بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [١١٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أن بَيَّنَ لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة، فقال: "بلى"، وعندما تقرأ: "بلى" اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي، فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دَيْنٌ، إذا قلت له نعم فقد صدقت أنه ليس عليه دين، ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه ديناً وأنه كاذب فيما قاله، إذن بلى تأتي جواباً لتثبت نفي ما تقدم.
هم قالوا: { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111]، عندما يقول الله لهم "بلى" فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح، وأنه سيدخلها غير هؤلاء، وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى، أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة، لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة، واقرأ قوله جل جلاله: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85].
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى، أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى، لأن القرآن أزلي، ما معنى أزلي؟، أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة، فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى، فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان في هذا تجاوزٌ، لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحسن دينه ومات قبل أن يدرك محمداً عليه الصلاة والسلام، فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازى بحسن عمله، وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته، وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام، أهذا لن يدخل الجنة؟، لا، يدخل وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء، ولكن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة، بل ولن يراها، ولذلك جاء كلام الله دقيقاً لم يظلم أحداً من خلقه.
إذن فقوله تعالى: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112]، أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن، فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقاً يظهر غير ما يبطن، نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين، لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم.
قوله تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112] تدلنا على أن كل شيء أسلم لله لأن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان، فيه التمييز وفيه السمة وفيه التشخص وهو أعلى ما في الجسم، وحينما عرفوا الإنسان قالوا حيوان ناطق أي حيوان مفكر، وقال بعضهم حيوان مستوي القامة يعني قامته مرفوعة، والقامة المرفوعة على بقية الجسم هي الوجه، والإنسان مرفوع على بقية أجناس الأرض، إذن هو مرفوع على بقية الأجناس ووجهه مرفوع عليه، فإذا أسلم وجهه لله يكون قد أسلم أشرف شيء فيه لله، ولذلك قيل، أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد، لماذا؟، لأنه جاء بالوجه الذي رفعه الله به وكرمه، وجعله مساوياً لقدميه ليستوي أكمل شيء فيه بأدنى شيء، فلم يبقى عنده شيء يختال به على الله.
الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} [البقرة: 112]، كلمة "أجره عند ربه"، دلت على أن الله لم يجعلنا مقهورين، ولكنه كلفنا وجعلنا مختارين أن نفعل أو لا نفعل، فإن فعلنا فلنا أجر، ولأن التكليف من الله سبحانه وتعالى فالمنطقي أن يكون الأجر عند الله، وألا يوجد خوف أو حزن، لأن الخوف يكون من شيء سيقع، والحزن يأتي على شيء قد وقع، ولا هذه ولا تلك تحدث عندما يكون أجرنا عند الله.
إن الإنسان حين يكون له حق عند مساويه، فربما يخاف أن ينكر المساوي هذا الحق أو يطمع فيه، أو يحتاج إليه فَيَدَّعِي عدم أحقيته فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، ولذلك فهو لا يطمع فيما في أيدينا من خير لأنه من عنده، ولا يطمع فيما معنا من مال لأن عنده خزائن السموات والأرض.
الله سبحانه لا ينكر حقاً من حقوقنا لأنه يعطينا من فضله ويزيدنا، ولذلك فإن ما عند الله لا خوف عليه بل هو يضاعَف ويزداد، وما عند الله لا حزن عليه، لأن الإنسان يحزن إذا فاته خير، ولكن ما عند الله باق لا يفوتك ولا تفوته، فلا يوجد شيء عند الله سبحانه وتعالى تحزن عليه لأنه فات، ولذلك كان قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، أدق ما يمكن أن يقال عن حالة المؤمنين في الآخرة، إنهم يكونون فرحين بما عند الله لا خوف عندهم ولا حزن.