه مثقف، ويأتيك بهذه الآية ليلجمك بها، فتقول له: لا.

{لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256] عقيدة وإيماناً، إنما إن آمنت وأعلنت أنك آمنت بالله وصرت معنا مسلماً فلا بد أن تعرف أنك إن كسرت حكماً من أحكام الإسلام نطلب منك أن تؤديه، أنت حر أن تؤمن أو لا تؤمن، لكن حين التزمت بالإيمان، فعليك مسئولية تنفيذ مطلوب الإيمان، وإلا حُسب تصرفك أنه من تصرفات الإسلام، فإذا كنت تشرب خمراً فإنك حر؛ لأنك كافر مثلاً، لكن أتؤمن ثم تشرب خمراً!؟ لا.

أنت بذلك تكسر حداً من حدود الله، وعليك العقاب.

ولأنك ما دمت قد علمت كعاقل رشيد مطلوبَ الإسلام، فعليك أن تنفذ مطلوب الإسلام، ولذلك لم يكلف الله الإنسان قبل أن ينضج عقله بالبلوغ؛ حتى لا يقال: إن الله قد أخذ أحداً بالإيمان وألزمه به قبل أن يكتمل عقله.

بل ترك التكليف حتى ينضج الإنسان ويكتمل، حتى إذا دخل إلى دائرة التكليف عرف مطلوباته، وهو حر أن يدخل إلى الإيمان أو لا يدخل، لكن إن دخل سيُحاسب.

إذن فلا يقل أحد عندما يسمع حكماً من أحكام الدين: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256]؛ لأن هذه الآية نزلت بشأن العقيدة الأساسية، فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاماً عليك أن توفي بمطلوباتها.

وقد أراد خصوم الإسلام أن يصعدوا هذه العملية فقالوا كذباً وافتراء: إن الإسلام انتشر بحد السيف.

ونقول لهم: لقد شاء الله أن ينشأ الإسلام ضعيفاً ويُضطهد السابقون إليه بكل أنواع الاضطهاد، ويُعذبون، ويُخرجون من ديارهم ومن أموالهم ومن أهلهم، ولا يستطيعون عمل شيء.

إذن ففترة الضعف التي مرت بالإسلام أولاً فترة مقصودة.

ونقول لهم أيضاً: من الذي قهر وأجبر أول حامل للسيف أن يحمل السيف؟!

والمسلمون ضعاف ومغلوبون على أمرهم، لا يقدرون على أن يحموا أنفسهم، إنكم تقعون في المتناقضات عندما تقولون: إن الإسلام نُشِرَ بالسيف.

ويتحدثون عن الجزية رفضاً لها، فنقول: وما هي الجزية التي يأخذها الإسلام من غير المسلمين كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان المسلمون يأخذون الجزية من البلاد التي دخلها الفتح الإسلامي، أي أن هناك أناساً بقوا على دينهم.

وما دام هناك أناس باقون على دينهم فهذا دليل على أن الإسلام لم يُكره أحداً.

وقول الله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256] علته أن الرشد واضح والغيّ واضح، وما دام الأمر واضحاً فلا يأتي الإكراه.

لأن الإكراه يأتي في وقت اللبس، وليس هناك لبس، لذلك يقول الحق: {قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ} [البقرة: 256].

وما دام الرشد بائنا من الغيّ فلا إكراه.

لكن الله يعطيك الأدلة، وأنت أيها الإنسان بعقلك يمكنك أن تختار، كي تعرف أنك لو دخلت الدين لالتزمت، وحوسبت على دخولك في الدين، فلا تدخل إلا وأنت مؤمن واثق بأن ذلك هو الحق؛ لأنه سيترتب عليه أن تقبل أحكام الدين عليك.

{لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ} [البقرة: 256] والرشد: هو طريق النجاة، و"الغي": هو طريق الهلاك.

ويقول الحق إيضاحاً للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الأرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات الله ودلائل قدرته، وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه، وإن شاهدوا طريق الضلال سلكوا فيه لأنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها.

والغي –أيضاً- هو ضلال الطريق، فعندما يسير إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه: "فلان قد غوى" أي فقد الاتجاه الصحيح في السير، وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك.

ويوضح لنا الحق طريق الرشد بمنطوق آخر في قوله الحق: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10].

إن الجن قد ظنوا كما ظن بعض من معشر الإنس أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت أو لن يرسل رسولاً من البشر لهداية الكون.

وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرساً من الملائكة وشُهباً محرقة.

وإن الجن لا يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرٌّ بالبشر أو أراد الله بهم خيراً وهدى.

إذن فالرُّشْد - بضم الراء وتسكين الشين - والرَشَد بفتح الراء وفتح الشين - كلاهما يوضح الطريق الموصل للنجاة.

ويقابل الرشد الغيّ.

ويتابع الحق: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256]

أولاً: نلحظ أن الحق هنا قد قدم الكفران بالطاغوت، ثم جاء بالإيمان بالله؛ لأن الأمر يتطلب التخلية أولاً والتحلية ثانياً، لابد أن يتخلى الإنسان من الطاغوت فلا يدخل على أنه يؤمن بالله وفي قلبه الطاغوت، فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه، التخلية قبل التحلية.

وما هو "الطاغوت"؟

إنه من مادة "طغى"، وكلمة "طاغوت" مبالغة في الطغيان.

لم يقل: طاغ، بل طاغوت، مثل جبروت، والطاغوت إما أن يُطلق على الشيطان، وإما أن يُطلق على من يعطون أنفسهم حق التشريع فيكَفِّرون وينسبون من يشاءون إلى الإيمان حسب أهوائهم، ويعطون أشياء بسلطة زمنية من عندهم، ويُطلق أيضاً على السحرة والدجالين، ويُطلق على كل من طغى وتجاوز الحد في أي شيء، فكلمة "طاغوت" مبالغة، وقد تكون هذه المبالغة متعددة الألوان، فمرة يكون الطاغي شيطاناً، ومرة يكون الطاغي كاهناً، ومرة يكون ساحراً أو دجالاً، ومرة يكون حاكماً.

ومادة "الطاغوت" تدل على أن الموصوف بها هو من تزيده الطاعة له طغياناً، فعندما يجربك في حاجة صغيرة، فتطيعه فيها فيزداد بتلك الطاعة طغياناً عليك.

والحق سبحانه يقول: {فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].

ويزيد في الأمر حتى يصير طاغية، ولا يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي، إنما يبدأ الأمر خطوة خطوة، كأي نظام ديكتاتوري قهري، إنه يبدأ بـ (جس نبض) فإن صبر الناس، ازداد هذا النظام في القسوة حتى يصير طاغوتاً، إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغياناً، وتُطلق على الشيطان؛ لأنه هو الأساس، وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية (سواء كانوا كهاناً أو غيرهم)، وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون، لأنهم طغوا بما علموه؛ إنهم يستعملون أشياء يتعبون بها الناس، وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة لاشتمالها على كل هذه المعاني، وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن "الطاغوت" ترد مذكرة في بعض الأحيان، وقد وردت مؤنثة في آية واحدة في القرآن: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17].

لقد أوضحت هذه الآية أنهم تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه، أي إن الذين اجتنبوا الألوان المتعددة من الطغيان هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة لله، ولهم البشرى.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256] وكلمة "استمسك" غير كلمة "مَسَكَ".

لأن "استمسك" تدل على أن فيه مجاهدة في المسك، والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لأن الشيطان لن يتركه، فلا يكفي أن تمسك، بل عليك أن تستمسك، كلما وسوس الشيطان لك بأمر فعليك أن تستمسك بالتدين، هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذاً وردّاً.

{فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ} [البقرة: 256] والعروة هي العلاَّقة، مثلما نقول: "عروة الدلو"، التي تمسكها منه، وهذه عادة ما تكون مصنوعة من الحبل الملفوف المتين، و"الوثقى" هي تأنيث (الأوثق) أي أمر موثوق به، وقوله: {فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256]، قد يكون تشبيهاً بعروة الدلو لأن الإنسان يستخدم الدلو ليأتي بالماء، وبالماء حياة البدن، وبالدين حياة القيم.

{فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256] كأنه ساعة جاء بكلمة "عروة" يأتي بالدلو في بال الإنسان، والدلو تأتي بالماء، والماء به حياة البدن، إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحة، {فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256]، وما دامت "عروة وثقى" التي هي الدين والإيمان بالله، وما دامت هي الدين وحبل الله فهذه وثقى، وما دامت "وثقى" فلا انفصام لها، وعلينا أن نعرف أن فيه انفصاماً.

وفيه انفصام الأول بالفاء والثاني بالقاف.

الانفصام: يمنع الاتصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة، والانقصام: أن يذهب كل جزء بعيداً عن الآخر أي فيه بينونة، والحق يقول: {لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] توحي بأن عملية الطاغوت ستكون دائماً وسوسة، وهذه الوسوسة هي: الصوت الذي يُغرى بالكلام المعسول، ولذلك أخذت كلمة "وسوسة الشيطان" من وسوسة الحُليّ، ووسوسة الذهب هي رنين الذهب، أي وسوسة مغرية مثل وسوسة الشيطان، والله عليم بكل أمر.

ويقول الحق بعد ذلك: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ...}.



سورة البقرة: الآيات من 256-260 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48361
العمر : 71

سورة البقرة: الآيات من 256-260 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة: الآيات من 256-260   سورة البقرة: الآيات من 256-260 Emptyالخميس 18 أبريل 2019, 6:18 pm

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢٥٧]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

إن الله وليّ الذين آمنوا ما دام: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} [البقرة: 256] وكأن الحق يشرح ذلك بهذه الآية، فما دام العبد سيتصل بالعروة الوثقى ويستمسك بها، وهذه ليست لها انفصام فقد صارت ولايته لله، وكلمة "وليّ" إذا سمعتها هي من "وَلِيَ" أي: جاء الشيء بعد الشيء من غير فاصل؛ هذا يليه هذا، وما دام يليه من غير فاصل فهو الأقرب له، وما دام هو الأقرب له إذن فهو أول من يفزع لينقذ، فقد يسير معي إنسان فإذا التوت قدمي أناديه؛ لأنه الأقرب مني، وهو الذي سينجدني.

فلا يوجد فاصل، وما دام لا يوجد فاصل فهو أول من تناديه، وأول من يفزع إليك بدون أن تصرخ له؛ لأن من معك لا تقل له: خذ بيدي، إنه من نفسه يأخذ بيدك بلا شعور، إذن فكلمة {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257] إذا نظرت إليها وجدتها تنسجم أيضا مع "سميع وعليم"، فلا يريدك أن تناديه؛ لأن هناك من تصرخ عليه لينجدك، وهو لن تصرخ عليه؛ لأنه سميع وعليم، {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257].

وكلمة "وليّ" أيضاً منها (مولى) ومنها (وال)، {وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257] أي هو الذي يتولى شئونهم وأمورهم، كما تقول: الوالي الذي تولَّى أمر الرعيّة، وكلمة "مَوْلَى" مرة تُطلق على السيد، ومرة تُطلق على خادمه.

ولذلك يقول الشاعر:
مولاك يا مولاي طالب حاجة

أي عبدك يا سيدي طالب حاجة، فهي تستعمل في معان مترابطة؛ لأننا قلنا: "وَلِيّ" تعني القريب، فإذا كان العبد في حاجة إلى شيء فَمَن أول من ينصره؟

سيده، وإذا نادى السيد، فمن أول مجيب له؟ إنه خادمه، إذن فيُطلق على السيد ويُطلق على العبد، ويُطلق على الوالي، {اللهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257].

وقوله الحق: "الذين آمنوا" يعني جماعة فيها أفراد كثيرة، كأنه يريد من الذين آمنوا أن يجعلوا إيمانهم شيئاً واحداً، وليسوا متعددين، أو أن ولاية الله لكل فرد على حدة تكون ولاية لجميع المؤمنين، وما داموا مؤمنين فلا تضارب في الولايات؛ لأنهم كلهم صادرون وفاعلون عن إيمان واحد، ومنهج واحد، وعن قول واحد، وعن فعل واحد، وعن حركة واحدة.

وكيف يكون {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257]؟ إنه وليهم أي ناصرهم.       

ومحبهم ومجيبهم ومعينهم، هو وليهم بما أوضح لهم من الأدلة على الإيمان، هل هناك حُب أكثر من هذا؟ هل تركنا لنبحث عن الأدلة أو أنه لفتنا إلى الأدلة؟

وتلك هي ولاية من ولايات الله.

فقبل أن نؤمن أوجد لنا الأدلة، وعندما آمنا وَالانَا بالمعونة، وإن حاربنا خصومنا يكن معنا، وبعد ذلك تستمر الولاية إلى أن يعطينا الجزاء الأوفى في الآخرة، إذن فهو وليّ في كل المراحل، بالأدلة قبل الإيمان وليّ.

ومع الإيمان استصحاباً يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه.

وفي الآخرة هو وليّنا بالمحبة والعطاء ويعطينا عطاءً غير محدود، إذن فولايته لا تنتهي.

{ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ} [البقرة: 257] إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان؛ لأن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي، فلا يمكن أن ترى شيئاً إلا إذا كان هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك، فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه لا يأتي من الأشياء أشعة فلا تراها، وعندما يأتي النور فأنت تستبين الأشياء، هذه في الأمور المُحسَّة؛ وكذلك في مسائل القيم، {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].

هل هم دخلوا النور يا ربنا؟

لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين، أو {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، أي يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من الإيمان كما يقول واحد: أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟

إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث، وأخرجه والده من الميراث.

وهذا ينطبق على الذين تركوا الإيمان، وفضلوا الظلمات.

والقرآن يوضح أمر الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان في مواقع أخرى، كقول سيدنا يوسف للشابين اللذين كانا معه في السجن: { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 36-37].

فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ لا، إنه لم يدخل أساساً إلى ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله.

إن هذه الملة كانت أمامه، لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم عليه السلام.

وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الاختيار.

وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70].

إن معنى الآية أن الله قد خلقنا جميعاً، وقدر لكل منا أجلاً، فمنا من يموت صغيراً، ومنا من يبلغ أرذل العمر، فيعود إلى الضعف وتقل خلايا نشاطه فلا يعلم ما كان يعلمه.

وليس معنى الآية أن الإنسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة.

وعندما يقول الحق: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] فالحق أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت، لأن الطاغوت كما قلنا: ألوان متعددة، الشيطان طاغوت، والدجال طاغوت، والساحر طاغوت.

وجاء الحق بالخبر مفرداً وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء، ووصف هؤلاء الأولياء للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات.

لقد أفرد الله الطاغوت وأورد بالجمع الأفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات.

ولماذا لم يقل الله هنا: "طواغيت" بدلاً من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول: "فلان عدل" أو "الرجلان عدل" أو "الرجال عدل".

وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت، فالشيطان والدجال والكاهن والساحر والحاكم بغير أمر الله؛ كلهم طاغوت، لقد التزمت الآية بالإفراد والتذكير.

فالطاغوت تُطلق على الواحد أو الاثنين أو الجماعة، أي أن المُخرجين من النور إلى الظلمات هم أولياء الطاغوت، أو من اتخذوا الطواغيت أولياء، وهم إلى النار خالدون.

والدخول للنار يكون للطواغيت ويكون لأتباع الطواغيت، كما يقول الحق في كتابه: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].

إن أتباع الطواغيت، والطواغيت في نار جهنم.

وقانا الله وإياكم عذابها.

ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257]، فهو الولي، وهو الناصر فيقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ...}.



سورة البقرة: الآيات من 256-260 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48361
العمر : 71

سورة البقرة: الآيات من 256-260 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة: الآيات من 256-260   سورة البقرة: الآيات من 256-260 Emptyالخميس 18 أبريل 2019, 6:21 pm

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٢٥٨]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وساعة تسمع {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258]؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي "أ" وحرف نفي وهو "لم"، ومنفي هو "تر" والهمزة: تأتي هنا للإنكار، والإنكار نفي بتقريع، ولكنها لم تدخل على فعل مثبت حتى يقال: إنها أنكرت الفعل بعدها، مثلما تقول للولد: أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت لا لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة، لأن الفعل بعدها مثبت وهو "تضرب"، وجاءت الهمزة قبله فتسمى "همزة إنكار" للتقريع.

إذن فالإنكار: نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي.

وما دام الإنكار نفياً والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفي، إذن فقد أثبته، كأنه سبحانه عندما يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] فالمقصود "أنت رأيت".

ولماذا لم يقل له: أرأيت؟

لقد جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع، فقد يكون مجيء الإثبات تلقيناً للمسئول، فعندما يقول لك صديق: أنت لم تسأل عني وأنت تهملني.

فأنت قد ترد عليه قائلاً: ألم أساعدك وأنت ضعيف؟

ألم آخذ بيدك وأنت مريض؟

لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق، ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو، وهكذا نعلم أن نفي النفي إثبات، ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] على معنى: أنت رأيت، والرؤية تكون بالعين.

فهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه- هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعاً لا، فكأن {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] هنا تأتي بمعنى: ألم تعلم.

ولماذا جاء بـ {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] هنا؟

لقد جاء بها لنعلم أن الله حين يقول: "ألم تعلم" فكأنك ترى ما يخبرك به، وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك.

فالعين هي حاسة من حواسك، والحاسة قد تخدع، ولكن ربك لا يخدع، إذن فـ {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] تعني: "ألم تعلم علم اليقين"، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله، ولذلك يقولتعالى للرسول: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ} [الفيل: 1].

والرسول ولد عام الفيل، فلم ير هذه الحادثة، وكأن الله يخبره بها ويقول له: ألم تعلم، وكأنه يقول له: اعلم علماً يقيناً كأنك تراه؛ لأن ربك أوثق من عينيك، وعندما يقال: {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 258] فالمراد بها "ألم تر كذا"، لكن الحق قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] واستعمال حرف "إلى" هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث، ومثال ذلك ما نقوله أحياناً: ألم تر إلى زيد يفعل كذا.

فكأن ما فعله زيد أمر عجيب، وكأنه ينبه هنا إلى الالتفات إلى نهاية الأمر، لأن "إلى" تفيد الوصول إلى غاية، فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب، فلا تأخذها كأنك رأيتها فقط، ولكن انظر إلى نهايتها فيما حدث.

والحق يقول هنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] و"إلى" جاءت هنا لتدل على أنه أمر بلغ من العجب غاية بعيدة، وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة، والحق سبحانه وتعالى لم يقل لنا من هو ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم في ربه، لأنه لا يعنينا التشخيص سواءً كان النمروذ أو غيره.

فإذا ذهب بعض المفسرين إلى القول: إنه ملك واسمه النمروذ.

فإننا نقول لهم شكراً لاجتهادكم، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدده لنا، والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول الله إبراهيم عليه السلام وجادله في هذه المسألة، والتشخيص هنا ليس ضرورياً، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن الله لا يشخص الأمر، فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن.

وليس كذلك الأمر بالنسبة لأي تشخيص أو تحديد، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف، ويتساءلون: أين ومتى، وكم عددهم، ومن هم؟ ونقول: لو جاءت واحدة من هؤلاء لفسدت القصة؛ لأنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك: مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها.

ولو حددنا المكان سيقول آخر: إن المكان كان يسمح بهذه المسألة.

ولو حددنا الأشخاص بأسمائهم فلان وفلان، فسيقول ثالث: إن مثل هذه الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنَّى لنا بقوة إيمان هؤلاء؟ والحق لم يحدد الزمان والمكان والأشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية في أي زمان وفي أي مكان يقولون ما يقولون، ولو شخصها في واحد لفسد المراد.

لننظر إلى دقة الحق حين ضرب مثلاً للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعلا: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].

ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر الأمر المهم فقط؛ وهو أن كلا منهما زوجة لرسول كريم، ولكن كلا منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار.

ولكن الحق سبحانه وتعالى حين أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص والتحديد الواضح حين قال: { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].

تحديد الحق لمريم بالاسم والحادث لماذا؟ لأن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيَّةِ امرأة أخرى.

التشخيص هنا واجب؛ لأنه لن تلد امرأة من غير زوج إلا هذه، إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام، ومثال ذلك قول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَٰهِمَ} [البقرة: 258] فلم يقل لنا: من هو؟ و"حاجَّ" أصلها "حاجج"، مثل "قاتل" و"شارك".

وعندما يكون هناك حرفان مثلان، فنحن نسكن الأول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف، فتصير (حاج)، و"حاج" من مادة "فاعل" التي تأتي للمشاركة، وحتى نفهم معنى "المشاركة".

إليكم هذا المثال: نحن نقول: قاتل زيد عَمراً، أو نقول: قاتل عَمرو زيداً، ومعنى ذلك أن كُلاًّ منهما قد تقاتل، وكلاهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه، لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد، وجانب المفعول في الثاني.

برغم أن كلا منهما فاعل ومفعول معاً.

ومثال آخر، حين نقول: شارك زيد عمراً، وشارك عمرو زيداً، إذن فالمفاعلة جاءت من الاثنين، هذا فاعل وهذا مفعول، لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ، والمفعولية في الثاني، وإن كان الثاني فاعلاً أيضاً.

ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات كثيرة ومتحرزاً من أن حية تلدغه فقال:
قـد سـالم الحـيـات مـنـه القـدما
لأفـعـوان والشـجـاع القـشـعـما

إن الشاعر هنا يصف لنا إنساناً سار في مكان مليء بالحيات، وعادة ما يخاف الإنسان أن تلدغه حية، لكن هذا الإنسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد سالمت قدمه، أي لم تلدغه لأنه لم يَهِجْها، والثعابين عادة لا تلدغ إلا من يبدأها بالإهاجة، نجد هنا أن الفاعل هو الحيات؛ لأنها سالمت قدمه.

ويصح أيضاً أن نقول: إن القدم هي التي سالمت الحيات.

ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديماً ما يسمى بالبدل، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، فإن كان المبدل منه مرفوعاً جاء البدل مرفوعاً، وإن كان المبدل منه منصوباً جاء البدل منصوباً، وإن كان المبدل منه مجروراً كان البدل كذلك.

هنا جاءت "الحيات" في هذا البيت من الشعر مرفوعة ولكن الأفعوانَ جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو "الحيات" لأنه لاحظ ما فيها أيضاً من المفعولية فأتى بها منصوبة.

كما أن بالإمكان أن تُقرأ "الحيات" بالنصب و"القدم" بالرفع لأن كلا منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة.

وكذلك في قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَٰهِمَ} [البقرة: 258] نحن نلاحظ أن كلمة "إبراهيم" تأتي في الآية الكريمة منصوبة بالفتحة، أي يغلب عليها المفعولية.

فمن إذن الذي حاجّ إبراهيم؟ إنه شخص ما، وهو الفاعل؛ لأنه الذي بدأ بالمحاجّة، وهكذا تدلنا الآية الكريمة، وتصف الآية ذلك الرجل {أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ} [البقرة: 258] أي أن الرجل قد وهبه الله الملك وقد حاج هذا الرجل إبراهيم في ربه، فكأن هذا الرجل هو الذي بدأ الحِجاج قائلاً لإبراهيم: من ربك؟

فقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وهذه هي براعة القرآن في أن يترك الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله، فقوله الحق: {إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِمَ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فكأن الذي حاج إبراهيم سأله: من ربك؟ فقال إبراهيم: {رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].

ولنا أن نلحظ أن هذه الآية قد جاءت بعد قوله الحق في الآية السابقة: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257]، والولاية هي النصر والمحبة والمعونة، فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان الله إبراهيم على من حاجه، إلا أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم: {رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقد جاء الحق بـ"يحيـي ويميت"؛ لأن تلك القضية هي التي لم يدَّعِ أحد أنه فعلها، ولم يدَّع أحد أنه شريك فيها، حتى الكافرون إذا سألتهم: من الذي خلق؟

يقولون الله.       

إذن فهذه قضية ثابتة.

إلا أن الخصم الذي حاجّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية.

والسفسطة كما نعلم هي الكلام الذي يطيل الجدل بلا نهاية.

وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلام: إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت.

فسأله إبراهيم عليه السلام؛ كيف تحيي أنت وتميت؟ قال الرجل: أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر ألا أقتلهم، فالذي لم أقتله كأنني أحييته، والذي قتلته فقد أمته.

ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أولاً ما الحياة؟

وما الموت؟

ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن يطيل هذه المجادلة، فجاء له بأمر يُلجمه من البداية وينتهي الجدل، فقال له: {فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258].

وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا الجدل.

كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل، ويقول له: ما هي الحياة؟ ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة، أما الموت فهو إخراج الروح من الجسد، فالذي يقتل إنساناً؛ إنما يخرج روحه من جسده، والقتل يختلف عن الموت؛ لأن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في بدنه كالانتحار.

وقد يكون الإنسان جالساً مكانه وينتهي عمره فيموت، ولا أحد قادر قبل ذلك أن يقول له: مت فيموت، هذا هو الموت، لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس الموت، ولذلك يجعل الله القتل مقابلاً للموت، في قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144-145].


وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالى الفرق بين الموت والقتل، وجعل كلا منهما مقابلاً للآخر، فعندما أشيع أن رسول الله قد قتل، هَمَّ بعض المسلمين بالارتداد إلى الكفر، فأنكر الله عليهم ذلك قائلاً: إن محمداً رسول من عند الله قد مات من قبله المرسلون أفإن مات أو قتل رجعتم عن الإيمان للكفر، ومَنْ يفعل ذلك فإنما يضر نفسه، والثواب عند الله للثابتين على منهج الله الشاكرين لنعمه، أوضح لنا الحق أن موت أي إنسان لا يمكن أن يحدث إلا بإذن الله، وقد كتب الله ذلك في كتاب مشتمل على الآجال.

ويريد الله أن يُنبهنا ويُلفتنا إلى حقيقة هامة وهي أن الرسل في جدلهم مع أممهم أو مع المناقشين لهم لا يكون الهدف أنّ النبي يظفر بالغلبة وإنما يكون الهدف بالنسبة للرسول أو النبي أن يصل إلى الحقيقة، ولذلك لم يتوقف إبراهيم عليه السلام مع الرجل الذي يحاجّه في الله عند نقطة الإحياء والإماتة؛ لأنه رأى في مناقشة الرجل لوناً من السفسطة.

وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر الإيمانية أن نفهم الفرق بين الإماتة والقتل.

الصحيح أن الإماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد.

والإماتة تختلف عن القتل بأنه لا يقدر عليها إلا واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية الإنسانية حتى تسكنها الروح، وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس.

أما القتل فهو أن تجرح إنساناً فيموت، أو تنقض بنيته، تكسر له رأسه مثلاً، أما "الإماتة" فهي أن تنقبضَ حياته بمجرد الأمر دون أن تقربه، هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ لا.

إذن فالذي حاج إبراهيم لم يحي الذي قال: إنه سيتركه بدون عقوبة، إنه لم يقتله، لكنه أبقى الحياة التي كانت فيه، هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل.

والله قد جعل القتل مقابلاً للموت، صحيح أنهما ينتهيان بأن لا روح، لكنْ هناك فرق بين أن تؤخذ الروح بدون هذه الوسائل.

وأن تترك الروحُ البدنَ لأن بنيته قد تهدمت.

وإياك أن تظن أن الروح لا تخضع لقوانين معينة، إن الروح لا تحل إلا في مادة خاصة، فإذا انتهت المقومات الخاصة في المادية فالروح لا تسكنها، فلا تقل: إنه عندما ضربه على رأسه أماته! لا، هو لم يخرج الروح لأن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي.

والمثال الذي يوضح ذلك: لنفترض أن أمامنا نوراً، إذا كسرت الزجاجة يذهب النور.

هل الزجاجة هي النور؟

لا، لكن الكهرباء لا تظهر إلا في هذه الزجاجة، كذلك الروح لا توجد إلا في بنية لها مواصفات خاصة، إذن فالقاتل لا يُخرج الروح ولكنه يَهدم البنية بأمر مُحسّ؛ فالأمر الغيبي وهو الروح لا يسكن في بنية مهدومة.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ} [البقرة: 258]، انظر إلى الطغيان، أتجعل إيتاء الْمُلك وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟

من الذي أبطره؟

أأبطره أن آتاه الله الملك؟ وكيف يعين الله واحداً ليس مؤمناً به؟

والمُلْكُ -بمعنى الأمر والنهي- إنما يكون للمبلغ عن الله، إنما الملك الآخر مُلْكُ السلطان بأن يُحَكِّمَ إنساناً على جماعة، فمن الجائز أن يكون مؤمناً، وأن يكون كافراً.

وقوله {أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] هو جواب على من قال: "من ربك" فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلام {رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] وعرفنا ما في هذا الأمر من سفسطة، فلم يقل له إبراهيم: أأنت تُحيي وتميت، بل ينقله إلى أمر آخر، كأنه قد قال له: اترك الأمر الغيبي وهو الروح، وتعالى للأمر المشهود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258].

ولأن الله ولي الذين آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يَرُدّ؛ كان يستطيع أن يقول له: اجعل من يأتي بها من المشرق يأتِ بها من المغرب، لكنه لم يقلها! مما يدل على أنه غبي! أو يكون ذكياً فيقول: إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها، فخاف.

إذن فـ: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257] حقاً.

وهو سبحانه:{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ} [البقرة: 257].

وما معنى كلمة "بُهِتَ"؟

إن البهت يأخذ ثلاث صور: الصورة الأولى: الدهشة؛ نَقَله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى ما لا تحدث فيه مماحكة وجدال، أراد أن يجد أمراً يرد به فلم يقدر، مثلما قال: أنا أحيي وأميت، لقد دهش، وأول ما فاجأه هو الدهش، ثم كان التحيّر، أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد، إذن فقد هُزم.

فهذه هي نهاية البَهت.

فـ"بُهت" تعني أنه دهش أولاً، فتحير في أن يرد ثانياً، فكان نتيجة ذلك أنه هُزم ثالثاً، وهذا أمر ليس بعجيب؛ لأنه ما دام كافراً فليس له ولي، أو وليه من لا يقدر:{ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]، أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه الله.

ويختم الحق الآية بقوله: {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] لا يهديهم إلى برهان، ولا إلى دليل، ولا إلى حاجة، لأن وليهم الشيطان، {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] والآية التي تأتي من بعد ذلك كلها ستتدخل في الحياة والموت، ومن المهم أن الآية تدخل في الحياة والموت كي لا نفهم أن إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجّه في أمر الموت والحياة هرباً من الكلام فيها، لذلك يريد الله أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة، ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا...}.



سورة البقرة: الآيات من 256-260 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48361
العمر : 71

سورة البقرة: الآيات من 256-260 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة: الآيات من 256-260   سورة البقرة: الآيات من 256-260 Emptyالخميس 18 أبريل 2019, 6:23 pm

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٢٥٩]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ بـ"أو"، وما بعد "أو" يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (ألم تر) إلى مثل الذي مر على قرية.

وعندما تسمع كلمة "قرية" فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة.

ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها.

قال البعض: إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر، أو هو عزير، وقد قلنا من قبل: إنه إذا أبهم الحق فمعناه: لا تشخص الأمر، فيمكن لأي أحد أن يحدث معه هذا.

{أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ} [البقرة: 259].

وقالوا: إنها بيت المقدس، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] وحتى نفهم معنى خاوية على عروشها، لنا أن نعرف أنني عندما أقول: "أنا خويان" أي "أنا بطني خاوية": "جوعان" فـ"خاوية" المقصود بها أنها قرية خالية من السكان، وقد تكون أبنيتها منصوبة، لكن ليس فيها سكان، والحق بقوله عن تلك القرية: إنها خاوية على عروشها، و"العرش" يُطلق على البيت من الخيام، ويطلق كما نعرف على السقف، فإذا قال: {خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] أي أنّ العرش قد سقط أولاً، ثم سقطت الجدران عليه، مثلما نقول في لغتنا العامية: "جاب عاليها على واطيها".

وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فلابد أن مشهدها يكون شيئاً لافتا للنظر، قال: {أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] فكأنه يسأل عن القرية، وعن إماتة وإحياء الناس الذين يسكنون القرية.

والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الأحيان الحديث عن أهلها مثل قوله تعالى: { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].

إن أبناء يعقوب عليه السلام حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الأصغر مع يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملاءنا الذين كانوا معنا في القافلة، وسيقولون لك: إننا قد تركنا أخانا بمصر.

لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها هو سؤال عن أهلها.

{أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] وساعة تسمع "أَنَّى" فهي تأتي مرة بمعنى "كيف"، ومرة تأتي بمعنى: "من أين"، والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي: "كيف يُحيي الله هذه بعد موتها"؟

وقوله هذا يدل على أنه مؤمن، فهو لا يشك في أن قضية الإحياء من الله، وإنما يريد أن يعرف الكيفية، فكأنه مؤمن بأن الله هو الذي يحيي ويميت، وهذه ستأتي في قصة سيدنا إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ} [البقرة: 260].

هو لا يشك في أن الله يُحيي الموتى، إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لأن الذي يريد أن يعرف كيفية الشيء، لابد أن متعجب من وجود هذا الشيء، فيتساءل: كيف تم عمل هذا الشيء؟

مثلما نرى الأهرام، ونحن لا نشك أن الأهرام مبنية بهذا الشكل، لكننا نتساءل فقط: كيف بنوها؟

كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لأعلى ولم يكن هناك سقالات أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب فقط، والتعجب فرع الإيمان بالحدث.

والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: {أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ} [البقرة: 259].

يعني: كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف على الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث.

وأضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى- فمُصمم الملابس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة، أنت تراها، فأنت تتيقن من أنه صانعها، ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة، وتقول له: بالله كيف عملت هذه؟

كأنك قد عشقت الصنعة!

فتشوقت إلى معرفة كيف صارت، فما بالنا بصنعة الحق تبارك وتعالى؟

إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق، وتريد أن تنعم بهذه النعم.

ومثال آخر -ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- أنت ترى مثلاً لوحة رسمها رسام، فتقول له: بالله كيف مزجت هذه الألوان؟

أنت لا تشك في أنه قد مزج الألوان.

بل تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف كيف رسمها، إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الإحياء والإماتة فيما يأتي ليس معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لأن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو الإبداع الجمالي الذي أنشأ هذه الصنعة.

ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية، فالإنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود، والناس لهم حياة ولهم موت، والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت.

وعندما سأل العبد هذا السؤال، أراد الله أن تكون الإجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن بالقول {فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259].

إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية، وطلبه هو إيمان دليل، ليصبح فيما بعد إيماناً بواقع مشاهد {فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259] لقد جعل الله الأمر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار الله.

لقد أماته مائة عام، والعام هو الحول، وقد سموا "الحَوْل" عاماً؛ لأن الشمس تعوم في الفلك كله في هذه المدة، والعَوْم سَبْحٌ، والحق يقول: { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

ولذلك نسميه عاماً.

{فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259]، فكأن الله قال له كلاماً كما كلم موسى، أو سمع صوتاً أو ملكاً أو أنّ أحداً من الموجودين رأى التجربة.

فالمهم أن هناك سؤالاً وجواباً.

ويخبرنا الحق سبحانه بحوار دار في هذا الشأن، السؤال هو: كم لبثت؟

فأجاب الرجل: لبثت يوماً أو بعض يوم.

وإجابة الرجل تعني أنه قد تشكَّك، فقد وجد اليوم قد قارب على الانتهاء أو انتهى، أو أنه عندما رأى الشمس مشرقة أجاب هذه الإجابة: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] أو يكون قد قال ذلك؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في تقدير الزمن.

فهل هو صادق في قوله أو كاذب؟

إنه صادق، لأنه لم ير شيئاً قد تغيَّر فيه ليحكم بمقدار التغيُّر، فلو كان قد حلق لحيته مثلاً، وقام بعد ذلك ليجد لحيته قد طالت، أو قد نام بشعر أسود، وقام بعد ذلك بشعر أشيب، فلو حدثت أية تغيُّرات فيه لكان قد لمسها، لكنه لم يجد تغيُّراً.

فماذا كان جواب الحق؟

قال الحق: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259].

إننا هنا أمام طرفين ويكاد الأمر أن يصبح لغزاً، طرف يقول: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259].

ورَبٌ يقول: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259].

ونريد أن نحل هذا اللغز.

إن الحق سبحانه صادق ومُنَزَّهٌ، والعبد المؤمن صادق في حدود ما رأى من أحواله.

ونريد دليلاً على هذا، ودليلاً على ذاك.

نريد دليلاً على صدق العبد في قوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259].

ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان لا دليل برهان على أن الرجل قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة.

ونقول: إن في القصة ما يؤيد: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259]، وما يؤيد: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259]، فقد كان مع الرجل حماره، وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين.

فقال الحق سبحانه وتعالى: {لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259]، وأراد أن يُدَلِّلَ على الصدق في القضيتين معاً قال: {فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيَّرا، وهذا دليل على أنه لم يمكث إلا يوماً أو بعض يوم، وبذلك ثبت صدق الرجل، بقيت قضية "مائة عام".

فقال الحق: {وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259].

وهذا القول يدل على أن هنا شيئاً عجيباً، وأراد الله أن يُبَيَّنَ له بنظرة إلى الحمار دليلاً على صدق مرور مائة عام، ووجد الرجل حماره وقد تحوَّل عظاماً مُبعثرة، ولا يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير، فإن موت الحمار أمر قد يحدث في يوم، لكن أن يَرِمَّ جسمه، ثم ينتهي لحمه إلى رماد، ثم تبقى العظام مُبعثرة، فتلك قضية تريد زماناً طويلاً لا يتسع له إلا مائة عام، فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور مائة عام، والنظر إلى الطعام دليل على صدق "يوماً أو بعض يوم".

فالقضية إذن قضية عجيبة، وكيف طُوي الزمن في مسألة الطعام، وكيف بُسط الزمن في مسألة الحمار.

إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط، فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء، ويبسط الزمن في حق شيء آخر، والشيئان متعاصران معاً.

وتلك العملية لا يمكن أن تكون إلا لقدرة طليقة لا تملكها النواميس الكونية، وإنما هي التي تملك النواميس.

وقد قال الحق سبحانه: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259].

فمَنْ هم الناس الذين سيجعل الله من قضية الذي مَرَّ على قرية آية لهم؟

كان لابد أن يوجد أناس في القصة، لكن القرية خاوية على عروشها، وليس فيها إنسان أو بنيان، أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟

قال بعض المفسرين هذا، وقال البعض الآخر الرأي المضاد.

وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق الله في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259] هو قبض الله للزمن في حق شيء، وبسطه في حق شيء آخر، وعزير كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على قرية، وعزير هذا كان من الأربعة الذين يحفظون التوراة، فلم يحفظ التوراة إلا أربعة: موسى، وعيسى، وعزير، ويوشع، وقد أراه الله العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحماً، أي أراه عملية الإحياء مشهدياً، وفي هذا إجابة للسؤال: {أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]؟

والحق يقول: {وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة: 259] و"ننشزها" أي نرفعها، ورأى "عزير" كل عظمة في حماره، وهي تُرفع من الأرض، وشاهد كل عظمة تركب مكانها، وبعد تكوين الهيكل العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحماً، وبعد ذلك تأتي الحياة.

لقد وجد عزير إجابة في نفسه، ووجد إجابة في الحمار، ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج منها، وأراد العودة إليها، فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغيَّر بما يتناسب مع مرور مائة عام، وكان في تلك القرية مولاة لهم، أي أمَةٌ في أسرته، وكانت هذه الأمَة قد عَمِيَتْ وأصبحت مُقعدة، فلما دخل وقال: أنا العزير.

قالت الأمَة: ذهب العزير من مائة عام ولا ندري أين ذهب ولم يعد؟

قال: أنا العزير.

قالت: إن للعزير علامة، هذه العلامة أنه مُجاب الدعوة، ولم تنس نفسها.

قالت: فإن كنت العُزير فادع الله أن يَرُدَّ عَلَيَّ بصري وأن يُخرجني من قعودي هذا.

فدعا عزير الله فبرئت، فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزير فذهبت إلى قومها وأعلنت أن العزير قد عاد.

وبعد ذلك ذهب العزير إلى ابنه، فوجده رجلاً قد تجاوز مائة سنة، وكان العزير لا يزال شاباً في سن خمسين سنة.

ولذلك ترى الشاعر يقول مُلغزاً:
وما ابنٌ رأى أباه وهو في ضعف عمره؟

والمقصود بهذا اللغز هو العزير الذي أماته الله وهو في الخمسين ثم أحياه الله في عمره نفسه بعد مائة عام، والتقى العزير بابنه.

قال الابن: كنت أسمع أن لأبي علامة بين كتفيه "شامة".

فلما كشف العزير كتفه لابنه وجد الشامة.

وتَثَبَّتَ أهل القرية من صدق عزير: بشيء آخر هو أن "بختنصر" حينما جاء إلى بيت المقدس وخرَّبها حرق التوراة، إلا أن رجلاً قال: إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة، فجاءوا بالنسخة، قال العزير: وأنا أحفظها.

وتلا العزير التوراة كما وُجدت في النسخة، فصدق القوم أنه العزير، وتعجَّب الناس وهم يُشاهدون ابناً تخطَّى المائة وأباً في سن الخمسين.

ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].

ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟

بلى، كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين.

إذن فـ: {أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين.

وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة.

ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تُبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة.

وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف.

فأهل الكهف أيضاً مَرَّتْ عليهم العملية نفسها: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].

إنهم لم يروا شيئاً قد تغيَّر فيهم.

وبعد ذلك قال الحق سبحانه: { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً} [الكهف: 25].

إن الله حَدَّدَ الزمن الذي لبثوه، بينما هم قالوا: إن الزمن هو يوم أو بعض يوم.

ومعنى ذلك أنهم عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون من النوم.

إذن فقد علَّق الله حياتهم.

ونلاحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزير بعد آية الكرسي التي تصور العقيدة الإيمانية: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حَاجَّهُ الرجل وقال له: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] نقل إبراهيم الحُجَّة إلى الليل والنهار، وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار، فقال للرجل: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258].

وحتى لا يظن أحد أن إبراهيم عليه السلام إنما ترك الكلام عن الإحياء والإماتة فراراً من الجدل.

ونقل الأمر إلى الشمس، لكن أراد الله أن يأتي بقصة هذا الإنسان الذي مَرَّ على قرية وهي خاوية، فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده.

وليخرج الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية.

وعرفنا أن قبل معنى السفسطة الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال: أنا أستطيع أن أقتل واحداً، وأن أترك الثاني بلا قتل.

هذه هي السفسطة: إنه لم يحيي، بل أبقى حياة.

وعرفنا أن الإحياء ضد الإماتة؛ لأن الإماتة هي أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في البدن.

أما إذا فعل إنسان أي شيء من هذه الأفعال ضد إنسان آخر فلا يُقال إنه أماته بل يُقال لقد قتله.

والموت كما عرفنا غير القتل.

وتأتي بعد ذلك قصة لإبراهيم أيضاً بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس، فبهت الرجل الذي كفر، أما إبراهيم عليه السلام فهو يؤمن بقدرة الله، لكنه يريد أن يعرف الكيفية.

إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.

ونحن المسلمين لم نشك في هذا الأمر.

إذن، فإبراهيم عليه السلام لم يشك من باب أولى بدليل منطوق الآية حين قال الحق سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...}.



سورة البقرة: الآيات من 256-260 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48361
العمر : 71

سورة البقرة: الآيات من 256-260 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة: الآيات من 256-260   سورة البقرة: الآيات من 256-260 Emptyالخميس 18 أبريل 2019, 6:24 pm

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [٢٦٠]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

إن إبراهيم عليه السلام يسأل: كيف تُحيي الموتى؟

أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية الإحياء.

فإبراهيم عليه السلام لا يتكلم في الإحياء، وإنما كان شكه -عليه السلام- في أن الله سبحانه قد لا يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟

ولنضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لأن الله مُنَزَهٌ عن أي تشبيه.

إن الواحد منا يقول للمهندس: كيف بنيت هذا البيت؟

إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلى مُحْدَث وهو البيت الذي تم بناؤه.

فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟

لا.

ولنعلم أولاً ما معنى: عقيدة؟.

إن العقيدة هي: أمر معقود، وإذا كان هذا فكيف يقول: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؟

فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال، وقبل أن يجاب إليه، لم يكن قلبه مطمئناً؟

لا، لقد كان إبراهيم مؤمناً، ولكنه يريد أن يزداد اطمئناناً، لأنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها عملية الإحياء، لكنه لا يعرف على أية صورة تكون.

إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات متصورة ومتخيلة، وما دمت تريد الكيفية، وهذه الكيفية لا يمكن أن نشرحها لك بكلام.

بل لابد أن تكون تجربة عملية واقعية، {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260].

و"صرهن" أي أملهن واضممهن إليك لتتأكد من ذوات الطير، ومن شكل كل طير، حتى لا تتوهم أنه قد جاء لك طير آخر.

وقال المفسرون: إن الأربعة من الطير هي: الغراب، الطاووس، الديك، الحمامة، وهكذا كان كل طائر له شكلية مختلفة.

{ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة: 260]، فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أو اكتفى بأن شرح الله له الكيفية؟

إن القرآن لم يتعرَّض لهذه الحكاية، فإما أن يكون الله قد قال له الكيفية، فإن أراد أن يتأكد منها فليفعل، وإمّا أنه قد تيقن دون أن يجري تلك العملية.

إن القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم لا؟

والحق يقول مخاطباً إبراهيم بخطوات التجربة: {ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة: 260] وكان المفروض أن يقول: يأتينك طيراناً.

فكيف تسعى الطيور؟

إن الطير يطير في السماء وفي الجو.

لكن الحق أراد بذلك ألا يدع أي مجال لاختلاط الأمر فقال: "سعياً" أي أن الطير سيأتي أمامه سائراً، لقد نقل الحق الأمر من الطيران إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم، إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها، وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءاً، ثم أنت الذي دعوت الطير فجاءتك سعياً.

وهنا ملحظية في طلاقة القدرة، وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود، وهو الحق سبحانه وتعالى، والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو الله -سبحانه- لمنكر واجب الوجود وهو الإنسان، هذا له قدرة، وذاك له قدرة؛ إن قدرة الله هي قدرة واجبة، وقدرة الإنسان هي قدرة ممكنة، وقدرة الله لا ينزعها منه أحد، وقدرة الإنسان ينزعها الله منه؛ فالإنسان من البشر، والبشر تتفاوت قدراتهم؛ فحين تكون لأحدهم قدرة فهناك آخر لا قدرة له، أي عاجز.

ويستطيع القادر من البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسياً ليجلس عليه مَنْ لا يقدر على حمله.

لكن قدرة الحق تختلف.

كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا أعدي من قدرتي إلى مَنْ لا يقدر فيقدر، أنا أقول للضعيف: كن قادراً، فيكون.

وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لإبراهيم: {ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة: 260].

إن إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الإحياء، ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي الطير، فيأتي الطير سعياً.

إن الحق يعطي القدرة لإبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعياً.

وهذا هو الفرق بين القدرة الواجبة، وبين القدرة الممكنة.

إن قدرة الممكن لا يعديها أحدٌ لخالٍ منها، ولكن قدرة واجب الوجود تُعديها إلى من لا يقدر فيقدر، ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلام: { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].

إن خصائص عيسى ابن مريم لا تكون إلا بإذن من الله، فقدرة عيسى عليه السلام أن يصنع من الطين ما هو على هيئة الطير، وإذا نفخ فيه بإذن الله لأصبح طيراً، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، إن ذلك كله بإذن مِمَّنْ؟

بإذن من الله.

وكذلك كان الأمر في تجربة سيدنا إبراهيم، لذلك قال له الحق: {وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

إن الله عزيز أي لا يغلبه أحد.

وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه.

وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم، وقد جاءت قصة الحياة والموت؛ لأن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر: { قَالُوۤاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82].

وفي قول آخر: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78-79].

لقد أمر الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم ليجيب على ذلك: قل يا محمد: يحييها الذي أنشأها أول مرة؛ فقد خلقها من عدم ولذلك يقول الحق سبحانه: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [الروم: 27].

إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبدأ الخلق على غير مثال، ثم يعيده بعد الموت، وإعادته أهون عليه من ابتدائه بالنظر إلى مقاييس اعتقاد مَنْ يظن أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه؛ فالله له مطلق القدرة في خلقه، وهو الغالب في ملكه، وهو الحكيم في فعله وتقديره.

إن الذي يعيد إنما يعيد من موجود، أما الذي بدأ فمن معدوم.

فالأهون هو الإعادة، أما الابتداء فهو ابتداء من معدوم، وكلاهما من قدرة الحق سبحانه وتعالى.

إن هذه القضية إنما تثبت اليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر هو الميزان العقدي فإن استقر في القلب فالإنسان بكل جوارحه يتجه إلى الأفعال التي تسير على ضوء منهج الله لينال الإنسان الجزاء الأوفى.

إن الإنسان حينما يفهم أن هناك حساباً وهناك جزاءً، وهناك بعثاً، فهو يعرف أنه لم ينطلق في هذا العالم، ولم يفلت من الإله الواحد القهار، إنّ للإنسان عودة، فالذي يغتر بما آتاه الله نقول له: لا إنك لن تفلت من يد الله، بل لك عودة بالموت وعودة بالبعث.

وإذا ما استقرت في أذهان المسلمين تلك العودة، فكل إنسان يقيم حسابه على هذه العودة.

وبعد أن استقر الأمر في شأن الحياة والموت أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجيء بشيء هو ثمرة الحياة في الكائن الحي وأول مظهر من مظاهر الحياة هو الحس والحركة.

والحركة في الوجود أرادها الله للإنسان؛ لأنه وهو الحق قد أراد الإنسان للخلافة في الأرض.

والخلافة في الأرض تقتضي أن يعمر الإنسان الأرض، كما قال الله سبحانه وتعالى: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

إن خلافة الإنسان في الأرض تقتضي أن يتحرَّك ويعمر الأرض.

وحين يريد الله منا أن نتحرك ونعمر الأرض فلا بد من أعمال تنظم هذه الحركة، ولا بد من فنون متعددة تقوم على العمارة.

ويوزع الله الطاقات الفاعلة لهذه الفنون المتعددة ويجعلها مواهب مفكرة ومخططة في البشر.

إن الحق سبحانه لم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب، بل نثر الله المواهب على الخلق، وكل واحد أخذ موهبة ما.

لماذا؟

لأن الله قد أراد أن يتكامل العالم ولا يتكرر؛ فالتكامل يوحي بالاندماج فإذا كنت أنت تعرف شيئاً خاضعاً لموهبتك، وأنا لا أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك، وأنا أيضاً قد أعرف شيئاً وأنت لا تعرفه، لذلك تضطر أنت أن تلتحم بي.

وهذا اللون من الالتحام ليس التحام تفضل، إنما هو التحام تعايش ضروري.

لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب، لاستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده، وينتهي احتياجه للمجتمع الإنساني.

فكأن الله حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض لا التحام فضل، ولكن التحام تعايش ضروري؛ لأن واحداً يريد ما ينتجه الآخر بموهبته، والآخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه.

ولذلك فالناس بخير ما تباينوا؛ لأن كلاً منهم يحتاج إلى الآخر.

ولذلك لا نجد أي تقدم في مجتمع إلا إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة.

أما حين يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلابد أن يقاتل بعضهم بعضاً، لكن عندما يكون كل واحد في حاجة لموهبة الآخر، فهم يتعايشون؛ لأن الحياة لا تسير إلا بالكل، ولذلك إذا استوت جماعة في المواهب فلا بد أن يتفانوا لأنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه، لكن لا أحد في المواهب المتكاملة يقول: لماذا يكون فلان أفضل مني، لأنه يعرف أنه من الضروري أن يوجد المهندس والطبيب والصانع، ولذلك تجد الوجود منظماً بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد قاعدة ويُوجد قمة، فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة.

ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لأن الأمر في هذه الحالة سَيَجِدُّ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ولا ترتكز على شيء، ولذلك فمن الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحداً قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقاً، ولا تصطرع معه فتسقطوا جميعاً، فلابد من التفاضل كي ينشأ التكامل.

والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضاً اجتماعياً وعرضاً اقتصادياً؛ ليبين لنا أن أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي، لماذا؟

لأن الإنسان مشغول أولاً باستبقاء حياته، ثم باستبقاء نوعه.

واستبقاء حياة الإنسان بالقوت، واستبقاء نوعه بالزواج.

واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة، والحق يحترم ثمرتها، وعندما يريد الحق أن يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].

كما ضربنا المثل من قبل -ولله المثل الأعلى- وقلنا: إن الإنسان يعطي أولاده مصروفاً، وكل واحد منهم يضعه في حصالته، فهب أن واحداً من الأولاد اضطر إلى شيء عاجل كإجراء جراحة، هنا يذهب الرجل إلى أولاده ويقول لهم: أقرضوني ما في حصالاتكم لأن أخاكم يحتاج إلى عملية، وسأرده لكم بعد ذلك مضاعفاً.

إن الأب لم يرجع في هبته ليقول إن ما في الحصالات هو مالي وسآخذه.

لا، هو مالكم، لكنه سيكون ديناً عندي.

كذلك يصنع الله مع الخلق فيوضح: بعضكم عاجز وبعضكم قادر، وسأتكفل أنا بالعاجز، وأقترض من القادر.

وكان ضرورياً أن يكون بعضنا عاجزاً، حتى لا يظن أحد أن القوة ذاتية في النفس البشرية.

لا، إن القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها أن يسلبها.

وحتى يعرف صاحب القوة أن القوة ليست ذاتية فيه، يجد بجانبه إنساناً آخر عاجزاً.

لكن هذا العاجز الذي سيلفت القوي إلى أن القوة ليست ذاتية، ما ذنبه؟

إنّ الله قد جعله وسيلة إيضاح في الكون وكأن الحق يقول: سنضمن لك أيها العاجز المستوى اللائق من الحياة من أثر قدرة القادر، وما دام من أثر قدرة القادر، فهل سيتحرك القادر في الكون على قدر "حاجته" أو على قدر "طاقته"؟

لابد أن يتحرك على قدر طاقته؛ لأنه لو تحرك على قدر حاجته فلن يجد ما يعطيه للعاجز.

ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الاجتماعي والبناء الاقتصادي بعد إثبات قضية البعث والإحياء والإماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي يعطينا الكيان الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي فيقول جل شأنه: {مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...}.



سورة البقرة: الآيات من 256-260 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة البقرة: الآيات من 256-260
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة البقرة: الآيات من 96-100
» سورة البقرة: الآيات من 176-180
» سورة البقرة: الآيات من 181-185
» سورة البقرة: الآيات من 261-265
» سورة البقرة: الآيات من 101-105

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: البقرة-
انتقل الى: