أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: 77- اسم الله: "المـانــــــع" الثلاثاء 24 أبريل 2018, 11:08 pm | |
| والأمثلة في هذا المجال كثيرة لا حصر لها، كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى صرف عن أحبابه ما يبدو لهم أنَّه منعٌ وهو في الحقيقة عطاء.. صَرفه عنهم عين العطاء.
قد تجد ابناً نشأ بالنعيم، والأب غني ومتساهل مَرِن فيُعطي ابنه ما يشتهي، وأحياناً ينشأ ابن يتيم في حرمان وفقر وله أُم حازمة مربيِّة، ودخلُهم قليلٌ جداً، فتحضُّه على الدراسة، لا تنيمه الليل تحثُّه، ليس في البيت مُغريات أو مُلهيات ولا ماديَّات..
فبحسب الظاهر أنَّ الأول مُدلل وابن أسرة غنيَّة يأكل ما يشتهي ويذهب إلى حيث يشتهي ويريد، والثاني طفلٌ يتيمٌ ومحرومٌ، ولكن بعد حين ترى أنه شتَّان بين الاثنين، اليتيم في تألُّق كبير ورفعة، والآخر في شقاءٍ وتراجع، فاليُتم والحرمان مع أمٌ حازمةٌ مربيةٌ دفعته إلى أن يبني نفسه بناءً صحيحاً وغرست فيه القيم الأخلاقيَّة فأصبح إنساناً عظيماً بهذه النشأة المتقشِّفة..
وذاك الطفل الذي نشأ برخاء منقطع النظير، ينام في غرفة خاصة فيها حاسوب -كمبيوتر- كما حوت غرفته كل الألعاب، وقد يشحن أبوه سيارته من الخليج إلى الشام ليستمتع بها في المصايف والمنتزهات، دون أن يكلف نفسه عناء قيادتها ولا أسرته متاعب السفر.
فهناك شباب يعيشون حياةً خياليَّة، يحمل هاتفاً -تليفوناً- خلوياً ثمنه ثمانون ألف ليرة، وله هاتفان أو ثلاث، وسيارتان أو ثلاثة، فتجد ذاك الشاب الذي نشأ في أسرة فقيرة ولكن فيها الكثير من القيم تجده إنساناً عظيماً..
لذلك لو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع.
يقول سيدنا على رضي الله عنه: "والله لو كُشف الغطاء ما ازددتُّ يقيناً"، يقينه قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء.
وكذلك يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه: "والله لو علمت أنَّ غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي".. لشدَّة مسارعته إلى الله.
إذاً العطاء قد يكون منعاً، ولكن هذه تحتاج إلى ثقة بالله، وإلى إيمان، وإلى يقين بحكمة الله، وبمحبَّة الله.
فالإنسان هو خاطيء.. فإذا اجتمع للإنسان مال وكانت صحَّته سليمة وهو بعافية، وفي حال مبسوط النفس، وبيته ممتاز فإنه يظن أنَّ الله يحبُّه، وإذا كان بيته داني المستوى ودخله قليل وصحَّته معلولة ظن أن الله لا يحبُّه.
قال تعالى: "فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17))" (سورة الفجر).
"كَـــــــلا" كلا كلامكم غلط، كلامكم غير صحيح، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، إنَّ عطائي إبتلاء، وحرماني دواء.
أيُّها القراء الكرام... لابدّ أن تعلموا علم اليقين أنَّ الفقير المؤمن أفضل عند الله من الغني العاصي.. لأنَّ الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منه البرُّ والفاجر، وعندنا أدلَّة قويَّة جداً.. منها قارون..
قال تعالى: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ" (سورة القصص).
أعطى الله سبحانه وتعالى المال لقارون وهو لا يُحبَّه، وأعطى فرعون المُلك وهو لا يُحبُّه.. الدنيا لا قيمة لها.
إذاً.. هو الذي يمنع البلاء حفظاً وعنايةً، ويمنع العطاء عَمَّنْ يشاء ابتلاءً أو حماية.. ويعطي الدنيا لمَنْ يُحبُّ ولمَنْ لا يُحب، ولا يُعطي نعيم الآخرة إلا لمَنْ يُحب.
أجل يعطي الدنيا لمَنْ يُحب ولمَنْ لا يُحب.. فقد قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))" (سورة البقرة).
"قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" فتجد بعض الناس يقع في غلط فاحش فيقول: لأن الله يحبني أعطاني هذا البيت فيجعل عطاء الدنيا مقياساً لمحبة الله، فالله أعطى شخصاً كافراً منزلاً أكبر من منزلك بمئة مرة، يوجد مُلوك الحديد والصُّلب، ومُلوك المعامل الضخمة في أوروبا وأمريكا، معهم أموال خيالية، وبيوتهم مدن بأكملها، قصره في غابة، فهل معنى ذلك أنه يحبه؟ لا..
لا تجعل الدنيا مقياساً للمنع والعطاء، فالدنيا لحقارتها عند الله، لم يشأ أن يجعلها علامة رضوانه، ولا علامة بُغضه، إن الدنيا لِصِغَرِ شأنها عند الله أبَى أن يجعلها علامة رضوانه، وأبَى أن يجعلها علامة سخطه، فلا علاقة لها برضوانه ولا بسخطه، لكن لها علاقةٌ بحكمةٍ يريدها الله عزَّ وجلَّ.
إنَّ من عبادي مَنْ لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإنَّ من عبادي مَنْ لا يصلح له إلا الفقر، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه.
في أسماء الله تعالى المانع.. قال: هو الذي يدفع عن أهل طاعته، يدفع عنهم البلايا، ويحوطهم وينصرهم، يمنع ما يريد من خلقه مما يريد.
المانع هو الله.. فمثلاً باليابان منطقة صناعية فيها أضخم المعامل والشركات كشركة -سوني، ومستوبيشي، ومازدا- وقد قاموا بتركيب أجهزة للإنذار المبكِّر للزلازل مربوطة بالكمبيوتر، فالله سبحانه أنزل بها أضخم زلزال وتعطَّل الكمبيوتر عن أداء وظيفته، فهل من مُدّكر؟
فكلمة.. يمنع مَنْ يُريد ما يُريد، لا مانع إلا الله، مَنْ الذي يمنعك من المرض؟ الله.. مَنْ الذي يمنعك من حادث في الطريق؟ الله.. مَنْ الذي يمنعك من شرّير؟ الله.. مَنْ الذي يمنعك من الخوف؟ الله.. يمنع مَنْ يُريد ما يُريد، لا مانع إلا الله.
الإمام الغزالي يقول: "المانع هو الذي يردُّ أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان، بما يخلق من الأسباب المعدَّة للحفظ".
ولا تنس أن الله جعل نواميس وأسباباً.. أي يمنعك ولكن لا يمنعك بلا سبب، بل إن هناك للكون نظاماً، فالكون فيه نظام ولكل ما يقع أسباب.. فقد قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85))" (سورة الكهف).
"وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا" فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يمنع إنساناً وأن يكون نظامه سائداً في المجتمع وفي الحياة، يُلهم هذا الممنوع من هذا الشر أن يأخذ بالأسباب.. فكذلك منعُ الله علمي وليس منعاً عشوائياً، وفي بعض الحالات يمنع بلا سبب كما ورد في قوله تعالى: "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62))" (سورة النمل).
"أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ" أما الأصل أنَّه إذا أراد أن يمنعك يُلهمك أسباب المنع.
فمن فهم معنى الحفيظ فهم معنى المنع، المانع هو الحافظ.. قد يتبادر للمرء أنَّ المانع هو الذي لا يُعطي، فهذا معنى، وكذلك المانع هو الحافظ، أنت في حصنٍ منيع، أنت في حرزٍ حريز، أنت لا أحد ينالُك.
قال بعض العلماء: "المنع يُضاف إلى السَّبب المُهلك، والحفظ يُضاف إلى المحروس عن الهلاك"، أي لو إنساناً محروساً من أن يهلك فهذا محفوظ، وإنسان يمكن أن يهلك فهذا ممنوع..
فقد قال تعالى: "فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" قال: "كلُّ حافظٍ مانع، وما كلُّ مانع حافظ". كلُّ حافظٍ مانع.. ما دام أنَّ الله حفظك فهو يمنعك من خصومك، وليس كل منع حفظاً.. أحياناً يكون المنع عقوبة، قد يحرم المرءُ بعض الرزق بالذنب يصيبه، قد يُحرم المرءُ بعض العلم بالذنب يصيبه، الذنب يمنعك من العلم ويمنعك من الرزق.
يقول بعض العلماء: "المانع يعني أنَّ الممكنات بالنسبة إلى تأثير قدرته على السويَّة.. فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه "، فكل شيء بيد الله عزَّ وجلَّ، والله دائماً قادر على أن يمنعك من أعدائك.
فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه.. كلُّ المؤثرات بيد الله عزَّ وجلَّ، فإذا أطلق واحدة ومنع واحدة فهناك ترجيح عند الله لحكمة، فلو أن شخصاً في جسمه ثلاث جراثيم حرَّك الله واحدة منها والاثنتان لم يحركهما، أجل ثلاث جراثيم، فربما واحدة منهم فعلت فعلها فكل الممكنات بيد الله عزَّ وجلَّ، وكل الأسباب بيد الله أطلق جرثوماً ومنع جرثومين.
وبعد، فالمانع في وصفه سبحانه وتعالى منع البلاء عن أوليائه، أو منع العطاء عمن شاء مطلقاً، فإما أن يمنع العطاء تأديباً أو تحصيناً أو وقايةً بحسب الممنوع منه أو يمنع البلاء عن أوليائه.
الأولياء يُمنعون من البلاء فهو مانعهم، وهو المانع أي الحافظ، أما المخطئون فيمنعون من العطاء تأديباً لهم، والمؤمنون يمنعون من بعض حظوظ الدنيا وقايةً لهم تأديباً للعصاة ووقايةً للمؤمنين، هذا المنع الثاني، وقد عرفنا من قبل أن المنع الأول: الحفظ.
قال العلماء: "إذا منع البلاء عن بعض أوليائه كان ذلك لطفاً جميلاً، وإن منع العطاء عنهم كان ذلك فضلاً جزيلاً"، منع البلاء لطف، ومنع العطاء فضل. لذلك المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام: ((عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ فَقَالَ أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِمَّ تَضْحَكُ قَالَ عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ)) (مسند الإمام أحمد).
بعض العلماء قال: "الله جلَّ جلاله يعطي كلَّ شيءٍ ما هو في مصلحته، بمعنى أنَّ حكمة الله مطلقة، وبمعنى أنَّه ليس في الإمكان أبدعُ مما كان.. ويمنع ما هو سبب فساده، يغني من يشاء بالعطاء ويمنع من يشاء بالابتلاء، سبحانه يغني ويفقر، يسعد ويشقي، يعطي ويحرم، يمنح ويمنع فهو المعطي المانع".
إنسان ليس عنده أولاد (عقيم) لا يترك طبيباً للمعالجة، ولكن لا جدوى فالمنع إلهي، إنسان آخر رزقه الله ذكوراً فقط، وإنسان آخر نسله إناث فقط، بينما إنسان رابع نسله ذكور وإناث، رجل أولاده نجباء، ورجل أولاده كالبلاء.
فقد قال لي أحد الإخوة الكرام يوماً وقد أقسم بالله: إن مات ابنه فلسوف يقيم احتفالاً بمناسبة موت ابنه لشدَّة عُقوقه، فابن يكون بلاءً ونقمة، وابن يكون عطاءً ونعمة قال تعالى: "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ" (سورة الأنعام).
والله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا مَنْ يُحب ومَنْ لا يُحب، ولكنَّه لا يحمي قلب عبدٍ عن المُخالفات إلا وهو من خواصِّ أوليائه. قد تكون غالياً على الله وقريباً منه، وفي ساعة غفلة تفكِّر بعمل لا يُرضي الله تجد أن الله عزَّ وجلَّ وضع أمامك العراقيل منعك ولم يوافق المسؤولون لك على السفر مثلاً، فهناك منع قاسٍ وظاهره من البشر لكن حقيقته من ربِّ البشر، فالمؤمن محفوظٌ من المخالفات، فلعلَّه بهذا السفر تضعف مقاومته، أو عنده هشاشة في مقاومته فالله عزَّ وجلّ يعلم سرَّه وعلانيته.
قال بعض العارفين.. وهذا الكلام يشبه كلام الإمام الغزالي: "المانع هو الذي يدفع أسباب الهلاك والنقص في الدين والدنيا، وذلك بخلق الأسباب التي تحفظ من الهلاك والنقصان".
يمنع الهلاك بأسباب النجاة من الهلاك، ويمنع النقصان بأسباب النجاة من النقصان، المنع بأسباب.. الله عزَّ وجلَّ يخلق بعض الممكنات، ويمنع وجود بعض الممكنات، يعطي الله لشخص مؤهَّلات ليتفوَّق، وقد لا يعطيها لآخر، فيعطي لحكمة ويمنع لحكمة، مرة أخرى: يعطي كلَّ شيءٍ ما هو في مصلحته ويمنع ما هو فيه فسادٌ لدينه فقد قال تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27))" (سورة الشورى).
يعني أنا أريد في هذا البحث أن أبيّن أن المؤمن المتصل بربه يتلقَّى المنع برضى، والمؤمن المتفتّح يرى يد الله فوق أيديهم، يرى يد الله تعمل في الخفاء، يتلو قوله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (سورة الأنفال الآية: 17).
المؤمن البصير يذكر الحديث الشريف وهو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)) (مسند الإمام أحمد).
لا يندم ولا يحقد ولا يتألَّم ولا يتذلل ولا يتضعضع، ولا يستخزي، ولا يُلح، اطلبوا الحوائج بعزَّة الأنفس، فإنَّ الأمور تجري بالمقادير.
وما كان لمؤمنٍ أن يهون، بل لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه، هذا بسبب إيمانه أنَّ العطاء من الله والمنع من الله، فقد قال تعالى: "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2))" (سورة فاطر).
الشيء الدقيق جداً في هذا الموضوع.. هو أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) (سنن الترمذي) هذا هو التوحيد.
وقال بعضهم: "المانع هو الذي يمنع مَنْ شاء ما يشاء، وقد يكون باطن المنع عطاء وهنا الدقة".. قد يمنع العبد كثرة الأموال ويعطيه الكمال والجمال، وقد يمنع العبد صحة الأجسام ويعطيه الرضى عن الأحكام.. المانع هو المعطي فقد يكون باطن المنع عطاءً وقد يكون في ظاهر العطاء بلاءً.
كثيراً ما يطغى الإنسان في حال الغنى قال تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7))" (سورة العلق).
النبي عدَّ الغنى بلاء فقال: ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)) (سنن الترمذي).
قال العلماء: اسم المانع قريب في معناه من اسم الحفيظ، ولكن الفرق بينهما أن الحافظ مضاف إلى معنى والمانع مضاف إلى معنى آخر. المانع مُضاف إلى سبب مُهلك يمنعك من هذا السبب، أما الحافظ مضاف إلى شيء محروس في الأصل من قبل الله عزَّ وجلَّ. هذا الاسم الكريم ورد في الحديث الشريف، إلا أنه لم يرد في القرآن الكريم بل ورد معناه ليس المطابق ولكنه المقابل، لذالك قال تعالى: "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107))" (سورة يونس).
الآية الكريمة أيها القارئ الكريم عميقة الدلالة جداً.
"وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ" لم يقل: وإن يمسسك بخيرٍ.. بل قال: "وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وبعد... فينبغي لمن يتخلَّق باسم المانع ألا يسأل غير الله، لأنه هو وحده المعطى المانع، لا أحد يمنعك، ولا أحد يعطيك إلا الله، فالتخلُّق بهذا الاسم يعني أن تعقد الأمل على الله، وألاّ ترجو غير الله، وألاّ تغترَّ بإعطاء الإنسان، لأن عطاء الإنسان من عطاء الله.
لذالك فالنبي الكريم كان يرجو ألا يجعل الله له خيراً على يد كافر أو منافق لأنَّ العطاء من الله عز وجل، وفي ساعة غفلة ترى أن العطاء أتى من زيد أو عبيد، والمؤمن إذا مُنِع شيئاً لا يرى هذا المنع إلا من الله، ولو رآه من زيد أوعبيد لوقع في حرجٍ شديد، اللهم لا معطيَ لما منعت ولا مانعَ لما أعطيت. وينبغي ألاّ تحقد على الناس لأنهم منعوا عنك شيئاً، فالله هو الذي منعه، العطاء من المعطي الحقيقي وهو الله، والمنع من المانع الحقيقي وهو الله، هذا ملخَّص الملخص للبحث. العطاء.. مطلق العطاء من المعطي الحقيقي وهو الله، والمنع مطلق المنع من المانع الحقيقي وهو الله، علاقتك مع الله فلا تحقد على أحد.. لا تحْمَدنَّ إنساناً على فضل الله، ولا تذمنَّه على ما لم يؤتك الله، إذا منعك إنسان لاتحقد عليه هو مانع صوري، أما المانع الحقيقي فهو الله، الله هو المعطي وهو المانع الحقيقي، وأحياناً يعطي مباشرةً ويمنع مباشرةً، وأحياناً يعطي من خلال عباده، ويمنع من خلال عباده، إن وافق لك المسؤول على السفر أو لم يوافق لك فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، ولكن على يقين أن المانع والمعطي هو الله سبحانه.
قال تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" (سورة النور).
ملخص البحث أيُّها القراء... أنَّ المعطي الحقيقي هو الله والمانع الحقيقي هو الله، قد يعطي مباشرةً، أو عن طريق خلقه، وقد يمنع مباشرةً، أو عن طريق خلقه، المؤمن موحِّد إن أُعطي مباشرة يحمد الله، وإن أُعطي عن طريق خلقه يحمد الله، إن مُنِع يرضى بقضاء الله، إن مُنِع عن طريق خلقه يرضى بقضاء الله، والمؤمن لا يحقد أبداً، وهذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.
ورد في أدعية النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أخرجه البخاري: ((اللهُمَّ مَنْ منعت فهو ممنوع. أي مَنْ حرمت فهو محروم لا يستطيع أحد أن يعطيه)).
كقوله تعالى: "وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم" (سورة الحج).
"وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ" سبحانك فإنَّه لا يَذِلُّ مَنْ واليت ولا يَعِزُّ مَنْ عاديت.. أيْ أَنْ ليس لنا إلا الله عزَّ وجلَّ، فلا تبذل ماء وجهك أمام أحد، كن عزيزاً، لا تبذل ماء وجهك إلا أمام ربِّك، لا تبذل دموعك إلا لله، إلا في السجود لله عزَّ وجلَّ، لا تبكِ أمام الناس لن يعطوك ولن يمنعوك، المانع هو الله، والمعطي هو الله، صُنْ ماء وجهك، احفظ ماء وجهك، لا تتضعضع لغني، تضعضع لله عزَّ وجلَّ، تذلل له، مرِّغ جبهتك في أعتابه، أما أمام الناس كن عزيز النفس. هذا هو ملخص البحث، واعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ مانع بمعنى يمنعك من كلِّ ما يؤذيك، يحفظك، ويمنعك من كل ما يطغيك، ويمنعك تأديباً لك، فهو مانع بالمعاني كلَّها، وإذا أراد أن يمنعك مما يؤذيك ألهمك أسباب الحفظ والمنع، ووجهك وجهة الخير وقذف في قلبك الرضى. والحمد لله رب العالمين. |
|