أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: السكينة أيها الناس.. مسائل في الحج الخميس 28 أكتوبر 2010, 5:50 am | |
| السكينة أيها الناس.. مسائل في الحج
إعداد المكتب العلمي بموقع (الإسلام اليوم)
بإشراف أ.د. صالح بن محمد السلطان د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
تقديم سماحة الشيخ/عـبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
معالي الشيخ/ عبد الله بن سلميان بن منيع
معالي الشيخ/ عـبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العودة
تقريظ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فقد قرأنا هذه الأوراق وفهمنا ما تضمنته من المسائل المتعلقة بمناسك الحج والتي وقع فيها خلاف قديم، وقد أحسن معدّوها بذكر دليل كل قول من غير تحيز أو ميل إلى أحد القولين أو الأقوال، ولا شك أن المصلحة في الحالة الراهنة يترجح معها القول الذي يتضمن اليسر والسهولة مع انتفاء الإثم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وقول الله تعالى "فإن مع العسر يسراً" [الشرح:5]وقوله "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"[البقرة :185]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان المنيع عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين سلمان بن فهد العودة
مقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين، وبعد:
أيها الحاج الكريم:
تقبل الله منا ومنك، وغفر لنا ولك، وبعد:
فإن الحج شعيرة عظيمة عند جميع الأنبياء، تتكرر كل عام، وأداؤها ركن من أركان الإسلام كما تواتر بذلك الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهي عبادة مقصودها التوحيد للخالق سبحانه، والاتباع لأنبيائه ورسله، والتخلص من الشح والأنانية والهوى، وتحقيق معاني الأخوة والإيثار بين المؤمنين.
ومن أجل هذه المعاني العظيمة شرعت العبادات كلها، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهرهم وتزكيهم بها، والصوم "لعلكم تتقون" والحج "ليشهدوا منافع لهم" "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج".
وقد غابت عن كثير من الحجاج هذه المعاني، وانهمكوا في الأعمال البدنية دون الأعمال القلبية، فبرزت مظاهر الأثرة والأنانية والشح، وأصبح الحاج يسمع الرفث والفسوق والجدال في غير القليل من الأحوال.
ومع كثرة الحجيج وتزاحمهم أصبحت الحاجة ملحة للتذكير بمعاني الإخاء الشرعي بين المؤمنين، والتزام الحقوق الإسلامية بينهم, وإرعاء قويهم على ضعيفهم، ومن هذا المنطلق، ومن دافع الغيرة الصادقة على الحجاج خاصة، والمؤمنين عامة كتبت هذه الأحرف، ودونت هذه المسائل وروعي فيها جانب التدارس والمباحثة والتوسعة على الأمة، وقصدنا إلى مسائل هي محل تساؤل وإشكال لدى كثير من الحجاج، ويتضح من عرض أقوال أهل العلم فيها ومنـزع استدلالهم السعة والتيسير في أحكام المناسك، وأنه يُحتمل فيها من الخلاف ما يُحتمل في غيرها، وفي مثل هذه المسائل وفوقها ودونها كان أهل العلم يختلفون ويتعاذرون، ويسعهم حسن الظن ورعاية مقاصد الشرع.
وقد اجتهدنا أن نعرضها من غير تعصب لقول من الأقوال أو مذهب من المذاهب، ولكنا نقصد إلى بيان تعدد الأقوال، وسعة الأمر، واليسر ورفع الحرج اتباعاً لهدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي قال في حجة الوداع جواباً للناس وهم يسألونه "لا حرج لا حرج، قد أذهب الله الحرج إلا رجلاً اقترض امرأً مسلماً فذلك الذي حرج وهلك".
نسأل الله –عز وجل- أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
المسألة الأولى: وقت رمي الجمرات أيام التشريق.
أجمع أهل العلم على أن السنة رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، فهو الذي ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - .
واختلفوا في الرمي قبل الزوال على أقوال:
القول الأول : لا يجوز الرمي قبل الزوال، ومن فعل فعليه أن يعيد. وهو قول الجمهور، فقد ذهب إليه ابن عمر، والحسن، وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة في المشهور عنه، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، وداود الظاهري، وغيرهم.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: أنه فعل النبي – صلى الله عليه وسلم - ، حيث لم يرمِ أيام التشريق إلا بعد الزوال، كما ثبت ذلك في غير ما حديث صحيح. وقد قال: (خذوا عني مناسككم).
الدليل الثاني: ما أخرجه البخاري في صحيحه (1746) عن وبرة قال: سألت ابن عمر – رضي الله عنه - متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة، فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا.
الدليل الثالث: ما أخرجه مالك في الموطأ (918)، قال: حدثني نافع عن ابن عمر أنه قال: لا ترمِ الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس.
القول الثاني: جواز رمي الجمرات قبل الزوال كل أيام التشريق. وهو قول طاووس، وعطاء في إحدى الروايتين عنه، ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وإليه ذهب ابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة، والرافعي من الشافعية، ومن المعاصرين: الشيخ عبدالله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، والشيخ صالح البليهي وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمهم الله-.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل، أو أية ساعة من النهار. أخرجه الدارقطني في سننه 2/276.
وفي إسناد هذا الحديث ضعف وله شواهد عن ابن عباس وابن عمر ضعيفة أيضاً.
قال ابن قدامة (الكافي 1/195): "وكل ذي عذر من مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم" أهـ.
قال الشيخ عبد الله آل محمود: "والظاهر من المذهب جوازه لكل أصحاب الأعذار.
فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أشد وآكد من كل عذر، فيدخل به جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب" أهـ.
الدليل الثاني: ما أخرجه البخاري في صحيحه 1735 من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، فقال أذبح ولا حرج، وقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: لا حرج وأنه صلى الله عليه وسلم ما سئل في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا قال: أفعل ولا حرج.
فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد وبين للناس ما يحتاجون إليه، فنفى – صلى الله عليه وسلم – وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تفعل يوم العيد وأيام التشريق، فلو كان يوجد وقت نهي غير قابل للرمي لبينه بنص جلي قطعي خاصة أنه خطب الناس بعد ذلك أوسط أيام التشريق، والناس مظنة للتقديم والتأخير في بقية أيام التشريق كما كانوا يوم النحر ومع ذلك لم ينههم النبي – صلى الله عليه وسلم ببيان ظاهر وإنما أبقاهم على ما فهموه يوم النحر من نفي الحرج عن التقديم والتأخير.
الدليل الثالث : عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس.
وأما رمي الرسول – صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال فهو بمثابة وقوفه بعرفه بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحد، بل الليل كله وقت وقوف أيضاً.
ولو كان الرمي قبل الزوال منهياً عنه لبيَّنه النبي – صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً صريحاً حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
الدليل الرابع: قوله –تعالى-:"واذكر الله في أيام معدودات" والرمي من الذكر كما صح عن عائشة عند الدارمي وغيره، فجعل اليوم كله محلاً للذكر ومنه الرمي.
الدليل الخامس: قول ابن عمر في رواية البخاري لمن سأله عن وقت الرمي، إذا رمى إمامك فارم، ولو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبيّنه للسائل.
القول الثالث: جواز الرمي قبل الزوال (يوم النفر الآخر)، وهو قول عكرمة، وإسحاق، والمشهور عن أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، إلا أنه اشترط ألا ينفر إلا بعد الزوال، وفي رواية عن أبي حنيفة جواز الرمي قبل الزوال في النفر الأول إن كان قصده التعجل.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه).
وجه الدلالة: أن الله رخص في التعجل في يومين، وجعل اليوم كله محلاً للتعجل، واليوم ظرف لما يصدق عليه اسم اليوم ولو ببعض الساعات الأولى من النهار، فمن تعجل ورمى قبل الزوال فقد دخل في رخصة الله –عز وجل-.
الدليل الثاني : ما رواه البيهقي في سننه الكبرى (5/152) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: إذا انتفخ النهار من يوم النفر الآخر فقد حل الرمي والصدر والانتفاخ والارتفاع في إسناد هذا الأثر ضعف.
الدليل الثالث: أن له أن ينفر قبل اليوم الثالث ويترك الرمي فيه، فإذا جاز له ترك الرمي أصلاً، فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى.
وبذلك يعلم أن الرمي بعد الزوال في أيام التشريق هو السنة الموافق لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكن القول بالرمي قبل الزوال وبخاصة في يوم النفر الأول قول له أدلته ووجاهته وقال به أئمة هدى، ومن عمل به فقد اتبع قولاً مدللاً واقتدى بسلف صالح.
المسألة الثانية: تأخير الرمي:
يجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها ـ أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق).
والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء وأيام التشريق كاليوم الواحد.
وهذا رأي الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي –رحمهم الله-.
وقيل كل يوم منها مستقل فيكون تأخير الرمي قضاء وهو قول أبي حنيفة ومالك وقول عند الشافعية والحنابلة.
قال في المغني (5/333):"إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده, أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة, ولا شيء عليه, إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث.
وبذلك قال الشافعي وأبو ثور.. ثم قال في الاستدلال لذلك: "ولنا: أن أيام التشريق وقت للرمي , فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء , كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته , ولأنه وقت يجوز الرمي فيه , فجاز لغيرهم كاليوم الأول .
قال القاضي : ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء ; لأنه وقت واحد. وإن كان قضاء فالمراد به الفعل, كقوله: (ثم ليقضوا تفثهم) . وقولهم : قضيت الدين . والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها, كالحكم في رمي أيام التشريق, في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد. وإنما قلنا: يلزمه الترتيب بنيته; لأنها عبادات يجب الترتيب فيها, مع فعلها في أيامها, فوجب ترتيبها مجموعة, كالصلاتين المجموعتين والفوائت" أ.هـ.
كما يستدل لذلك بحديث أبى البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) أخرجه مالك في الموطأ (1/408) واللفظ له، وأحمد (5/450)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955)، وابن ماجه (303)، والنسائي (5/273). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/371).
قال مالك (الموطأ مع شرحه المنتقى 3/51): "تفسير الحديث فيما نرى والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، فيرمون اليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك؛ لأنه لا يقضي أحد شيئاً حتى يجب عليه، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا".
المسألة الثالثة: الدفع من عرفة قبل الغروب.
لا خلاف بين أهل العلم أن من وقف بعرفة ليلاً ولم يدرك جزءاً من النهار أن حجه صحيح ولا شيء عليه. قال في الشرح الكبير (9/174): "لا نعلم فيه خلافاً".
وإنما اختلفوا فيمن دفع من عرفة قبل الغروب على أقوال منها:
القول الأول: لا يجوز الدفع من عرفة قبل الغروب، ومن فعل ولم يرجع فعليه دم.
وهو قول الحنفية (حاشية ابن عابدين 3/542)، وأحد القولين عند الشافعية (المجموع 8/141)، وقول الحنابلة (الشرح الكبير 9/170)، وهو قول عطاء، والثوري، وأبو ثور.
واستدلوا على تحريم الدفع قبل الغروب بفعله – صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يدفع إلا بعد غروب الشمس، والاقتداء بفعله هذا متعين؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم - : (خذوا عني مناسككم).
القول الثاني: جواز الدفع قبل الغروب، فمن دفع فلا دم عليه، ولا يلزمه الرجوع، ولكن خالف السنة.
وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية، واختاره النووي (المجموع 8/141)، وهو مذهب ابن حزم (المحلى 7/121).
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: حديث عروة بن مضرِّس قال: أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال – صلى الله عليه وسلم - : (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه، وقضى تفثه) أخرجه أحمد 4/261، والترمذي 891، وأبو داود 1950، والنسائي 5/263، وابن ماجه 3016، وسنده صحيح.
ووجه الدلالة من الحديث ظاهر: حيث دل على أن من وقف بعرفة نهاراً دون الليل فحجه تام، ولا شيء عليه.
ويُحمل فعله – صلى الله عليه وسلم - من الوقوف حتى الغروب على الاستحباب لأجل هذا الحديث.
فيكون وقوفه إلى وقت الغروب بمنـزلة نزوله – صلى الله عليه وسلم - بعرفة قبل الزوال.
قال الشنقيطي –رحمه الله- في أضواء البيان (5/259):"قوله –صلى الله عليه وسلم-:"فقد تم حجه" لا يساعد على لزوم الدم؛ لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم.
والحاصل أن من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار أو النهار دون الليل فأظهر الأقوال فيه دليلاً: عدم لزوم الدم"إ.هـ مختصراً.
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك عرفات قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج)، وفي لفظ (من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد أدرك حجه) أخرجه أحمد (18296)، والترمذي (2975)، والنسائي (3044)، وأبو داود (1949)، وابن ماجه (301).
وقال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري (جامع الترمذي 2975).
ووجه الدلالة: أنه إذا جاز الوقوف بعرفة ليلاً دون النهار بدون دم، فلأَن يجوز الوقوف بها نهاراً دون الليل بدون دم من باب أولى، ولا يصح التفريق بين الأمرين.
وبذلك يعلم أيضاً أن البقاء في عرفة إلى غروب الشمس هو فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهديه، ولكن القول بالنفرة قبل الغروب من يوم عرفة له حظه من الاستدلال والنظر، وقال به أئمة علم يقتدى بهم، وأن الحرج الذي يصيب الناس في النفرة من عرفة حيث لا يصلون إلى المزدلفة إلاّ في ساعات متأخرة من الليل يجعل المصير إلى هذا القول والتوسعة على الناس به له اعتباره، وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أذن لضعفة أهله بالنفرة من المزدلفة خوفاً من حطمة الناس فإن المعنى موجود اليوم وعلى وجه أشد في النفرة من عرفة .
المسألة الرابعة: المبيت في منى وما ورد من الرخصة فيه.
دلت النصوص الشرعية من فعل النبي – صلى الله عليه وسلم - وأمره، ومذاهب فقهاء الصحابة على وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق على من قدر على ذلك ووجد مكاناً يليق بمثله، وإلى وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق ذهب جمهور أهل العلم.
كما دلت الأدلة على أن المبيت يسقط عمن لم يجد بمنى مكاناً يليق بمثله، ولا شيء عليه، وله أن يبـبيت حيث شاء، في مكة أو في المزدلفة أو في أي مكانٍ آخر، ولا يلزمه أن يبيت حيث انتهت خيام منى.
وليست الطرقات والأرصفة وشعف الجبال مكاناً صالحاً لمبيت الآدميين فلا يلزم أن يبيت بها من لم يجد غيرها.
ويدل لذلك ما يلي:
الدليل الأول: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: استأذن العباس رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له. البخاري (1634)، ومسلم (1315).
والسقاية: إعداد الماء للشاربين بمكة، يذهب أهلها القائمون بها ليلاً، يستقوا الماء من زمزم ويجعلوه في الحياض مسبلاً للشاربين.
ووجه الدلالة: أنه إذا ثبتت الرخصة في ترك المبيت بمنى لأهل السقاية وهم يجدون مكاناً للمبيت بمنى، فمن باب أولى أنْ تثبت لمن لم يجد بمنى مكاناً يليق به؛ لأن الرخصة ثبتت لأهل السقاية لأجل الناس، مع أن السقاية تحصل من غيرهم، فكيف لا تثبت الرخصة لمن عجز عن المبيت، ولمن لا يجد مكاناً يبيت فيه.
الدليل الثاني : أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. أخرجه مالك في الموطأ (1/408)، وأحمد (5/450)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955)، والنسائي (5/273)، وابن ماجه (3037). والذي لا يجد مكاناً يصلح للمبيت بمنى أولى بالرخصة من رعاة الإبل، وهذا ظاهر.
الدليل الثالث: ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه كان يقول: "إذا كان للرجل متاعٌ بمكة يخشى عليه الضيعة إنْ بات بمنى، فلا بأس أن يـبيت عنده بمكة" أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وغيره.
وقد ألحق أهل العلم بمن تقدم كلَّ من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يحتاج أن يتعهده.
وفي معنى هؤلاء في جواز الترخص بترك المبيت بمنى، بل أولى به منهم: من لا يجد مكاناً يليق به يبيبت فيه، وكذلك من خرج ليطوف بالبيت الحرام فحبسه الزحام حتى فاته المبيت بمنى؛ فإن تخلفهما عن المبيت بمنى سببه أمر خارجي، ليس من فعلهما، ولا يستطيعان رفعه.
تنبيه
الطرق ليست مكاناً للمبيت، وكون المرء يجد فيها مكاناً للمبيت لا ترتفع بمثله الرخصة، بل لا ينبغي لأحدٍ أن يبيت بها، ومن فعل فقد أساء وتعدى وظلم، بل ويخشى عليه الإثم؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجلوس في الطرقات، ولا يخفى ما في المبيت في الطرقات من تعريض النفس للتهلكة، وانكشاف العورات، لا سيما من النساء، وما يسببه جلوسهم وإيقاف سياراتهم على جنبات الطريق من التضييق والزحام وتعطيل السير.
ولا شك أنَّ حفظَ النفس والعرض أولى من واجبٍ وردت الرخصة بسقوطه عن العاجز وذي الحاجة، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولذا فإن الافتراش الحاصل الآن في الطرقات وتحت الجسور وما يسببه من مضار على الحجاج، وإعاقة للسير، وتضييق للطرق وتعريض النفس والغير للأذى والهلكة من العسر والحرج الذي جاءت الشريعة السمحة برفعه، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وإيذاء للنفس وتعذيب لها، (والله غني عن تعذيب هؤلاء أنفسهم)، كما أن في صورة هذه الحشود بهذا المنظر المزري والذين يعلن على العالم كله إساءة بالغة لسماحة الشرع المطهر الذي ماجاء بشيء من هذا ولا أمر به .
المسألة الخامسة: الزحام وما ورد من النهي عنه.
لا خلاف بين أهل العلم أنه ينبغي على المسلم أن يتحرى هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - في كل موطن من مواطن العبادة ما دام أنه في حال السعة والقدرة، وأنه لا ينبغي على أحد أن يترك السنة وهو لا يجد في فعلها حرجاً ولا مضارةً بأحد.
غير أن أهل العلم لا يختلفون ـ كذلك ـ في أن المستحبات إذا ترتب على فعلها تركُ واجب أو ارتكاب محرم تعيَّن تركها وجوباً لا استحباباً؛ لأن مصلحة تركها راحجةٌ على مصلحة فعلها، ولأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وفي الشريعة قواعد كثيرة تقرر هذا وتدعمه، فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: قاعدة (مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها).
فالطواف بجوار الكعبة أفضل منه بعيداً عنها، ولكن عند الزحام والتدافع يكون الطواف بعيداً عنها أفضل، لما يُحدثه القُربُ من التشويش والمضايقة وعدم السكينة، والانشغال عن الذكر والدعاء، بخلاف البعد عنها: إذ تتهيّأ فيه الطمأنينة والسكينة والخشوع، والأفضل من ذلك كله أن يؤخِّر الطواف حتى يخف الزحام. فإن الفضائل المتعلقة بذات العبادة: مراعاتها أولى من الفضائل المتعلقة بمكانها وزمانها. هذا إذا كان الزحام محتملاً، فكيف إذا كان مظنة الهلاك؟!!!، لا شك حنيئذ أن تأخيره متعين. ثانياً: قاعدة (إذا تعارضت مصلحتان إحداهما صغرى، أو خاصة، والأخرى كبرى، أو عامة، فإن الكبرى تُقدم على الصغرى، والعامة تقدم على الخاصة).
والقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
والأمثلة على هاتين القاعدتين كثيرة: فمنها: أن الصلاة خلف مقام إبراهيم لا تجوز عند الزحام، وإن كانت في الأصل سنةٌ مؤكدة؛ لأن المفسدة المترتبة على تحقيق هذه السنة أعظم من المصلحة المرجوة منها، كما أن المصلحة في ترك هذه السنة أعظم بمراتب من مصلحة فعلها.
ومنها: أن تقبيل الحجر واستلامه سنةٌ، ولكن يجب تركها عند الزحام؛ لأنها سنة، وإيذاء المسلم حرام، وليس فعل الحرام طريقاً للسنة. وإذا كانت هذه المستحبات يسع تركها بلا إثم في السعة، فكيف إذا اقترن بها أو ترتب على فعلها مفسدةٌ ظاهرة، بل مهلكة واقتتال.
فعلى الحاج أن يفقه: أن تأخير الرمي إلى المساء، وترك تقبيل واستلام الحجر الأسود، وتأخير الطواف عن وقته الفاضل....إلخ كل ذلك متعينٌ عند شدّة الزحام؛ اجتناباً للفسوق وأذية الناس. فذلك أدنى أن يأتوا بالسنة على وجهها، فإن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من المتعلقة بزمانها أو مكانها.
أين الحجاج عن الخشوع والتذلل والمسكنة عند أداء الشعائر؟ أين هؤلاء عن تعظيم حرمات المسلمين؟!!!
إن أحداً من هؤلاء ربما سعى لتحقيق السنة طمعاً في الأجر، فلا يرجع منها إلا بالوزر، والسبب إيذاؤه للضعفاء وتعريضُه نفسه للهلاك واستطالته في أعراض المسلمين. ونحن على يقين أن سنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم - منـزةٌ عن مثل هذه المغالطات التي لا توازِن بين المصالح والمفاسد، ولا تراعي ترتيب الأولويات، فتقدم المفضول على الفاضل، وتأتي الحرام لتحقق السنة!!!
أين هؤلاء عن قوله – صلى الله عليه وسلم - لعمر – رضي الله عنه - : (يا عمر إنك رجل قوي, لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف, إن وجدت خلوة فاستلمه, وإلا فاستقبله، فهلل وكبِّر) أخرجه أحمد (1/28)، والشافعي كما في السنن المأثورة (510). والبيهقي في الكبرى (5/80 ).
وثمة جملة من أقوال السلف في ذلك منها:
(1) ما أخرجه الشافعي في الأم 2/187 " عن ابن عباس أنه قال : (إذا وجدت على الركن زحاما فانصرف ولا تقف).
(2) وعن منبوذ بن أبي سليمان عن أمه أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فدخلت عليها مولاة لها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً, فقالت لها عائشة (لا أجرك الله لا أجرك الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبرت ومررت)
(3) وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنها قالت: كان أبي يقول لنا: (إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن، وإلا فكبرن وامضين).
(4) وأخرج عبد الرزاق في مصنفه 4/247 عن عطاء عن ابن عباس قال : كان يكره أن يزاحم على الحجر تؤذي مسلما أو يؤذيك .
(5) وعن سعيد بن عبيد الطائي قال : رأيت الحسن أتى الحجر فرأى زحاماً فلم يستلمه فدعا ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين .
(6) وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان يستلمه ولا يزاحم وكان ابن عمر يفعله.
وبعد: أيها الحاج الحبيب: ها أنت ذا قد هجرت وطنك، وفارقت أهلك، وتركت عملك، وطويت المسافات، ميمِّماً خير وِجهةٍ، مجيـباً نداءَ ربك (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)، متأسّياً بنبيك الحبيب –صلى الله عليه وسلم-، وقد حبست نفسك لله أياماً معدودات، لن يزيد في طولها السكينةُ وكثرةُ الطاعة، ولن يُنقص من طولها العَجلة والإقلال من الطاعة، ولذا فليكن شعورك وأنت تستقبل مناسك حجك وعمرتك شعور المستلذ للعبادة المتسروح بالطاعة، الذي يجد فيها لذَّته وراحته من همومه، لا شعور المهموم بها المستثقل لها، فهو يحسها حملاً ثقيلاً يستعجل إلقاءها عن كاهله، ولو بالعنت والمشقة، وإلقاء النفس في التهلكة.
وإنك لتجد فرقاً وبوناً شاسعاً بين هاتين النفسين وهذين الشعورين .... فرقٌ كبير بين من يأتي العبادة وهو يريد أن يستلذّ فعلها ويستروح بها ويسكن إليها، وبين من يأتي العبادة وهو مهموم بفعلها، متبرم مستثقل لها، يستعجل قضاءها.
وإنك لتجد الأول يأتي العبادة في نشاطٍ ورغبةٍ، فيقضي مناسكه في إخبات وتذللٍ وإلحاحٍ في الدعاء وإكثارٍ من الذكر، وبُعدٍ عن الرفث والفسوق والجدال والإيذاء، يجلِّل عبادته السكينةُ والصبرُ والوقار والحلم.
بينما ترى الآخر يأتي العبادة في كسلٍ، ويقضي نسكه على عجلٍ ولو بالإيذاء والمزاحمة والمضارة، مع غفلةٍ وإقلالٍ من الطاعة.
تذكرْ -أخي الحاج- وأنت تقضي مناسكك أن نبيك وحبيبك –صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأنه يجد فيها راحته وشغلاً عن كل شغل، فكان يقول لبلال: أرحنا بالصلاة يا بلال.
ولك في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنةٌ، فاجعل من عبادتك راحةً من كل هم، لا همَّاً تستعجل إلقاءه والراحة منه!
أيها الحاج لقد حج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال للناس:"خذوا عني مناسككم"، وإن من أعظم ما يؤخذ عنه –صلى الله عليه وسلم- في أداء النسك الرفق والسكينة في أداء الشعائر والبر بالناس والإحسان إليهم وسعتهم بحسن الخلق. وإعطاء العبادة حظها من التأله والخضوع والإقبال على الله.
وقد كانت مشاهده –صلى الله عليه وسلم- في مواقف الحج هي الغاية في الإخبات لله، والإقبال عليه، والتواضع له، وأداء العبادة على حال من التعبد والمراقبة واستشعار مقام العبودية وعظمة المعبود.
نسأل الله –عز وجل- أن يتقبل من المسلمين حجهم وييسر أمرهم ويكتب لهم حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً ويردهم إلى أحسن حال وأفضل مآل إنه جواد كريم غفور رحيم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . الفهــرس الموضوع الصفحة
1- المقدمة..............................................3 2- المسألة الأولى: وقت رمي الجمرات أيام التشريق........6 3- المسألة الثانية:تأخير الرمي............................12 4- المسألة الثالثة: الدفع من عرفة قبل الغروب.............14 5- المسألة الرابعة:المبيت في منى وما ورد من الرخصة فيه...18 6- المسألة الخامسة: الزحام وما ورد من النهي عنه.........22
|
|