أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الْعَبَرَات... اليتيم... للمَنْفَلُوطي الأحد 10 ديسمبر 2017, 6:14 am | |
| الْعَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَات مصــــطفى لُطــــفي المَنْفَلُوطـي وُلِدَ في منفلوط، من صعيد مصـر وتلــــقّى علــــومه في الأزهــــر ==================== اَلْـيَـتِـيــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ==================== سَكَن اَلْغُرْفَة اَلْعُلْيَا أَوْ اَلْوُسْطَى فِي مِصْر فَقَدْ كُنْت أَرَاهُ مِنْ نَافِذَة غُرْفَة مَكْتَبِي وَكَانَتْ عَلَى كَثَب مِنْ بَعْض نَوَافِذ غُرْفَته فَأَرَى أَمَامِيّ فَتَىً شَاحِبًا نَحِيلًا مُنْقَبِضًا جَالِسًا إِلَى مِصْبَاح مِنْير فِي إِحْدَى زَوَايَا اَلْغُرْفَة يَنْظُر فِي كِتَاب أَوْ يَكْتُب فِي دَفْتَر أَوْ يَسْتَظْهِر قِطْعَة أَوْ يُعِيد دَرْسًا فَلَمْ أَكُنْ أَحْفُل بِشَيْء مِنْ أَمْره حَتَّى عُدْت إِلَى مَنْزِلِي مُنْذُ أَيَّام بَعْد مُنْتَصَف لَيْلَة قُرَّة مِنْ لَيَالِي اَلشِّتَاء فَدَخَلَتْ غُرْفَة مَكْتَبِي لِبَعْض اَلشُّؤُون فَأَشْرَقَتْ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالَسَ جَلْسَته تِلْكَ أَمَام مُصباحِه وَقَدْ أَكُبَّ بِوَجْهِهِ عَلَى دَفْتَر مَنْشُور بَيْن يَدَيْهِ عَلَى مَكْتَبه فَظَنَنْت أَنَّهُ لما أَلَمَّ بِهِ مِنْ تَعَب اَلدَّرْس وَآلَام اَلسَّهَر قَدْ عُبِّئَتْ بِجَفْنَيْهِ سِنَة مِنْ اَلنَّوْم فأعجلته مِنْ اَلذَّهَاب إِلَى فَرَّاشه وَسَقَطَتْ بِهِ مَكَانه فَمَا رَمَتْ مَكَانِي حَتَّى رَفْع رَأْسه فَإِذَا عَيَّنَّاهُ مخصلتان مِنْ اَلْبُكَاء وَإِذَا صَفْحَة دَفْتَره اَلَّتِي كَانَ مُكِبًّا عَلَيْهَا قَدْ جَرَى دَمْعه فَوْقهَا فَمَحَا مِنْ كَلِمَاتهَا مَا مَحَا وَمَشَى بِبَعْض مِدَادهَا إِلَى بَعْض ثُمَّ لَمْ يَلْبَث أَنْ عَادَ إِلَى نَفْسه فَتَنَاوَلَ قَلَّمَهُ وَرَجَعَ إِلَى شَأْنه اَلَّذِي كَانَ فِيهِ.
فَأَحْزَنَنِي أَنْ أَرَى فِي ظُلْمَة ذَلِكَ اَللَّيْل وَسُكُونه هَذَا اَلْفَتَى اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فِي غُرْفَة عَارِيَة بَارِدَة لَا يَتَّقِي فِيهَا عَادِيَّة اَلْبَرْد بِدِثَار وَلَا نَار يَشْكُو هُمَا مِنْ هُمُوم اَلْحَيَاة أَوْ رزء مِنْ أرزائها قَبْل أَنْ يُبَلِّغ سِنّ اَلْهُمُوم وَالْأَحْزَان مِنْ حَيْثُ لَا يُجْدِ بِجَانِبِهِ مُوَاسِيًا وَلَا مُعِينًا وَقُلْت لَابُدَّ أَنْ يَكُون وَرَاء هَذَا اَلْمَنْظَر الضارع اَلشَّاحِب نَفْس قَرِيحَة مُعَذَّبَة تَذُوب بَيْن أَضْلَاعه ذَوَّبَا فَيَتَهَافَت لَهَا جِسْمه تَهَافُت اَلْخِبَاء اَلْمُقَوِّض فَلَمْ أَزَلْ وَاقِفًا مَكَانِي لَا أَبرحهُ حَتَّى رَأَيْته قَدْ طَوَى كِتَابه وَفَارِق مَجْلِسه وَأَوَى إِلَى فِرَاشه فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَخْدَعِي وَقَدْ مَضَى اَللَّيْل إِلَّا أُقِلّهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ سَوَاده فِي صَفْحَة هَذَا اَلْوُجُود إِلَّا بَقَايَا أَسْطُر يُوشِك أَنْ يَمْتَدّ إِلَيْهَا لِسَان اَلصَّبَاح فَيَأْتِي عَلَيْهَا ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرَاهُ بَعْد ذَلِكَ فِي كَثِير مِنْ اَللَّيَالِي إِمَّا بَاكِيًا أَوْ مُطْرِقًا أَوْ ضَارِبًا بِرَأْس عَلَى صَدْره أَوْ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسه فِي فِرَاشه يَئِنّ أَنِين الوالهة اَلثَّكْلَى أَوْ هَائِمًا فِي غُرْفَته يذرع أَرْضهَا وَيَمْسَح جُدْرَانهَا حَتَّى إِذَا نَالَ مِنْهُ اَلْجُهْد سَقَطَ عَلَى كرسية بَاكِيًا مُنْتَحِبًا فَأَتَوَجَّع لَهُ وَأَبْكَى لِبُكَائِهِ وَأَتَمَنَّى لَوْ اِسْتَطَعْت أَنْ أُداخِلهُ مداخلة اَلصَّدِيق لِصَدِيقِهِ وأستبثه ذَات نَفْسه وأشاركه فِي هَمّه لَوْلَا أَنَّنِي كَرِهْت أَنَّ بِالْإِغْوَاءِ بِمَا لَا يُحِبّ وَأَنْ أَهْجُم مِنْهُ عَلَى سِرّ رُبَّمَا كَانَ يُؤْثِر اَلْإِبْقَاء عَلَيْهِ فِي صَدْره وَأَنْ يكاتمه اَلنَّاس جَمِيعًا حَتَّى أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ لَيْلَة أَمْس بَعْد هَدْأَة مِنْ اَللَّيْل فَرَأَيْت غُرْفَته مُظْلِمَة سَاكِنَة فَظَنَنْت أَنَّهُ خَرَجَ لِبَعْض شَأْنه ثُمَّ لَمْ أَلْبَث أَنْ سَمِعَتْ فِي جَوْف اَلْغُرْفَة أَنَّةً ضَعِيفَة مُسْتَطِيلَة فَأَزْعَجَنِي مُسْمِعهَا وَخَيَّلَ إِلَيَّ وَهِيَ صَادِرَة مِنْ أَعْمَاق نَفْسه كَأَنَّنِي أَسْمَع رَنِينهَا فِي أَعْمَاق قَلْبِي وَقُلْت إِنَّ اَلْفَتَى مَرِيض وَلَا يُوجَد بِجَانِبِهِ مَنْ يَقُوم بِشَأْنِهِ وَقَدْ بَلَغَ اَلْأَمْر مَبْلَغ اَلْجَدّ بُدّ لِي مِنْ اَلْمَصِير إِلَيْهِ فَتَقَدَّمَتْ إِلَى خَادِمِي أَنْ يَتَقَدَّمنِي بِمِصْبَاح حَتَّى بَلَغَتْ مَنْزِله وَصَعِدَتْ إِلَى بَاب غُرْفَته فَأَدْرَكَنِي مِنْ الوحضة عِنْد دُخُولهَا مَا يُدْرِك اَلْوَاقِف عَلَى بَاب قَبْر يُحَاوِل أَنْ يَهْبِطهُ لِيُوَدِّع سَاكِنه اَلْوَدَاع اَلْأَخِير ثُمَّ دَخَلَتْ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ عِنْدَمَا أَحَسَّ بِي وَكَأَنَّمَا كَانَ ذاهلا أَوْ مُسْتَغْرِقًا فَأَدْهَشَهُ أَنْ يَرَى بَيْن يَدَيْهِ مِصْبَاحًا ضَئِيلًا وَرَجُلًا لَا يَعْرِفهُ فَلَبِثَ شَاخِصًا إِلَيَّ هُنَيْهَة لَا يَنْطِق وَلَا يَطْرِف فَاقْتَرَبَتْ مِنْ فَرَّاشه وَجَلَسَتْ بِجَانِبِهِ وَقُلْت أَنَا جَارك اَلْقَاطِن هَذَا اَلْمَنْزِل وَقَدْ سَمِعْتُك اَلسَّاعَة تُعَالِج أَمْرك فَجِئْتُك عَلَنِيّ أَسْتَطِيع أَنْ أَكُون لَك عَوْنًا عَلَى شَأْنك فَهَلْ أَنْتَ مَرِيض؟
فَرَفَعَ يَده بِبُطْء وَوَضْعهَا عَلَى جَبْهَته فَوَضَعَتْ يَدَيْ حَيْثُ وَضَعَهَا فَشَعَرَتْ بِرَأْسِهِ يَلْتَهِب اِلْتِهَابًا فَعَلِمَتْ أَنَّهُ مَحْمُوم ثُمَّ أَمْرَرْت نَظَرِيّ عَلَى جِسْمه فَإِذَا خَيَال سَارّ لَا يَكَاد يَتَبَيَّنهُ رائيه وَإِذَا قَمِيص فَضْفَاض مِنْ اَلْجِلْد يَمُوج فِيهِ بَدَنه مَوْجًا فَأَمَرَتْ اَلْخَادِم أَنْ يَأْتِينِي بِشَرَاب كَانَ عِنْدِي مِنْ أشربة اَلْحُمَّى فَجَرَّعَتْهُ مِنْهُ بِضْع قَطَرَات فاستفاق قَلِيلًا وَنَظَر إِلَى نَظْرَة عَذْبَة صَافِيَة وَقَالَ شُكْرًا لَك فَقُلْت مَا شَكَّاتك أَيُّهَا اَلْأَخ قَالَ لَا أَشْكُو شَيْئًا فَقُلْت فَهَلْ مَرَّ بِك زَمَن طَوِيل عَلَى حَالك هَذِهِ قَالَ لَا أُعَلِّم قُلْت أَنْتَ فِي حَاجَة إِلَى اَلطَّبِيب فَهَلْ تَأْذَن لِي أَنْ أَدْعُوهُ إِلَيْك لِيَنْظُر فِي أَمْرك فَتَنَهَّدَ طَوِيلًا وَنَظَرَ إِلَى نَظْرَة دَامِعَة وَقَالَ إِنَّمَا يَبْغِي اَلطَّبِيب مَنْ يُؤَثِّر اَلْحَيَاة عَلَى اَلْمَوْت ثُمَّ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَعَاد إِلَى ذُهُوله وَاسْتِغْرَاقه فَلَمْ أَجِد بُدًّا مِنْ دُعَاء اَلطَّبِيب رَضِيَ أَمْ أَبِي فَدَعَوْته فَجَاءَ مُتَأَفِّفًا مُتَذَمِّرًا يَشْكُو مِنْ حَيْثُ يَعْلَم أَنِّي أَسْمَع شَكْوَاهُ إِزْعَاجه مِنْ مَرْقَده وتجشيمه خَوْض اَلْأَزِقَّة اَلْمُظْلِمَة فِي اَللَّيَالِي اَلْبَارِدَة فَلَمْ أَحْفُل بِتَعْرِيضِهِ لِأَنَّنِي أَعْلَم طَرِيق اَلِاعْتِذَار إِلَيْهِ فَجَسَّ نَبْض اَلْمَرِيض وَهَمْس فِي أُذُنِي قَائِلًا إِنَّ عَلِيلك يَا سَيِّدَيْ مُشْرِف عَلَى اَلْخَطَر وَلَا أَحْسَب أَنَّ حَيَاته تُطَوَّل كَثِيرًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِي عِلْم اَللَّه مَا لَا نعَلم وَجَلَسَ نَاحِيَة يَكْتُب ذَلِكَ اَلْأَمْر اَلَّذِي يُصَدِّرهُ اَلْأَطِبَّاء إِلَى عُمَّالهمْ الصيادلة أَنْ يَتَقَاضَوْا مِنْ عَبِيدهمْ اَلْمَرْضَى ضَرِيبَة اَلْحَيَاة ثُمَّ أَنْصَرِف لِشَأْنِهِ بَعْد مَا اِعْتَذَرَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلِاعْتِذَار اَلَّذِي يُؤْثِرهُ وَيَرْضَاهُ فَأَحْضَرْت اَلدَّوَاء وَقَضَيْت بِجَانِب اَلْمَرِيض لَيْلَة لَيْلَاء ذاهلة اَلنَّجْم بَعِيدَة مَا بَيْن اَلطَّرَفَيْنِ أَسْقِيه اَلدَّوَاء مَرَّة وَأَبْكَى عَلَيْهِ أُخْرَى حَتَّى اِنْبَثَقَ نُور اَلْفَجْر فاستفاق وَدَار بِعَيْنِهِ حَوْل فِرَاشه حَتَّى رَآنِي فَقَالَ: أَنْتَ هُنَا؟ قَلَّتْ نِعَم وَأَرْجُو أَنْ تَكُون أَحْسَن حَالًا مِنْ ذِي قَبْل قَالَ أَرْجُو أَنْ أَكُون كَذَلِكَ قُلْت هَلْ تَأْذَن لِي يَا سَيِّدِي أَنْ أَسْأَلك مَنْ أَنْتَ وَمَا مَقَامك وَحْدك فِي هَذا اَلْمَكَان وَهَلْ أَنْتَ غَرِيب فِي هَذَا اَلْبَلَد أَوْ أَنْتَ مِنْ أَهِّلِيهِ وَهَلْ تَشْكُو دَاء ظَاهِرًا أَوْ هَمًّا بَاطِنًا قَالَ أَشْكُوهُمَا مَعًا قُلْت فَهَلْ لَك أَنْ تُحَدِّثنِي بِشَأْنِك وتفضى إِلَيَّ بِهَمِّك كَمَا يُفْضِي اَلصَّدِيق إِلَى صَدِيقه فَقَدْ أَصْبَحَتْ مَعْنِيًّا بِأَمْرِك عِنَايَتك بِنَفْسِك؟
قَالَ هَلْ تَعِدُنِي بِكِتْمَان أَمْرِي إِنَّ قِسْم اَللَّه لِي اَلْحَيَاة وَبِإِمْضَاء وَصِيَّتِي إِنْ كَانَتْ اَلْأُخْرَى؟ قُلْت نَعَمْ قَالَ قَدْ وَثِقَتْ بِوَعْدِك فَانٍ مَنْ يَحْمِل فِي صَدْره قَلَّبَا شَرِيفًا مِثْل قَلْبك لَا يَكُون كَاذِبًا وَلَا غَادِرًا أَنَا فُلَان بْن فُلَان مَاتَ أَبِي مُنْذُ عَهْد بَعِيد وَتَرَكَنِي فِي اَلسَّادِسَة مِنْ عُمْرِي مُعْدَمًا لَا أَمْلِك مِنْ مَتَاع اَلدُّنْيَا شَيْئًا فَكَلَّفَنِي عَمَّيْ فُلَان فَكَانَ خَيْر اَلْأَعْمَام وَأَكْرَمهمْ وَأَوْسَعهمْ بِرًّا وَإِحْسَانًا وَأَكْثَرهمْ عَطْفًا وَحَنَانًا فَقَدْ أَنْزَلَنِي مِنْ نَفْسه مَنْزِلَة لَمْ يَنْزِلهَا أَحَدًا مِنْ قَبْلِي غَيْر اِبْنَته اَلصَّغِيرَة وَكَانَتْ فِي عُمْرِي أَوْ أَصْغَر مِنِّي قَلِيلًا وَكَأَنَّمَا سَرَّهُ أَنْ يَرَى لَهَا بِجَانِبِهَا أَخَاً بَعْد مَا تَمَنَّى عَلَى اَللَّه ذَلِكَ زَمَنًا طَوِيلًا فَلَمْ يُدْرِك أُمْنِيَته فَعَنِّي بِي عِنَايَته بِهَا وَأَدْخَلْنَا اَلْمُدَرِّسَة فِي يَوْم وَاحِد فَأَنِسَتْ بِهَا أُنْس اَلْأَخ بِأُخْته وَأَحْبَبْتهَا حُبًّا شَدِيدًا وَوَجَدْت فِي عَشَرَتهَا مِنْ اَلسَّعَادَة وَالْغِبْطَة مَا ذَهَبَ بِتِلْكَ اَلْغَضَاضَة اَلَّتِي كَانَتْ لَا تَزَال تُعَاوِد نَفْسِيّ بَعْد فَقْد أَبَوِيّ مِنْ حِين إِلَى حِين فَكَّانِ لَا يَرَانَا الرائي إِلَّا ذَاهِبِينَ إِلَى اَلْمَدْرَسَة أَوْ عَائِدِينَ مِنْهَا أَوْ لَاعِبِينَ فِي فَنَاء اَلْمَنْزِل أَوْ مرتاضين فِي حَدِيقَته أَوْ مُجْتَمَعَيْنِ فِي غُرْفَة اَلْمُذَاكَرَة أَوْ مُتَحَدِّثِينَ فِي غُرْفَة اَلنَّوْم حَتَّى جَاءَ يَوْم حِجَابهَا فَلَزِمَتْ خِدْرهَا وَاسْتَمَرَّرتْ فِي دِرَاسَتِي.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الجمعة 01 أبريل 2022, 7:17 pm عدل 2 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الْعَبَرَات... اليتيم... للمَنْفَلُوطي الأحد 10 ديسمبر 2017, 6:15 am | |
| وَلَقَدْ عَقَدَ اَلْوِدّ قَلِّبِي وَقَلْبهَا عَقْدًا لَا يُحِلّهُ إِلَّا رَيْب اَلْمَنُون فَكُنْت لَا أَرَى لَذَّة اَلْعَيْش إِلَّا بِجِوَارِهَا وَلَا أَرَى نُور اَلسَّعَادَة إِلَّا فِي فَجْر اِبْتِسَامَتهَا وَلَا أُؤَثِّر عَلَى سَاعَة أقضيتها بِجَانِبِهَا جَمِيع لَذَّات اَلْعَيْش ومسرات اَلْحَيَاة وَمَا كُنْت أَشَاء أَنْ أَرَى خَصْلَة مِنْ خِصَال اَلْخَيْر فِي فَتَاة مِنْ أَدَب أَوْ ذَكَاء أَوْ حُلْم أَوْ رَحْمَة أَوْ عِفَّة أَوْ شَرَف أَوْ وَفَاء إِلَّا وَجَدَتْهَا فِيهَا.
وَأَنِّي أَسْتَطِيع وَأَنَا فِي اَلظُّلْمَة اَلْحَالِكَة مِنْ اَلْهُمُوم وَالْأَحْزَان أَنْ أَرَى عَلَى اَلْبُعْد تِلْكَ اَلْأَجْنِحَة اَلنُّورَانِيَّة اَلْبَيْضَاء مِنْ اَلسَّعَادَة اَلَّتِي كَانَتْ تُظَلِّلنَا مَعًا أَيَّام طُفُولَتنَا فَتُشْرِق لَهَا نَفْسَانَا إِشْرَاق الراح فِي كَأْسهَا وَأَنْ أَرَى تِلْكَ اَلْحَدِيقَة اَلْغَنَّاء اَلَّتِي كَانَتْ مراح لَذَّاتنَا وَمَسْرَح آمَالنَا وَأَحْلَامنَا كَأَنَّهَا حَاضِرَة بَيْن يَدِي أَرَى لألاء مَائِهَا وَلَمَعَان حَصْبَائِهَا وأقانين أَشْجَارهَا وَأَلْوَان أَزْهَارهَا تِلْكَ اَلْقَاعِدَة اَلْحَجَرِيَّة اَلَّتِي كُنَّا نقتعدها مِنْهَا طَرَفَيْ اَلنَّهَار فَنَجْتَمِع عَلَى حَدِيث نَتَجَاذَبهُ أوط اقة تُؤَلِّف بَيْن أَزْهَارهَا أَوْ كِتَاب نُقَلِّب صَفَحَاته أَوْ رَسْم نَتَبَارَى فِي إِتْقَانه وَتِلْكَ الخمائل اَلْخَضْرَاء اَلَّتِي كُنَّا نَلْجَأ إِلَى ظِلَالهَا كُلَّمَا فَرَغْنَا مِنْ شَوْط مِنْ أَشْوَاط اَلْمُسَابَقَة فَتَشْعُر بِمَا تَشْعُر بِهِ أَفْرَاح اَلطُّيُور اَللَّاجِئَة إِلَى أَحْضَان أُمَّهَاتهَا وَتِلْكَ الحفائر اَلصَّغِيرَة اَلَّتِي نحتفرها بِبَعْض اَلْأَعْوَاد عَلَى شَاطِئ اَلْجَدَاوِل والغدران فَنَمْلَؤُهَا مَاء ثُمَّ نَجْلِس حَوْلهَا لِنَصْطَادَ أَسْمَاكهَا اَلَّتِي أَلْقَيْنَاهَا فِيهَا بِأَيْدِينَا فَنَطْرَب إِنَّ ظُفْرنَا بِشَيْء مِنْهَا كَأَنَّا قَدْ ظَفِرْنَا بِغَنَم عَظِيم وَتِلْكَ اَلْأَقْفَاص اَلذَّهَبِيَّة اَلْبَدِيعَة اَلَّتِي كُنَّا نُرَبِّي فِيهَا عصافيرنا وَطُيُورنَا ثُمَّ نَقْضِي اَلسَّاعَات اَلطِّوَال بِجَانِبِهَا نَعْجَب بِمَنْظَرِهَا وَمَنْظَر مناقيرها اَلْخَضْرَاء وَهِيَ تحسو اَلْمَاء مَرَّة وَتَلْتَقِط أُخْرَى وَنُنَادِيهَا بِأَسْمَائِهَا اَلَّتِي سَمَّيْنَاهَا بِهَا فَإِذَا سَمِعْنَا صَفِيرهَا وَتَغْرِيدهَا ظَنًّا أَنَّهَا تُلَبِّي نِدَاءَهَا وَلَا أَعْلَم هَلْ كَانَ مَا كُنْت أُضْمِرهُ فِي نَفْسِي لِابْنَة عَمِّي وِدًّا وَإِخَاء أَوْ حُبًّا وَغَرَامًا وَلَكِنَّنِي أَعْلَم أَنَّهُ كَانَ بِلَا أَمَل وَلَا رَجَاء فَمَا قُلْت لَهَا يَوْم إِنِّي أَحَبّهَا لِأَنِّي كُنْت أَضَنّ بِهَا وَهِيَ اِبْنَة عَمِّي وَرَفِيقَة صِبَايَ أَنْ أَكُون أَوَّل فَاتِح لِهَذَا اَلْجُرْح اَلْأَلِيم فِي قَلْبهَا وَلَا قَدَّرَتْ فِي نَفْسِي يَوْمًا مِنْ اَلْأَيَّام أَنَّ أَصْل أَسْبَاب حَيَاتِي بِأَسْبَاب حَيَاتهَا لِأَنِّي كُنْت أَعْلَم أَنَّ أَبَوَيْهَا لَا يَسْخُوَانِ بِمِثْلِهَا عَلَى فَتَى بَائِس فَقِير مِثْلِي وَلَا حَاوَلَتْ فِي سَاعَة مِنْ اَلسَّاعَات أَنْ أَتُسْقِطُ مِنْهَا مَا يَطْمَع فِي مِثْله اَلْمُحِبُّونَ المتسقطون لِأَنِّي كُنْت أَجْلهَا عَنْ أَنْ أَنْزَلَ بِهَا إِلَى مِثْل ذَلِكَ وَلَا فَكَّرَتْ يَوْمًا أَنْ أَسْتَشِفّ مِنْ رواء نَظَرَاتهَا خبيئة نَفْسهَا لِأَعْلَم أَيّ اَلْمَنْزِلَتَيْنِ أَنْزَلَهَا مَنْ قَلْبهَا أمنزلة اَلْأَخ فَأَقْنَع مِنْهَا بِذَلِكَ أَمْ مَنْزِلَة اَلْحَبِيب فَاسْتُعِينَ بِإِرَادَتِهَا عَلَى إِرَادَة أَبَوَيْهَا؟ بَلْ كَانَ حبى اَلرَّاهِب اَلْمُتَبَتِّل صُورَة اَلْعَذْرَاء اَلْمَائِلَة بَيْن يَدَيْهِ فِي صَوْمَعَته يَعْبُدهَا وَلَا يَتَطَلَّع إِلَيْهَا.
وَلَمْ يَزَلْ هَذَا شَأْنِي وَشَأْنهَا حَتَّى نَزَلَتْ بِعَمَّيْ نَازِلَة مِنْ اَلْمَرَض لَمْ تُنْشِب أَنْ ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى جِوَار رَبّه وَكَانَ آخَر مَا نَطَقَ بِهِ فِي آخِر سَاعَات حَيَاته أَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَكَانَ يُحْسِن بِهَا ظَنًّا لَقَدْ أعجلني اَلْمَوْت عَنْ اَلنَّظَر فِي شَأْن هَذَا اَلْغُلَام فَكَوْنِي لَهُ أَمَّا كَمَا كُنْت لَهُ أَبَا وَأُوصِيك أَنْ لَا يَفْقِد مِنِّي بَعْد مَوْتِي إِلَّا شَخْصِي فَمَا مَرَّتْ أَيَّام اَلْحِدَاد حَتَّى رَأَيْت وُجُوهًا غَيْر اَلْوُجُوه وَنَظَرَات غَيْر اَلنَّظَرَات وَحَالًا غَرِيبَة لَا عَهْد لِي بِمِثْلِهَا مِنْ قَبْل فَتُدَاخِلنِي اَلْهَمّ وَالْيَأْس وَوَقْع نَفْسِيّ لِلْمَرَّةِ اَلْأُولَى فِي حَيَاتِي أَنَّنِي قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا اَلْمَنْزِل غَرِيبًا وَفِي هَذَا اَلْعَالَم طَرِيدًا.
فَإِنِّي لَجَالَسَ فِي غُرْفَتِي صَبِيحَة يَوْم إِذْ دَخَلَتْ عَلَيَّ اَلْخَادِم وَكَانَتْ اِمْرَأَة مِنْ اَلنِّسَاء اَلصَّالِحَات اَلْمُخْلِصَات فَتَقَدَّمَتْ نَحْوِي خجلة مُتَعَثِّرَة وَقَالَتْ قَدْ أَمَرَتْنِي سَيِّدَتِي أَنْ أَقُول لَك يَا سَيِّدِي إِنَّهَا قَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَزْوِيج أَبَّنَتْهَا فِي عَهْد قَرِيب وَإِنَّهَا تَرَى أَنَّ بَقَاءَك بِجَانِبِهَا بَعْد مَوْت أَبِيهَا وَبُلُوغكُمَا هَذِهِ اَلسِّنّ اَلَّتِي بَلَّغْتُمَاهَا رُبَّمَا يُرَبِّيهَا عِنْد خَطِيبهَا وَإِنَّهَا تُرِيد أَنْ تَتَّخِذ لِلزَّوْجَيْنِ مَسْكَنَا هَذَا اَلْجَنَاح اَلَّذِي تُسَكِّنهُ مِنْ اَلْقَصْر فَهِيَ تُرِيد أَنْ تَتَحَوَّل إِلَى مَنْزِل آخَر تَخْتَارهُ لِنَفْسِك مِنْ بَيْن مَنَازِلهَا عَلَى أَنْ تَقُوم لَك فِيهِ بِجَمِيع شَأْنك وَكَأَنَّك لَمْ تُفَارِقهَا.
فَكَأَنَّمَا عَمَدَتْ إِلَى سَهْم رائش فَأَصْمُت بِهِ كَبِدِي إِلَّا أَنَّنِي تَمَاسَكْت قَلِيلًا رَيْثَمَا قُلْت لَهَا سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اَللَّه وَلَا أُحِبّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ فَانْصَرَفَتْ لِشَأْنِهَا فَخَلَوْت بِنَفْسَيْ سَاعَة أَطْلَقَتْ فِيهَا اَلسَّبِيل لعبراتي مَا شَاءَ اَللَّه أَنْ أَطْلَقَهَا حَتَّى جَاءَ اَللَّيْل فَعَمَدَتْ إِلَى حَقِيبَتِي فَأَوْدَعْتهَا ثِيَابِي وَكُتُبِي وَقُلْت فِي نَفْسِي: قَدْ كَانَ كُلّ مَا أَسْعَدَ بِهِ فِي هَذِهِ اَلْحَيَاة أَنْ أَعِيش بِجَانِب ذَلِكَ اَلْإِنْسَان اَلَّذِي أَحْبَبْته وَأَحْبَبْت نَفْسِي مِنْ أَجْله وَقَدْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنه فَلَا آسَف عَلَى شَيْء بَعْده.
ثُمَّ اِنْسَلَلْت مِنْ اَلْمَنْزِل انسلالاً مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعِر أَحَد بِمَا كَانَ وَلَمْ أَتَزَوَّد مِنْ اِبْنَة عَمِّي قَبْل اَلرَّحِيل غَيْر نَظْرَة وَاحِدَة أَلْقَيْتهَا عَلَيْهَا مِنْ خِلَال كِلْتهَا وَهِيَ نَائِمَة فِي سَرِيرهَا فَكَانَتْ آخِر عَهْدِي بِهَا.
لِعُمْرِك مَا فَارَقَتْ بَغْدَاد عَنْ قَلَى لَوْ أَنَا وَجْدنَا مِنْ فِرَاق لَهَا بَدَا كَفِّي حُزْنًا أَنْ رُحْت لِمَ استطع لَهَا وَدَاعًا وَلَمْ أُحَدِّث بِسَاكِنِهَا عَهْدًا وَهَكَذَا فَارَقَتْ اَلْمَنْزِل اَلَّذِي سَعِدَتْ فِيهِ حِقْبَة مِنْ اَلزَّمَان فَرَاقَ آدَم جَنَتْهُ وَخَرَجَتْ مِنْهُ شَرِيدًا طَرِيدًا حَائِرًا مُلْتَاعًا قَدْ اِصْطَلَحَتْ عَلَى اَلْهُمُوم وَالْأَحْزَان فِرَاق لالقاء بَعْده وَفَقْر لَا سَادَ لخلته وَغُرْبَة لَا أَجِد عَلَيْهَا مِنْ أَحَد مِنْ اَلنَّاس مُوَاسِيًا وَلَا مُعَيَّنًا.
وَكَانَتْ مَعِي صَبَابَة مِنْ مَال قَدْ بَقِيَتْ فِي يَدِي مِنْ آثَار تِلْكَ اَلنِّعْمَة اَلذَّاهِبَة فَاِتَّخَذَتْ هَذِهِ اَلْحُجْرَة اَلْعَارِيَة فِي هَذِهِ اَلطَّبَقَة اَلْعُلْيَا مَسْكَنَا فِلْم أَسْتَطِيع اَلْبَقَاء فِيهَا سَاعَة وَاحِدَة فَأَزْمَعَتْ اَلرَّحِيل إِلَى حَيْثُ أُجِدّ فِي فَضَاء اَللَّه ومنفسح آفَاقه عِلَاج نَفْسِيّ مِنْ هُمُومهَا وَأَحْزَانهَا فَرَحَلَتْ رِحْلَة طَوِيلَة قَضَيْت فِيهَا بِضْعَة أَشْهُر لَا أَهْبِط بَلْدَة حَتَّى تُنَازِعنِي نَفْسِي إِلَى أُخْرَى وَلَا تَطَّلِع عَلَيَّ اَلشَّمْس فِي مَكَان حَتَّى تَغْرُب عَنِّي فِي غَيْره حَتَّى شَعَرَتْ فِي آخِر اَلْأَمْر بِسُكُون فِي نَفْسِي يُشْبِه سُكُون اَلدَّمْع اَلْمُعَلِّق فِي مَحْجِر اَلْعَيْن لَا يَفِيض وَلَا يَغِيض.
فَقَنِعَتْ بِذَلِكَ وَكَانَ مِيعَاد اَلدِّرَاسَة اَلسَّنَوِيَّة قَدْ حَانَ فَعُدْت وَقَدْ اِسْتَقَرَّ فِي نَفْسِي أَنْ أَعِيش فِي هَذَا اَلْعَالَم مُنْفَرِدًا كَمُجْتَمَع وَغَائِبًا كَحَاضِر وَبَعِيدًا كَقَرِيب وَأَنْ أَلْهُو بِشَأْن نَفْسِيّ عَنْ كُلّ شَأْن غُرْفَتِي وَمَدْرَسَتِي أُدَاوِل بَيْنهمَا لَا أُفَارِقهُمَا وَلَمِّي بَقّ أَثَر بِذَلِكَ اَلْعَهْد اَلْقَدِيم فِي نَفْسِي إِلَّا نَزَوَات تُعَاوِد قَلْبِي مِنْ حِين إِلَى حِين فَأَسْتَعِين عَلَيْهَا بِقَطَرَات مِنْ اَلدَّمْع أَسْكُبهَا مِنْ جَفْنِي فِي خَلْوَتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم إِلَّا اَللَّه مَا بِي فَأَجِدّ بِرَدّ اَلرَّاحَة فِي صَدْرِي.
لَبِثَتْ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَة مِنْ اَلزَّمَان حَتَّى عُدْت بِالْأَمْسِ إِلَى تِلْكَ اَلْفَضْلَة اَلَّتِي كَانَتْ فِي يَدِي مِنْ اَلْمَال فَإِذَا هِيَ ناضبة أَوْ مُوشِكَة وَكُنْت مَأْخُوذًا بِأَنْ أهيء لِنَفْسِي عَيْشًا مُسْتَقِلًّا وَأَنَّ أودي لِلْمَدْرَسَةِ قِسْطَا مِنْ أَقْسَاطهَا وَالْمَدْرَسَة فِي هَذَا اَلْبَلَد حَانُوت قَاسٍ لَا تُبَاع فِيهِ اَلسِّلْعَة نسيئة وَالْعِلْم فِي هَذِهِ اَلْأُمَّة مرتزق يَرْتَزِق مِنْهُ بِالْإِغْوَاءِ لَا مِنْحَة يَمْنَحهَا اَلْمُحْسِنُونَ فَأَهْتَمنِي نَفْسِيّ وَعَلِمَتْ أَنِّي مُشْرِف عَلَى اَلْخَطَر وَلَا أُعَرِّف سَبِيلًا إِلَى اَلْقُوت بِوَجْه وَلَا حِيلَة فَعَمَدَتْ إِلَى كُتُبِي فَاسْتَبْقَيْت مِنْهَا مَا لَا غَنِيّ لِي عَنْهُ وَحَمَلَتْ سَائِرهَا إِلَى سُوق الوراقين فَعَرَضَتْهُ هُنَاكَ يَوْمًا كَامِلًا فَلَمْ أَجِد مَنْ يُبَلِّغ بِهِ فِي اَلْمُسَاوَمَة رُبْع ثَمَنه فَعُدْت بِهِ حَزِينًا مُنْكَسِرًا وَمَا عَلَى وَجْه اَلْأَرْض أَحَد أَذَلّ مِنِّي وَلَا أَشْقَى. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الْعَبَرَات... اليتيم... للمَنْفَلُوطي الأحد 10 ديسمبر 2017, 6:16 am | |
| فَلَمَّا بَلَغَتْ بَاب اَلْمَنْزِل رَأَيْت فِي فَنَائِهِ اِمْرَأَة تُسَائِل أَهْل اَلْبَيْت عَنِّي فَتَبَيَّنَتْهَا فَإِذَا هِيَ اَلْخَادِم اَلَّتِي كَانَتْ تَخْدِمنِي فِي مَنْزِل عُمْي فَقُلْت: فُلَانَة قَالَتْ نعَم قَلَّتْ مَاذَا تُرِيدِينَ قَالَتْ لِي إِلَيْك كَلِمَة فائذن لِي فَصَعِدَتْ مَعَهَا إِلَى غُرْفَتِي فَلَمَّا خَلَوْنَا قُلْت هَاتِ قَالَتْ مَرَّتْ بِي ثَلَاثَة أَيَّام وَأَنَا أُفَتِّش عَنْك فِي كُلّ مَكَان فَلَمْ أَجِد مَنْ يَدُلّنِي عَلَيْك حَتَّى وَجَدْتُك اَلْيَوْم بَعْد اَلْيَأْس مِنْك ثُمَّ أنفجرت بَاكِيَة بِصَوْت عَالٍ فَرَاعَنِي بِمَائِهَا وَخَفَتَ أَنْ يَكُون قَدْ حَلَّ بِالْبَيْتِ اَلَّذِي أُحِبّهُ بِأُسّ فَقُلْت: مَا بُكَاؤُك قَالَتْ أَمَّا تَعْلَم شَيْئًا مِنْ أَخْبَار بَيْت عَمّك قَلَّتْ لَا فَمَا أَخْبَاره فَمَدَّتْ يَدهَا إِلَى رِدَائِهَا وَأَخْرَجَتْ مِنْ أَضْعَافه كتابًا مُغْلَقًا فَتَنَاوَلَتْهُ مِنْهَا فَفَضَّضَتْ غِلَافه فَإِذَا هُوَ بِخَطّ اِبْنَة عَمِّي فَقَرَأَتْ فِيهِ هَذِهِ اَلْكَلِمَة اَلَّتِي لَا أَزَال أَحْفَظهَا حَتَّى اَلسَّاعَة إِنَّك فَارَقْتنِي وَلَمْ تُوَدِّعنِي فاغتفرت لَك ذَلِكَ فَأَمَّا اَلْيَوْم وَقَدْ أَصْبَحَتْ عَلَى بَاب اَلْقَبْر فَلَا أغتفر لَك أَلَّا تَأْتِي إِلَيَّ لِتُوَدِّعنِي اَلْوَدَاع اَلْأَخِير.
فَأَلْقَيْت اَلْكِتَاب مِنْ يَدِي وابتدرت اَلْبَاب مُسْرِعًا فَتَعَلَّقَتْ اَلْخَادِم بِثَوْبِي وَقَالَتْ أَيْنَ تُرِيد يَا سَيِّدِي قُلْت إِنَّهَا مَرِيضَة وَلَابُدّ لِي مِنْ اَلْمَصِير إِلَيْهَا فَصَمَّمَتْ لَحْظَة ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْت خَافِت مُرْتَعِش لَا تَفْعَل يَا سَيِّدِي فَقَدْ سَبَقَك اَلْقَضَاء إِلَيْهَا.
هُنَالِكَ شَعَرَتْ أَنَّ قَلْبِي قَدْ فَارَقَ مَوْضِعه إِلَى حَيْثُ لَا أَعْلَم لَهُ مَكَانًا ثُمَّ دَارَتْ بِي اَلْأَرْض اَلْفَضَاء دَوْرَة سَقَطَتْ عَلَى أَثَرهَا فِي مَكَانِي لَا أَشْعُر بِشَيْء مِمَّا حَوْلِي فَلَمْ أَفُقْ إِلَّا بَعْد حِين فَفَتَحَتْ عَيْنِي فَإِذَا اَللَّيْل قَدْ أظلني وَإِذَا اَلْخَادِم لَا تَزَال بِجَانِبِي تُبْكِي وَتَنْتَحِب فَدَنَوْت مِنْهَا وَقُلْت أَيَّتُهَا اَلْمَرْأَة أَحَقّ مَا تَقُولِينَ قَالَتْ نِعَم قَلَّتْ قَصِّي عَلَيَّ كُلّ شَيْء فَأَنْشَأَتْ تَقُول: إِنَّ اِبْنَة عَمّك يَا سَيِّدِي لَمْ تَنْتَفِع بَعْد رَحِيلك فَقَدْ سَأَلَتْنِي فِي اَلْيَوْم اَلَّذِي رَحَلَتْ فِيهِ عَنْ سَبَب رَحِيلك فَحَدَّثَتْهَا حَدِيث اَلرِّسَالَة اَلَّتِي حَمَلَتْهَا إِلَيْك مِنْ زَوْجَة عَمّك فَلَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَتْ وَمَاذَا يَكُون مَصِير هَذَا اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ أَمْره وَلَا مِنْ أَمْرِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْرِ ذِكْرك بَعْد ذَلِكَ عَلَى لِسَانهَا بِخَيْر وَلَا بَشَر كَأَنَّمَا كَانَتْ تُعَالِج فِي نَفْسهَا أَلَمًا ممضاً وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى سَرَى دَاء نَفْسهَا إِلَى جِسْمهَا فَاسْتَحَالَتْ حَالهَا وَغَاضَ مَاء جَمَالهَا وَانْطَفَأَتْ تِلْكَ اَلِابْتِسَامَات اَلْعَذْبَة اَلَّتِي كَانَتْ لَا تُفَارِق ثَغْرهَا ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى فِرَاشهَا مَرِيضَة لَا تَبُلّ يَوْمًا حَتَّى تَنْتَكِس أَيَّامًا فَرَاعَ أُمّهَا أَمَرَهَا وَوَرَدَ عَلَيْهَا مَا قَطَعَهَا عَنْ ذِكْر اَلْعُرْس وَالْعَرُوس وَالْخُطْبَة وَالْخَطِيب وَكَانَتْ لَا تَزَال تَهْتِف بِذَلِكَ نَهَارهَا وَلَيْلهَا فَلَمْ تَدَع طَبِيبًا وَلَا عَائِدًا إِلَّا فَزِعَتْ إِلَيْهِ أَمْرهَا فَمَا أُغْنِي اَلْعَائِد وَلَا اَلطَّبِيب وَأَصْبَحَتْ اَلْفَتَاة تَدْنُو مِنْ اَلْقَبْر رُوَيْدًا رُوَيْدًا فَبَيِّنًا أَنَا سَاهِرَة بِجَانِب فِرَاشهَا مُنْذُ لَيَالٍ إِذْ شَعَرَتْ بِهَا تَتَحَرَّك فِي مَضْجَعهَا فَدَنَوْت مِنْهَا فَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّ آخِذ بِيَدِهَا فَفَعَلَتْ فَاسْتَوَتْ جَالِسَة وَقَالَتْ فِي أَيّ سَاعَة نَحْنُ مِنْ اَللَّيْل قُلْت فِي اَلْهَزِيع اَلْأَخِير مِنْهُ قَالَتْ أأنت وَحْدك هُنَا قَلَّتْ نِعَم فَقَدْ هَجَعَ أَهْل اَلْبَيْت جَمِيعًا قَالَتْ أَلَّا تَعْلَمِينَ أَيْنَ مَكَان اِبْن عَمِّي اَلْآن فَعَجِبَتْ لِكَلِمَة لَمْ أَسْمَعهَا مِنْهَا قَبْل اَلْيَوْم وَقُلْت بَلَى يَا سَيِّدِتي أَعْلَم مَكَانه وَمَا كُنْت أَعْلَم شَيْئًا وَلَكِنِّي أَشْفَقْت عَلَى هَذَا اَلْخَيْط اَلرَّقِيق اَلْبَاقِي فِي يَدهَا مِنْ اَلْأَمَل أَنْ يَنْقَطِع بِانْقِطَاعِهِ آخَر خَيْط مِنْ خُيُوط أَجْلهَا فَقَالَتْ أَلَّا تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَحْمِلِي إِلَيْهِ رِسَالَة مِنِّي مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم أَحَد بِشَأْنِي قُلْت لَا أُحِبّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ يَا سَيِّدَتِي.
فَأَشَارَتْ أَنَّ آتيهَا بِمَحْبَرَتِهَا فَجِئْتهَا بِهَا فَكَتَبَتْ إِلَيْك هَذَا اَلْكِتَاب اَلَّذِي تَرَاهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ اَلصَّبَاح خَرَجَتْ أُسَائِل اَلنَّاس عَنْك فِي كُلّ مَكَان وَأَتَصَفَّح وَجَوّه الغادين والرائحين عَلّنِي أَرَاك أوَ أَرَى مَنْ يَهْدِينِي إِلَيْك فَلَمْ أَظْفَر بِطَائِل حَتَّى اِنْحَدَرَتْ اَلشَّمْس إِلَى مَغْرِبهَا فَعُدْت إِلَى اَلْمَنْزِل وَقَدْ مَضَى شَطْر مِنْ اَللَّيْل فَمَا بَلَغَتْهُ حَتَّى سَمِعَتْ اَلنَّاعِيَة فَعَلِمَتْ أَنَّ اَلسَّهْم قَدْ بَلَّغَ اَلْمَقْتَل وَأَنَّ تِلْكَ اَلْوَرْدَة اَلنَّاضِرَة اَلَّتِي كَانَتْ تَمْلَأ اَلدُّنْيَا جَمَالًا وَبَهَاء قَدْ سَقَطَتْ آخَر وَرَقَة مِنْ وَرَقَاتهَا فَحَزِنَتْ عَلَيْهَا حُزْن الثكلى عَلَى وَحِيدهَا وَمَا رئي مِثْل يَوْمهَا يَوْم كَانَ أَكْثَر بَاكِيَة وَبَاكِيًا.
وَكَانَ أَكْبَر مَا أَهَمَّنِي مَا أَمَرَّهَا أَنَّ كُلّ مَا كَانَتْ تَرْجُوهُ فِي اَلسَّاعَة اَلْأَخِيرَة مِنْ سَاعَات حَيَاتهَا أَنْ تَرَاك فَفَاتَهَا ذَلِكَ وَسَقَطَتْ دُون أُمْنِيَتهَا فَلَمْ أَزَلْ كَاتِمَة أَمْر اَلرِّسَالَة فِي نَفَسِي وَلَمْ أَزَلْ أَتَطَلَّب اَلسَّبِيل إِلَيْك حَتَّى وَجَدْتُك فَشَكَرَتْ لَهَا صَنِيعهَا وأذنتها بِالِانْصِرَافِ فَانْصَرَفَتْ فَمَا اِنْفَرَدَتْ بِنَفْسِي حَتَّى شَعَرَتْ أَنَّ سَحَابَة سَوْدَاء تَهْبِط فَوْق عَيْنِي شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَحْتَجِب عَنْ نَاظِرَيْ كُلّ شَيْء ثُمَّ لَا أَعْلَم مَاذَا تَمَّ بَعْد ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْتُك.
وَمَا وَصَلَ مِنْ حَدِيثه إِلَى هَذَا اَلْحَدّ حَتَّى زفر زَفْرَة خِلْت أَنَّ كَبِده قُدْ وَأَنَّ هَذِهِ أفلاذها فَدَنَوْت مِنْهُ وَقُلْت مَا بِك يَا سَيِّدِي قَالَ بِي أَنِّي أَطْلُب دَمْعَة وَاحِدَة أَتَفَرَّج بِهَا مِمَّا أَنَا فِيهِ فَلَا أَجِدهَا.
ثُمَّ صَمَتَ سَاعَة طَوِيلَة فَشَعَرَتْ أَنَّهُ يُهِمّهُمْ بِبَعْض كَلِمَات فَأَصْغَيْت إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُول: اَللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَم أَنِّي غَرِيب فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَا سَنَد لِي فِيهَا وَلَا عَضُد وَأَنِّي فَقِير لَا أُمَلِّك مِنْ مَتَاع اَلْحَيَاة مَا أَعُود بِه عَلَى نَفْسِي وَأَنِّي عَاجِز مستشفع لَا أُعَرِّف اَلسَّبِيل إِلَى بَاب مِنْ أَبْوَاب اَلرِّزْق بِوَجْه وَلَا حِيلَة وَأَنَّ اَلضَّرْبَة اَلَّتِي أَصَابَتْ قَلْبِي قَدْ سَحَقْته سَحْقًا فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ حَتَّى الدماء وَإِنِّي أستحييت أَنْ أَمُدّ يَدَيْ إِلَى هَذِهِ اَلنَّفْس اَلَّتِي أَوْدَعَتْهَا بِيَدِك بَيْن جَنْبِي فَأَنْتَزِعهَا مِنْ مَكَانهَا وَأُلْقِي بِهَا فِي وَجْهك سَاخِطًا نَاقِمًا فَتَوَلَّ أَنْتَ أَمَرَهَا بِيَدِك وَاسْتَرَدَّ وَدِيعَتك إِلَيْك وَانْقُلْهَا إِلَى دَار كَرَامَتك فَنِعَم اَلدَّار دَارك وَنِعَم اَلْجِوَار جِوَارك.
ثُمَّ أَمَسّك رَأْسه بِيَدِهِ كَأَنَّمَا يُحَاوِل أَنْ يُحِسّهُ عَنْ اَلْفِرَار وَقَالَ بِصَوْت ضَعِيف خَافِت أَشْعُر بِرَأْسِي يَحْتَرِق اِحْتِرَاقًا وَقَلْبِي يَذُوب ذَوَّبَا لَا أحسبني بَاقِيًا عَلَى هَذَا فَهَلْ تَعِدنِي أَنْ تَدْفِننِي مَعَهَا فِي قَبْرهَا وَتَدْفِن مَعِي كتابهَا إِنْ قَضَى اَللَّه فِي قَضَاءَه قَلَتْ نَعَمْ وَأَسْأَل اَللَّه لَك اَلسَّلَامَة قَالَ اَلْآن أَمُوت طَيِّب اَلنَّفْس عَنْ كُلّ شَيْء ثُمَّ اِنْتَفَضَ اِنْتِفَاضَة نَفْسه فِيهَا.
لَقَدْ هَوَّنَ وَجْدِيّ عَلَى ذَا اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين أَنِّي اِسْتَطَعْت إِمْضَاء وَصِيته كَمَا أَرَادَ فَسَعَيْت فِي دَفْنه مَعَ اِبْنَة عَمّه وَدُفِنَتْ مَعَهُ تِلْكَ اَلرِّسَالَة اَلَّتِي دَعَتْهُ فِيهَا أَنْ يُوَافِيهَا فَعَجَزَ عَنْ أَنْ يُلَبِّي نِدَاءَهَا حَيًّا فَلَبَّاهَا مَيِّتًا.
وَهَكَذَا اِجْتَمَعَ تَحْت سَقْف وَاحِد ذانك اَلصَّدِيقَانِ اَلْوَفِيَّانِ اَللَّذَانِ ضَاقَ بِهِمَا فِي حَيَاتهمَا فَضَاء اَلْقَصْر فَوَسِعَتْهُمَا بَعْد مَوْتهمَا حُفْرَة اَلْقَبْر. |
|