(لا صــفـــــــــــــــــــــــــــــــــــر)
(صفــــر بيـــن الغلــــو والجفــــا)
د. قـذلـة بنت محمـــد القحطــــاني
غفـر الله لها ولوالديها وللمسلمين
===================
كان التشاؤم عادةً عند العرب في الجاهلية فكانوا يتشاءمون ببعض الأزمان والأعيان والطيور، ومن ذلك التشاؤم بشهر صفر، وخاصة آخر أربعاء منه!!
حتى إنه في بعض الأقطار الإسلامية لا يزورون فيه المريض.. ويكتبون أذكاراً شركيةً وصلاةً بدعيةً يتداولونها في هذا اليوم، اعتقاداً منهم أنها تحفظهم وتدفع عنهم بلاء هذا الشهر!!
وقد جاء الإسلام بإبطال هذه العادة ومن الآثار الواردة في صفر:
1. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا عدوى ولاصفر ولا هامة))، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟ فقال: ((فمَنْ أعدى الأول)) متفقٌ عليه.
2. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) متفقٌ عليه.
وفي رواية لمسلم:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا عدوى، ولا غول، ولا صفر)).
وقد جاء في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا صفر) عدة اقوال:
- فقيل:
المراد داء في يصيب البطن.
قال البخاري في صحيحه:
باب ((لا صفر))، (وهو داء يأخذ البطن).
- وقيل:
شهر صفر وكان العرب يتشاءمون منه ويدعون انه شهر مشؤوم!!
- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
((كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المُحرَّم صفر، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلَّت العمرة لمن اعتمر.
قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: ((حل كله)).
-وقيل:
كانت العرب تحله عاماً ويحرمونه عاماً.
سُئل مالك عن قوله: ((لا صفر)) قال:
إن أهل الجاهلية كانوا يُحلُّون صفر، يُحلونه عاماً ويُحرمونه عاماً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا صفر)).
قال ابن رجب الحنبلي:
(قالت طائفة: المُراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدها:
أن المُراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا يحلون المُحرَّم ويُحرِّمون صفر مكانه وهذا قول مالك.
والثاني:
أن المُراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشيمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك).
وأما الهامة:
بتخفيف الميم، وقيل بالتشديد وهو قول شاذ.
والمُراد بها:
طير من طير الليل.
وقيل:
إنها البومة.
وقيل:
((إنها داءٌ يصيب المريض وينتقل إلى غيره)).
وللعرب فيها اعتقادات باطلة منها: أولاً:
التشاؤم بها، فإذا وقعت على دار أحدهم اعتقد أن هذا علامة موته وعلامة نزول مصيبة به أو باهله!!
ثانياً:
إنها روح ميت تأتي لتطالب بحق أو تأمر بأمر، في شكل حشرة تخلق من روح الميت المقتول وأنها تطير وتصيح حتى يُقتص منه!!
وقيل:
إنها دودة تخرج من رأس المقتول الذي لم يؤخذ بثأره ولا تزال تدور حول قبره وتقول اسقوني.. اسقوني.. حتى يؤخذ بثأره وإلا بقيت، وقيل إنها تدور سبعة أيام ثم تذهب.
وقيل:
إنها عظام الميت تتجمع بعد موته وتصير هامة وترجع إلى قبر الميت كل مائة سنة!!
ولهذا أبطل الإسلام جميع هذه المعتقدات فنفاها كما في الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-:
(لا عدوى ولا صفر ولا هامة..) الحديث.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-:
((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
((لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل)) قالوا: وما الفأل؟ قال: ((كلمة طيبة)).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((عُرِضَتْ عَلَىَّ الأمم، فأخذ النبيُّ يمُرُّ معه الأمَّة، والنبيُّ يمُرُّ معه النفر، والنبيُّ يمُرُّ معه العشرة، والنبيُّ يمُرُّ معه الخمسة، والنبيُّ يمُرُّ وحده، فنظرتُ فإذا سوادٌ كثيرٌ، قلتُ: يا جبريل! هؤلاء أمتي؟ قال: لا ولكن انظر إلى الأفق، فنظرتُ فإذا سوادٌ كثيرٌ قال: هؤلاء أمَّتُكَ قال: هؤلاء أمَّتُكَ، وهؤلاء سبعون ألفاً قدّامُهُم لا حساب عليهم ولا عذاب. قلت: ولِمَ؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيِّرون، وعلى ربهم يتوكلون...)) الحديث.
ويظهر بطلان هذه الاعتقادات في هذه المسألة من عدة أمور:
1- تحريم التشاؤم بالزمن والشهور، إذ هي خلق الله تعالى وليس لها علاقة بالحواداث والتأثير.
قال ابن رجب -رحمه الله-:
"أمَّا تخصيص الشُّؤم بزمانٍ كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان الحين كله خلق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمانٍ شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مباركٌ عليه، وكل زمانٍ شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤومٌ عليه.
وفي الجملة:
فلا شؤم إلا شؤم المعاصي والذنوب فإنها تُسخِطُ اللهَ عز وجل فإذا سَخِطَ على عبده شَقِىَ في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رَضِىَ عن عبده سَعِدَ في الدنيا والآخرة" ا.هـ.
قال بعض الصالحين وقد شكى إليه بلاء وقع في الناس قال:
"ما أرى ما أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب والله أعلم وأحكم" انتهى كلامه.
وقال رحمه الله:
"والبحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم ونحوها من الطيرة المنهي عنها والباحثون عن ذلك غالباً لا يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل وترك الحركة وهذا لا يمنع نفوذ القضاء والقدر".
ومنهم مَنْ يشتغل بالمعاصي وهذا مِمَّا يقوي وقوع البلاء ونفوذه.
والذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك والإعراض عنه والاشتغال بما يدفع البلاء من الدُّعاء والذكر والصدقة وتحقيق التوكل على الله عز وجل والإيمان بقضائه وقدره."
قال الطاهر بن عاشور ـرحمه الله-:
"ومن الضلالات التي اعتقدها العرب اعتقاد أنَّ شهر صفر شهر مشؤوم، وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى مما يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم وهو ما يكثر فيه من الرزايا بالقتال والقتل، ذلك أنَّ شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حُرُمَاً نسقاً وهي ذو القعدة وذو الحجة والمُحَرَّم، وكان العرب يتجنَّبون القتال والقتل في الأشهر الحُرُم؛ لأنها أشهر أمْنٍ.
قال الله -تعالى-:
"جعلَ اللهُ الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشَّهر الحرام"... الآية. فكانوا يقضون الأشهر الحُرُم على إحن من تطلب الثارات والغزوات، وتشتت حاجتهم في تلك الأشهر، فإذا جاء صفر بادر كل مَنْ في نفسه حِنْقٌ على عدوه فثاوره، فيكثر القتل والقتال، ولذلك قيل: إنَّه سُمِّيَ صفراً؛ لأنهَّم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من يلقوه صِفْراً من المتاع والمال، أي خلواً منها".
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في القول المفيد في شرح كتاب التوحيد:
"وقوله: "ولا صفر" فيه ثلاثة أقوال سبقت وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير، وفي تقدير الله -عزوجل-؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدَّر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرَّخ ذلك، وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل؛ فهو ليس شهر خير، ولا شهر شر" انتهى كلامه.
قال الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية -رحمه الله-:
"للعرب مواسم في الشهور والأيام في بعضها التشاؤم، وفي بعضها التيامن والتفاؤل بها منها:
شهر صفر وكان لهم فيه نوع تشاؤم، فكان يُلقَّب بشهر صفر الخير؛ منابذةً للجاهلية في اعتقادها. فكان يتسمَّح في هذا اللفظ لمنابذة الاعتقاد والتشاؤم والإسلام محى هذه، وثبَّت الاعتقاد والإيمان، ومحى معالم التعلُّق بغيره".
2- اعتقاد مشركي العرب هذا أدى إلى نشوب الخلافات والقتال بينهم لأخذ الثأر حتى إن هذا الطائر لا يزال يصيح ويرفرف حتى يؤخذ بثأره، وهذا مما يهدف إليه الشيطان من ازهاق الأرواح وسفك الدماء، وقد يشكل بصورة الميت يؤزهم حتى يقتصوا من القاتل!!
3- التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم... مُحَرَّم منافٍ لكمال التوحيد لما يترتب عليه من فساد الاعتقاد وضعف التوكل والخوف من غير الله.
قال عليه الصلاة والسلام:
((طيرة شرك، طيرة شرك)).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
((مَنْ ردَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: ((أن تقول: اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طيرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك)).
4- تلبيس الشيطان على المشركين بأمر الروح لأنها من عالم الغيب ولا يمكن إدراك كنهها، ولهذا اتخذ من أرواح الموتى وسيلة للإضلال والشرك..!
وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله-:
في معرض حديثه عن أحوال الكفرة والمشركين والسحرة، فقال:
((ومن هؤلاء مَنْ اذا مات لهم ميتٌ يعتقدون انه يجئ بعد الموت يكلمهم ويقضي ديونه ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة، وهو شيطان تمثل في صورته فيظنونه إياه)).
وقال -رحمه الله-:
((ومن هؤلاء مَنْ يتصور له الشيطان، ويقول له: أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه، وكما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار.. يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته.. ويفعل أشياء تتعلّق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته" أ.هـ.
ولذلك أبطله الشرع وهو يدل على ضعف التوحيد، وقد يقع به العبد في الشرك الاكبر حسب اعتقاده.
والشرع يسعى دائماً إلى تخليص العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والجاهلية والبدع.. ولذا يجب تحقيق التوحيد.
ولا يكون العبد مُحَقِقاً للتوحيد حتى يَسْلَمْ توحيده من شوائب الشرك بنوعية وشوائب البدع والمعاصي.
وهنيئاً لِمَنْ حقَّق في إيمانه درجة المقربين السابقين فحقق كمال تعلق الروح بالله تعالى محبة وخوفاً وإنابة وتوكلاً وإخلاصاً وإجلالاً وهيبة وتعظيماً وعبادة.. فلا يكون في قلبه الا التوحيد فعلاً وأمراً ونهياً..!!
وهذه حقيقة لا اله الا الله جعلنا الله جميعاً من أهلها ومِمَّنْ حقَّق التوحيد ودخل الجنة بغير حساب.
======================
قالته وكتبته الفقيرة إلى عفو ربها القدير
قـــذلـــــة بنت محمـــــد القحطــــــــــاني
@dr_gathla
في 1صفر1438هـ
===========
المراجـــــــــــــــــع:
كُتُبُ التفسير عند قول الله -تعالى-:
"إنَّمَا النَّسِيُء زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا..." الآية [التوبة: 37].
1/ مجموع الفتاوى لابن تيمية.
2/ لطائف المعارف لابن رجب.
3/ فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد.
4/ القول المفيد في شرح كتاب التوحيد لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.
5/ معجم المناهي اللفظية لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد.
6/ البدع الحولية للشيخ عبدالله التويجري.