المبحث الثالث: بيان الشروط التي تشترط لجواز الرجوع:
سبق في المبحث الأول من هذا الفصل حكم رجوع الوالد فيما وهبه لأولاده؛ حيث أوضحت أقوال العلماء في هذه المسألة، وتوصَّلتُ إلى أن الرَّاجح هو جواز رجوع الوالد فيما وهبه لأولاده لكن هل هذا الرجوع مطلق أو مقيد بشروط ؟
والجواب:
أنه مقيد بشروط، وهذا المبحث خصصته في ذكر هذه الشروط التي ذكرها جمهور العلماء الذين ذهبوا إلى جواز الرجوع في الهبة للوالد فيما وهبه لأولاده.
وإليك بيانها:
الشرط الأول:
أن تكون باقية في ملك الولد، فإن خرجت عن ملكه ببيع، أو هبة أو وقف، أو غير ذلك لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنها أصبحت في ملك غير ولده. وقد نص على هذا الشرط المالكية (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3).
الشرط الثاني:
أن تكون العين الموهوبة باقية في تصرف الولد بحيث يملك التصرف في وقتها فإن استولد الأمة لم يملك الأب الرجوع فيها. وكذلك إذا رهن الولد العين أو أفلس الولد وحجر عليه لم يملك الأب الرجوع؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق غير الولد. وقد نص على هذا الشرط المالكية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة (6).
--------------------------
(1) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي 2/5001، والشرح الصغير على مختصر خليل 7/411.
(2) مغني المحتاج 2/204، ونهاية المحتاج 5/814.
(3) المغني 8/462، وحاشية الروض المربع 6/12.
(4) القوانين الفقهية ص893، والشرح الصغير على مختصر خليل 7/511.
(5) مغني المحتاج 2/204، واستثنى الشافعية من ذلك الرهن فإنه يجوز للوالد أن يرجع إذا كانت العين مرهونة.
(6) المغني 8/462، وحاشية الروض المربع 6/12.
الشرط الثالث:
أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، فإن تعلقت بها رغبة لغيره مثل أن يهب ولده شيئاً فيرغب الناس في معاملته وأدانوه ديوناً، أو رغبوا في مناكحته فزوجوه إن كان ذكراً أو تزوجت الأنثى لذلك، فقد اختلف العلماء في حكم الرجوع على قولين:
القول الأول:
ليس له الرجوع، وإليه ذهب المالكية (1)، والحنابلة (2). وقد عللوا ذلك بتعليلين:
التعليل الأول: أنه تعلق به حق غير الولد ففي الرجوع إبطال حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرر) (3)، وفي الرجوع ضرر (4).
التعليل الثاني:
أن في الرجوع تحيلاً على إلحاق الضرر بالمسلمين، ولا يجوز التحيل على ذلك (5).
القول الثاني:
أن له حق الرجوع، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد (6). ودليل هذا القول أن حق المتزوج، والغريم، لم يتعلق بعين هذا المال، فلم يمنع الرجوع منه (7).
--------------------------
(1) بداية المجتهد 2/233، والقوانين الفقهية ص893.
(2) المغني 8/662، والاختيارات الفقهية ص681، ومعونة أولي النهى في شرح منتهى الإرادات 6/45.
(3) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فقد رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه الدارقطني 4/822، والحاكم 2/75، 85. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تلخيصه، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/96. ورواه عبادة ابن الصامت رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/487، والإمام أحمد 5/623، 723. ورواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/487، والإمام أحمد 1/313، والدارقطني 4/822. ورواه أبو هريرة رضي الله عنه أخرجه الدارقطني 4/822. وروته عائشة رضي الله عنها أخرجه الدارقطني 4/722. وأخرجه الإمام مالك مرسلاً من غير ذكر الصحابي الذي رواه عنه 2/547، وذكره النووي في الأربعين النووية ص32، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: حديث حسن، رواه ابن ماجة، والدارقطني، وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو ابن يحيى عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً. وصححه الألباني بمجموع طرقه كما في إرواء الغليل 3/804-414.
(4) المغني 8/662.
(5) المغني 8/662.
(6) المغني 8/662.
(7) المغني 8/662.
المناقشة والترجيح:
في النظر فيما استدل به لكل قول أجد ما يأتي:
أولاً:
أن أصحاب القول الأول قد عللوا ذلك أن في الرجوع يتعدى ضرره إلى غير الولد، وهو تعليل وجيه.
ثانياً:
أن أصحاب القول الأول قد عللوا ذلك أن ذلك فيه تحيل على إلحاق الضرر بالمسلمين، وهذا تعليل وجيه.
ثالثاً:
أن أصحاب القول الثاني قد عللوا أن التعلق لم يكن بالعين، وهذا تعليل غير وجيه؛ لأن هذا القول فيه إبقاء الضرر على غير الولد، والضرر قد نفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو الذي بنى عليه أصحاب القول الأول تعليلهم الأول، وبهذا ظهر لي رجحان اشتراط هذا الشرط وهو أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، والله أعلم.
الشرط الرابع:
أن لا تزيد زيادة متصلة كالسمن، والكبر، وتعلم صنعة.
وقد اختلف العلماء في اشتراط هذا الشرط على قولين:
القول الأول:
عدم اشتراطه، وإليه ذهب الشافعية (1)، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها القاضي أبو يعلى، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (2).
وعللوا ذلك على أنها زيادة في الموهوب، فلم تمنع الرجوع، كالزيادة قبل القبض، والزيادة المنفصلة (3).
القول الثاني:
أن ذلك شرط فلا يجوز الرجوع في الهبة إذا ازدادت زيادة متصلة، وإليه ذهب المالكية (4)، والحنابلة (5).
وعللوا ذلك
بأن الزيادة للموهوب له؛ لكونها نماء ملكه، ولم تنتقل إليه من جهة أبيه، فلم يملك الرجوع فيها، كالمنفصلة، وإذا امتنع الرجوع فيها امتنع الرجوع في الأصل (6).
--------------------------
(1) مغني المحتاج 2/304، ونهاية المحتاج 5/124.
(2) المغني 8/662، والإنصاف 7/151، والفتاوى السعدية ص854.
(3) المغني 8/662.
(4) القوانين الفقهية ص893، والشرح الصغير على مختصر خليل 7/411.
(5) الإنصاف 7/151، ومعونة أولي النهى 6/65، 75.
(6) المغني 8/662.
المناقشة والترجيح:
في النظر فيما استدل به كل قول أجد ما يأتي:
أولاً:
أن أصحاب القول الأول قد عللوا ذلك بأنها زيادة في الموهوب، فتتبعه؛ لأنه لا يمكن انفصالها، وهذا تعليل وجيه.
ثانياً:
أن أصحاب القول الثاني قد عللوا ذلك أنها زيادة حصلت في ملكه، وهذا تعليل غير وجيه؛ لأنها زيادة تابعة للهبة فتتبعها في الرجوع، وكونها حصلت في ملكه لا يمنع ذلك لاسيما وأن للأب أن يتملك من مال ابنه ما يشاء بشرط أن لا يضر الابن، وكذلك لا يعطيه لابن آخر، والدليل على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن لي مالاً ووالداً وإن والدي يريد أن يجتاح مالي، قال: (أنت ومالك لأبيك) (1).
وبهذا ظهر لي رجحان عدم اشتراط هذا الشرط، فلا تمنع رجوع الوالد في هبته لولده الزيادة المتصلة في الهبة، والله أعلم.
--------------------------
(1) أخرجه أبو داود وسكت عنه في كتاب الإجارة، باب في الرجل يأكل من مال ولده 3/108، 208، وابن ماجة في كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده 2/967، والإمام أحمد 2/412، وابن الجارود في المنتقى ص133، والبيهقي في السنن الكبرى 7/84، وصحح إسناده الشيخ المُحَدِّث أحمد بن محمد شاكر في شرحه على المسند 11/281، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل 6/323-923.