عبادة الحج تحقيق للتوحيد
تأليف الشيخ
وليد بن علي المديفر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في ربوييته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع بريته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على منهجه وتمسكوا بسنته.
أما بعد فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وبذلك أمرهم فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والعبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تكون صلاة صحيحة ومقبولة إلا مع الطهارة، وكما أن المتطهر إذا أحدث بطلت طهارته وصلاته فكذلك العابد إذا أشرك بطلت عبادته، كما قال تعالى لأفضل خلقه وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فالشرك لا يصح معه عمل ولا تقبل معه عبادة، لأن العبادة لابد أن تكون خالصة لله تعالى كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
ولهذا كثيراً ما يأتي الأمر بالعبادة مقروناً بالنهي عن الشرك كما في قوله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وما ذاك إلا لما للتوحيد من منزلةُ عالية ومكانة سامية، فبتوحيد الله قامت الأرض والسماوات، ومن أجله خلقت جميع المخلوقات، وشرعت العبادات، وبه أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ومن أجل التوحيد قام سوق الجنة والنار، وجردت سيوف الجهاد، وأزهقت الأنفس وسفكت الدماء، وعلى التوحيد نصبت القبلة وأسست الملة.
قال الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله «اعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد، قال تعالى: َلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ وله خلق الجن والإنس َمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كل لله وحده، فهو المعبود والمسئول الذي يُخاف ويرجى ويسأل ويعبد فله الدين خالصاً، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، والقرآن مملوء من هذا كما قال تعالى: تََنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ* أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ إلى أن قال رحمه الله: «والعبادات التي أمر الله بها توحيد وسنة، وغيرها شرك وبدعة، كعبادات النصارى ومن أشبههم» الفتاوى ج26 ص151.
وإذا تبين عظم أمر التوحيد وأهميته، وتبين كذلك أن الله تعالى إنما شرع العبادات من أجل تحقيق التوحيد بين العبيد، فإنه ينبغي أن نعلم أن من أعظم العبادات التي يتحقق من خلالها توحيد الله والخضوع له: عبادة الحج، نعم في عبادة الحج تحقيق للتوحيد، بل إن الحج من أوله إلى آخره، وفي جميع شعائره توحيد وإخلاص لله عز وجل، فإن الله قد أمر بأداء عبادتي الحج والعمرة خالصتين له وحده تعالى، وأن يكونا قائمتين على التوحيد الخالص، سالمتين من الشرك ووسائله، كما قال تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ وأكد سبحانه على اجتناب الشرك في سياق آيات الحج فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ولأجل أن يكون الحج خالصاً لله وحده، لا يشركه فيه أحد سواه، لم يحج النبي في السنة التاسعة كراهية الاختلاط بالمشركين في الحج، وأمرَّ أباب بكر على الحج وأمره أن يبلغ الناس، ألا يحج بعد هذه السنة مشرك، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمرّه رسول الله عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس ألا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان».
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله «والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه مما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات».
وإن من المؤسف حقاً أن ترى بعض الحجاج يبتدعون في عبادة الحج التي يتقرب بها إليه بدعاً اعتقادية وعملية لم يأمر الله بها ولا أمر بها رسوله ، فيفعلون في الحج ما يغضب الله ولا يقرب إليه من البدع والشركيات والتمسح والتبرك والزيارات قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، دون الشاميين، فإن النبي إنما استلمهما خاصة لأنهما على قواعد إبراهيم والآخران هما في داخل البيت، فالركن الأسود يستلم ويُقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان، والاستلام هو مسحه باليد، وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومفازة إبراهيم، ومقام نبينا الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين وصخرة بيت المقدس، لا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة، وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل» الفتاوى ج26 ص121.
وقال رحمه الله «وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام، كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في صفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة ومزدلفة والصفا والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر مثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يُقال إنه كان فيه قبة الفداء، ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة، وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من الآثار، لم يشعر النبي زيارة شيء من ذلك بخصوصه» الفتاوى ج26ص144.
هذا وإن من أعظم الاعتقادات البدعية التي يعتقدها بعض الحجاج: وجوب زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه، وأن الحج لا يتم ولا يصح أصلاً إلا بزيارة قبره، ومنهم من يرى استحباب ذلك، بل ويشنعون على من قال بعدم جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي ويصفونه بالتشدد والجفاء مع النبي عليه الصلاة والسلام. وهم أي هؤلاء الحجاج قد بنوا هذه العقيدة على أحاديث ضعيفة وموضوعة، قد بيّن ضعفها ونكارتها وبطلانها المحققون من أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق كلامه على أنواع زيارة القبور: والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيرها أن يقول القائل: زرت قبر النبي ، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» وقوله «من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي حلت عليه شفاعتي».ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، ولا الأئمة الأربعة، ولاغيرهم، ولكن روى بعضها البزار والدارقطني ونحوهما بأسانيد ضعيفة، ولأن من عادة الدارقطني وأمثاله أنهم يذكرون هذا في السنن ليعرف ، وهو وغيره لا يبينون ضعف الضعيف من ذلك» الفتاوى ج26 ص149، وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله هذه الأحاديث في كتابه تلخيص الحبير، وضعفها ثم ذكر حديث ابن عمر بلفظ «من حج ولم يزرني فقد جفاني» ثم قال: طرق هذا الحديث كلها ضعيفة، ثم قال: وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام» تلخيص الحبير ج2 ص267.
قلت: وقد روى أبو داود إسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» وروى أبو يعلى والحافظ المقدسي عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن النبي: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً ، الاقتضاء ج2 ص663.
أضف إلى ذلك ما يفعله بعضهم عند قبر الرسول من دعاء واستغاثه بالنبي وغير ذلك من البدع والشركيات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه في كل ما كان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، «لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع، وإطعام وإسقاء، ولا إنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد، من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه ونحو ذلك» الفتاوى ج26 ص156.
وقال رحمه الله «ولله تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق: كالعبادات والإخلاص والتوكل والخوف والرجاء والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة، والرسول له حق كالإيمان به، وطاعته واتباع سنته، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال والنفس، كما قال «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» الفتاوى ج26 ص158.
ولذا فيجب على كل حاج بل كل مسلم أن يحقق التوحيد لرب العبيد، ويميز بين حق الخالق وحق المخلوق، ويعطي كل ذي حق حقه، ويصرف العبادات خالصة لله وحده، ولا يشرك معه فيها أحداً غيره.
إذا تقرر هذا، فإنه ينبغي أن يعلم أن شعار التوحيد يظهر في مواقف كثيرة جداً في الحج:
ومن أهمهـا:
(1) البيت الحرام: يظهر شعار الحج جلياً في هذا البيت العظيم والحرم الشريف الذي يؤمه المسلمون ويقصدونه ويشدون الرحال إليه من جميع أقطار الأرض وفجاجها، هذا البيت الذي هو أعظم مكان وخير بقعة وأشرف أرض وأحبها إلى الله، كما روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عن عبدالله بن عدي الزهري قال: رأيت رسول الله على راحلته واقفاً بالحَزْورة – موضع في مكةُ – يقول: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» وروى الترمذي وابن حبان وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك، ما سكنت غيرك».
قال ابن القيم رحمه الله: ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الاتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا» زاد المعاد ج1، ص46
نعم هذا البيت العظيم إنما قام على توحيد الله وإخلاص العبادة له، ونحن إذا تأملنا تأسيس هذا البيت وجدناه قد أسس على التوحيد، كما قال تعالى: َوعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فأمرهما جل وعلا بتطهير البيت من سائر النجاسات، ومما لا شك فيه أن أعظم النجاسات الشرك، وأعظم النجسين هم المشركون، ولهذا نهى الله إبراهيم في الآية الأخرى عن الشرك بالبيت الحرام، وإن كان الشرك منهي عنه في كل مكان، لكنه في البيت الحرام أعظم وأفظع وأشنع، كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ونهى الله تعالى عباده المؤمنين من تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام بعد فتح مكة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا .
وذلك لأن هذا البيت إنما أسس على التوحيد، وبُني من أجله، وهو قبلة المسلمين في صلاتهم، وإليه حجهم وعمرتهم، فيجب أن يكون مصدر التوحيد، ومنبع العقيدة الصحيحة، ودار الإخلاص، خالياً من الشرك والمشركين الأنجاس، على مر الزمان وتعاقب الأجيال.
وقد قام النبي بتطهير البيت الحرام من الشرك والمشركين ، طاعةً لله، وامتثالاً لأمره، وطلباً للحِكم السابقة من بقاء البيت الحرام على التوحيد الذي بني أساسه عليه، قام بذلك بقوله حين أرسل أبا بكر ينهى المشركين عن حج البيت الحرام كما تقدم؛ وطبق ذلك بفعله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصباً – وفي رواية «صنماً» - فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» وعند الطبراني والفاكهي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما «فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص».
وفي «كتاب مكة» لعمر بن شبه عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار أنه بلغه «أن النبي أمر بطمس الصور التي كانت في البيت» قال الحافظ ابن حجر «وهذا سند صحيح» فتح الباري ج8 ص22، وإن من أعجب الأمور أن يُرى بعض المنتسبين للإسلام حين يزور البيت الحرام يتبرك بالأحجار وجدران الكعبة وسترتها ومقام إبراهيم، وقل مثل هذا في المسجد النبوي الذي أسس على التقوى، والتوحيد، أما بدعيةُ التبرك ببعض الأماكن في البيت الحرام، فقد تقدم الكلام عليه، وأما المسجد النبوي، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي عند قبره أن يُقبل الحجرة، ولا يتمسح بها، لئلا يضاهي بيت المخلوق ببيت الخالق، ولأنه قال «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» وقال: «لا تتخذوا قبر عيداً » الفتاوى ج26 ص97، وقال رحمه الله: واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها ولا يطوف بها، ولا يصلى إليه، ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة» الفتاوى ج26، ص146، وقال رحمه الله «والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف، مستحب في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج أو بعده، ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي إلا ما يفعل في سائر المساجد، وليس شيء يتمسح به، ولا يقبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام» الفتاوى ج26 ص150 فليحرص المسلم حاجاً أو معتمراً أو زائراً على التزام السنة وإخلاص التوحيد لرب العبيد، وليحذر من البدع والشرك والتنديد.
ثانياً: لباس الإحرام:
يظهر شعار التوحيد عملياً من خلال خلع الثياب والملابس التي اعتاد المسلم لبسها والتنعم والترفه بها، ولبس ثياب الإحرام «الإزار والرداء» طاعة لله وتواضعاً وتذللاً له، واقتداء برسول الله ثم الدخول بعد ذلك في النسك وترك الطيب، والإمساك عن أخذ شيء من الشعر والأظافر وغير ذلك من أمور الترفه، قال بعض العلماء: واعلم أن الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص، والتعظيم، وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس مُذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وترك التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والشعث والتغبر لله، وإنما شرع أن يتجنب المحرم هذه الأشياء تحقيقاً للتذلل وتركاً للزينة، وتنويهاً لاستشعار خوف الله وتعظيمه، ومؤاخذة نفسه ألا تسترسل في هواها».
ثالثاً: التلبية:
يظهر شعار التوحيد جلياً في الحج بعد الإحرام مباشرة ، حينما ترى الحجاج يرفعون أصواتهم بالتلبية، لربهم جل وعلا، تحقيقاً للتوحيد واستجابة لرب العبيد، حين أمر عبده إبراهيم في قوله: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ واقتداء برسول الله كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر: أن تلبية رسول الله «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
وهذه التلبية كلها توحيد لله تعالى، ولهذا أسماها جابر رضي الله عنه توحيد كما جاء في صحيح مسلم عنه أنه قال: «حتى إذا استوت به راحلته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك».
قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن: وقد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة، ثم ذكر أنها تضمنت المحبة والتزام دوام العبودية والخضوع والتذلل والإخلاص والحمد لله، ومفتاح الجنة لا إله إلا الله إلى أن ذكر أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات، كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها».
وقوله «لبيك» كلمة إجابة وتحمل معنى الإقامة، من قولهم «ألب بالمكان» أي أقام به، فيكون المعنى «أنا مجيب لك مقيم على طاعتك» وقيل معناها:إخلاصي لك، وقيل معناها: خاضعاً لك ومنقاداً لك ، وقيل معناها حباً لك بعد حب.
وقوله «اللهم» يعني يا آلله، وقوله «لبيك» مرة أخرى من باب التوكيد اللفظي، وقوله «إن الحمد والنعمة لك والملك» الحمد هو: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً ، والنعمة لله لأنه صاحب الفضل، وقوله «والملك» يعني أن كل شيء في هذه الدنيا والآخرة فهو ملك لله وحده.
وقوله «لا شريك لك» تأكيد بأن الحمد والنعمة والملك لله لا شريك له في شيء من ذلك فتضمنت هذه التلبية النبوية أنواع التوحيد الثلاثة، ففي قوله «الملك»توحيد الربوبية، وهو مسلتزم لتوحيد الألوهية، لأن الخالق والرازق والمالك هو الذي يستحق العبادة وحده، ولا يستحقها أحد غيره.
وفي قوله «اللهم» توحيد الألوهية ، لأن أصل هذه الكلمة «يا آلله» وأصل كلمة «الله» هو «الإله» ، قال ابن القيم رحمه الله: الإله : هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً.
وفي قوله «إن الحمد والنعمة لك» وصف لله بالأسماء الحسنى والصفات العلى ، لأن الحمد هو وصف المحمود بالكمال، ولا شك أن من كمال الله تعالى وصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا التي أثبتها لنفسه وأثبته له رسوله ، على الوجه اللائق به سبحانه.
وفي قوله «لا شريك له» نفي لتمثيل الله بخلقه في أسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، فهل يا ترى يعقل الحاج حينما يلبي هذه المعاني العظيمة الكامنة في التلبية، فيكون لها تأثير إيجابي في توحيده وإخلاصه وسلوكه وعبادته وفي كل أحواله وأوقاته.
فائدة: قوله «إن الحمد ...» جاءت همزة إن مروية بالكسر والفتح، والأولى كسر الهمزة، وهو اختيار الجمهور كأبي حنيفة والإمام أحمد وابن قدامة وابن عبدالبر، واختيار أهل العربية كأبي عبيد وغيره، لأنها إذا فتحت تكون الجملة تعليلية، فيكون المعنى «لبيك لأن الحمد لك»، وبهذا تكون التلبية مقيدة بهذه العلة أي بسببها، أما على رواية الكسر، فتكون الجملة استئنافية وليست تعليلية، وبهذا تكون التلبية غير مقيدة بالعلة، فتكون التلبيةُ مطلقةُ عامة، والحمد مطلقًا ، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين ج7، ص121.
رابعاً: التسليم والانقياد:
من مظاهر التوحيد في الحج : ما يحدث من الحجاج من تسليم وانقياد لشرع الله تعالى واقتداء برسول الله ، إن تنقل الحجاج بين المشاعر «منى وعرفات ومزدلفة» وطوافهم بالبيت العتيق وتقبيلهم للحجر الأسود، ورميهم الجمار، كل هذه المظاهر الرائعة أمثلة حية لتحقيق حجاج لبيت الله الحرام الانقياد لشرع الله تعالى، وقبول حكم الله بكل انشراح صدر وطمأنينة قلب من غير سؤال عن حكمة ذلك، والتعنت فيه، ولا ريب أن هذا كله يؤدي بالعبد إلى تحقيق توحيد الله والاستسلام له تعالى وحده.
قال ابن القيم «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع» وانظر إلى التسليم الخالص والانقياد التام عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد جاء في الصحيحين أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك» قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معلقاً على كلام عمر هذا «وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله، ولولم يعلم الحكم فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته» فتح الباري ج3 ص584
وقال النووي رحمه الله: قوله: «أنك حجر لا تضر ولا تنفع» إنما قال ذلك لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام، الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها» نعم إن الطائف حين يستلم الحجر الأسود والركن اليماني ويطوف بالكعبة ويسعى بين الصفا والمروة ويرمي الجمار، وإنما يفعل ذلك استسلاماً لله، وانقياداً لأمره، وإقامةً لذكره، واقتداءً برسوله ، كما روى الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
خامساً: قراءة آيات التوحيد:
من مظاهر التوحيد في الحج : أنه يستحب للحاج حينما يفرغ من الطواف أن يصلي ركعتين خلف المقام ويقرأ في الأولى سورة الفاتحة وسورة الكافرون، وفي الثانية بسورتي الفاتحة والإخلاص، لاشتمال هذه السور الثلاث على أنواع التوحيد، فأما الفاتحة فهي مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة وإثبات اليوم الآخر والقدر وغير ذلك كما لا يخفى ، وأما الكافرون ففيها البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة وإخلاص القصد، وهذا هو توحيد الألوهية، وأما سورة الإخلاص ففيها إفراد الله بصفات الكمال، وتنزيهه عن صفات النقص، وبهذا التوحيد وذاك يعرف العبد ربه ويثبت له ما يليق بجلاله من صفات الكمال، وينزهه عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه فالتوحيد في سورة الكافرون «توحيد عملي إرادي» والتوحيد في صورة الصمد «توحيد علمي عقدي» ولذلك روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «فقرأ فيهما بالتوحيد»، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطائف حينما يصلي خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم فإنه يتذكر إبراهيم إمام الحنفاء، وما كان عليه من إخلاص التوحيد لرب العالمين ويتذكر كذلك بناء هذا البيت الشريف على أساس من التوحيد لرب العالمين، ولا شك أن هذا يحرك التوحيد في قلب العبد وينميه، ويذكره بالاقتداء بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ أننا كما أمرنا بالصلاة خلف مقام إبراهيم، فقد أمرنا بالاقتداء به في تحقيقه للتوحيد وبراءته من المشركين كما قال تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فهل يا ترى يتذكر الحاج هذه المعاني العظام ويخلص توحيده للملك العلام؟
سادساً: السعي بين الصفا والمروة:
من مظاهر التوحيد في الحج: السعي بين الصفا والمروة، فإن الحاج إذا تذكر، وهو يسعى سبب شرعية هذا السعي وقصة بدايته، تلك القصة العظيمة التي تتجلى فيها مظاهر التوحيد كالتوكل على الله، والالتجاء والافتقار إليه، وحسن الظن به، والاستعانة به وحده، إذا عرف الحاج هذا كله، وتذكره وهو يسعى بين الصفا والمروة، فإنه سيقوي به توحيده وتوكله على الله واستعانته به والتجاؤه إليه، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما وضع زوجته هاجر وابنها إسماعيل عند البيت وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفى منطلقاً. تبعته أم إسماعيل ، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، قالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتف إليها، فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا ورجعت وفي رواية أنها قالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فقال إلى الله ، فقالت: رضيت بالله، وجعلت ترضع إسماعيل وتشرب الماء حتى إذا ما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم هبطت من الصفا حتى أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات حتى جاء جبريل عليه السلام، فغمز الأرض بعقبه فانبثق الماء قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله»، قال ابن عباس: قال النبي : فلذلك سعى الناس بينهما».
وكذلك فإنه شرع للساعي بين الصفا والمروة أن يقول عند صعودهما: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» اقتداء بالنبي حيث كان يقول ذلك في بداية كل شوط من أشواط السعي، ولا يخفى اشتمال هذا الذكر العظيم على أنواع التوحيد كلها. فعلى الساعي بين الصفا والمروة أن يتدبر هذه القصة العظيمة، وهذا الذكر الجليل ليخرج من حجه بحسن توكل على الله وصدق التجاء إليه.
سابعاً: خير الدعاء:
من مظاهر التوحيد في الحج : ذلك الذكر العظيم الذي شرع الحاج أن يكثر من ترديده في يوم عرفة، كما جاء عند الإمام أحمد والترمذي من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».
الله أكبر، هذا الذكر مليء بأنواع التوحيد لمن تدبره وعقله وتفكر فيه وفهمه، ففيه شهادة التوحيد «لا إله إلا الله» التي لا يكون العبد مسلماً إلا بالتلفظ بها وبمعرفة معناها والعمل بمقتضاها، لكن المؤسف أن كلاً من المسلمين يقول هذه الكلمة لكن الكثير منهم لا يعرف معناها، والكثير منهم كذلك إذا عرف معناها لا يعمل بمقتضاها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعلى المسلم أن يعلم أن المعنى الصحيح لكلمة التوحيد هو «لا معبود بحق إلا الله» وهي قائمة على ركنين: 1- النفي : «لا إله» وهو نفي الألوهية الحقة عن جميع ما يعبد من دون الله تعالى، 2- الإثبات: «إلا الله» وهو إثبات العبودية لله تعالى وحده، وهذا المعنى واضح في العديد من الآيات في كتاب الله، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ففي الآية الأولى النفي، وفي الآية الثانية الإثبات.
قال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله «شهادة أن لا إله الله» واسم الله مرتفع بعد «إلا» من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، وجملة الفائدة في ذلك: أن نعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله».
وقال الحافظ ابن رجب: «الإله» هو الذي يطاع فلا يُعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قوله «لا إله إلا الله» وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك». وبهذا يتبين أن الواجب على كل حاج بل على كل مسلم إخلاص العبادة لله وحده والكفر بالطاغوت.
ثامناً: الدعاء هو العبادة:
من مظاهر التوحيد في الحج : ما يفعله الحجاج كثيراً ويكررونه في مواطن عديدة، من إخلاص الدعاء والتضرع والسؤال والطلب لله تعالى وحده، والاستغناء عن المخلوقين، ويتجلى ذلك ويظهر، ويتميز ويشتهر، في يوم عرفات وعرصاتها، حينما ترى تلك الأجساد الخاشعة والرقاب الخاضعة والأعين الباكية والأيدي المرفوعة والألسنة الذاكرة والدعوات الملحة في مشهد عظيم وموكب كريم، وفد على الرحمن يرجو المغفرة من الذنوب والآثام، والتوفيق في مستقبل الأيام.
رفعوا الأكف وأرسلوا الدعوات
وتجردوا لله في عرفات
شعثاً تجللهم سحائب رحمة
غبراً يفيض النور في القسمات
وتصاعدت أنفاسهم مشبوبة
وجداً يسيل بواكف العبرات
هذه ضيوفك يا إلهي تبتغي
عفواً وترجو سابغ البركات
غصت بهم في حلهم ورحيلهم
رحب الوهاد وواسع الفلوات
تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى
وأتوك في شوق وفي إخبات
وفدوا إلى أبواب جودك خشعاً
وتزاحموا في مهبط الرحمات
فاقبل إله العرش كل ضراعة
وامح الذنوب وكفر الزلات
فياليت حجاج بيت الله الحرام يخلصون الدعاء والتضرع لله وحده في كل زمان وكل مكان ولا يدعون أحداً من دون الله، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولا ولياً مفضلاً، ولا شيخاً مبجلاً، ولا قبراً معظماً، وذلك لأن الدعاء من أعظم العبادات، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى وحده، لا شريك له فيها، ولا مستحق لها غيره جل وعلا، كما قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً وعند الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي قال: «الدعاء هو العبادة».
تاسعاً: واذكروا الله في أيام معدودات
من مظاهر التوحيد في الحج : ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ وفي صحيح مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» وينبغي أن يعلم أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام العظيمة يكون باللسان ورمي الجمار والطواف والسعي وذبح الهدي، فأما ذكره باللسان فيكون بالإكثار من التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح في كل وقت وحال، استجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله واقتداء بالصحابة الكرام، كما روى البخاري تعليقاً، ووصله غيره «وكان عمر يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً».
وأما رمي الجمار والطواف والسعي فهو ذكر لله بالقول والفعل وتوحيد وخضوع لله عز وجل، كما جاء عند الإمام أحمد وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» وقد تقدم الكلام عن الطواف والسعي وما فيهما من ذكر الله ومظاهر التوحيد.
فأما رمي الجمار، فإن الحاج إنما يرمي الجمار استجابة لأمر الله وخضوعاً له، يكبر مع كل حصاة، ويدعو بعد رمي الجمرتين الأولى والثانية، مخلصاً دعاءه لربه، متضرعاً بين يديه، مظهراً الحاجة والفاقة إليه، ومما لا شك فيه أن هذا كله من مظاهر التوحيد والعبودية لله، ولذا قال الغزالي رحمه الله: وأما رمي الجمار، فليقصد الرامي به: الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للنفس والعقل في ذلك، واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان، وتقصم ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثال أمر الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه». وأما ذبح الهدي، فلا شك أنه ذكر لله تعالى بالفعل واللسان، والجنان، فأما الفعل فظاهر، وأما ذكـر اللسان فقد قال تعالى في آيات الحج: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وقال في البدن فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ومن الواجب على المسلم أن يذكر اسم الله تعالى عند ذبح الهدي والأضحية وغيرها مما يؤكل كما كان هدي النبي أنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين وسمى عليهما وكبر» أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك، وأما ذكر القلب، فإن ذبح الهدي فيه تعظيم بالقلب لله تعالى وإجلال له، وهو من أجل الطاعات، وأعظم القربات التي يتقرب بها إلى رب البريات، وهو بلا شك مما يزيد التوحيد والتقوى في قلوب المؤمنين، وفيه إظهار لنعمة الله، وشكر له، وتوسعة على فقراء المسلمين، وإحياء لسنة إمام الحنفاء ، وصدق الله إذ قال: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم
ومن ههنا يعلم المسلم أن الذبح عبادة عظيمة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، كما قال تعالى: فصل لربك وانحر وقال قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين والنسك هو الذبح. وقال «لعن الله من ذبح لغير الله» رواه مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
عاشـــراً:
من مظاهر التوحيد في الحج : ما يكون في الحج من ترسيخ لعقيدة الولاء بين المسلمين والبراءة من المشركين، فلا شك أن ما يحصل بين المسلمين في هذه المشاعر العظيمة والأيام الفاضلة من لبس لباس واحد، واجتماع في مكان واحد، وأداء مشاعر واحدة، وقصد أمر واحد، ودعاء رب واحد، لا شك أن هذا يقوي عقيدة الولاء والمحبة بين المسلمين ، إضافة إلى ذلك ما يحصل بينهم من تعاون وتعاضد وتعاون وتناصر وتراحم ، فالعالم يعلم الجاهل، والغني يطعم الفقير، والقوي يعين الضعيف، والشاب يساعد الكبير، وهذا كله من أقوى أسباب انتشار المحبة والتراحم والتكافل والولاء بين المسلمين.
وفي المقابل فإن ما يحدث في الحج من مخالفة لهدي وسنة المشركين يقوي ويأجج عقيدة البغض للمشركين والبراءة منهم ومن دينهم وهديهم، قال ابن القيم رحمه الله: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك».
وصدق رحمه الله، فلقد لبى النبي بتلبية التوحيد خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، حيث كانوا يقولون «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» فقال عليه الصلاة والسلام «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، وأفاض من عرفات مخالفاً للمشركين حيث كانوا يفيضون من طرق الحرم، كما أنه أفاض من عرفات بعد غروب الشمس، مخالفاً للمشركين الذين كانوا يدفعون قبل غروبها، وكذلك فقد دفع عليه الصلاة والسلام من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً للمشركين في دفعهم منها بعد طلوع الشمس، وكان يقولون أشرف ثبير كيما نغير»، هذه الأمور وغيرها كثير من فعله في مخالفة المشركين، وأما أقواله في مخالفة المشركين فكثير، ومن ذلك أنه أبطل عليه الصلاة والسلام عوائد الجاهلية ورسومها في خطبة الوداع، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي خطب الناس في عرفة فقال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رباناربا عباس بن عبدالملطلب فإنه موضوع كله» قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على قوله عليه الصلاة والسلام «كل شيء من أمر الجاهلية ... »قال: وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل دعواهم يا فلان ويالفلان، ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم، الاقتضاء ص305.
وإن المرجو بالحجاج وغيرهم من المسلمين أن يفقهوا هذه المسألة الخطيرة، فيتمسكوا بعقيدتهم العظيمة، وشريعتهم السمحة، وأخلاقهم الزكية، ويبتعدوا عن التشبه باليهود والنصارى وسائر الكفار المشركين في عباداتهم وأعيادهم ومناهجهم وعاداتهم الخاصة بهم ولباسهم وهيئاتهم، ويعلموا أن التشبه بغير
المسلمين محرم وخطير وعظيم، قد حذر منه النبي وغلظ فيه.
بل بين أن من تشبه بقوم فقد صار منهم، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: «ومن تشبه بقوم فهو منهم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحديث أقل أحواله: أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: «ومن يتولهم منكم فإنهم منهم» وهو نظير ما سنذكره عن عبدالله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حي يموت حشر معهم يوم القيامة» الاقتضاء ص141.
ولم يكن هذا التغليظ في شأن التشبه بغير المسلمين إلا لأنه أمر خطير جداً على الأمة الإسلامية لما يؤدي إليه من فساد عقيدة الأمة وأخلاقها، وجر الأمة إلى المحن العظيمة والأزمات الكبيرة، وذلك لأن التشبه بالظاهر يؤدي غالباً إلى الملاينة والمحبة والمودة والموالاة، بل وإلى المشابهة في الباطن في العقيدة والمنهج والطريقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم، ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع من المواصلة كما توجبه الطبيعة والفطرة والجبلة، وتدل عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... الآية ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدينهم إذ أقصاهم الله » الاقتضاء ص163.
هذا ما تيسير ذكره في هذا المقام ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لحج بيته الحرام والتزام شريعة الإسلام والاقتداء بسيد الأنام والثبات على ذلك حتى الممات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إمام وخطيب جامع الربع بالرياض
وليد بن علي المديفر
25/11/1428هـ