سادساً: الإرهاب من منظور الشريعة الإسلامية
لم تشهد فترة حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين من بعده، رضوان الله عليهم أجمعين، الظاهرة الإرهابية التي انتشرت حالياً في جميع أنحاء العالم، ولم تكن تلك الحقيقة مصادفة أو عشوائية، فالإسلام دين سماوي إلهي يتسم بالعدالة والسمو، واجه منذ البداية ما في النفس البشرية من جموح ورغبات غريزية، واستأصل منها غرائز العدوان والهدم والعنف، وغرس فيها المبادئ والقيم والمُثل العليا، وحدد ما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، وفي إطار هذا التوازن تمكن الإسلام من القضاء على نزعات العنف في النفس البشرية، ولذلك لم يكن هناك إرهاب، ولم ينشأ عنف، حيث عالجت المبادئ والقيم الإسلامية أسباب ظهور الإرهاب، فكانت هناك المساواة بين الجميع أقلية كانت أم أغلبية، عرباً أم عجماً، بيضاً أم سوداً.
كذلك كانت هناك المساواة الاقتصادية، فالعمل متاح للجميع، والدعوة إليه ترتفع إلى مصاف العبادة، والتكافل الاجتماعي قائم من خلال الزكاة والصدقات، ولذلك نشأت بين المسلمين حب الآخرين، في إطار المساواة الاجتماعية التي انصهرت فيها كافة التنوعات الإثنية والعرقية والجنسية واللغوية، ولم يفرق بينهم سوى التقوى والعمل الصالح.
وإذا كان الإسلام قد عمل على تهذيب النفوس وتنشئتها في صورة صالحة، وعمل على مواجهة الميول العدوانية والغرائز الهدامة والعنف، فإنه قد وضع قواعد وعقوبات صارمة تردع كل نفس ضعيفة، يمكن أن تعتدي على الغير، سواء كان ذلك الاعتداء على النفس أو المال أو الأخلاق أو القيم العامة في المجتمع، وتتمثل الجرائم التي يواجهها المجتمع والتي وضع لها الشرع الإسلامي من الحدود ما يردَع النفس لارتكابها، في جرائم الحرابة وجرائم البغي، وهما أحد أنماط العنف، وإن كانت جرائم البغي أقرب إلى الجرائم الإرهابية في المفهوم الحديث.
وقد ورد ذكر جرائم الحرابة في القرآن الكريم في قوله تعالى:
"إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: الآية 33)، والحرابة تعني إشهار السلاح وقطع السبيل والخروج المسلح على المارة، لأخذ المال على سبيل المغالبة، وعلى وجه يؤدي إلى قطع الطريق وترويع المارة، سواء كان بواسطة فرد أو جماعة، وبذلك يكون المحارب هو كل قاطع طريق، وهو من يظهر أو يشهر سلاحه ليخيف عابر السبيل، أو أحد المارة وأخافتهم تكون إما بقتل نفس أو أخذ مال أو انتهاك عرض.
تتمثل التبعات التي تُلقى على كاهل المحارب في حقين، أحدهما لله تعالى والآخر للعباد، فأما حق الله تعالى فهو ما جاء في الآية 33 من سورة المائدة من القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي حسب درجة الجرم الذي اقترفه المحارب، فقتل المحارب أو صلبه ملزم إن كان قد قتل نفساً، أما إذا اعتدى على المال إثماً وعدواناً دون أن يزهق أرواحاً، فيكون هناك اختيار بين قتله أو صلبه أو يقطع من خلاف، أما إذا كان المحارب محدثاً للفزع والخوف، ويمثل خطراً على عابر السبيل، فإما أن يُطبق عليه إحدى العقوبات السابقة أو يُنفى، لكن حق العباد في مواجهة المحارب يتمثل في وجوب مقاومتهم له بكافة السبل والدفاع عن أموالهم وأنفسهم بما في ذلك جواز قتل المحارب أو أسره وتسليمه للسلطات لإقامة حق الله.
والحرابة تُسمى أيضاً قطع الطريق، وهي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، سواء كان القائم بها فرداً أو جماعة.
ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل وخطف الأطفال، وعصابة السطو على البيوت، والبنوك، وإتلاف الزرع وقتل المواشي والدواب، وغير ذلك من الأفعال التي تمثلا اعتداء على الآخرين.
أما جريمة البغي فهي تعني خروج جماعة لها منعة وشوكة ـ على طاعة الإمام مغالبة، بتأويل سائغ، كما إن البغاة هم خائنون من المسلمين خالفوا رأي الجماعة وانفردوا بمذهب ابتدعوه، وبذلك يتضح أن جرائم البغي تختلف عن جرائم المحاربة في استنادها إلى تأويل ينادي به البغاة ويسعون إلى تطبيقه وتنفيذه، ولقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه إذا خرجت طائفة ذات منعة ولها تأويل مشتبه ولها قائد، فإنه يُباح مقاتلتهم حتى يعودوا إلى صوابهم ويرجعوا إلى الطاعة والالتزام، فإن رجعا توقف عن قتالهم.
ولقد حرمت الشريعة الإسلامية الإرهاب، وعدت الإرهابي مرتكباً جريمة كبرى، ولقد وصف القرآن الكريم مرتكبي الجرائم الإرهابية بأنهم المحاربون لله ورسوله والساعون في الأرض فساداً، والمقصود من محاربة الله ورسوله معصيتهما بإيذاء الناس، والإخلال بأمنهم، وإشاعة الرعب والذعر والفوضى بينهم، لأن تلك الأعمال تنطوي على الفساد، ولقد أوضح الإسلام أسلوبين لتخليص المجتمع من أعمال العنف بصورة عامة ومنها الإرهاب، وهما أسلوبا الوقاية والعلاج، الوقاية التي تتمثل في القيم والمبادئ الإسلامية السامية التي تستهدف تهيئة الروح والنفس البشرية تهيئة صالحة قويمة، بينما يتمثل العلاج في مجموعة الحدود الزاجرة الفاصلة التي تواجه تلك العمليات الإجرامية وتحول دون انتشارها في المجتمع.
سابعاً: أشكال الإرهاب وأساليبه
تتعدد أشكال الإرهاب بتعدد المعايير التي تصنف في إطارها، وتتمثل تلك المعايير في: المعيار التاريخي والذي على أساسه يمكن التمييز بين إرهاب الماضي والإرهاب المعاصر أو الحديث.
وفي إطار معيار الطبيعة يميز بين الإرهاب الثوري والإرهاب الرجعي والإرهاب الإثني أو الانفصالي، وكذلك الإرهاب الانتحاري.
أمّا في إطار معيار الفاعلية، فيكون التمييز بين الإرهاب الفردي وإرهاب الدولة.
وعلى أساس معيار النطاق يكون التمييز بين الإرهاب المحلي والإرهاب الدولي.
1. أشكال الإرهاب في إطار المعيار التاريخي
أ. إرهاب الماضي Past Terrorism
ويُقصد به الإرهاب الذي شاعت ممارسته منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، ولقد تمثل هذا الشكل في إرهاب الحركات الفوضوية Anarchism والعدمية، والتي تقوم أساساً على مناهضة الدولة واعتماد العنف وسيلة لتقويض دعائم سلطة الحكومة، وهدم أركانها ورموزها، بهدف تحرير الفرد والمجتمع من السلطات القهرية والتسلطية، وتقوم الأسس الفكرية للفوضويين على تبني إستراتيجية الدعاية عن طريق الفعل، مستخدمين الإرهاب لتحقيق مبادئهم، ويولي الفوضويون أهمية خاصة، عند تنفيذ مهامهم وعملياتهم الإرهابية، بالمتفجرات التي تمكنهم من اختيار أهدافهم وإشباع تطلعاتهم في مناهضة رموز السلطة.
ولقد انتشر هذا الشكل من العمليات الإرهابية في كافة العواصم الأوروبية، واستخدم الفوضويون المتفجرات بأشكالها المختلفة والخطابات المفخخة والمتفجرة على نطاق واسع، ولذلك انتشر ضحاياهم في كافة الدول الأوروبية.
أمّا إذا تزايدت الحالة الفوضوية إلى درجة التطرف فإنها بذلك تكون قد وصلت إلى الحالة العدمية، وقد نفذ العدميون هجماتهم الإرهابية العنيفة ضد الحكومة القيصرية في روسيا.
ب. الإرهاب المعاصر Modern Terrorism
هو ذلك الشكل من الإرهاب المنتشر في العصر الحالي، وتمثله الحركات الإرهابية الحديثة، والتي ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وهو يجمع بين حركات التحرر القومي الثوري واليساري الجديد والفاشية والعنصرية.
ويتميز هذا الشكل من الإرهاب بالطابع الجماعي، وتكون تنظيماته الإرهابية بالغة التعقيد والتنظيم، وتستخدم أسلحة متطورة، كما أنها متغلغلة في قطاعات عريضة من المجتمعات، ولذلك فإن لها القدرة على تهديد الأمن والاستقرار في العديد من الدول، وقد تصل قدرتها إلى إمكان تهديد الاستقرار والأمن الدوليين، وخاصة إذا تمكنت من امتلاك أسلحة التدمير الشامل.
2. أشكال الإرهاب في إطار معيار الفاعلية
أ. الإرهاب الفردي Individual Terrorism
هو ذلك الشكل الذي يرتكب بواسطة أفراد معينين، سواء عملوا ضد الحكومة بمفردهم، أو في إطار جماعات منظمة، ويستهدف هذا الشكل نظم الحكم أو الدولة عموماً، ويُطلق على هذا الشكل مصطلح الإرهاب من أسفل Terrorism from Below، وقد يُطلق عليه أيضاً الإرهاب الأبيض White Terrorism، ويتميز هذا الشكل من الإرهاب بالانتشار والاستمرار والتفرع، سواء في الأهداف أو الأساليب والآليات، كذلك يضم الحركات والأنشطة الإرهابية كافة مثل إرهاب الجماعات الفوضوية والإثنية الانفصالية، التي لها أهداف قومية، والجماعات الإرهابية الثورية الراديكالية، والمجموعات العنصرية والمحافظة.
ب. إرهاب الدولة State Terrorism
يُقصد بإرهاب الدولة مجموعة السياسات والأنشطة الحكومية، التي تنتهجها الدولة لإخضاع المواطنين من نشر الرعب في الداخل والخارج، حتى يمكنها تحقيق أهدافها التي لا تستطيع تحقيقها بالوسائل والأساليب المشروعة، ويُطلق على هذا الشكل الإرهاب من أعلى، أو الإرهاب الأحمر.
كما قد يكون إرهاب الدولة، والذي تنفذه الدول أو الحكومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان ذلك على المستوى الداخلي أو الخارجي.
ويكون إرهاب الدولة على المستوى الخارجي عندما يكون التنفيذ خارج حدود الدولة، من خلال إرسال مجموعات إرهابية للدول الأجنبية لاغتيال معارضيها السياسيين المقيمين بتلك الدول، أو عند قيام بعض أجهزتها بتخريب بعض مؤسسات ومرافق الدول الأخرى، وبذلك يكون هذا النوع من الإرهاب هو إرهاب دولة مباشر على المستوى الخارجي، إلا أن الدولة غالباً ما تلجأ إلى ممارسة الإرهاب على وجه غير مباشر، من خلال الدعم والتأييد، أو تجنيد منظمات إرهابية، تستغل أنشطتها وسيلة للضغط على الدول الأخرى، ويتخذ التأييد الذي تقدمه الدولة للإرهاب العديد من الأشكال، فقد يكون في صورة دعم مادي أو مالي أو تقديم تسهيلات لتدريب أفراد تلك الجماعات على أراضيها، أو تقديم المعلومات الضرورية عن الأهداف المطلوب العمل ضدها.
كذلك قد تكون تلك التسهيلات في إطار تقديم الأسلحة اللازمة للجماعات الإرهابية من خلال مقار بعثاتها الدبلوماسية، كما قد توفر الدولة المأوى الآمن للجماعات الإرهابية، بعد تنفيذها المهام المكلفة بها، وتحقيق الحماية والتغطية السياسية لتلك الجماعات.
3. أشكال الإرهاب في إطار معيار نطاق التنفيذ
أ. الإرهاب المحلي Domestic Terrorism
يُقصد بالإرهاب المحلي ما يقع داخل الدولة ذاتها، حيث إن الإرهابيين وضحاياهم ينتمون إلى الدولة التي نُفذ على أراضيها العمل الإرهابي.
كما أن النتائج المترتبة على تلك النشاطات لا تتعدى حدود الدولة، كذلك يكون الإعداد والتخطيط لتنفيذ العملية الإرهابية قد تم في نطاق السيادة القانونية لتلك الدولة، كما إنه لا يكون هناك دعم مادي أو معنوي خارجي للنشاط الإرهابي المنفذ.
وفي إطار تلك الظروف يكون الإرهاب محلياً ويخضع للقانون العقابي للدولة.
ب. الإرهاب الدولي International Terrorism- Transnational Terrorism
للإرهاب الدولي بعد دولي يتمثل في اختلاف جنسيات المشاركين في الفعل الإرهابي، وكذلك اختلاف جنسية الضحايا عن جنسية مرتكبي النشاط الإرهابي، كما قد يكون مكان تنفيذ النشاط الإرهابي يخضع لسيادة دولة أخرى، غير التي ينتمي إليها مرتكبو الفعل الإرهابي، وقد يوجه النشاط الإرهابي أساساً ضد وسائل نقل دولية (طائرات أو سفن) تخضع للحماية الدولية، أو يكون موجهاً ضد دولة أخرى أو منظمة دولية.
وقد يختلف مكان الإعداد والتجهيز والتخطيط عن مكان التنفيذ الفعلي للعمل الإرهابي.
وقد يكون بتحريض دولة ثالثة (غير القائمة بالتنفيذ، والمنفذ فيها العمل الإرهابي)، سواء كان من خلال تقديمها المساعدات أو الدعم المادي والمعنوي لتلك الجماعات الإرهابية، أو في حالة لجوء الإرهابيين إلى دولة أخرى بعد تنفيذ عملياتهم الإرهابية، وتوفر المأوى الآمن لهم.
يصنف الإرهاب دولياً في حالة إثارته اضطراباً في العلاقات الدولية، أو استهدافه تغييراً في بنية النظام الدولي.
ولا يخضع الإرهاب الدولي -بصفة عامة- للاختصاص العقابي لدولة ما، بل يخضع لمبادئ القانون الدولي العام المنبثق عن المعاهدات والاتفاقيات التي توقعها الدول، إلا أنه لا يتمتع بالقوة التي يتمتع بها القانون الجنائي، لأن الدول لا يمكن أن تقبل سلطاناً عليها أو تمس سيادتها، ولذلك فإنه لا توجد آليات يمكن الاعتماد عليها لفرض القانون الدولي والاعتراف به من قِبل الجميع، باستثناء العقوبات الاقتصادية أو الحروب، ولقد أدى الاختلاف والتباين في نظرة الدول للإرهاب، في كثير من الأحيان، إلى فشل الجهود الدولية للوصول إلى اتفاق وتعاون كامل لمكافحة الإرهاب، إلا أن الانتشار الواسع للعمليات الإرهابية قد حفز العديد من الدول على إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي تتضمن التدابير اللازمة لمكافحة الإرهاب الدولي.