الباب الثاني
عظمة فضائل القرآن.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: عظمة الفضـــــائل العامة.
الفصل الثاني: عظمة الفضائل المفصلة.
تمهيد
معنى «فضائل القرآن»:
جاءت لفظة «الفضيلة» في اللغة لعدة معان، نأخذ منها ما يدل على المقصود.
* الفضيلة:
ضد النقيصة، وهي كذلك الدرجة الرفيعة في الفضل (612).
* «وفضيلة الشيء:
مزيته أو وظيفته التي قصدت منه، يقال: فضيلة السيف إحكام القطع، وفضيلة العقل إحكام الفكر، والجمع فضائل» (613).
* والفضائل:
هي المزايا غير المتعدية (614).
* وجاء في الدعاء عند النداء قوله -صلى الله عليه وسلم-: «آت محمدًا الوسيلة والفضيلة» الحديث (615).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرحه للحديث (616):
«(والفضيلة) أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل: أن تكون منزلة أخرى أو تفسيرًا للوسيلة».
وإن المتتبع لغالب المعاجم اللغوية في معنى كلمة «فضائل» أو «فضيلة».
يجد نوعًا من الاضطراب في المعنى أحيانًا، أو ندرةً في بيان المقصود والإفصاح عنه، أو استطراداً يشتت الذهن ولا يفي بالغرض المطلوب، وهذا هو السبب الرئيس في الاقتصار على ما ذُكر في التعريف اللغوي لكلمة «فضائل».
ومع هذا يمكن أن نخلص إلى تعريف لــ«فضائل القرآن» بأنها:
«المزايا التي جاءت في ثواب تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه وحفظه وتدبره والعمل به عمومًا، أو المزايا التي جاءت في بعض السور والآيات، أو ما يحصل لقارئه من الأثر المترتب على ذلك في الدنيا والآخرة» (617).
أو نعرِّف «فضائل القرآن» بعبارة أدق وأوجز بأنها:
«المزايا التي خصت بها بعض السور أو الآيات من الأجر والأثر العاجل أو الآجل».
* * *
الفصل الأول
عظمة الفضائل العامة.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الآيات الدالة على عظمة فضــــــائل القرآن.
المبحث الثاني: الأحاديث الدالة على عظمة فضائل القرآن.
المبحث الثالث: آثار السلف المبينة لعظمة فضـائل القرآن.
المبحث الأول
الآيات الدالة على عظمة فضائل القرآن.
وفيه عشرة مطالب:
المطلب الأول: القرآن كلام الله المنزل.
المطلب الثاني: القرآن شرف للعرب خاصة وللأمة عامة.
المطلب الثالث: القرآن يهدي للتي هي أقوم.
المطلب الرابع: القرآن كتاب مبارك.
المطلب الخامس: القرآن تبيان لكل شيء.
المطلب السادس: القرآن فضل الله المفرح لعباده.
المطلب السابع: القرآن هدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
المطلب الثامن: القرآن بصائر للمؤمنين.
المطلب التاسع: القرآن نور.
المطلب العاشر: القرآن حياة للمستجيبين له.
* * *
تمهيد
القرآن العظيم هو كتاب الله المبين، والتنزيل الحكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلقد أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير؛ ليخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، وهو الحق القاطع والنور الساطع المستقيم، والمنهج القويم الذي فرض الله على العباد أن يؤمنوا به، ويهتدوا بهديه، وينتهجوا سبيله، ويلزموا طريقه في الأقوال والأعمال، وسائر الشئون والأحوال، ولم ينزل ليكون سفرًا في التاريخ أو العلوم أو الأدب أو غيرها من المعارف الإنسانية، وإنما نزل لهداية البشرية جمعاء، ويُعد أدق وثيقة سماوية بين يدي المجتمع البشري.
وبهذا يفضل القرآن سواه من الكتب السماوية، ويتقدَّم على غيره من الكتب المنزلة، فله فضائله التي أبرزت عظمته ومكانته وقدره.
وهذا ما سنتناوله في هذه المطالب:
المطلب الأول القرآن كلام الله المُنزَّل:
كفى بالقرآن العظيم فضلًا وشرفًا أنه كلام العليم الحكيم تبارك وتعالى منه بدأ وإليه يعود، قال سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) [التوبة: 6].
تفيد هذه الآية الكريمة أن القرآن المتلوَّ المسموع المكتوب بين دفتي المصحف هو كلام الله على الحقيقة، وليس هو حكاية لكلام الله.
وإضافته إلى الله عز وجل تدل على أنه صفة له قائمة به، وليست كإضافة البيت أو الناقلة؛ فإنها إضافة معنى إلى الذات.
ودلت هذه الآية أيضًا على أن القرآن منزل من عند الله، بمعنى أن الله تكلم به، وقد تلقاه جبريل عليه السلام، فنزل به، وأداه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تلقاه من الرب جل شأنه (618).
وفي هذه الآية الكريمة كذلك «حجة صريحة، لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها» (619).
فمن فضل القرآن أنه كلام رب العالمين غير مخلوق، كلام من ليس كمثله شيء، وصفة من ليس له شبيه ولا ند، ولولا أن الله تعالى جعل في قلوب عباده من القوة من مكنها من حمله لتتدبره وتعتبر به وتتذكر ما فيه من طاعته، وعبادته، وأداء حقوقه وفرائضه، لعجزت القلوب عن حمله، بل لتضعضعت منه، وأنى لها أن تطيقه والله تعالى يقول: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21].
فأين قوة القلوب من قوة الجبال؟ ولكن الله رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلًا منه ورحمة (620).
* * *
المطلب الثاني القرآن شرف للعرب خاصة وللأمة عامة
لقد كان العرب يعيشون في جاهلية جهلاء، حيث عمهم الفساد من نواحٍ شتى في العقيدة والعبادة والأحكام والسلوك والنظم الاجتماعية، فانتقل بهم القرآن من أمة بلغت من التخلف والجهل والسوء أقصاه إلى أمة تسنمت ذروة المجد والكمال فكانت خير أمة أخرجت للناس فاعتزوا وسادوا على جميع الأمم.
فللقرآن العظيم أكبر الفضل على العرب خاصة، في نيل هذه المنقبة، وبلوغ هذه المرتبة، فقد حفظ كيانها ووجودهم حين حفظ لغتهم، ولولا فضل الله تعالى على العرب بالقرآن لبادوا كما بادت أمم كثيرة.
بل مدَّ القرآن العظيم سلطان العربية إلى حيث بلغ في مناطق الدنيا كآسيا وأفريقيا وأوروبا (الأندلس) وغيرها فأصبحت اللغة العربية لغة الحضارة والمدنية، وأصبح كل مسلم يشعر أن العربية لغته إذ إن القرآن قد نزل بها.
فالقرآن الكريم إذًا هو أعظم وسيلة لتعريب الشعوب الأعجمية، ولنشر أفكار المسلمين وثقافتهم بين مئات الملايين من الناس غير العرب.
والمسلمون –ولاسيما العرب منهم– مدعوون في الوقت الحاضر لإنقاذ العالم بقرآنهم العظيم من تكالب الأحزاب المادية المتصارعة لاستذلاله ونهب خيراته، كما أنقذوه بالأمس من سيطرة الإمبراطوريات الطبقية (621).
وقد وردت ثلاث آيات تدل صراحة على أن القرآن شرف وفخر للعرب خاصة وللأمة عامة.
وهي على النحو التالي:
1- قول الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44].
قال القرطبي -رحمه الله-(622):
«يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم؛ نظيره: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء: 10] أي: شرفكم.
فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب؛ فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم، كل من آمن بذلك فصاروا عيالًا عليهم؛ لأن أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الأمر والنهي وجميع ما فيه من الأنباء، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات، ولذلك سمي عربيًا».
ونص الآية –كما ذكر المفسرون– يحتمل أحد مدلولين:
1- أن القرآن تذكير للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولقومه وسيسألون عنه يقوم القيامة، فلا حجة لهم بعد التذكير.
2- أن القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك. وهذا ما حدث حقًا.
فأما رفعه لذكره -صلى الله عليه وسلم- فإن مئات الملايين من ألسن المؤمنين تلهج بالصلاة والسلام عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، ومئات الملايين من القلوب تخفق بحبه منذ ذلك الزمن البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما رفعه لذكر قومه فقد جاءهم هذا القرآن والناس لا يعبئون بهم بل يزدرونهم ويعدونهم من سقط المتاع، فجعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية، فقد واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الزمن الذي استمسكوا به (623).
2- قوله تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء: 10].
فقوله تعالى: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، أي شرفكم، وفخركم، وارتفاعكم، فإذا امتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم.
فإن المؤمنين بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة فمن بعدهم، حصل لهم منه الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو معلوم لكل أحد (624).
ولقد كان ذكر العرب ومجدهم بالقرآن حين حملوا رسالته فشرقوا به وغربوا، فلم يكن لهم ذكر قبله.
ولا يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد، ولا يملكون من منهج يقدمونه للإنسانية سوى هذا المنهج، فالبشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة، لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب.
فذلك لا يساوي شيئًا في تاريخ البشرية (625).
3- قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [سورة ص: 1].
قال السعدي -رحمه الله-(626):
«أي: ذي القدر العظيم، والشرف، المذكر للعباد، كل ما يحتاجون إليه من العلم، بأسماء الله وأفعاله، ومن العلم، بأحكام الله الشرعية، ومن العلم، بأحكام المعاد والجزاء.
فهو مذكر لهم، في أصول دينهم وفروعه.
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه، فإن حقيقة الأمر، أن المقسم به وعليه شيء واحد، وهو: هذا القرآن، الموصوف بهذا الوصف الجليل.
فإذا كان القرآن بهذا الوصف، علم أن ضرورة العباد إليه فوق كل ضرورة...».
بعد هذا كله فماذا عسانا أن نقول في فضل كتاب أنقذ الله به أمة من جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، دأبهم السلب والنهب، ومعبودهم الأوثان والحجارة، وديدنهم توارث العداوات والأحقاد، فجعلهم الله به خير أمة أُخرجت للناس.
* * *
المطلب الثالث القرآن يهدي للتي هي أقوم:
قال تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].
«ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا، (يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي يهدي للطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب،...
وهذه الآية العظيمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة» (627).
والقرآن «يهدي للتي هي أقوم من هدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله: (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) [الإسراء: 2].
ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم» (628).
فكل حال هي أقوم في العقائد والأخلاق والأعمال، والسياسات، والصناعات، والأعمال الدينية والدنيوية، فإن القرآن العظيم يهدي إليها ويأمر بها ويحث عليها.
فأما العقائد:
فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها إصلاح القلوب وغذاؤها وكمالها؛ لأنها تملأ القلوب محبة لله وتعظيمًا له وإنابة إليه.
وأما الأخلاق:
فإنه يدعو إلى التحلي بكل خلق جميل، من الصبر والحلم والعفو، وحسن الخلق، والآداب، وجميع مكارم الأخلاق، ويحث عليها بكل طريق، ويرشد إليها بكل وسيلة.
وأما الأعمال الدينية:
فإنه يهدي إلى أحسنها من القيام بحقوق الله وحقوق العباد، على أكمل الحالات وأجلها، وأسهلها وأوصلها إلى المقاصد.
وأما السياسات الدينية والدنيوية:
فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المصالح الكلية ودفع المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم تتضح مصلحته، والعمل ما تقتضيه المصلحة في كل وقت، بما يناسب ذلك الوقت والحال، حتى في سياسة العبد مع أولاده وأهله وأصحابه ومعامليه.
فلا يمكن أن توجد حالة يتفق العقلاء أنها أقوم من غيرها وأصلح، إلا والقرآن يرشد إليها نصًا أو ظاهرًا أو دخولًا تحت قاعدة من قواعده الكلية (629).
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هدايته إلى حل المشكلات العالمية بأقوم الطرق وأعدلها (630).
* * *
المطلب الرابع القرآن كتاب مبارك:
وصف الله تعالى كتابه العظيم بأنه مبارك في أربعة مواضع، وهي:
1- قوله تعالى: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأنعام: 92].
2- وقوله: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
3- وقوله: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) [الأنبياء: 50].
4- وقوله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
والبركة هي ثبوت الخير ودوامه، وكثرته وزيادته، وهذا شأن القرآن العظيم (631).
وهذا ما أكده العلامة ابن القيم -رحمه الله- بقوله (632):
«وهو [القرآن] أحق أن يسمى مباركًا من كل شيء؛ لكثرة خيره ومنافعه، ووجوه البركة فيه».
ولأنه اشتمل على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين (633).
بل «فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من كل داء، ونور يستضاء به في الظلمات.
وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم، منذ أنشأه الله» (634).
فالقرآن مبارك في أصله لأنه كلام الله، ومبارك في حامله –جبريل عليه السلام– ومبارك في محله قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومبارك في حجمه ومحتواه، فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخامة الكتب التي يكتبها البشر، لكنه يحتوي في كل آية منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام، ومبارك في تلاوته، ومبارك في علومه ومعارفه، ومبارك في معانيه ودلالاته، ومبارك في آثاره، ومبارك في أهدافه الواقعية (635).
وهذا ما أكده أيضًا العلامة ابن عاشور -رحمه الله- بقوله (636):
«ووصف القرآن بالمبارك يعم نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير؛ فالقرآن كله خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها، وسرعة حفظه، وسهولة تلاوته، وهو أيضًا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية،... وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان، وانتفع به من آمنوا به وفريق ممن حرموا الإيمان.
فكان وصفه بأنه مبارك وافيًا على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء».
وحينما نوازن بين القرآن والتوراة في الحجم نجده أصغر منها، ولكن إذا تأملنا البركة التي في القرآن فسنجدها بركةً لا تنتهي؛ فكل يوم يعطي القرآن المبارك عطاءً جديدًا، ولا تنقضي عجائبه، ويقرأه الناس فيفهم هذا منه معنى، وآخر يفهم معنى جديدًا.
وهذا دليلٌ على أن قائله تعالى حكيم، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة.
فهذا هو معنى قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) [ص: 29].
وكل كتاب سبق هذا الكتاب المبارك له زمن محدود، وأمة محدودة، أما القرآن فهو يواجه –منذ أن أنزله الله تعالى إلى قيام الساعة– قضايا متجددة يضع لها حلولًا مناسبة.
وقد جاء القرآن المبارك متوافقًا مع طموح البشرية، وحضارتها وارتقائها في العقول، لذلك كان له السبق دائمًا في مواجهة هذه الأمور التي يحتاجها البشر في كل مكان وزمان ولا يكون ذلك إلا إذا كان مباركًا (637).
فنرجو الله تعالى القريب المجيب أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك في الدنيا والآخرة، إنه سميع عليم.
* * *
المطلب الخامس القرآن تبيانٌ لكل شيء:
قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89].
«قال ابن مسعود -رضي الله عنه-:
وقد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء.
وقال مجاهد -رحمه الله-:
كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود أعمُّ وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم» (638).
فالقرآن حوى كثيرًا من علوم الدنيا مصداقًا لقول ابن مسعود -رضي الله عنه- تصريحًا، أو تلميحًا، أو إشارة، أو إيماءًا.
ولا يزال البحث العلمي في علوم الإنسان، والحيوان، والنبات والثمار، والأرض، والبحار، والفضاء، والأفلاك، والظواهر الكونية والأرضية يتوصل إلى معلومات حديثة مهمة، ذكرها القرآن العظيم قبل قرون طويلة، مما جعل كثيرًا من الباحثين الكفار يؤمنون ويهتدون.
فكل ما يحتاج إليه البشر لإصلاح حالهم ومعادهم موجود في القرآن (*).
بين ذلك ابن عاشور -رحمه الله- بقوله (639):
«و (لِّكُلِّ شَيْءٍ) يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدني، وتبين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كله أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانًا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قفاه به أصحابه وعلماء أمته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعد للطائعين وما أعد للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة.
ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصر بهذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيق بضمنه ولوازمه، وهذا من أبدع الإعجاز» (*).