فضل كفالة اليتيم
(دعوة إلى مرافقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجنة)
تأليف وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية
الدكتور: عبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المملكة العربية السعودية
-----------------
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أحد السلف:
حق على من سمع هذا الحديث -يعني قول الرسول (صلى الله عليه وسلم)-: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين...)) أن يعمل به ليكون رفيق النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لقد اعتنى الإسلام بالأيتام عنايةً كبيرةً وما تلك الآيات العديدة في كتاب الله وذلك الحثُّ المتوالي من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا دليل قوي على هذه العناية ولقد ترجمت القرون الأولى هذه التوجيهات عملياً وتعاملت معها أمراً واقعاً فمَنْ يتتبع التاريخ الإسلامي يرى بوضوح مقدار الحرص على رعاية اليتيم وكفالته بحثاً عن الأجر ومُرافقة النبي (صلى الله عليه وسلم).
ولئن كانت الدولة معنية وجوباً برعاية اليتيم ومَنْ في حُكمه بتربيته والعناية به إذا لم يوجد مَنْ يرعاه، فإن الفرد المسلم عليه جزءٌ من واجب الرعاية لليتيم ومَنْ في حُكمه من اللقطاء أو مجهول النسب ويكون ذلك بكفالته وأخذه ليتربى في أحد بيوت المسلمين بين أحضان أسرة طبيعية ليعيش حياة هنيئة وفق سنة الله في تكوين المجتمعات.
ومما لاشك فيه أن رعاية اليتيم في كنف أسرة من أسَرِ المجتمع المسلم هو الوضع الطبيعي، أما مؤسسات الرعاية أو دور تربية الأيتام التي وضعتها الدولة -وفقَّها الله- فهي وضعٌ بديلٌ لِمَنْ لم يجد أسرة تقوم برعايته والعناية به، ورغم قيام الدولة بتوفير كامل أوجه الرعاية لهؤلاء الأيتام في المؤسسات الاجتماعية إلا أن الشيء الذي لا يمكن توفيره مهما بلغت الإمكانات المادية، هو الحنان الأسري الطبيعي أو شبه الطبيعي فهذا الحنان لا يتيسَّر لليتيم أو مَنْ في حكمه بشكل مناسب إلا في حالة قيام أحد الأسَرِ المسلمة بكفالته وجعله يعيش في أحضانها مُحتسبةً الأجر في ذلك من الله الجواد الكريم.
ومن واقع عملي لسنوات طويلة في مجال الرعاية الاجتماعية لمست خلال زياراتي المتكررة إلى دور التربية الاجتماعية ودور الحضانة الاجتماعية وهي الدور المعنية برعاية الأيتام ومن في حكمهم من اللقطاء ومجهول الأبوين... لمست تطلع هؤلاء الأطفال الأبرياء إلى العيش بين أحضان أسرة من أسَرِ المجتمع يجمعهم بيت واحد ومشاعر مشتركة وعطف متبادل.
ولا يمكن أن يتجاهل أي زائر لهم تلهفهم الشديد وطلبهم المُلحّ لجلسة أسرية أو جمعة عائلية يسودُها جوٌ من الألفة والمحبة مثل بقية الأطفال في المجتمع، وكم ترنو نظراتهم البريئة التي تقابلك عند دخولك عليهم وعبراتهم التي تسابق كلماتهم إلى احتضان صدر حنون يخفف عنها فقد الوالدين ويعوضهم ضمة الأم لوليدها وفزعة الأب لفلذة كبده ويجعله يشعر بالأمن النفسي والاجتماعي في خضم المجتمع المتلاطم.
ولقد سعت الدولة لتنفيذ هذا البرنامج الاجتماعي المهم لفئة الأيتام ومن في حكمهم وهو برنامج الأسر البديلة وعملت بقوة على التوسع فيه وتشجيع المسلمين للإقدام عليه وذلك من خلال تسهيل إجراءاته الإدارية وتقديم المعونات المادية والمعنوية لكل من يقوم بكفالة أحد الأيتام الموجودين في المؤسسات الاجتماعية التابعة لوزارة العمل والشئون الاجتماعية.
ومن هنا يأتي هذا الكتاب ليقدم في عرض سريع فضل رعاية اليتيم والفوائد التي يجنيها المجتمع والفرد المسلم جراء كفالته لأحد الأيتام، ثمّ نلقي الضوء بشكل مختصر على الحقوق الأساسية التي يجب أن يحصل عليها اليتيم، وبعد ذلك نتعرف على الأسس التي تقوم عليها رعاية الأيتام في الإسلام.
وأخيراً طرح خطوة عملية لِمَنْ أراد أن يحتسب الأجر ويعقد النيَّة على مُصاحبة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الجنَّة كما أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يقول فيه: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسَّبَّابَةِ والوسطى وفَرَّجَ بينهما شيئاً) (رواه البخاري)، وبعد ذلك توضيح الخطوات العملية لتنفيذ هذا المشروع المضمون الربح مع الله -عز وجل-، مع ذكر للمزايا الدنيوية والأخروية التي يحصل عليها كافل اليتيم.
ونختم ببعض التوصيات لمن أكرمه الله ووفقه إلى كفالة أحد الأيتام في بيته وبين أفراد أسرته و أبناءه.
والله أسأل أن ينفع بهذا الكتيب وأن يجعله من العلم الذي يُنتفع به في الدنيا والآخرة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المؤلف
ص. ب 7351
الرياض 11462
من هو اليتيــــم؟
اليتيم في اللغة:
اليُتمُ هو: الانفراد، واليتيم: الفردُ وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم، وأصل اليتيم الغفلة، وبه سُميَّ اليتيم يتيماً؛ لأنه يتغافل عن بره، كما قيل إن اليتيم الإبطاء، ومنه أُخذ اليتيم؛ لأن البر يُبطيءُ عنه، ويقال أيضاً في سيرة يَتَمُ: أي إبطاء أو ضعف أو فتور، فكلمة اليتيم في أصلها اللُّغوي تدور على الانفراد والضعف والبطء والحاجة، وتلك صفات في واقع الحال لليتيم في الغالب.
تدور كلمة اليتيم في اللغة على الانفراد والضعف والحاجة.
أما اليتيم في الشَّرع:
فهو من فقد أباه وهو دون البلوغ، ففي الأثر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يتم بعد احتلام...).
وتقول العرب:
اليتيم الذي يموت أبوه، والعجيُّ الذي تموت أمه، ومن مات أبواه فهو لطيم.
إلا أن اسم اليتيم يطلق تجاوزاً لكل من فقد أحد والديه أو كليهما، ويُقال للصبي يتيماً إذا فقد أباه قبل البلوغ، فهو يتيم حتى يبلغ الحلم، ويُقال للمرأة يتيمة ما لم تتزوج، فإذا تزوجت زال عنها اسم اليُتم.
والجمع أيتام ويتامى.
أما اليتيم في الشرع:
فهو مَنْ فقد أباه وهو دون البلوغ، أخذاً من حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): (لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل) (رواه أبو داود)، مع اختلاف بين الفقهاء في وقت انقطاع حكم اليتيم عنه، لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: (إن الرجل لتنبت لحيته، وأنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم)، وهذا في أحكام التصرف المالي، أما اسم اليتيم فهو ينقطع بالبلوغ لما ورد في حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل).
ومما يلحق بالأيتام، بل إن أمرهم أشد اللقطاء أو من كان مجهول الأب أو الأم أو كليهما فقد يفقد الطفل أبويه لأي سبب من الأسباب، والأسباب كثيرة فقد يتوفى الوالدان وهو صغير وقد يفقداه في زحام الحج، أو في حادثة حريق، أو حادث مروري وما أكثرها في أيامنا هذه.
ولاشك أن العناية بهذه الفئة قد تكون أفضل، فاليتيم قد يجد العم أو الخال أو الجد أو القريب، أما مجهول الأبوين لأي سبب من الأسباب لا يجد أياً من ذلك إلا رحمة الرحمن الرحيم وهي خير وأبقى.
وتأكيداً لهذا الأمر وحتى يزول الإشكال الذي قد يرد لدى بعض الناس ومحبي الخير صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 20711 مؤرخة في 24/12/1419هـ حول هذا الأمر وجاء فيها ما نصه: (إن مجهولين النسب في حُكم اليتيم لفقدهم لوالديهم بل هم أشد حاجة للعناية والرعاية من معروفي النسب لعدم معرفة قريب يلجئون إليه عند الضرورة وعلى ذلك فإن مَنْ يكفل طفلاً من مجهولين النسب فانه يدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم): ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً)) (رواه البخاري).
ثمّ صدرت فتوى أخرى لاحقة لها وبتفصيل أكبر برقم 21145 مؤرخة في 22 / 10 / 1420هـ، وجاء في أول فقرة منها ما يلي: (من أبواب الإحسان في شريعة الإسلام حضانة اللقيط المجهول النسب، والإحسان إليه في كفالته وتربيته تربية إسلامية صالحة، وتعليمه فرائض الدين وآداب الشرع وأحكامه، وفي هذا أجر عظيم وثواب جزيل، ويدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم لعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً)) (رواه البخاري).
فضل كفالة اليتيم
لقد اهتم الإسلام بشأن اليتيم اهتماماً بالغاً من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سبل العيش الكريمة له، حتى ينشأ عضواً نافعاً في المجتمع المسلم قال تعالى: (فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر) [الضحى: آية 9] وقال تعالى: (أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ) [الماعون: آية 1-2]، وهاتان الآيتان تؤكدان على العناية باليتيم والشفقة عليه، كي لا يشعر بالنقص عن غيره من أفراد المجتمع، فيتحطم ويصبح عضواً هادماً في المجتمع المسلم.
ومما يؤكد على حرص التشريع الإسلامي على اليتيم والتأكيد المستمر على العناية به وحفظه، هو ورود كلمة اليتيم ومشتقاتها في ثلاث وعشرين آية من آيات القرآن العظيم، وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة، كلها تدور حول: دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، وفي الحالة الزواجية، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.
يقول تعالى:
(وَإِذ أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائيلَ لاَ تَعبُدونَ إِلاّ اللَّهَ وبِالوالدينِ إحسَانا وذِي القُربَى واليَتَامى والمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنا وأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتوا الزّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيتُم إِلا قَلِيلاً مِّنكُم وأنتُم مُعرِضُون) [البقرة، آية: 83]، فالإحسان إلى اليتيم متعين كما هو للوالدين ولذي القربى، كما قال تعالى: (أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ * ولا يحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ) [الماعون: 1-3].
وقوله تعالى:
(فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر) [الضحى: آية 9].
قال ابن كثير عن تفسير هذه الآية:
فلا تقهر اليتيم: أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطَّف به، وكن لليتيم كالأب الرحيم.
ولقد كان (صلى الله عليه وسلم) أرحم الناس باليتيم وأشفقهم عليه حتى قال حاثاً على ذلك: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً).
كما أمر الله -عز وجل- بحفظ أموال الأيتام، وعدم التعرض لها بسوء، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب وعظائم الأمور، ورتَّب عليه أشد العقاب، قال تعالى: (إنَّ الذِينَ يَأكُلُونَ أَمَوالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وسَيصلَونَ سَعِيرًا) [النساء: آية 10]، كما قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالْتِي هِيَ أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء: آية 34].
وعدَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أكل مال اليتيم من السَّبع المُوبقات، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (اجتنبوا السَّبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) (رواه البخاري).
ولخطورة ذلك الأمر، وجَّهَ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ كان ضعيفاً من الصحابة ألا يتولينَّ مال يتيم، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحِبُّ لكَ ما أحِبُّ لنفسي، لا تأمرن على أثنين، ولا تَوَلَيَنَّ مال يتيم) (رواه مسلم).
واستمراراً لحرص التشريع الإسلامي على أموال اليتامى، أمر باستثمارها وتنميتها حتى لا تستنفدها النفقة عليهم، فلقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ألا مَنْ رَبَّى يتيماً له مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) (رواه أبو داود).
كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
(اتَّجِرُوا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة)، ومن هنا يلزم الولي على مال اليتيم استثمارها لمصلحة اليتيم على رأي كثير من أهل العلم بشرط عدم تعريضها للأخطار.
وجـماعاً لكل ما سبق:
أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بكفالة اليتيم، وضمه إلى بيوت المسلمين، وعدم تركه هملاً بلا راعٍ في المجتمع المسلم، فلقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً) (متفق عليه)، كما عَدَّ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) خير بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَنُ إليه.
فلقد ورد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(خيرُ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَنُ إليهِ، وشَرُّ بيتٍ في المسلمينَ بيتٌ فيه يتيمٌ يُسَاءُ إليهِ) (رواه ابن ماجه).
ولقد وعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالأجر العظيم لمَنْ تكفل برعاية الأيتام، فقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ عَالَ ثلاثةً من الأيتام كان كمَنْ قام ليلهُ وصام نهارهُ وغدا وراح شاهراً سيفهُ في سبيل الله، وكنتُ أنا وهو في الجنة أخوين كهاتين أختان وألصق إصبعيه السَّبَّابَةَ والوسطى) (رواه ابن ماجه).
كما جعل الإحسان إلى الأيتام علاجاً لقسوة القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قسوة قلبه فقال: (امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين) (رواه أحمد)، ورَتَّبَ على ذلك الأجر العظيم، حيث يكسب المرء الحسنات العظام بكل شعرة يمسح فيها على رأس ذلك اليتيم، فعن أبي أمامة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ مسح رأس يتيمٍ لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرةٍ مرَّت عليها يده حسنات، ومَنْ أحسن إلى يتيمةٍ أو يتيمٍ عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وفرَّق بين إصبعيه السَّبَّابَة والوسطى) (رواه أحمد).
ولقد تمثَّل المجتمع المسلم تلك التوجيهات عملياً بدءاً من عصر الصحابة رضوان الله عليهم حتى يومنا الحاضر، فلقد ثبت أن هناك العديد من الصحابة والصحابيات كفلوا أيتاماً ويتيماتٍ وضَمُّوهُم إلى بيوتهم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: أبو بكر الصديق، ورافع بن خديج، ونعيم بن هزال، وقدامة بن مظعون، وأبو سعيد الخدري، وأبو محذورة، وأبو طلحة، وعروة بن الزبير، وسعد بن مالك الأنصاري، وأسعد بن زرارة، وعائشة بنت الصديق، وأم سُلَيم، وزينب بنت معاوية -رضي الله عنهم- وغيرهم كثير وكثير جداً من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
واعلم أخي المسلم أن رعاية المسلمين للأيتام ومَنْ في حكمهم تقوم على أسس أصيلة قوية تنطلق منها جميع أوجه الرعاية التي يقدمونها لهم سواء من آحاد المسلمين أو من المجتمع المسلم بشكل عام، وهذه الرعاية لا تقوم على مجرد عاطفة قد تضمحلُّ أو شفقة عابرة أو رحمة قد تزول وتتناقص على مر الأيام، بل هي قواعد أساسية مرتكزة على توجيهات ربانية وهدي نبوي، ولاشك أن استحضار هذه الأسس تعين المسلم على الأقدام على رعاية هؤلاء الأيتام والعطف عليهم والشفقة بهم.
ومن ذلك أنهم ينظرون إلى هذا اليتيم على أنه مخلوق بشري له كرامته التي كرمه الله بها فقد أسجد ملائكته له حين خلقه، قال تعالى: (إذ قَالَ ربُكَ للمَلائكَةِ إِنيِ خَالِقُ بَشَراً من طِين * فإذا سَوَّيتُهُ ونَفَختُ فِيهِ من رُّوحِي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِين * فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلُّهُم أَجمعُون * إِلا إِبلِيسَ استَكبرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ) [ص: آية 71-74].
وهذا السجود سجود إكرام وإعظام واحترام كما ذكر المفسرون.
وجنس الإنسان مُكَرَّمٌ، وللإنسان منزلة خاصة بين مخلوقات الله عز وجل، قال تعالى: (وَلَقد كَرَّمنَا بنِي آدَمَ وحَمَلناهُم في البَّرِ والبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِن الطّيّباتِ وفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِير مّمَّنْ خَلَقنا تَفضِيلًا) [الإسراء آية: 70]، فلقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير ممن خلق، كرمه بهيئته، وتسويته، وفطرته، وخلافته في الأرض، وبتسخير الكون له، وكرمه بإعلان ذلك التكريم وتخليده في كتابه العزيز.
ومن هنا، فالإنسان مُكَرَمٌ له منزلته المُحترمة، وله كرامته المَصُونة المحترمة، واليتيم له حق هذا التكريم، ومما يزيد في حق تكريم اليتيم ومَنْ في حكمه الضَّعف الذي يعيشه.
ثمّ أعلم أخي الحبيب:
أن المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك متوادٌّ، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم... الآية) [الفتح آية: 29]، وقال تعالى واصفاً المؤمنين: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وتَوَاصَوا بِالصَّبرِ وتَوَاصَوا بِالمَرحَمَةِ) [البلد آية: 17].
ويصف الرسول (صلى الله عليه وسلم) المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، ففي الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) (رواه البخاري).