عهدكم بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاث عشرة سنة1وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون: قراءة أبيّ، وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على كل رجل منكم، ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به.
فاستجاب الناس، فكان الرجل يجيء بالورقة، والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة.
ثم دخل عثمان -رضي الله عنه- فدعاهم رجلاً رجلاً، وناشدهم بالله: لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أمله عليك؟ فيقول: نعم.
ثم قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت.
قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص2فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها، وقال للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا3ونسخوا الصحف في المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة.
----------------------------
1 انظر فتح الباري (9/ 17).
2 ابن أبي داود، المصاحف (23- 24)، ط قرطبة، 31 ط العلمية، وفي الإسناد مجهول، انظر الملحق الرواية رقم: [143].
3 صحيح البخاري، فتح الباري (9/ 9) وهو في الملحق الرواية رقم: [29].
----------------------------
وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار1.
وبعد أن سردت قصة جمع القرآن منذ بدايتها وحتى انتهائها، نعود إلى ما نُقل عن بعضهم من تحويل هذه الفضيلة من فضائل عثمان -رضي الله عنه- إلى عيب يعاب به.
فإنَّ عثمان -رضي الله عنه- لم يبتدع في جمعه المصاحف؛ بل سبقه إلى ذلك أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- كما أنه لم يصنع ذلك من قبل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة -رضي الله عنهم- وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضاً: قد أحسن؛ أي: في فعله في المصاحف.
فقد أدرك مصعبُ بن سعد صحابةَ النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حين مشق2عثمان -رضي الله عنه- المصاحف فرآهم قد أُعجبوا بهذا الفعل منه3.
وكان علي -رضي الله عنه- ينهى من يعيب على عثمان -رضي الله عنه- بذلك ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً -أو
----------------------------
1 رواه الطبراني في الرواية التي تقدم تخريجها، وأصله في صحيح البخاري، الفتح (9/11، انظر الملحق الرواية رقم: [30].
2 المشق هو: الحرق (ابن منظور، لسان العرب 10/ 344.
3 البخاري، التاريخ الصغير (1/ 94)، وإسناده حسن لغيره، انظر الملحق الرواية رقم: [142].
----------------------------
قولوا خيراً- فوالله ما فعل الذي فعل -أي في المصاحف- إلا عن ملأ منا جميعاً أي الصحابة... والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل1.
وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق، على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى، أن الواجب على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان -رضي الله عنه- وحفظ الله به القرآن.
ولم يثبت أن ابن مسعود -رضي الله عنه- خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، -حسب ما وقفت عليه من الروايات-.
كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك، تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك.
وقال: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه... وكتب بذلك إلى عثمان2.
ولم يثبت أن عثمان -رضي الله عنه- خص مصحف ابن مسعود
----------------------------
1 ابن أبي داود، المصاحف (28- 30)، العلمية، ومن طريقه ابن عساكر (241- 242)، ورواه أيضاً من غير طريقه (237- 239)، وإسناده صحيح، وقد صححه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 9/ 18، انظر الملحق الرواية رقم: [44].
2 ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (239- 240) من رواية سيف بن عمر التميمي، وهو ضعيف، انظر الملحق الرواية رقم: [290].
----------------------------
بالحرق، وعلى فرض صحة ذلك، فإن المحب الطبري يرى أن فعله ذلك دواء لمفسدة كبيرة في الدين، لكثرة ما في مصحف ابن مسعود من الشذوذ المنكر عند أهل العلم بالقرآن، وبحذفه المعوذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنهما في القرآن1.
ولعل سبب ذلك أن ابن مسعود كان يكتب ما يوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه، فاختلف ترتيبه عما امتازت به مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدر ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم.
ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته في مصحفه بعض ما استقصاه زيد بن ثابت ورفاقه من الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة، زد على ذلك أن ابن مسعود كانت تغلب عليه لهجة قومه من هذيل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- رخص لمثل ابن مسعود أن يقرؤوا بلهجاتهم الخاصة.
فكان من الخير توحيد الأمة على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وادعى الطحاوي، والباقلاني، وابن عبدالبر، أن قراءة القرآن على سبع لغات كان رخصة في أول الأمر، ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الحفظ، وكثرة الضبط، وتعلم الكتابة2.
----------------------------
1 الرياض النضرة (3/ 99).
2 ذكر ذلك محب الدين الخطيب، انظر العواصم من القواصم (ص: 84) حاشية رقم: (84).
----------------------------
وأما ما ذُكر من أن ابن مسعود -رضي الله عنه- خطب بالكوفة فقال: "أما بعد: فإن الله قال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وإني غال مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل"1.
فإني لم أقف على إسناده، وأقدم من ذكره ابن العربي المتوفى سنة 543هـ، وبينه وبين الحادثة ما يزيد على خمسة قرون.
وهل يتوقع حصول ذلك ممن ترك القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة؟ لا والله، لا يتوقع منه أن يصعد المنبر، ويحرض الناس على الخلاف.
مع أن القصر في منى عليه أدلة واضحة، تؤيد مذهب ابن مسعود فيه، بخلاف جمع القرآن فإنَّ الصحابة أجمعوا عليه، فهل يعقل أن يتابع ابن مسعود عثمان -رضي الله عنهما- فيما يدل على خلافه دليل واضح خشية الخلاف، ثم يخالفه فيما أجمع عليه إخوانه الصحابة رضوان الله عليهم بل ويحرض الناس على الخلاف بواسطة منبر الكوفة، وهو القائل: "إن الخلاف شر". فما أوهن هذه القصة، وما أحمق من لفقها.
وأما حرق أو خرق ما سوى مصحف عثمان -رضي الله عنه-، فإنه
----------------------------
1 العواصم من القواصم (84، وانظر المسند لأحمد (1/ 414) والمصاحف لابن أبي داود، طبعة العلمية (ص: 21- 23) فقد روي فيهما أن ابن مسعود قال ذلك، وليس في الرواية أنه خطب به في الكوفة.
----------------------------
جائز إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، وقد سلم بذلك الصحابة كلهم1.
فما أتمه عثمان -رضي الله عنه- من جمع المصحف وتثبيته وتوحيد رسمه فإنَّ له به أعظم المنة على المسلمين، وبه حقق الله وعده في قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2وأقر على عمله، وأمضاه برسمه وتلاوته في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به من أعظم حسناته، كما أن البغاة أنفسهم الذين عابوا عليه ذلك، كانوا في خلافته وبعدها يقرؤون في مصاحف عثمان التي أجمع الصحابة عليها3
والمقصود من كان منهم على بعض الخير ممن غرر به، أما أولئك المغرضون الزنادقة أمثال ابن سبأ، فلا تتوقع منهم قراءة قرآن، ولا فعل أي عبادة إلا نفاقاً وتستراً بها، وتغريراً لمن لا يعرف حقيقتهم، فإنهم إن قرأوا القرآن فإنهم لا يتجاوز حناجرهم كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصفه للخوارج.
ويظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- مدى فهم الصحابة-رضي الله عنهم- لآيات النهي عن الاختلاف، حيث إن الله
----------------------------
1 ابن العربي، العواصم من القواصم (83).
2 سورة الحجر، الأية (9).
3 ذكر ذلك محب الدين الخطيب، العواصم والقواصم (ص: 82) حاشية (80).
----------------------------
نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة -رضي الله عنه- عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فوراً إلى المدينة النبوية، وأخبر عثمان -رضي الله عنه- بما رأى وبما سمع، فسرعان ما قام عثمان يخطب الناس؛ يحذرهم من مغبة هذا الخلاف، ويشاور الصحابة رضوان الله عليهم في الحل لهذه المحنة التي بدأت بالظهور، وفي مدة قصيرة يحسم الأمر ويغلق باب الخلاف الذي كاد أن ينفتح، بجمع الصحف ونسخها في مصحف واحد من المصادر الموثوقة جداً.
وبإغلاق باب الفتنة هذه فرح المسلمون، بينما اغتاظ المنافقون الذين كانوا قد استبشروا ببوادر الخلاف التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر، ويسعون إلى تحقيقها.
ولما حسم الخلاف، ولم يجد أولئك طريقاً إلى استنهاضه، ازداد حقدهم على حاسمه ومغلق بابه وسعوا في التشنيع عليه وتصوير حسنته هذه سيئة، وتلمسوا في سبيل إثبات ذلك خيوط العنكبوت الواهية، ليطعنوا فيه ويسوغوا خروجهم عليه بها، مظهرين للناس أن هذه الحسنة سيئة تستوجب الخروج عليه.
وهذا ينبه المسلمين في كل زمان، ويعتبر به عقلاؤهم، فيسارعوا إلى رقع كل خلاف بينهم على أساس صحيح، مع المحافظة على أصول الإسلام، دون التنازل عن الحق، أو التسامح في شيء من الأصول عقيدة وشريعة.
فإن الاتفاق إن لم يكن على العقيدة الصحيحة، فلا خير فيه، وهو مظنة زيادة الخلاف، ورَقْعٌ يزيده فتقاً، فلا تترك أصول الإسلام تحت دعوى حسم ورقع الخلاف، ولكن على المخالف للعقيدة الصحيحة أن ينخلع من ربقة الانحراف إلى المعتقد الصحيح، ليحسم بذلك الخلاف؛ ومثل ذلك من يترك تصحيح العقيدة تحت دعوى جمع الشمل، وتوحيد الصف، وهذا كما تقدم يشتت الشمل، ويفرق الصف، أكثر مما كان عليه، والشواهد الحسية لا ينكر وجودها على الساحة الإسلامية اليوم إلا غافل أو متغافل.
فلم يترك الصحابة رضوان الله عليهم كل قارئ، على قراءته الصحيحة، بل جمعوهم على قراءة واحدة، فاجتمع شملهم وتوحد صفهم.
فهذا هو الطريق الصحيح إلى توحيد صف المسلمين، وجمع شملهم؛ فلا يتم ذلك إلا برجوعهم إلى الكتاب والسنة، وفهمهما فهماً صحيحاً مستمداً من فهم السلف الصالح لهما، وأن يعتصموا بهما، لتتحقق لهم الوحدة، فيجتمعون على عدوهم، ويرفع الله عنهم الفشل الذي استحقوه بسبب تنازعهم {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} 1.
وهذه ثمرة من ثمرات دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين، الحافل بالعبر ومواضع القدوة.
وبعد توصلنا إلى هذه الحقيقة التي كان عليها سلفنا الصالح، يتبين لنا بُعد من يترك دلالة القرآن، والسنة وراءه ظهرياً ويحكم عقله، ويرفض
----------------------------
1 سورة الأنفال، الآية (46).
----------------------------
دعوة القرآن والسنة متأولاً أن في غيرهما المصلحة.
إنه أولى ممن قرأ قراءة متواترة صحيحة بأن يعاد إلى الحق، وإلى دلالة الكتاب والسنة الصحيحة وإلى ترك كل ما يراه ويبتدعه عقله القاصر، إلى ما تدل عليه النصوص الصحيحة الصريحة، فلا يقدم بين يدي الله ورسوله أمراً ولا فكرة ولا وسيلة، بل يرجع إلى ما دعا إليه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}1.{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2.
فانظر إلى كيفية المعالجة الصحيحة للأمور، فإن القراء كانوا يعلمون أن قراءتهم صحيحة، تلقوها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك تنازلوا عنها، لأمر الخليفة، فاجتمعوا على قراءة واحدة في مصحف واحد.
ويلاحظ أن عثمان وحذيفة -رضي الله عنهما- كانا يعلمان ذلك أيضاً، فلم يقولا لكل قارئ: أنت على حق، وعلى قراءة متواترة، فأنت على قراءة أبيّ، وأنت عل قراءة ابن مسعود، وكلاهما صحابيان أخذا القرآن من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكل من قرأ على قراءة أحدهما فهو على حق.
----------------------------
1 سورة الحجرات، الآية (1).
2 سورة النساء، الآية (59).
----------------------------
ولكنهما تركا هذا الحق إلى ما هو أحق منه وهو الاجتماع، وعدم الفرقة، فكيف فيمن يُقرّ على خطأ أو شبهة تحت دعوى جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وتحت شعار: "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
بل يتجاوز ذلك بعضهم إلى دعوة أهل العقيدة الصحيحة إلى التخلي عن الحق الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة لمخالفة غيرهم لهم فيه، تحت تلك الشعارات المغرية في ظاهرها.
فعجباً من هؤلاء! لم لا يتركون أهل الحق على الحق، وإن حصل الخلاف؟ ويطلبون من أهل الباطل أو الشبه على أقل الأحوال أن يتركوا ما هم عليه من أجل جمع الكلمة وتوحيد الصف على الحق وبالحق.