منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers (إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..) |
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)
(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
|
|
| الفصل الثاني | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:16 pm | |
| الفصل الثاني وقت التعزية، ومدتها، وتكرارها، ومكانها، والجلوس لها. وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: وقت التعزية. المبحث الثاني: مدة التعزية. المبحث الثالث: تكرار التعزية. المبحث الرابع: مكان التعزية. المبحث الخامس: الجلوس للتعزية.
المبحث الأول وقتُ التعزية يُعزى أهل المصاب قبل الدفن وبعده، ولا وجه لمن منع التعزية بعد الدفن كسفيان الثوري -رحمه الله-، وأما حديث جابر بن عتيك -رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "دعهن يبكين ما دام عندهن، فإذا وجب فلا تبكين عليه باكية” (1) فهو حديث إن سلم من الاضطراب لم يكن فيه دليل على منع التعزية بعد الدفن؛ إذ إن المنصوص عليه البكاء، وفرق بين البكاء والتعزية، ولا يصح الاستدلال لمذهب سفيان -رحمه الله- بحديث: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى” (2) وأن المراد تصبيره في أول الأمر، لأن التعزية: تصبير وتسلية، والتسلية لم يحدها الشارع بوقت. ------------------------------------------ (1) أخرجه مالك في كتاب الجنائز: باب النهي عن البكاء على الميت (ص: 226 برقم 36)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب فضل من مات بالطاعون (3/245 برقم 3111)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في البكاء على الميت (1/505-506 برقم 2803)، وأخرجه النسائي في كتاب الجهاد: باب من خان غازيا في أهله (6/358 - 359 برقم 3194)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/277 برقم 3111). (2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز: باب زيارة القبور (الفتح3/492 - 493 برقم 1283)، وباب الصبر عند الصدمة الأولى (الفتح 3/523 برقم 1302)، وأخرجه مسلم في كتاب: باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/637 برقم 926)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب الصبر عند الصدمة الأولى (3/ 250-251 برقم 3124)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في الصبر على المصيبة (1/509 برقم 1596)، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز: باب ما جاء أن الصبر في الصدمة الأولى (3/304 برقم 987)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب الأمر بالاحتساب عند نزول المصيبة (4/321 برقم 1868).
وقد نص الإمام النووي (ت676هـ) -رحمه الله تعالى- على ذلك بقوله: (واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده.. قال أصحابنا: وقت التعزية من حين يموت) (1).
وقال أيضاً: (قال أصحابنا وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده، ولكن بعد الدفن أحسن وأفضل، لأن أهله قبل الدفن مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر، فكان ذلك الوقت أولى بالتعزية) (2).
ونقل ذلك الإمام المرداوي (ت885هـ) -رحمه الله تعالى- كما في الإنصاف (3): عن بعض الحنابلة.
وقال الشيخ ابن باز (ت1420هـ) -رحمه الله تعالى-: (وليس لها وقت مخصص، ولا أيام مخصوصة، بل هي مشروعة من حين الدفن، وبعده، والمبادرة بها أفضل في حال شدة المصيبة، وتجوز بعد ثلاث من موت الميت، لعدم الدليل على التحديد) (4). ------------------------------------------ (1) الأذكار (ص: 159)، المجموع (5/279) وذكر أنه قال به الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-. (2) المجموع (5/278). (3) الإنصاف (2/395). (4) فتاوى إسلامية (2/43).
إذن يُعزي كل إنسان حسب علمه، سواءً قبل الدفن أو بعده، فمتى علم بالمصاب شرع له التعزية لأهله، إلا أن يطول العهد فلا يُشرع حتى لا يفضي ذلك إلى تجديد الحزن.
قال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) -رحمه الله تعالى-: (ما دامت المصيبة باقية في نفسه فإنه يُعَزَّى) (1).
وقال أيضاً: (ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نُعزيه؛ لأننا إذا عزَّيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن) (2).
مسألة: هل يُعَزَّى في الميت الذي تأخَّر دفنه (3)؟ سبق بيان أن القول الراجح في تعزية أهل المصاب أنه يكون قبل الدفن وبعده، وهذا رأي الجمهور، فعلى هذا فلا بأس من تعزية أهل المصاب الذي تأخر دفنه، ولو تأخر دفنه أياماً أو شهوراً، أو أكثر أو أقل. ------------------------------------------ (1) فتاوى في أحكام الجنائز (ص: 345 رقم السؤال 306). (2) الشرح الممتع (5/489). (3) كما يحصل في هذه الأزمان من تأخر دفن بعض الموتى، وإبقاء ذلك الميت في الثلاجات الخاصة بذلك، لأي سبب كان، فيتأخر دفنه.
المبحث الثاني مدة التعزية اختُلِف في مدة التعزية إلى قولين: القول الأول: قيل ثلاثة أيام بعد الدفن على التحديد (1)، وتكره التعزية بعد ثلاثة أيام على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء (2).
قال الإمام النووي (ت676هـ) -رحمه الله تعالى-: (قال أصحابنا: وتُكره التعزية بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب أن سكون قلبه بعد الثلاثة، فلا يُجَدَّد له الحزن، هكذا قال الجماهير من أصحابنا) (3).
وقال ابن مفلح -رحمه الله تعالى-: (وحدها في "المستوعب": إلى ثلاثة أيام، وذكر ابن شهاب والآمدي وأبو الفرج: يكره بعدها لتهييج الحزن، واستثنى أبو المعالي إذا كان غائباً، فلا بأس بها إذا حضر) (4). ------------------------------------------ (1) قاله الشيخ أبو محمد الجويني، كما نقله عنه الإمام النووي كما في المجموع (5/277). (2) البناية في شرح الهداية للعيني (3/304)، رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) (3/139)، شرح منح الجليل (1/300)، المجموع شرح المهذب (5/306)، مغني المحتاج (1/355)، الإنصاف (2/564)، كشاف القناع (2/160). (3) الأذكار (ص: 159). (4) المبدع (2/286).
وقال ابن عابدين (1)-رحمه الله تعالى-: (الجلوس في المصيبة للرجال ثلاثة أيام جاءت الرُّخصة فيه) (2).
وقال الشيخ البهوتي (3) (ت 1051هـ) -رحمه الله تعالى-: (وتكون التعزية إلى ثلاث ليال بأيامها) (4).
وقال الشيخ محمد بن عارف خوقير المكي (5) (ت1349هـ) -رحمه الله تعالى-: (وتُسَنُّ تعزية المصاب بالميت إلى ثلاث، وقول ما ورد) (6). ------------------------------------------ (1) وهو الشيخ محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، المعروف بابن عابدين، ولد بدمشق سنة (1198هـ)، حفظ القرآن عن ظهر قلب وهو صغير جداً، وتتلمذ على الشيخ سعيد الحموي، والشيخ محمد شاكر السالمي، وأجازه محدث الشام الشيخ محمد الكذبري، وله مؤلفات عديدة، توفي -رحمه الله تعالى- بدمشق ودفن بها سنة (1252هـ). (2) حاشية ابن عابدين (3/139). (3) هو الشيخ الفقيه المجتهد منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن البهوتي -نسبة إلى بهوت في غربية مصر- الحنبلي، ولد سنة (1000هـ) بمصر، طلب العلم على عدد من العلماء، وكان من مجتهدي المذهب، ألف عدد من الكتب منها: (الروض المربع في شرح زاد المستقنع)، و (دقائق أولي النهي في شرح المنتهى)، و (عمدة الطالب لنيل المآرب)، وغيرها، توفي -رحمه الله تعالى- سنة (1051هـ). (4) كشاف القناع (2/160). (5) نشأ بمكة حيث ولد بها، وطلب العلم بها وبالهند حيث كان يكثر الذهاب إلى الهند للتبضع من الكتب، والاتجار بها، تفقه على المذهب الحنفي أولاً، ثم تحول إلى المذهب الحنبلي وتفقه به، وصار إماماً بالمقام الحنبلي في المسجد الحرام، وتولى إفتاء الحنابلة في البلد الحرام فترة قصيرة عام 1327 هـ، وكان صادعاً بالدفاع عن عقيدة السلف، فأوذي وابتلي بسبب ذلك إيذاءً شديداً، وسجن لذلك مرتين، وعين بعد ذلك مدرساً بالمسجد الحرام عام 1349هـ، وله مؤلفات كثيرة، توفي الشيخ بالطائف عام 1349هـ. (6) مختصر في فقه الإمام المبجل والحبر المفضل أحمد بن حنبل (ص: 65).
وقال الشيخ ابن ضويان (1)-رحمه الله تعالى-: (ويسن تعزية المسلم إلى ثلاثة أيام بلياليهن؛ لأنها مدة الإحداد المطلق) (2). ------------------------------------------ (1) هو الشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، من آل زهير، ولد الشيخ في الرس من القصيم في نجد سنة (1275هـ)، حفظ القرآن قبل سن الثالثة عشر من عمره، وكان ذو خط جميل، وكان سريع الكتابة، وحسن الصوت، درس العلم على مشايخ كثر منهم الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن مانع، قاضي عنيزة، والشيخ محمد بن عبدالله بن سليم قاضي بريدة، والشيخ صالح بن قرناس القرناس، وغيرهم، وكان الشيخ يمضي أكثر وقته للعلم والتعليم، تتلمذ عليه عدد من طلاب العلم وكان من أبرزهم الشيخ محمد بن عبدالعزيز الرشيد، والشيخ حمد المطلق، والشيخ عبدالرحمن السعدي وغيرهم، له عدد من المؤلفات منها (منار السبيل في شرح الدليل)، وكتاب (تاريخ ابن ضويان)، وكتاب (رفع النقاب عن تراجم الأصحاب)، توفي -رحمه الله تعالى- بعد أن كف بصره، وكانت وفاته فُجْأَة في ليلة عيد الفطر سنة (1353هـ). (2) منار السبيل (1/248).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) -رحمه الله تعالى-: بعد إيراد مسألة: هل يجوز أن يُحَدُّ على الميت بأن: يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: (أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل، إلا الزَّوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملاً، وإنما جاز هذا الإحداد لغير الزوجة لإعطاء النفوس بعض الشيء مما يهون عليها المصيبة؛ لأن الإنسان إذا أصيب بمصيبة ثم كبت، بأن يقال أخرج وكن على ما أنت عليه، فإنه ربما تبقى المصيبة في قلبه، ولهذا يُقال: إن من جملة الأدب والتربية بالنسبة للصبيان أنه إذا أراد أن يبكي أن يترك يبكي مدة قصيرة من أجل أن يرتاح، لأنه يخرج ما في قلبه، ولكن لو أسكته صار عنده كبت وانقباض نفسي) (1).
وقال الشيخ وهبة الزحيلي: (وتكون إلى ثلاث ليال بأيامها، وتكره بعدها إلا لغائب، حتى لا يجدد الحزن) (2).
القول الثاني: قالت طائفة من أصحاب الشافعي (3)، وأحمد (4) أنها لا تُحَدُّ بثلاثة أيام، وأنه لا أمد للتعزية، بل تبقى بعد الثلاثة أيام وإن طال الزمان، فإن الغرض من التعزية الدعاء، وحمل النفس على الصبر، وهذا رأى شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه ابن مفلح (5).
ونقل الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: (عن إمام الحرمين -وجهاً- أنه لا أمد للتعزية، بل يبقى بعد ثلاثة أيام وإن طال الزمان، لأن الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع، وذلك يحصل مع طول الزمان) (6). ------------------------------------------ (1) الشرح الممتع (5/491-492). (2) الفقه الإسلامي وأدلته (2/543). (3) المجموع (5/277-278). (4) الفروع (2/228)، الإنصاف (2/564). (5) الفروع (2/228). (6) المجموع (5/ 277-278).
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: (العزاء ليس له أيام محدودة، بل يُشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها، وليس لغايته حَدٌّ في الشَّرع المطهر سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، وسواءً كان ذلك في البيت، أو في الطرق، أو في المسجد، أو في المقبرة أو غير ذلك من الأماكن) (1).
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت1420هـ) -رحمه الله تعالى-: (ولا تُحَدُّ التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها) (2).
وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بهذا؛ فكانت الفتوى كالتالي: (وليس للتعزية وقت مُحَدَّد، ولا مكان مُحَدَّد) (3). ------------------------------------------ (1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/379). (2) أحكام الجنائز (ص: 209). (3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/134).
الرَّاجح من القولين: القول الثاني أن مدة التعزية لا تحد بثلاثة أيام، لأنه ليس في المسألة دليل صريح، وإنما تمسك من يحدها بثلاثة أيام بأمرين: أحدهما: أن المقصود من التعزية تسلية قلب المصاب، والغالب أن يسكن بعد ثلاثة أيام، فلا ينبغي تجديد حزنه بالتعزية بعدها.
الثاني: أن الشارع أذن في الإحداد ثلاثة أيام، فيجب أن تكون التعزية كذلك، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً” (1).
والجواب عن هذين الأمرين: 1ـ أن التعزية وردت في الشرع مطلقة، فلم يجز لأحد تقييدها بالرأي، ثم إن المصاب لا يسلو بعد ثلاثة أيام ولا عشرة، ولو سُلِّم ذلك فليست التعزية مقصورة على التسلية، بل من مقاصدها إشعار المصاب بوقوف الناس معه، وهذا من أسمى مقاصد الشريعة، لما فيه من جمع القلوب، بحيث يصير الناس كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه الدارمي في كتاب الطلاق: باب في إحداد المرأة على الزوج (ص: 725 برقم 2287)، وأخرجه البخاري في كتاب الجنائز: باب إحداد المرأة على غير زوجها (الفتح 3/489 برقم 1280)، وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة (2/112 برقم 1491)، وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق: باب إحداد المتوفى عنها زوجها (2/396 برقم 2299)، وأخرجه الترمذي في كتاب الطلاق: باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها (3/492 برقم 1196)، وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق: باب عدة المتوفى عنها زوجها (6/499 برقم 3500). (2) إشارة لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” أخرجه أحمد (4/270)، وأخرجه البخاري في كتاب الآداب: باب رحمة الناس والبهائم (فتح 12/50 برقم 6011)، وأخرجه مسلم في كتاب البر والآداب الصلة: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (4/1999 برقم 2586) واللفظ له، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب صلاة الاستسقاء: باب استسقاء إمام الناحية المخصبة لأهل الناحية المجدبة ولجماعة المسلمين (3/492 برقم 6430).
2ـ وأما الإحداد فهو تعبير عن الحزن، فلا ينبغي أن يدوم أكثر من ثلاثة أيام على غير زوج، بخلاف التعزية التي هي تسلية، فإن اللائق أن يكون مدارها على موجبها، فمتى وجد المصاب حزيناً شرع لمن لم يعزه أن يعزيه، سواء كان ذلك في الأيام الثلاثة أو بعدها، فليس فيما ذكروا متمسك، وإنما الأعدل حمل الأدلة على عمومها وإطلاقها، فإن الغرض من التعزية الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع، وهذا يحصل مع طول الزمان.
إذن تحديد مدة العزاء لا أصل له من السنة، فالسنة ليس فيها دليل صريح يدل على أن مدة العزاء محددة بمدة معينه، بل مدة العزاء بحسب من يأتي، فإذا كان الناس يأتون في يوم واحد فينتهي العزاء بنهايته، وكذلك يومين أو ثلاثة أو أكثر وهكذا، وإذا كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام ينتهون فعلى ما انتهوا إليه، ولمن لم يدرك تلك الأيام له أن يعزي ولو بعد ثلاثة أيام، إلا إذا حصل تجديد الحزن فيكره ذلك، لما سبق بيانه في مبحث وقت التعزية (1)، لكن لا أصل لتحديد هذه المدة في الشرع. والله -تعالى- أعلم. ------------------------------------------ (1) (ص: 83). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:21 pm | |
| المبحث الثالث تكرار التعزية قيل يُكره تكرار التعزية، فلا يعزي عند القبر مَنْ عَزَّى قبل ذلك.
ولعل حكمة ذلك حصول المقصود بالتعزية الأولى فلا حاجة إلى التعزية الثانية لما فيه من استدامة الحزن.
قال ابن مفلح (ت762هـ) -رحمه الله تعالى-: (ويُكره تكرار التعزية، نص عليه، فلا يُعزي عند القبر مَنْ عَزَّى قبل ذلك) (1).
وقال ابن عابدين (ت1252هـ) -رحمه الله تعالى-: (لا ينبغي لمن عزى مرة أن يعزي مرة أخرى) (2). ------------------------------------------ (1) الفروع (2/229)، وانظر الإنصاف (2/395). (2) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) (3/140).
قلت: والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم- أن الأمر في ذلك واسع، فما دام أن الإنسان يحتاج إلى مواساة وتعزية فإنه يواسى، والقول بالكراهة لا دليل عليه، ومعلوم أن الكراهة حكم تكليفي، فكيف يُذهب إلى القول بالكراهة ولا دليل؟! فيبقى الأمر في ذلك واسعاً.
المبحث الرابع مكان التعزية لم يرد عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا أحدٍ من السلف في تحديد مكان للعزاء، بل للإنسان أن يعزي أهل المصاب في أي مكان كان، قبل الدفن أو بعده، فله أن يعزيه في بيته، أو في المقبرة، أو في السوق، أو في المسجد، أو في عمله.
فأما تعزية المصاب في بيته، أو في المقبرة، أو المسجد، وغير ذلك فقد وردت بها السنة، فقد ورد من حديث قرة بن إياس المزني -رضب الله عنه- قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: “مالي لا أرى فلاناً؟” قالوا: يا رسول الله بُنيَّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأله عن بُنيَّه؟ فأخبره أنه هلك فعزاه ? عليه ثم قال: “يا فلان أيما كان أحب أليك أن تمتَّع به عمرك؟ أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وقد وجدته قد سبقك إليه يفتح لك"، قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، أحب إلىَّ، قال (صلى الله عليه وسلم): "فذاك لك” (1). ------------------------------------------ (1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب في التعزية (4/423 -424 برقم 2079)، وانفرد به النسائي، وقال عنه الألباني: صحيح (صحيح سنن النسائي 2/449 برقم 1974).
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) عزَّاه عندما لاقاه، مما يدل على أن التعزية تحصل في أي مكان.
وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بهذا؛ فكانت الفتوى كالتالي: (وليس للتعزية وقت محدد، ولا مكان محدد) (1).
مسألة: حكم التعزية لأهل الميت عند باب المقبرة، أو في المقبرة. لا بأس بذلك، حتى يتمكن الناس من تعزية أهل المصاب.
قال الإمام المرداوي (ت885هـ) -رحمه الله تعالى-: (يُكره تكرار التعزية، نص عليه، فلا يُعزي عند القبر مَنْ عَزَّى قبل ذلك) (2).
فيُفهم من كلام الإمام المرداوي جواز التعزية عند القبر، وأما قوله (يُكره) فالمقصود به تكرار التعزية، وقد سبق بيان هذا (3).
وأفتت اللجنة الدائمة بجواز ذلك، فكان مما قالوا: (تَقَبُّلُ العزاء من أهل الميت في المقبرة قبل الدفن أو بعده لا حرج فيه) (4).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: (لا أعلم في هذا بأساً؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم) (5). ------------------------------------------ (1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/134). (2) الإنصاف (2/395). (3) في مبحث تكرار التعزية (ص: 93). (4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/135). (5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/473 -374).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- في مثل هذه المسألة: (الأصل أن هذا لا بأس به؛ لأنهم يجتمعون جميعاً من أجل الحصول على كل منهم ليعزى، ولا أعلم في هذا بأساً) (1). ------------------------------------------ (1) فتاوى في أحكام الجنائز (ص: 352 رقم السؤال 314). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:30 pm | |
| المبحث الخامس الجلوس للتعزية إن الإنسان إذا حلت بساحته رزية، وابتلي ببلية، فإن من عادة الناس أن يُسَلّوا هذا المصاب، ويواسوه، بل قد يمكثون عنده ويجالسونه وقتاً يطول أو يقصر، ومما اعتاده الناس في هذه الأزمان الجلوس للتعزية، سواءً من أهل الميت لاستقبال من يأتي من الناس للتعزية، أو ممن يجالس أهل العزاء لمواساتهم في مصابهم وغير ذلك.
ومعلومٌ أن التعزية عبادة من العبادات، ويحتاج المسلم في أدائها إلى اعتماد دليل شرعي، وإلا صار هذا العمل غير مشروع.
ومن المسائل التي تحتاج إلى إيضاح وبيان مسألة الجلوس للتعزية، من أهل الميت أو من غيرهم، وهذه المسألة هي أهم مسألة في باب التعزية، بل هي أم الباب، ولبابه، وقد كثر الخلاف فيها بين أهل العلم وغيرهم، ولأجل هذا الخلاف سَأُبَيِّن في هذا المبحث -مُستعيناً بالله وحده- حكم هذه المسألة، وذلك بالدليل من الكتاب والسنة، وفقه علماء الأمة، فإن أصبت فمن لطف الله وعونه، وإن أخطأت فمنبت الخطأ ومعدنه.
فأقول وبالله التوفيق: اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في مسألة الجلوس للتعزية على قولين: القول الأول: الجلوس للتعزية مُباح (1) ليس فيه بأس إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع، ومن تجديد الحزن، ومن تكلفة المؤنة، وطول المُكث عند أهل العزاء.
وإليك ما قاله العلماء في ذلك: 1ـ نُقل عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- الرخصة في ذلك، فقد نَقل ابن مفلح (ت 884هـ)، والمرداوي (ت885هـ) ـرحمهما الله تعالى- عنه (الرخصة لأهل الميت، نقله حنبل واختاره المجد؛ وورد عنه أيضاً الرخصة لأهل الميت ولغيرهم، وقال بكراهته إذا كان فيه تهيج للحزن) (2).
2ـ وقال ابن قدامة (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-: (وجملته أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم؛ فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبِمَنْ يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم) (3). ------------------------------------------ (1) هو ما خيَّر الشارع المكلف بين فعله وتركه. (تيسير علم أصول الفقه ص: 46) (2) الفروع (2/230)، المبدع (2/286)، والإنصاف (2/396). (3) المغني (3/496 رقم المسألة 387).
فقول ابن قدامة: (وبمن يأتي إليهم) فيه دليل على أن الاجتماع للعزاء هو قوله.
3ـ وقال محمد المنبجي الحنبلي (ت785هـ) -رحمه الله تعالى-: (إن كان الاجتماع فيه موعظة للمعزي بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر، وأحاديث الصبر والرضا فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة، فإن التعزية سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..) (1).
4ـ ونقل ابن عابدين الحنفي (ت1252هـ) -رحمه الله تعالى- عن كتاب الظهيرة قوله: (ولا بأس -أي الجلوس للتعزية- لأهل الميت في البيت أو المسجد والناس يأتونه ويُعَزُّونَهُ) (2).
5ـ وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز (ت1420هـ) -رحمه الله تعالى- عندما سئل عن جلوس أهل الميت لاستقبال المعزين واجتماعهم لذلك، قال: (لا أعلم بأساً فيمَنْ نزلت به مصيبة بموت قريب، أو زوجة، ونحو ذلك أن يستقبل المُعزين في بيته في الوقت المناسب، لأن التعزية سُنَّة، واستقبال المُعَزِّينَ مما يعينهم على أداء السُّنَّة؛ وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطِّيبِ، فكل ذلك حسن) (3).
وقد سُئل الشيخ -رحمه الله تعالى-: من أن بعض أهل الميت يجلسون ثلاثة أيام، فما حكم ذلك؟
فأجاب بقوله: (إذا جلسوا حتى يُعَزّيهِمُ الناس فلا حرج إن شاء الله حتى لا يُتْعِبُوا الناس لكن من دون أن يصنعوا للناس وليمة) (4). ------------------------------------------ (1) تسلية أهل المصائب (ص: 167-168). (2) رد المحتار (حاشية ابن عابدين) (3/139). (3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/373). (4) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/382).
واستدلّوا لهذا القول بالأدلة التالية: الدليل الأول: حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن -إلا أهلها وخاصتها- أمرت ببُرْمَةٍ من تَلبينة فَطُبِخَتْ, ثمّ صُنِعَ ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كُلْنَ منها, فإِنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يقول: "التّلبينة مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض, تَذهَبُ ببعضِ الحُزْن” (1). ------------------------------------------ (1) سبق تخريجه (ص: 58).
فهذا الحديث فيه الدلالة على أنهم كانوا لا يرون في الاجتماع بأساً، لا اجتماع أهل الميت، ولا اجتماع غيرهم معهم، ففي الحديث "أنها كانت إذا مات الميت“ فهذا يدل على أنها كانت عادة عندهم، إذا مات الميت اجتمع لذلك أهل الميت، وفي الحديث "ثم يتفرقون” ولا يتفرقون إلا بعد اجتماع، ويبقى أهلها وخاصتها، مما يدل على أن غيرهم كان معهم ثم ذهب، كما أن أهل الميت يصنعون لأنفسهم طعاماً، فهو من صنعة الطعام.
الدليل الثاني: استدلوا بما روته عائشة ـرضي الله عنها- قالت: (لما جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جَلَسَ يُعْرَفُ فيه الحُزْنُ، وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إن نساء جعفر -وذكر بُكاءهن- فأمره أن ينهَاهنَّ فذهب، ثم أتاه الثانية لم يُطِعْنَهُ، فقال: إنهَهُنَّ، فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال: "فاحثُ في أفواههـنَّ التُراب"، فقـلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمَرَكَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ولم تترك رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) من العناء) (1).
قال الحافظ ابن حجر (ت852هـ) -رحمه الله تعالى-: (وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار) (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الجـنائز: باب من جلس عـند المصيـبة يُعرف فـيه الحُـزن (الفتح 3/516 برقم 1299)، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب التشديد في النياحة (2/644 برقم 935)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجـنائز: باب الجـلوس عـند المصيـبة (3/ 249-250 برقم 3122)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب النهي عن البكاء على الميت (4/313 برقم 1846). (2) فتح الباري (3/519).
الدليل الثالث: ومما يستدل به من أن السلف كانوا يذهبون للتعزية، ويُعزَّى أهل الميت في بيتهم، وأهل الميت يستقبلون الناس، ما جاء من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ بصر بامرأة لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه فإذا فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لها: “ما أخرجك من بيتك يا فاطمة، قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، قال: لعلك بلغت معهم الْكُدَى، قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، فقال لها: لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك” (1).
قال السندي (ت1138هـ) -رحمه الله تعالى-: (والحديث يدل على مشروعية التعزية، وعلى جواز خروج النساء لها) (2). ------------------------------------------ (1) سبق تخريجه (ص: 59). (2) سنن النسائي بحاشية السيوطي والسندي (4/328).
ففي هذا الحديث أن أهل الميت يبقون في بيتهم ويأتيهم مَنْ يريد أن يعزيهم وهذا ظاهر من قول فاطمة -رضي الله عنها-: (أتيت أهل هذا الميت)، ولا يمكن أن تأتيهم إلا في بيتهم.
الدليل الرابع: استدلوا بما جاء عن محمد بن عمرو بن عطاء بن علقمة أنه كان جالساً مع ابن عمر بالسوق، ومعه سلمة بن الأزرق إلى جنبه فمر بجنازة يتبعها بكاء فقال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: لو ترك أهل هذا الميت البُكاء لكان خيراً لميتهم، فقال سلمة بن الأزرق: تقول ذلك يا أبا عبد الرحمن، قال: نعم أقوله؛ قال: إني سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- لَمَّا مات ميت من أهل مروان فاجتمع النساء يبكين عليه؛ فقال مروان: قم يا عبدالملك فانههنَّ أن يبكين، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: دعهن فإنه مات ميت من آل النبي (صلى الله عليه وسلم) فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “دعهن يا ابن الخطاب فإن العين دامعة والفؤاد مصاب وإن العهد حديث"، فقال ابن عمر: أنت سمعت هذا من أبي هريرة قال: نعم؛ قال: يأثره عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: نعم؛ قال: فالله ورسوله أعلم (1).
الدليل الخامس: استدلوا بما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد (ابن الوليد -رضي الله عنه-) يبكينه فقال عمر -رضي الله عنه-: ما عليهن أن يُرِقْنَ من دموعهن ما لم يكن نقعاً (2) أو لقلقة (3) (4). ------------------------------------------ (1) أخرجه الإمام أحمد (رقم 2/110)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب: ما جاء في البكاء على الميت (1/505-506 برقم 1587)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب الرخصة في البكاء على الميت (4/318 برقم 1858)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (8/ 95-96 رقم 3603)، وضعيف سنن النسائي (ص: 68 برقم 1859)، وضعيف ابن ماجه (ص: 123برقم 1609).. (2) النقع التراب أي وضعه على الرأس، وقيل النقع الشق أي شق الجيب (فتح الباري 3/509)، وقال ابن الأثير: (وقيل أراد وضع التراب على الرؤوس، من النَّقْع: الغبار، وهو أولى؛ لأنه قرن به اللقلقة، وهي الصوت، وحمل اللفظين على معنيين أولى من حملهما على معنى واحد (النهاية 5/109 في مادة: نقع). (3) اللّقلقة الصوت المرتفع وهذا قول الفرَّاء (فتح الباري 3/509)، و (النهاية 4/265 مادة: لقلق). (4) سير أعلام النبلاء (1/382)؛ قال محققه: (أخرجه الحاكم (3/297) من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي وائل؛ وابن عبدالبر (3/169) من طريق يحيى القطان، عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل؛ وعلقه البخاري (الفتح 3/161) ووصله المصنف في ( (التاريخ الأوسط ))، وقد ذكره البخاري في التاريخ الصغير (1/46-47) من طريق عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن شقيق) قلت: هذا السند رواته كلهم ثقات، فهذا الأثر صحيح، وقد جزم به البخاري في صحيحه، فقد ذكره معلقاً بصيغة الجزم مما يدل على صحته عنده ـ والله-تعالى-أعلم ـ.
قال ابن حجر (ت852هـ) -رحمه الله تعالى-: (هذا الأثر وصله المصنف في التاريخ الأوسط من طريق الأعمش عن شقيق قال: لما مات خالد بن الوليد -رضي الله عنه- اجتمع نسوة بني المغيرة -أي ابن عبدالله بن عمرو بن مخزوم- وهن بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة يبكين عليه, فقيل لعمر: أرسل إليهن فانههن, فذكره) (1).
فدل هذا الأثر يدل على أن من اجتمعن هن نساء بني المغيرة، ولسن نساء خالد، أو آل الوليد، فدل ذلك على أن الاجتماع عندهم كان أمراً مباحاً، ولو كان غير ذلك لنهى عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولأمرهنَّ بالتفرق كلٌ إلى داره.
الدليل السادس: ومما يدل على جواز الاجتماع للتعزية، أن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، بناء على الأصل، والأصل في الأشياء الإباحة، وهذا ظاهر من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن... الحديث) (2).
فقول: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك) أنه كان عادة عندهم، ولم أرَ أحداً من العلماء -مع بحثي القاصر- قال: إن الاجتماع للعزاء عبادة، ومعلوم أن البدع لا تكون في العادات المحضة، إلا إذا اعتقد بها التقرُّب إلى الله تعالى، وليس لها أصل في الشرع فهذه العادة تصبح بدعة.
ولذا يشير شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) -رحمه الله تعالى- بقوله: (..أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) (3)، ومعلوم أن لبس الصوف الأصل فيه الإباحة لأنه من العادات، لكن قصد به التقرُّب إلى الله -تعالى- فصار بدعة؛ ويُعلم إنما تدخل البدعة في العبادات، فكيف يُقال إن الاجتماع من البدع. ------------------------------------------ (1) فتح الباري (3/509). (2) سبق تخريجه (ص: 58). (3) مجموع الفتاوى (11 /555).
وقـال في موضع آخر: (ومَنْ تَعَبَّدَ بعبادة ليست واجبة ولا مُستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مُستحبة فهو ضالٌ مُبتدعٌ، بدعةً سيئةً لا بدعةً حسنةً باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجبٍ أو مُستحب) (1).
وإذا عُلم أن التعزية سُنَّةٌ مشروعة، فإن البدعة لا تحيي سُنَّةٌ.
قال إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد البربهاري (2): (واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فالحذر من المُحدثات من الأمور) (3). ------------------------------------------ (1) مجموع الفتاوى (1/160). (2) أبو محمد حسن بن علي بن خلف البربهاري، إمام أهل السنة والجماعة في عصره، كان إماما مهيبا، قوَّالا للحق، داعية للسنة واتباع الأثر، قال أبو عبدالله الفقيه: (إذا رأيت البغدادي يحب أبا الحسن بن بشار، وأبا محمد البربهاري؛ فاعلم أنه صاحب سنة)، وقال ابن الجوزي عنه: (جمع العلم والزهد... وكان شديداً على أهل البدع)، توفي -رحمه الله تعالى- في رجب سنة (329هـ). (3) شرح السنة للبربهاري (ص: 18).
فإذا تقرَّر أن الاجتماع للعزاء من العادات، فإن الأصل فيها الإباحة، فالعـادات البـاب فيها مفتوح -ولله الحمد- وهي خاضعةٌ لأعراف الناس، فكل عادة انتشرت بين الناس وتعارفوا عليها من فعلٍ أو قولٍ أو أكل أو شرب أو غيرها من الملبوسات والمفروشات ونحوها، فالأصل فيها الحل والإباحة، لكن هذه الإباحة مُقَيَّدَةٌ بما إذا لم تخالف هذه العادة دليلاً شرعيًا، فإن خالفت الدليل فهي عادة مُحَرَّمَةٌ يجب إنكارها، أما إذا لم تُخالف دليلاً فالأصل التوسعة على الناس، فلا يجوز لأحدٍ كائنٍاً مَنْ كان أن يُضَيّق على الناس فيما اعتادوه وتعارفوا عليه إلا بدليل، وأنت ترى اختلاف الناس من قُطرٍ إلى قُطرٍ، بل إن من قواعد الشريعة أن العادة محكمة، أي تؤخذ الأحكام الشرعية بناءً على العادات المتقررة عندهم، فالعبادات بابها توقيفي فلا يُفتح إلا بدليل والعادات بابها مفتوح لا يُغلق إلا بدليل ولله الحمد والمنة. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:34 pm | |
| قال الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت1376هـ) في منظومته (1): والأصل في عاداتنا الإباحة حتى يجيء صارف الإباحة
فيؤخذ منه قاعدة فقهية مهمة وهي: “أن الأصل في العادات والمعاملات الإباحة والحل".
والأصل في هذه القاعدة: ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها-، وعن أنس -رضي الله عنه-: "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بقوم يلقحون فقال: "لولم تفعلوا لصلح” قال فخرج شيصاً (2)، فمَرَّ بهم فقال: ما لنخلكم قالوا: قلت: كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم” (3). ------------------------------------------ (1) رسالة في القواعد الفقهية (ص: 31). (2) الشيص هو: التمر الذي لا يشتد نواه ويقوى، وقد لا يكون له نوى أصلاً. (النهاية في غريب الحديث والأثر 2/518)، وقال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: وهو بكسر الشين المعجمة هو البسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفاً. (شرح مسلم للنووي 16/171). (3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل باب: وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره (صلى الله عليه وسلم) من معايش الدنيا على سبيل الرأى (4/1835 رقم 2361 - 2363)، وأخرجه ابن ماجه كتاب الرهون باب: تلقيح النخل (2/825 رقم 2470-2471).
ووجه الدلالة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رَدَّ الأمر في التعامل في الزراعة إلى الخلق، وجعله ليس من جنس الشَّرع الذي يتوقف فيه حتى يأتي الأمر من الرَّبِّ -عز وجل-.
وقد حكى الاتفاق على هذا الأصل غير واحد من العلماء، كالنووي في المجموع، والموفق ابن قدامة في المغني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) -رحمه الله تعالى-: (والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ” (1).
ولهذا ذَمَّ اللهُ المشركينَ الذين شَرعُوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحَرَّمُوا ما لم يُحَرّمْهُ)، ثم قال بعد ذلك: (وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشَّياطين، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهم..” وهذه قاعد عظيمة نافعة) (2).
وليُعلم أن المعاملات والعادات باقية على الأصل ما لم تخالف أصلاً شرعياً، أو يأتي الصَّارف الشرعي لذلك، ومن ذلك شُرب الخمر، فهو من جنس العادات التي حرَّمها الرب سبحانه (3). ------------------------------------------ (1) سورة يونس الآية: 59. (2) مجموع الفتاوى (29/17-18). (3) مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية للأسمري (ص: 76).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) -رحمه الله تعالى-: (فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله) (1). ------------------------------------------ (1) مجموع الفتاوى (11/450).
ومما يُعِينُ على فقه هذه المسألة ما يلي: هل الوسيلة للمشروع مشروعة؟
نعم هذه القاعد مفهومة من القاعدة الفقهية، كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها، أو الوسائل لها أحكام المقاصد، أو الوسائل تعطى أحكام المقاصد.
وليُعلم أنه لا يخرج شيء من الأشياء يحتاجه الناس في عباداتهم أو معاملاتهم إلا وله في الشريعة حكم شرعي، ويفرق بين كونه وسيلةً أو مقصدًا، فإن كان مقصدًا من المقاصد فحكمه واضح؛ لأن الشريعة حرصت على تبيين أحكام المقاصد، وإن كان وسيلة فإنه يكون تابعًا لحكم قصده، فإن كان يقصد بـه حرامًا فهو حرام، وإن كان يقصد به واجبًا لا يتم إلا به فهو واجب، وإن كان يقصد به سنة فهو سنة، أو مكروهًا فهو مكروه أو مبـاحًا فهو مباح، ولا يخرج شيء عن هذه الأحكام الخمسة، وهذا من كمال الشريعة، فإنها إذا حرمت شيئًا حرمت جميع الوسائل المفضية إليه، وإذا أوجبت شيئًا أوجبت جميع الوسائل التي لا يتم إلا بها وهكذا، ذلك لأن من تمام تحريم الشيء تحريم وسائله وسد جميع ذرائعه، ومن تمام إيجاب الشيء إيجاب جميع الأشياء التي يتوقف حصوله عليها، فيدخل تحت هذا الأصل الكبير قواعد كثيرة.
ومعلوم أن الوسائل إذا كان لها حكم مستقل في الشريعة، بالوجوب أو بالتحريم، فإنها تأخذ حكمها الأصلي في الشريعة.
أمَّا إذا لم يرد دليلٌ يخص تلك الوسيلة فننظر إلى هذه الوسيلة هل هي وسيلة مُفضية إلى المقصود قطعاً، فهذه تأخذ حكم المقصود، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1).
فإن التعزية مقصد، لما ورد من مشروعيتها، وفضلها، ولا وسيلة لتحصيلها في مثل هذه الأزمنة إلا باستقبال المُعَزّينَ، والجلوس لذلك، فإن ذلك مما يعينهم على أداء السنة.
وقد فهم مثل هذا التخريج على هذه القاعدة الشيخ ابن باز-رحمه الله- فقال عن استقبال المعزين والجلوس للتعزية: (لا أعلم بأساً فيمَنْ نزلت به مصيبة بموت قريب، أو زوجة، ونحو ذلك أن يستقبل المُعَزّينَ في بيته في الوقت المناسب، لأن التعزية سُنَّةٌ، واستقبال المُعَزّينَ مما يُعينهم على أداء السُّنَّةِ) (2). ------------------------------------------ (1) قال الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت1376هـ) في منظومته: وسائل الأمور كالمقاصد واحكم بهذا الحكم للزوائد قال -رحمه الله تعالى- في شرح هذا البيت: (يعني أن الوسائل تعطى أحكام المقاصد، فإذا كان مأموراً بشيء كان مأموراً بما لا يتم إلا به، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون). (رسالة في القواعد الفقهية ص: 32). (2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/373).
مناقشة ما استدل به أصحاب القول الأول: مناقشة الدليل الأول: حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها...).
فهذا الحديث يدل على أن الاجتماع خاص بالنساء، وليس للرجال دخل فيه؛ فالحديث بمنطوقه يدل على أن النساء كن يجتمعن، فهو خاص بهن؛ وذلك لأن المرأة خلقها الله ضعيفة لا تتحمل ما يتحمله الرجال، فلا بأس بجلوسهن وتسلية بعضهن لبعض، بدون نياحة، ولا جزع، ولا تسخط، فهو خاص بهن دون الرجال.
مناقشة الدليل الثاني: استدلوا بما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: (لَمَّا جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رَوَاحَة جَلسَ يُعرفُ فيه الحُزنُ...).
فهذا الحديث لا يدل على جواز الجلوس للتعزية، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يتعمد الجلوس لها، بل إنه (صلى الله عليه وسلم) جلس في المسجد يُعْرَفُ في وجهه الحُزن، ولم يقل الراوي جلس لاستقبال أهل العزاء.
مناقشة الدليل الثالث والرابع: ما استدلّوا به من حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-، وبما جاء عن محمد بن عمرو بن عطاء بن علقمة، فالحديثان ضعيفان لا تقوم بهما حجة.
مناقشة الدليل الخامس: استدلوا بما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد (ابن الوليد -رضي الله عنه-) يبكينه فقال عمر -رضي الله عنه-: ما عليهن أن يُرِقْنَ من دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة).
فهذا الأثر يُقال فيه ما قيل في حديث عائشة -رضي الله عنها- من أنه خاص بالنساء دون الرجال.
الجواب عن دعوى الخصوصية في الدليل الأول، والخامس ما يلي: تخصيص الاجتماع للنساء دون الرجال، ليس عليه دليل، فالحديث ورد في حالهم إذا مات الميت، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سُئِلَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؛ قال: “يغتسل"، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللاً؛ قال: “لا غُسل عليه” قالت أم سلمة -رضي الله عنها- يا رسول الله هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال: “نعم إن النساء شقائق الرجال” (1). ------------------------------------------ (1) أخرجه الإمام أحمد (6/256)، وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة: باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل (ص: 226 برقم 769)، وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة: باب في الرجل يجد البلّة في منامه (1/109-110 برقم 236)، وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة: باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً ولا يذكر احتلاماً (1/189-190 برقم 113)، وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود (1/71 برقم 236)، وفي سنن الترمذي (ص: 38 برقم 113).
قال ابن الأثير-رحمه الله تعالى-: (أي نظائرهم وأمثالهم كأنهن شققن منهم، ولأن حواء -عليها السلام- خُلِقَتْ من آدم -عليه السلام-، وشقيق الرجل أخوه من أبيه ولأمه، لأنه شق نسبه من نسبه) (1).
وقال الخطابي (ت388هـ) -رحمه الله تعالى-: (وفيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطاباً للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها) (2).
ومما يرد الخصوصية أيضاً أنه لو كان الاجتماع مباحاً للنساء فقط، لكان للرجال من باب أولى، لضعف طبيعة المرأة، ولأن النياحة والجزع وغيرها في جانب النساء أكثر؛ ثم إن اجتماع النساء يورث بعض المفاسد، كتجمعهن وخروجهن وتعرضهن للرجال وغيرها، والمرأة بيتها خير لها.
فإذا جاز الاجتماع في العزاء للنساء ففي الرجال من باب أولى.
الجواب عن الدليل الثاني ما يلي: أن فهم الحديث الشريف لا يكون إلا بما فهمه السلف الصالح ـ رحمهم الله -تعالى- فهذا ابن حجر يقول في شرحه لهذا الحديث: (وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار) (3)، فكيف يُقال إنه لا يقصده النبي (صلى الله عليه وسلم)؟!! ------------------------------------------ (1) النهاية (2/492). (2) معالم السنن (1/161-162). (3) فتح الباري (3/519). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:41 pm | |
| القول الثاني: القول بالمنع، وقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك، فمنهم مَنْ قال بالكراهة (1)، ومنهم مَنْ قال بالتحريم (2)، ومنهم مَنْ قال بأن الجلوس والاجتماع للتعزية بدعة (3).
وإليك ما قاله العلماء في ذلك : 1ـ قال الإمام الشافعي (ت204هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه الأم: (وأكره المأتم، وهو الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يُجَدِّدُ الحزن، ويكلف المؤنة، مع ما مضى فيه من الأثر) (4).
2ـ ومِمَّنْ جاء عنه المنع الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) فقد سُئِلَ عن أولياء الميت يقعدون في المسجد يعزون؟ فقال:
(أما أنا فلا يعجبني أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت) (5). ------------------------------------------ (1) الكراهة حكم تكليفي وهي كما حدها الأصوليون: ما طلب الشارع من المكلف تركه لا على وجه الحتم والإلزام؛ وهي ما يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله. (تيسير علم أصول الفقه ص: 42). (2) المحرم هو: ما طلب الشارع من المكلف تركه على وجه الحتم والإلزام. (تيسير علم أصول الفقه ص: 35). (3) البدعة: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. (الاعتصام1/47). (4) (1/279). (5) مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني (ص: 138 ـ 139).
3ـ قال الإمام الشيرازي (ت476هـ) -رحمه الله تعالى- في المهذب في (باب: التعزية، والبكاء على الميت): (فصل في الجلُوس للتعزية: ويُكره الجُلوس للتعزية؛ لأن ذلك مُحْدَثٌ، والمُحْدَثُ بدعة) (1).
4ـ قال النووي (ت676هـ) -رحمه الله تعالى- (2): (قال الشافعي: وأصحابنا ـرحمهم الله تعالى- يكرهون الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم مَنْ أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي -رحمه الله-، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المُحَرَّمَة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المُحَرَّمَات فإنه مُحْدَثٌ، وثبت في الحديث الصحيح: “إن كل مُحْدَثَةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة” (3). ------------------------------------------ (1) متن المهذب من شرحه المجموع (5/275). (2) الأذكار (ص: 160). (3) أخرجه الإمام أحمد (3/310)، (4/126)، وأخرجه مسلم في كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592 برقم 867)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة: باب في لزوم السنة (4/264 برقم 4607)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة: باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (1/15-16 برقم 42)، وأخرجه النسائي في كتاب صلاة العيدين: باب كيف الخطبة؟ (3/209-210 برقم 1577).
5ـ قال الإمام ابن قدامة (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-: (قال أبو الخطاب: يُكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقيل: يُكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجاً للحزن، وقال أحمد: أكره التعزية عند القبر إلا لِمَنْ لم يُعَزِّ، فيُعزى إذا دُفِنَ الميت، أو قبل أن يُدفن) (1).
6ـ قال الإمام المرداوي (ت885هـ) -رحمه الله تعالى-: (ويكره الجلوس لها، هذا المذهب وعليه أكثر أصحابنا ونص عليه، قال في الفروع: اختاره الأكثر، قال في مجمع البحرين: هذا اختيار أصحابنا؛ وقال الإمام أحمد: أما والميت عندهم: فأكرهه) (2).
7ـ قال الإمام الطرطوشي (3) (ت530هـ) -رحمه الله تعالى-: (قال علماؤنَا المالكيون: التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به، فإنه لما جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) نعيُّ جعفر؛ جلس في المسجد محزوناً، وعزاه الناس) (4). ------------------------------------------ (1) المغني (2/342). (2) الإنصاف (2/396). (3) هو الإمام العلامة شيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف الفهري، الأندلسي، الطرطوشي، الفقيه، عالم الإسكندرية؛ قال عنه إبراهيم بن مهدي: “كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه"؛ وحكى بعض العلماء أنه نجب عليه نحو من مئتي فقيه مفتي؛ ومن تلاميذه أبو طاهر السِّلفي، والفقهيه سلَّارُ ابن المقدَّم، وظافر بن عطية، وعبدالله بن عبدالرحمن العثماني، وعبدالمجيد بن دُليل، وآخرون، له مؤلفات كثيرة منها: تحريم الغناء، وكتاب في الزهد، وتعليقةٌ في الخِلاف، وبر الوالدين، والرد على اليهود، والعُمُدُ في الأصول، والحوادث والبدع وغيرها. (4) الحوادث والبدع (ص: 170).
وقال الإمام الطرطوشي أيضاً: (فصل المآتم: فأَما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء: قال الشافعي: (وأَكره المآتم، وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن) (1).
8ـ قال الإمام ابن القيم (ت751هـ) -رحمه الله تعالى-: (وكان من هديه (صلى الله عليه وسلم) تعزيةُ أهلِ الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، و يقرأ له القرآن، لا عند قبره و لا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة) (2). ------------------------------------------ (1) الحوادث والبدع (ص: 175). (2) زاد المعاد (1/527).
9ـ قال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) -رحمه الله تعالى- في مسألة قصد التعزية، والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم قال: (هذا ليس له أصل من السنة، ولكن إذا كان الإنسان قريبا لك وتخشى أن يكون من القطيعة ألا تذهب إليهم فلا حرج أن تذهب، ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت، وتلقي المعزين لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومَنْ صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم.
فهاهنا أمران: الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع اللهم إلا كما قلت إذا كان من الأقارب ويخشى أن يكون ترك ذلك قطيعة.
الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) (1).
وقد ذُكر المنع عن بعض العلماء ولم أورد كلامهم هنا، وذلك لأنهم إما نقلوا عمن قبلهم من العلماء، وإما أنهم لم يأتوا بشيء يخالف ما سبق، فلعل فيما ذكر كفاية.
واستدلّوا لهذا القول بالأدلة التالية: الدليل الأول: أثر جرير بن عبدالله البجلي (2) -رضي الله عنه- قال: “كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة” (3).
وهذا الأثر صححه الإمام النووي (4) (ت676هـ) -رحمه الله تعالى- كما في المجموع. ------------------------------------------ (1) سبعون سؤالاً في أحكام الجنائز (ص: 30). (2) جرير بن عبدالله بن جابر البجلي ? صحابي جليل، أسلم قبل موت النبي (صلى الله عليه وسلم) بأربعين يوماً، وتوفي ? سنة إحدى وخمسين للهجرة النبوية الشريفة (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/308 رقم الترجمة 326). (3) أخرجه الإمام أحمد (2/204 رقم 6905)، وهو في المحصل (5/355)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام (1/514)، وأخرجه الدارقطنى في العلل (4/ ق89أ)، والطبراني في المعجم الكبير (2/307 برقم 2278)؛ وروي من قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجنائز: باب في النياحة على الميت وما جاء فيه (3/263 برقم 7)، وأسلم الواسطي في تاريخ واسط (ص: 107). (4) (5/290).
وقال البوصيري (1) -رحمه الله تعالى- في مصباح الزجاجة: (إسناده صحيح رجال الطريق الأول على شرط البخاري، والثاني على شرط مسلم) (2).
وصححه الألباني في أحكام الجنائز (3)، وفي صحيح ابن ماجه (4).
قال السندي -رحمه الله تعالى-: (قوله: “كنا نرى” هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة ـرضي الله تعالى عنهم-، أو تقرير النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعلى الثاني فحكمه الرفع، وعلى التقدير فهو حجة) (5). ------------------------------------------ (1) هو الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري، القاهري، الشافعي، ولد بأبو صبر من الغربية بمصر سنة (762هـ)، كان محدثاً عالماً، اشتغل بجمع الزوائد فجمع (زوائد ابن ماجة)، و (زوائد السنن الكبرى للبيهقي)، و (زوائد مسند الطيالسي)، و (أحمد)، وله أيضاً (تحفة الحبيب للحبيب بالزوائد في الترغيب والترهيب)، و (إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة)، و (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه)، توفي -رحمه الله تعالى- في الحسينية بمصر سنة (840هـ). (2) سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي بحاشية مصباح الزجاجة (1/514)، رقم الحديث (1612). (3) أحكام الجنائز (ص: 210). (4) صحيح ابن ماجه (2/48). (5) سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي بحاشية السندي (1/514)، تحت أثر جرير بن عبدالله -تعالى- رقم الحديث (1612).
فيظهر من أثر جرير أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرون المنع من ذلك، بل يعدونه مع صنعة الطعام من النياحة، التي هي من أفعال الجاهلية.
الدليل الثاني: واستدلوا بما رواه عبدالرحمن بن مهران: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال حين حضرهُ الموتُ: (لا تضربوا عليَّ فسطاطاً، ولا تتبعوني بمجمر، وأسرعوا بي؛ فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا وضع الرجلُ الصالح على سريره قال: قدموني قدموني، وإذا وضعَ الرجل السُّوء على سريره قال: يا ويله أين تذهبون بي؟) (1).
قال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا معلقاً على هذا الحديث: (وفيه أنه لا يجوز نصبَ فسطاط كالسُّرادق والخيمة ونحو ذلك لأجل اجتماع الناس فيه للتعزية، ولا اتباع الجنازة بنار فإن ذلك من عوائد الجُهَّال ومَنْ لا دين لهم ومما نهى الشرع عنه وذَمَّ فاعله، ومع ذلك فلا تزال هذه العادة باقية عند الناس إلى الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله) (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه الإمام أحمد (2/292 رقم 7896)، وأخرجه النسائي (4/40-41)، وأخرجه البيهقي (4/21 برقم 6636). (2) الفتح الرباني (8/6).
الدليل الثالث: استقراء حال السلف، بأنهم لم يكونوا يجلسون ويجتمعون للعزاء.
الدليل الرابع: أن الاجتماع للتعزية فيه تجديد للحزن، وإدامته، وهذا لا يجوز لأنه يخالف الحكمة من التعزية، وهي المواساة والتسلية، لا التذكير بالمصيبة، وتجديد الحزن.
الدليل الخامس: أن الاجتماع للتعزية يحصل فيه بدع ومخالفات شرعية، كصنع أهل الميت الطعام للناس، والنياحة، وغيرها وكل هذا مُحرَّم ولا يجوز.
مناقشة ما استدل به أصحاب القول الثاني من أدلة على منع الجلوس للتعزية:
مناقشة الدليل الأول: أثر جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- قال: (كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة).
الحديث رواه هشيم، واشتهر عنه: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير -رضي الله عنه- (فذكره).
فقد رواه عنه سعيد بن منصور (1)، وشجاع بن مخلد أبو الفضل (2)، وسريج بن يونس (3)، والحسن بن عرفة (4). ------------------------------------------ (1) ابن شعبة أبو عثمان الخرساني، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 389 رقم الترجمة 2412): ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به (ت227 هـ). (2) الفلاس أبو الفضل، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 431 رقم الترجمة 2763): صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف، فذكره العقيلي بسببه في الضعفاء (ت 235 هـ)، وقال عنه ابن معين أعرفه ليس به بأس، نعم الشيخ ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أحمد: كان ثقة. (تهذيب التهذيب 4/284 رقم الترجمة 2843)، وقال في تحرير التقريب: بل ثقة (2/107 برقم 2748). (3) ابن إبراهيم البغدادي أبو الحارث المروذي قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 367 رقم الترجمة 2232): ثقة عابد (ت 235). (4) ابن يزيد العبدي أبو علي البغدادي قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 239 رقم الترجمة 1265): صدوق (ت257هـ).
فأما رواية سعيد بن منصور، وشجاع بن مخلد، فرواها عنهما ابن ماجه (1) قال: حدثنا محمد بن يحيى (2) قال: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هُشيم ح، وحدثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل قال: حدثنا هُشيم به.
وأما رواية سريج بن يونس، والحسن بن عرفة، فذكرها الدارقطني كما في العلل.
أربعتهم عنه عن إسمعيل بن أبي خالد (3)، عن قيس بن أبي حازم (4)، عن جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- قال: فذكره؛ واللفظ له. ------------------------------------------ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام (1/514 برقم 1612). (2) وهو ابن عبدالله بن خالد بن فارس بن ذؤيب، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 907 رقم الترجمة 6427): ثقة حافظ جليل (ت258هـ). (3) الأحمسي مولاهم البجلي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 138 رقم الترجمة 442): ثقة ثبت (ت146هـ). (4) البجلي أبو عبدالله الكوفي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 803 رقم الترجمة 5601): ثقة، مخضرم ويقال له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة (توفي بعد التسعين أو قبله).
فجميع هؤلاء رووا هذا الأثر عن هشيم بن بشير، وهشيم دلسه عن شريك بن عبدالله؛ فيؤل الحديث إلى رواية شريك، وهو المدار الأصلي للحديث.
وهُشيم هو ابن بشير بن القاسم بن دينار السُلمي، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطي.
روى الحديث عن أبيه، وخاله القاسم بن مهران، وعبد الملك بن عمير، ويعلى بن عطاء، وعبدالعزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس وغيرهم كثير.
وروى عنه مالك بن أنس، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون وغيرهم (1). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:46 pm | |
| ثناء العلماء على هُشيم: قال حماد بن زيد: ما رأيت أنبل في المحدثين من هُشيم (2).
وقال عبدالرحمن بن مهدي: كان هُشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري (2).
وقد سئل أبو زُرعة عن هُشيم، وجرير فقال: هُشيم أحفظ (2).
قال الخليلي: حافظ متقن تغيَّر بآخر موته (2).
وذكره ابن حبان في الثقات (2).
ووثقه غيرهم.
ما قاله العلماء عن تدليس هُشيم: وقال العجلي: هُشيم واسطي ثقة، وكان يدلس (2).
وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتاً يدلس كثيراً (2).
وقال ابن حبان: كان مدلساً (2). ------------------------------------------ (1) تهذيب الكمال (7/418 رقم الترجمة 7190)، تهذيب التهذيب (11/53). (2) تهذيب التهذيب (11/ 54-56).
وقال أبو داود قيل ليحي بن معين في تساهل هُشيم فقال: ما أدراه ما يخرج من رأسه (1).
وقال الذهبي: إمام ثقة مدلِّس (2).
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت كثير التدليس، والإرسال الخفي (3).
خلاصة القول في هُشيم بن بشير -رحمه الله تعالى-: خلاصة القول فيه ما قاله عنه الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- قال: (لا نزاع في أنه كان من الحُفَّاظِ الثِّقَات، إلا أنه كثير التدليس فقد روى عن جماعة لم يسمع منهم) (4).
وقال عنه: (كان رأساً في الحفظ إلا أن تدليسه كثير، قد عرف بذلك) (5).
وقال الشيخ مسفر الدميني بعد ذكره لحال هُشيم قال: (مما تقدم نعلم أن هشيماً قد وقع في أنواع التدليس منها: الإسناد، والتسوية، والعطف، والشيوخ، كما أنه دلس عن بعض الضعفاء والمجهولين) (6). ------------------------------------------ (1) تهذيب التهذيب (11/ 54-56). (2) الكاشف (2/ 338 رقم الترجمة 5979). (3) تقريب التهذيب (ص: 1023 رقم الترجمة 7362). (4) تذكرة الحفاظ (1/183). (5) سير أعلام النبلاء (8/289). (6) التدليس في الحديث (ص: 364).
ورواية هشيم عن شريك لا تصح فقد نفاها الإمام أحمد، قال أبو داود: ذكرت لأحمد حديث هُشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير: كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت، وصنيعة الطعام من أمر الجاهلية، قال: زعموا أنه سمعه من شريك، قال أحمد: ولا أرى لهذا الحديث أصلاً (1).
فالحديث من هذا الوجه لا يصح لوجود علة التدليس من هُشيم، ولأن هُشيم لم يصرح بالتحديث في شيء من طرق الحديث، إذن هذه علة في سند هذا الحديث -والله تعالى أعلم- (2).
وأعله الدارقطني (كذلك)، فقد سئل عن حديث قيس عن جرير -رضي الله عنه-: (كانوا يرون الاجتماع إلى أهل الميت، وصنع الطعام من النياحة)، فقال: يرويه هُشيم بن بشير واختلف عنه فرواه سريج بن يونس والحسن بن عرفة عن هُشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير، ورواه خالد بن القاسم المدائني. قيل: ثقة؟، قال: لا أضمن لك هذا، خرجوه عن هُشيم عن شريك عن إسماعيل، ورواه أيضا عباد بن العوام عن إسماعيل كذلك) (3). ------------------------------------------ (1) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 388 برقم 1867). (2) حكم الحديث المُدَلَّسْ: لما كان في حديث المدلس شبهة وجود انقطاع بين المُدلس ومن عنعن عنه، بحيث قد يكون الساقط شخصاً أو أكثر، وقد يكون ثقة أو ضعيفاً. فلما توافرت هذه الشبهة اقتضى ذلك الحكم بضعفه. وقال الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع: (الحديث إذا ثبت تدليس الراوي فيه فهو منقطع ضعيف) (تحرير علوم الحديث 2/979). (3) الدارقطنى في العلل (4/ق 89أ).
فأعلَّ رواية هشيم عن شريك بن عبدالله، وعباد عن إسماعيل، وهذا الطريق أخرجه الطبراني (1) من طريق عبَّاد بن العوام عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير بن عبدالله -رضي الله عنه-: يُعَدِّدُونَ الميت أو قال أهل الميت بعدما يُدفن؟ شك إسماعيل. قلن: نعم. قال: (كنا نعدها النياحة). فهذا الأثر أعله الدارقطني كما سبق.
وأما رواية سريج بن يونس والحسن بن عرفة فهما روياها عن هشيم وقد سبق الكلام على رواية هشيم هذه.
أما شريك بن عبدالله فهو ابن أبي شريك النخعي، أبو عبدالله الكوفي القاضي روى عن أبي إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن جرير العجلي، وإسماعيل ابن أبي خالد وغيرهم، وروى عنه ابن مهدي ووكيع ويحيى بن آدم، وهُشيم وغيرهم (2).
قال عنه ابن حجر في التقريب: (صدوق يخطيء كثيراً تغيَّر حفظه منذ تولى القضاء بالكوفة) (3). ------------------------------------------ (1) المعجم الكبير (2/307برقم 2278). (2) تهذيب الكمال (3/383 رقم الترجمة 2722)، وتهذيب التهذيب (4/304 رقم الترجمة 2883). (3) (ص: 436 برقم 2802).
وقال صاحب التحرير: (وخلاصة القول فيه أنه يتعيَّن تتبع ما توبع عليه، فإنه يخاف أن يكون ضعيفاً عند التفرُّد لسوء حفظه وغلطه، ولم يحتج له مسلم وإنما أخرج له في المتابعات) (1).
وقد أخرج الأثر أيضاً الإمام أحمد في مسنده (2/204 برقم 6905) (2)، فرواه عن نصر بن باب (3)، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- بلفظ: (كنا نعد...).
فسند هذا الأثر رواته ثقات، ما عدى نصر بن باب، فهو كذاب.
قال عنه الإمام البخاري: يرمونه بالكذب (4).
وقال عنه ابن مُعين: ليس حديثه بشيء (4).
وقال عنه علي بن المديني: رَمَيْتُ حديثه (4).
وقال عنه أبو حاتم الرازي: متروك الحديث (4).
وقال عنه أبو خيثمة وهب بن حرب: كذَّاب (4).
فهذا السند (سند واهي) لأن فيه نصر بن باب الخرساني. ------------------------------------------ (1) تحرير تقريب التهذيب (2/113 برقم 2787). (2) فائدة: الأثر لا يوجد في مسند جرير بن عبدالله -تعالى-، فالأثر داخل في مسند عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-، وذلك لأن الإمام أحمد لم يتصدر لتصنيف المسند، إنما وجد مفرقاً، وجمعه ابنه عبدالله. (3) الخراساني أبو سهل المروزي (ت193تقريباً). (تعجيل المنفعة 2/305). (4) تعجيل المنفعة (2/305-306).
ووجه رواية الإمام أحمد بن حنبل عن نصر بن باب أنه كان يحتمل حديثه، قال عبدالله بن الإمام أحمد: قلت لأبي سمعت خيثمة يعني زهير بن علية يقول: نصر بن باب كذَّاب، فقال: إني أستغفر الله، كذَّاب؟! إنما عابوا عليه أنه حدث عن إبراهيم الصائغ، وإبراهيم من أهل بلده لا ينكر أن يكون سمع منه (1)؛ وهذا يفسر روايته للحديث في مسنده.
وأخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن طلحة، قال: قدم جرير -رضي الله عنه- على عمر -رضي الله عنه-، فقال: هل يُناح قِبلكم على الميت؟ قال: لا؛ قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت، ويطعم الطعام؟ قال: نعم؛ فقال: تلك النياحة) (2).
فرواة إسناد هذا الأثر كلهم ثقات، ولكن طلحة بن مصرف لم يسمع من عمر -رضي الله عنه-، ولم يذكر له سماعاً من جرير -رضي الله عنه-.
وقد ورد هذا الأثر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما أورده أسلم بن سهل الواسطي في تاريخه قال: ثنا عبدالحميد، قال: أنا يزيد بن هارون، قال: أنا عمر أبو حفص الصيرفي وكان ثقة، قال: ثنا سيار أبو الحكم، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه من النياحة) (3). ------------------------------------------ (1) تعجيل المنفعة (2/306). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجنائز: باب في النياحة على الميت وما جاء فيه (3/263 برقم 7). (3) تاريخ واسط (ص: 126).
وهذا الأثر لا يصلح أن يكون متابعة صحيحة لأثر جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- لأن سيار بن أبي سيار أبو الحكم البصري، واسمه وردان وقيل دينار؛ لم يلق عمر -رضي الله عنه-، بل ولا أحداً من الصحابة (1)، فالرجل تابع تابعي (ت122هـ)، فهذا الأثر منقطع (2). ------------------------------------------ (1) تهذيب التهذيب (4/264 رقم الترجمة 2813). (2) والمنقطع نوع من أنواع الحديث الضعيف؛ عرَّفه الحاكم بقوله: (أن يكون في الإسناد رواية راوٍ لم يسمع من الذي يروي عنه الحديث، قبل الوصول إلى التابعي، الذي هو موضع الإرسال) (معرفة علوم الحديث ص: 176).
فالأثر بطريقيه لا يصح، ويمكن أن يعود هذا الأثر المشهور عن جرير -رضي الله عنه- مع ضعفه إلى أثر عمر -رضي الله عنه- لو صح عنه، فيكون هذا رأياً لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، خالف فيه حديث عائشة الصحيح خاصة أن حديث عائشة نص على ذكر النساء.
خلاصة القول في أثر جرير بن عبدالله -رضي الله عنه-: هذا الأثر ضعيف لا تقوم به حجة، وكذلك ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لا يصح. والله -تعالى- أعلم.
وعلى فرض صحة هذا الأثر فمعناه: أنه مُنِعَ هذا الفعل بسبب النياحة التي هي من خصال الجاهلية التي قال عنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب” (1)، فالنياحة على الميت من خصال الجاهلية.
وصورة النياحة التي في وردت في أثر جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- هي ما جمعت أمرين: أ- أن يكون هناك اجتماع للعزاء عند أهل الميت. ب- أن يكون هناك صنع للطعام من أهل الميت لإكرام مَنْ يأتيهم من أضياف، ومَنْ يجتمع عندهم، والنياحة تكون بكثرة مَنْ يمكث عندهم إظهاراً لمصيبة هذا الميت.
قال الإمام الشوكاني (ت1250هـ) -رحمه الله تعالى- عند قول جرير ابن عبدالله -تعالى-: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت...الخ” قال: (يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه، وأكل الطعام عندهم نوعـًا من النياحة، لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلتهم مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت، وما فيه من مخالفة السنة لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعامًا فخالفوا ذلك، وكلفوهم صنعة الطعام لغيرهم) (2).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) -رحمه الله تعالى- عند حديثه عن حكم قصد التعزية والذهاب لأهل الميت في بيتهم (3): ------------------------------------------ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب التشديد في النياحة (2/644 رقم 934). (2) نيل الأوطار (4/118). (3) سيأتي مناقشة رأي الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في (ص: 147 -149).
(الجلوس لاستقبال المعزين، وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) (1).
وهذا فقه حديث جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه-.
أما الجلوس للتعزية فقط فهذا لا يُعلم أن أحداً من السلف قال: إنه من النياحة وحده، أو أنه نهي عنه، بل حديث عائشة -رضي الله عنها- حديث التلبينة، الذي استدل به أصحاب القول الأول يرده.
وهذا الأثر -على فرض صحته- معارض لما جاء عن عائشة ـرضي الله عنهاـ؛ فإذا كان الصحابة مختلفين في هذا، فالأمر في ذلك لا يصل إلى حد البدعة والتحريم، ثم اختلاف الصحابة يوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة.
مناقشة دليلهم الثاني: الحديث معلول، اختلف فيه، فقد رُويَ عن أبي هريرة، ووقف على ابن أبي ذئب، ورويَ عن أبي سعيد الخدري، كما ذكر ذلك المزي في تهذيب الكمال (2). ------------------------------------------ (1) سبعون سؤالاً في أحكام الجنائز (ص: 30). (2) تهذيب الكمال (4/479 رقم الترجمة 3958).
أما ما قاله الشيخ أحمد البنا عند كلام أبي هريرة -رضي الله عنه- حينما قال: (لا تضربوا عليَّ فُسطاطاً، ولا تتبعوني بمجمر..) فما فسره به الشيخ أحمد البنا فغير صحيح، والصحيح في معناها، أن بعض الناس كان يضرب على قبره فسطاطاً حتى يتم دفنه ثم ينزع، وهذا الفسطاط يقي من شدة حر الشمس، وقد فعله بعض السلف وكرهه بعضهم، ولكن لم يُرِدْ أبو هريرة -رضي الله عنه- هذا الفسطاط الذي يوضع على القبر، وإن كان الأقرب جوازه للحاجة لاتقاء شدة الحر.
وقد بوب البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب الجريد على القبر، ثم أورد أثراً عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه رأى فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: (انزعه يا غلام، فإنما يُظله عمله) (1).
فذكر البخاري له في هذا الباب مما يدل عليه أنه عند القبر، وليس في أماكن التعزية، ولهذا المعنى أشار الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح (2).
مناقشة دليلهم الثالث: ما استدلوا به من استقراء حال السلف، بأنهم لم يكونوا يجتمعون للعزاء، فهذا الاستقراء فيما يظهر مردود من وجوه: أ- ما استدل به أصحاب القول الأول من أدلة وآثر تدل على جواز الجلوس، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنهـا كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء، ثم تفـرقن إلا أهلهـا وخاصتها ...) (3)، فدلت الأحاديث والآثار على أن السلف كانوا لا يرون بأساً في الاجتماع. ------------------------------------------ (1) أخرجه البخاري معلقاً (الفتح 3/ 587). (2) فتح الباري (3/588). (3) سبق تخريجه (ص: 58).
ومما يدل على اجتماع السلف ما ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة الكوفي المسعودي (ت65هـ) -رحمه الله تعالى- من قول أبي النضر هاشم بن القاسم أنه قال: إني لأعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي، كنا عنده وهو يُعزى في ابن له إذ جاءه إنسان فقال له: إن غلامك أخذ من مالك عشرة آلف وهرب، ففزع وقام فدخل في منزله ثم خرج إلينا وقد اختلط) (1). ------------------------------------------ (1) تهذيب التهذيب (6/192 رقم الترجمة 4059).
فهذا أبو النضر يذكر أنهم كانوا عند المسعودي وهو يُعزى في ابن له، مما يدل أن السلف كانوا يجتمعون، وليس فيه بأس.
وأما قيامه ودخوله إلى منزله، فقد يقول قائل إن الاجتماع لم يكن في البيت، مما يدل على أنهم لا يجتمعون للعزاء؛ فسأبينه في النقطة التالية من وصف بيوتات السلف -رحمهم الله تعالى-.
ب- هل للسلف -رحمهم الله تعالى- أن يجتمعوا في بيوتهم ومنازلهم إذا علمنا صغرها الشديد؟! فما كان يُعرف عن السلف -رحمهم الله تعالى- كِبَرَ منازلهم.
وحسبُك مثالاً: بيت محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد كان بيته حجرة واحدة (صلى الله عليه وسلم) فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: (بِئسما عَدَلْتُمُونَا بالكلب والحمار لقد رأَيتُني ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يُصلِّي وأنا مضطجعة بينه وبينَ القبلة فإذا أراد أن يسجد غمزَ رجلَيَّ فقبضتُهُما) (1). ------------------------------------------ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة: باب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد؟ (الفتح 2/179 برقم 519)، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة: باب مَنْ قال المرأة لا تقطع الصلاة (1/ 272 برقم 712).
فهذا بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) مثالاً لتقيس عليه -ولو على وجه التقريب- باقي منازل الناس في تلك الأزمان.
ج- أن السلف -رحمهم الله تعالى- كانوا يسكنون في قرى، ومدن صغيرة متقاربة، يمكن معها مقابلة المصاب، ولقياه سهلة متيسرة، فإن لم يوجد في بيته وجد في مسجد قريته الوحيد، وإذا لم يجده في مسجده وجده في السوق الوحيد وهكذا؛ لكن هل ينضبط هذا في زماننا هذا لِمَنْ أراد الوصول للتعزية، وللمواساة؟!
وأنت ترى ترامي أطراف الديار، وكِبَرِهَا، وكثرة مساجدها وأسواقها، فإذا أردت تعزيته فليس لك إلا لقياه في بيته، أو في المكان الذي يجلس فيه عادة، فإذا لم تجده فإنه يصعب عليك بعد ذلك لقياه وتعزيته، بل كيف تُعَزّي أهل المصاب إذا كانوا كثير، والبيوت متباعدة، والدور متباينة، والأعمال متفرقة والأسواق كثيرة، والأوقات ضيقة؟
إذن فعلى قول مَنْ يقول بكراهة الجلوس، أو عدم مشروعيته، إذا أراد أن يُعَزّي أهل المصاب، فما عليه إلا أن يفرغ من وقته أياماً، ويترك بعض أعماله، لكي يقابل هذا في عمله، وهذا في سوقه، وهذا في متجره، وهذا في مسجده.
وهذا لا يمكن، ولا يتيسر، وفيه مشقة على العبد، والشريعة جاءت لنفي الحرج، ورفع المشقة، واليسر والسهولة. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:51 pm | |
| قال الله تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (1).
وقال (صلى الله عليه وسلم): "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ” (2).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت1376هـ) في منظومته (3): ومن قواعد الشريعة التيسيرُ في كـلِّ أمـرٍ نابه تعسيرُ
قال -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا البيت: (ومن التخفيفات أيضاً: أعذار الجمعة والجماعة، وتعجيل الزكاة، والتخفيفات في العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والجنايات) (4). ------------------------------------------ (1) سورة البقرة آية: 185. (2) سورة الحج آية: 78. (3) رسالة في القواعد الفقهية (ص: 24). (4) رسالة في القواعد الفقهية (ص: 25).
فلا حلَّ هنا إلا أن يجتمع أهل المصاب ليُعَزيهم أحبابهم، والناس الراغبون في الأجر، ومواساة المصاب، ثم ينصرفون إلى شأنهم.
وقد سبق نقل الجواز في ذلك من كلام العلماء -رحمهم الله تعالى-.
د- عدم نقل اجتماعهم إلينا لا يدل على عدم حصوله، بل يحتمل حصوله ولم ينقل -هذا إذا سلّمنا أنه لم يرد عن السلف مع أنه ورد-.
هـ- ما عُرف من مواساة السَّلف لبعضهم، وتكافلهم ومواقفهم المشرفة، يلزم منه وقوفهم بجانب أهل المتوفى في أحرج المواقف لتصبيره، ومواساته، فهذا خلقهم الكريم.
ولا أدل على ذلك من تزاحمهم على بيت عمر -رضي الله عنه- بعد إصابته، وقبل موته، وبعد موته حتى دفنه -رضي الله عنه- وتعزية ابنه وأم المؤمنين حفصة ـرضي الله تعالى عنهم-؛ أفلا يقبلون لتسلية أخيهم المصاب؟! فهذا واقعهم ولو لم ينقل إلينا.
وقد يقول قائل ويحتج محتج بأن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يُنقل عنهم أنهم اجتمعوا بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم).
فالجواب عنه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا مات كانت مصيبته على جميع المسلمين، وفي كل بيت، فكل بيت له مكان عزاء (صلى الله عليه وسلم)، وكل شخص مُصاب ويستحق العزاء، ولهذا لم يجتمعوا.
وهذا ظاهر فعندما يموت عظيم من عظماء هذه الأمة، فإن مصابه في كل بيت، فهؤلاء العظماء والعلماء والمجاهدون يموتون فتكون مصيبتهم في كل بيت، ويُعَزّي المسلمون بعضهم بعضاً على ذلك الفقيد.
أما الإنسان العادي فعزاؤه يدخل بيت أهله فقط، لأنهم مَنْ أصيب به فقط.
ولا أدل على ذلك من حديث أنس بن مالك –رحمه الله- قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، ولما نفضنا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا) (1).
فهذا أنس بن مالك –رحمه الله- يصف حال الصحابة -رضي الله عنهم- من شدة حزنهم وفقدهم للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فكل البيوت لفقد النبي (صلى الله عليه وسلم) مكان للعزاء.
مناقشة دليلهم الرابع: ما استدلوا به من أن الاجتماع للتعزية فيه تجديد للحزن، وإدامته، وهذا لا يجوز لأنه يخالف الحكمة من التعزية، وهي المواساة والتسلية، لا التذكير بالمصيبة، وتجديد الحزن.
فالجواب عنه ما يلي: ليُعلم أن التعزية ما شُرِعَتْ إلا لمواساة المصاب، وإذهاب الحزن عنه، وتسليته مما هو فيه، وقد سبق الحديث في مبحث (مشروعية التعزية وفضلها والحكمة منها) ما يكفي ويشفي، ويبين الحكمة من التعزية (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه الدارمي في المقدمة: باب في وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) (ص: 56 برقم 89)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ذكر وفاته ودفنه (صلى الله عليه وسلم) (1/522 برقم 1631)، وأخرجه الترمذي في كتاب المناقب: باب مناقب النبي (صلى الله عليه وسلم) واللفظ له وقال: حديث غريب صحيح (5/588 برقم 3618)، وصححه الألباني كما في صحيح ابن ماجه (2/54برقم 1332)، وسنن الترمذي (ص: 823 برقم 3618). (2) (ص: 43).
فإذا كان غير ذلك فلا أحد يقول بجواز هذا الفعل، لأن الشريعة جاءت بالائتلاف والاعتصام والمحبة (1)، وهذه من أعظم ما امتن الله به على عباده، قال -تعالى-: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (2).
ومن أعظم صفات أهل الإيمان الحب والموالاة للمؤمنين، والبغض والبراءة من الكافرين، ولا يكون الحب والموالاة إلا بالائتلاف وكون أهل الإسلام جسداً واحداً، يرأف بعضهم ببعض، ويرحم بعضهم بعضاً، قال تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” (3).
فإن من أساسات الرحمة والمحبة بين المسلمين سرور تدخله على قلب أخيك المسلم، بل هو من أعظم القُرَبِ التي يتقرَّبُ بها العبد إلى الله -تعالى- في تعامله مع المسلمين؛ لا إدخال الحزن والهم عليه، فإذا كان الجلوس لتجديد الحزن، فلا يقول أحد بجوازه، لعدم موافقته لأصول هذه الشريعة المحمدية.
قال الشيخ محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت785هـ): (إن كان الاجتماع فيه موعظة للمعزي بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر، وأحاديث الصبر والرضا فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة، فإن التعزية سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..) (4). ------------------------------------------ (1) كما بينته في المقدمة (ص: 9-10). (2) سورة الأنفال آية: 63. (3) سورة الفتح آية: 29. (4) تسلية أهل المصائب (ص: 167-168).
بل مَنْ كان يحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة، فعليه أن يأتي الناس بما يحب أن يأتوه به، فهم في هذا الموطن يحبون أن يأتي إليهم الناس مُعَزّينَ ومُواسين، لا شامتين ومُجَدِّدِي محزنة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يرفعه: "فمَنْ أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ” (1).
قال الإمام النووي (ت676هـ) -رحمه الله تعالى- شارحاً ومعلقاً على قوله (صلى الله عليه وسلم) “وَلْيَأْتِ إلى النَّاسِ الذي يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه": (هذا من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم) وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم ألاَّ يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه) (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة: باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (3/1472 - 473 برقم 1844). (2) شرح مسلم للنووي (12/ 323).
مناقشة دليلهم الخامس: ما استدلوا به على أن الاجتماع للتعزية يحصل فيه بدع ومخالفات شرعية، كصنع الطعام من أهل الميت للناس، والنياحة، وغيرها وكل هذا مُحَرَّمٌ ولا يجوز.
فالجواب عنه: أنه إذا وجد المنكر في أي مكان كان، سواءً كان في مجلس التعزية أو غيره، فإنه لا يجوز الجلوس فيه بعد النكير على أهل المنكر.
وذلك متقرر بقوله تعالى: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا” (1).
قال الإمام القرطبي: (فكل مَنْ جلس في مجلس معصية، ولم يُنكِر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن يُنكِرَ عليهم إذا تكلموا بالمعصية، وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النَّكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية) (2).
وقال أيضاً: (وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بيَّنَّا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى) (3).
قال الإمام ابن الجوزي (ت597هـ) -رحمه الله تعالى-: (وقد نبهت الآية عن التحذير من مجالسة العصاة؛ قال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة، فيرضى الله بها، فتصيبه الرحمة، فتعم من حوله؛ وإن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السخط، فيعم من حوله) (4). ------------------------------------------ (1) سورة النساء آية: 140. (2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 268). (3) الجامع لأحكام القرآن (5 /268). (4) زاد المسير (2/ 228-229).
قال الإمام النووي (ت 676هـ) -رحمه الله تعالى- عند حديثه عن الجلوس للتعزية، وبعد نقله لرأي مذهب الشافعية القائلين بالكراهة: (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح: “إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة") (1).
فيحرم بعد هذا البيان الجلوس في أي مجلس يُعصى الله -تعالى- فيه، سواءً كان مجلس تعزية أو غيره، ويجب تذكير من فيه بالله -تعالى-، وتخويفهم به، فإن أبوا فلا يجالسون، والتعامل مع أهل البدع أشد من التعامل مع أهل المعاصي، لأن أهل البدع أخطر على المسلم من أهل المعاصي.
قال الإمام أبو محمد البربهاري: (وإذا رأيت الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء فحذره وعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه، فإنّه صاحب هوى) (2). ------------------------------------------ (1) الأذكار (ص: 160). (2) شرح السنة للبربهاري (ص: 44).
وأما ما نقل عن العلماء من منع الجلوس للتعزية، فالجواب عن ذلك ما يلي (1): 1- أما ما جاء عن الإمام الشافعي (ت204هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه الأم (2): (وأكره المآتم، وهو الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن، ويكلف المؤنة، مع ما مضى فيه من الأثر).
فالجواب عنه: أن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- حَدَّدَ المآتم لما فيها من تجديد الحزن، ولا خلاف في تحريم المآتم، واستند أيضاً على أثر جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- الذي سبق تحريره (3)، وقد رأيتَ أن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، ولو صح فقد تم بيان فقهه.
2- وأما استدلالهم بجواب الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) -رحمه الله تعالى- عندما سئل عن أولياء الميت يقعدون في المسجد يعزون؟ فقال: (أما أنا فلا يعجبني أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت) (4). ------------------------------------------ (1) لعل من ينظر إلى ما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه، يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا، وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك، وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا، وما مثلهم ومثلنا، إلا ما ذكر أبو عمرو ابن العلاء: (ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال). مقتبس من كلام الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في "الموضح (1/5) ". (2) (1/248). (3) تحرير حديث جرير بن عبدالله البجلي ? (ص: 120ـ 128). (4) مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني (ص: 138 ـ 139). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني السبت 16 ديسمبر 2017, 8:57 pm | |
| فالجواب عنه: أنه يظهر من كلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه لم يقل بتحريمه، ولا حتى منعه، وسبب خوفه منه هو ما بيَّنه بقوله: (أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت) فالذي لم يعجبه في الجلوس هي العلة التي ذكرها، لا الجلوس نفسه؛ ولأنه -رحمه الله تعالى- رَخَّصَ في الجلوس في غير موضع كما ذكره عنه الخلال وغيره) (1).
3- وأما قول الإمام الشيرازي -رحمه الله تعالى- في المهذب في (باب: التعزية، والبكاء على الميت): (فصل في الجلُوس للتعزية: ويكره الجلوس للتعزية؛ لان ذلك محدث، والمحدث بدعة) (2).
فالجواب عنه: بأن كلامه -رحمه الله تعالى- مردود بحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين المتقدم وفيه: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء) (3)، ومعلوم أن الناس عند اجتماعهم لا يقصدون بذلك عبادة يتقربون بها إلى الله -تعالى- لابد من الإتيان بها، وإذا لم يأتي بها الشخص فإنه آثم. ------------------------------------------ (1) الإنصاف (2/396). (2) من المجموع شرح المهذب (5/275). (3) سبق تخريجه (ص: 58).
وأما قوله مُحْدَثٌ، والمُحْدَثُ بدعة: فكيف يكون هذا العمل بدعة وقد ورد عن السَّلف فعله، كما في حديث أم المؤمنين عائشة ـرضي الله عنهاـ، لكن لعل الإمام الشيرازي يريد بقوله محدث إذا أضيف إليه أمر مبتدع، كما فهم ذلك الإمام النووي وذكره بقوله (1): (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح: “إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة").
4- وأما قول النووي (ت676هـ) ـرحمه الله تعالى- (2): (قال الشافعي وأصحابنا ـرحمهم الله تعالى- يكرهون الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي -رحمه الله-، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المُحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح: “إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"). ------------------------------------------ (1) الأذكار (ص: 160). (2) المصدر السابق.
فأقول: يظهر من نقل النووي -رحمه الله تعالى- أنه يحرر قول المذهب أما رأيه هو فقد بيَّنه بقوله: (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر)، وقوله بالكراهة لعل سببه هو ما حصل في عصره من تجاوزات الناس في الجلوس من الإتيان بالمنكرات والبدع وهذا ظاهر جلي من قوله -رحمه الله-: (كما هو الغالب منها في العادة)، أي في عادة الناس في عصر كما يفهم من السياق.
5- وأما قول الإمام ابن قدامة (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-: (قال أبو الخطاب: يكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقيل: يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجاً للحزن، وقال أحمد: أكره التعزية عند القبر إلا لمن لم يعزِ، فيعزى إذا دفن الميت، أو قبل أن يدفن) (1).
فالجواب عنه: أن ما نقله ابن قدامة -رحمه الله تعالى- فهو يدور حول قضية تهييج الأحزان، وتذكيراً بالمصاب، وقد جليت ذلك عند الإجابة على الاستدلال بأن الجلوس للتعزية فيه تجدد الحزن، وإدامته (2).
6- وأما قول الإمام المرداوي (ت885هـ) -رحمه الله تعالى-: (ويكره الجلوس لها، هذا المذهب وعليه أكثر أصحابنا ونص عليه، قال في الفروع: اختاره الأكثر، قال في مجمع البحرين: هذا اختيار أصحابنا)، ونقل أيضاً فقال: (قال الخلال: سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع، وعنه الرخصة لأهل الميت نقله حنبل، واختاره المجد، وعنه الرخصة لأهل الميت ولغيرهم، خوف شدة الجزع. وقال أحمد: أما والميت عندهم: فأكرهه) (3). ------------------------------------------ (1) المغني (2 /342). (2) (ص: 136-138). (3) الإنصاف (2/396).
فيظهر من هذا الكلام: أن مسألة الجلوس الخالي من المنكر وتهييج الأحزان مسألة دار فيها الخلاف، فهي محل نظر، أي الأمر فيها واسع فكيف يضيق على الناس، ويحرج عليهم في مسألة خلافية، فمسألة فيها خلاف بين العلماء كيف يحكم عليها بأنها بدعة؟! والله المستعان.
7- وأما قول الإمام الطرطوشي (ت530هـ) -رحمه الله تعالى-: (قال علماؤنَا المالكيون: التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به، فإنه لما جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) نعيُّ جعفر؛ جلس في المسجد محزوناً، وعزاه الناس) (1).
قلت: أما قوله -رحمه الله تعالى-: (التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه) فيُرد على هذا القول بالأدلة والآثار الصحيحة التي استدل بها أصحاب القول الأول.
وأما قوله: (فصل المآتم: فأَما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء: قال الشافعي: (وأَكـره المآتم، وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن).
والمأتمُ: هو الاجتماع في الصُّبْحَة، وهو بدعة منكرة لم يـُنقل فيه شيء.
وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة، فهو طَامَّةٌ (2). ------------------------------------------ (1) الحوادث والبدع (ص: 170). (2) الحوادث والبدع (ص: 175).
قلت: أما المآتم، والاجتماع في المقبرة، وتجديد الحزن فهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في الجلوس للتعزية عند أهل الميت بدون تسخط وجزع ونياحة.
ومعنى الصُّبْحَة التي قال عنها الإمام الطرطوشي: (أنها بدعة منكرة لم ينقل فيها شيء).
هي: (تبكيرهم إلى قبر ميِّتهم الذي دفنوه بالأمس، هم وأقاربهم ومعارفهم، ومن فـرش البُسُط وغيرها في التُّربة لمَنْ يأتي إلى الصُّبْحَة وغيرها) (1).
8- وأما قول الإمام ابن القيم (ت 751هـ) -رحمه الله تعالى-: (وكان من هديه ? تعزيةُ أهلِ الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، و يقرأ له القرآن، لا عند قبره و لا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة) (2).
فأقول: كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- واضح فيمَنْ اجتمع للتعزية وجمع مع الجلوس أمراً غير مشروع، بل هو من البدع المحدثة وهو الاجتماع لقراءة القرآن الكريم للميت (3)، فجيء بعبادة في موضع لم يرد عن الشارع الحكيم أمراً بفعلها... ------------------------------------------ (1) أحكام الجنائز للألباني (ص: 322-323)، وكتاب إصلاح المساجد عن البدع والعوائد للإمام القاسمي (ص: 270-271). (2) زاد المعاد (1/527). (3) وسأبين هذه البدعة في مبحث بدع ومخالفات العزاء عند الحديث عن حكم الاجتماع لقراءة القرآن الكريم للميت (ص: 225 ).
ومعلوم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يرد الدليل من الشارع (1)، ولا دليل هنا، أما مَنْ حمل كلام ابن القيم على الجلوس ذاته فلا يسلم له.
9- وأما قول الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- في مسألة قصد التعزية، والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم قال: (هذا ليس له أصل من السنة، ولكن إذا كان الإنسان قريبا لك وتخشى أن يكون من القطيعة ألا تذهب ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت، وتلقي المعزين لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومن صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم.
فهاهنا أمران: الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع اللهم إلا كما قلت إذا كان من الأقارب ويخشى أن يكون ترك ذلك قطيعة.
الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) (2). ------------------------------------------ (1) وهذه القاعدة متقررة عند علمائنا ـ رحمهم الله-تعالى- قال الشاطبي في الاعتصام (1/45): (وهذا أصل في أن الأصل في العبادات المنع والحظر)؛ وقد قررها الإمام السعدي في منظومته بقوله: وليس مشروعاً من الأمور غير الذي في شرعنا مذكور قال الشيخ السعدي: (وهذان الأصلان ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتبه وذكر أن الأصل الذي بنى عليه الإمام أحمد مذهبه: أن العادات الأصل فيها الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما ورد تحريمه، وأن الأصل في العبادات أنه لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله) رسالة في القواعد الفقهية (ص: 31). (2) سبعون سؤالاً في أحكام الجنائز (ص: 30).
قلت: يظهر من تتبع كلام الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- أن سبب منعه للجلوس يظهر من أنه يعتمد على حديث جرير المشهور، مع الاعتماد على الاستقراء الذي ظهر له بأن السلف لم يكونوا يجتمعون.
وأما حديث جرير فقد ظهر ضعفه، وقد فقهه الشيخ ابن عثيمين -لأنه يرى صحته- ويظهر ذلك من قوله في آخر كلامه السابق بقوله: (الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة)، فإذا كان الاجتماع لوحده فهل يقال بأنه لا يجوز؟!.
ويرد ما ذهب إليه من قوله -رحمه الله تعالى-: (وهذا لا أصل له) حديث عائشة -رضي الله عنها-: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها ...) (1)، وغيره من الأدلة مما استدل به أصحاب القول الأول.
وأما استقراء حال السلف فقد وضحته فيما سبق (2). ------------------------------------------ (1) سبق تخريجه (ص: 58). (2) (ص: 131-136).
وأما قول الشيخ ابن عثيمين ـرحمه الله تعالى-: (وإنما يغلقون البيت، ومَنْ صادفهم في السوق أو في المسجد عزَّاهم).
فالسؤال هنا كيف يُعَزَّى مَنْ لا يستطيع الخروج من المنزل من النساء، والأطفال، وكبار السن الذين لا يستطيعون الخروج من البيت، ولا يذهبون إلى مسجد أو سوق؟ بل قد يكون مواساة هؤلاء الضعفة أولى من مواسات غيرهم لشدة حاجتهم إلى التعزية والمواساة.
ويظهر أن الاجتماع المعتاد عند بعض الناس اليوم، ليس فيه محذور من الناحية الشرعية، فالأمر لا يعدو أن يكون جلوساً يسلي الأقارب فيه بعضهم بعضاً، ويتناسون فيه المصيبة، ويتسنى باجتماع الأقارب والأرحام أن يعزيهم الناس من غير كلفة ومشقة، لا على أهل المصاب، ولا المعزين، بل يظهر أن أكثر من يعزي لا يجلس ويبقى للتعزية، بل يعزي ويخرج ولا يطيل المكث.
الرَّاجح في هذه المسألة: الذي ترجَّح لي في هذه المسألة هو القول الأول، فلا بأس بالجلوس لاستقبال المُعَزِّينَ وذلك بشروط: 1- أن يخلو المجلس من المنكرات، والبدع. 2- ألاَّ يكون فيه تجديد للحزن، وإدامة له. 3- ألاَّ يكون فيه تكلفة مالية على أهل الميت، وإثقال عليهم. 4- ألاَّ يصاحب الجلوس نياحة، أو تسخط، أو جزع. 5- ألاَّ يطيل المعزي المكث عند أهل الميت، حتى لا يفضي ذلك إلى الإثقال عليهم. 6- ألا يكون في جلوسه تضييع لمصالحه الشخصية، أو لمصالح المسلمين. فإذا كان مجلس العزاء خالياً من هذه المحاذير فالجلوس فيه مباحٌ لا بأس به. والله -تعالى- أعلم.
1- مسألة: حكم إطالة المُكث من بعض المُعَزِّينَ عند أهل الميت (1). بعض الناس يأتي ليعزي أهل الميت، فيحمله الشفقة عليهم، أو يدفعه حب الوقوف بجانب أهل الميت لكي يستقبل معهم من يعزي، فهذا الأمر لا يخلو من أن يكون بقاء هذا الشخص فيه تسلية لأهل الميت، فلا بأس ببقائه؛ وأما إن كان في وجوده إثقال على أهل الميت، فهذا العمل لا يجوز، لما فيه من إيذاء لهم، وإثقال عليهم. ------------------------------------------ (1) قد ذكرت هذه المسألة ضمن شروط جواز الجلوس (ص: 150)، وأقد أفردتها هنا لأهميتها.
وقد يكون بقاء بعض الناس، وجلوسه فيه تضييع لمصالحه الشخصية، أو لمصالح المسلمين فهذا الجلوس لا يجوز. والله -تعالى- أعلم.
2- مسألة: حكم ما لو اتفق جماعة ممن يريدون التعزية أن يذهبوا سوياً لأهل العزاء. الذي يظهر من استقراء النصوص أنه ليس في ذلك بأس، بل إنه أفضل للمعزِّي والمُعزَّى، فإنه مما يعين المُعزِّي، ولا يتعب المُعزَّى، وهو من التعاون على البر والتقوى.
ومما يدل على ذلك ما جاء من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتعهَّد الأنصار، ويعُودُهم، ويسأل عنهم، فبلغ النبي (صلى الله عليه وسلم) أن امرأة من الأنصار مات ابنها فجزعت، فقام إليها ومعه أصحابه يُعَزّيهَا فقال: “أما إنه بلغني أنكِ جزعتِ"، قالت: مالي لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “الرَّقُوبُ الذي يبقى ولدُها” ثم قال: “ما من امرئٍ أو امرأةٍ مسلمةٍ يموت لها ثلاثة أولاد إلا أدخلهم الله بهم الجنة"، فقال عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله بأبي أنت وأمي واثنان، قال: "واثنان” (1). ------------------------------------------ (1) أخرجه الحاكم (1/483) ووافقه الذهبي وقال: (صحيح الإسناد)، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/136)، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/8) وقال أخرجه البزار وقال: (رجاله رجال الصحيح).
فَدَلَّ الحديث على أن الاجتماع للذهاب للتعزية لا بأس به، ولو كان فيه ما يمنع ذلك لما ذهب أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) معه، ولما أذن لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالذهاب معه، ومتقرر عند الفقهاء أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومما يدل على ذلك أيضاً فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما أرسلت له ابنته، فكان يكفي أن يذهب لها لوحده، لكنه (صلى الله عليه وسلم) أخذ معه أسامة، ومعاذ، وأبَيُّ بن كعب، وعُبادة بن الصامت، مما يدل على أن ذلك الأمر واسع.
فعن أسامة -رضي الله عنه- قال كان ابن لبعض بنات النبي (صلى الله عليه وسلم) يقضي فأرسلت إليه أن يأتيها فأرسل: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلٌ إلى أجلٍ مُسَمَّى، فلتصبر ولتحتسب” فأرسلت إليه فأقسمت عليه فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقمت معه، ومعاذ بن جبل، وأبَيُّ بن كعب، وعُبادة بن الصَّامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصبي ونفسه تقعقع في صدره، حسبته قال: كأنها في شنة فبكى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أتبكي فقال: "إنما يرحمُ اللهُ من عباده الرُّحماء” (1).
وكذلك لم يرد دليل على المنع من ذلك، فتبقى المسألة على الأصل وهو جواز ذلك الفعل حتى يدل الدليل على منعه.
لأن الأصل في العادات الإباحة حتى يأتي الدليل بالمنع، كما سبق تقرير ذلك (2). ------------------------------------------ (1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد: (الفتح 15/307 برقم 7377)، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب البكاء على الميت (2/635 برقم 923)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب في البكاء على الميت (3/251 برقم 3125)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب الأمر بالاحتساب والصبر على المصيبة (4/321-322 برقم 1867). (2) (ص: 106-108). |
| | | | الفصل الثاني | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|