من فقه الإمام الألباني في مسائل الحج
مستلة من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد"
لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله ؛ فلا مضل له، ومن يضلل ؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد :
فهذه فوائد من فقه الإمام الألباني - رحمه الله – حول بعض مسائل الحج، نقلتها من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد"لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع - جزاه الله خيراً - ، أسأل الله أن ينفع بها.
باب/ أفضلية الحجّ راكباً
يُـذكَر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي r قال: إنَّ للحاج الراكِبِ بكل خَطْوةٍ تَخْطوها راحلته سبعين حسنةً، والماشي بكل خطوةٍ يخطوها سبع مئةِ حسنَةٍ .
ضعيف. "الضعيفة" برقم (496).
* فائدة:
قلتُ:... وكيف يكون (الحديث) صحيحاً وقد صح أنه - عليه الصلاة والسلام -
حج راكباً، فلو كان الحج ماشيا أفضل؛ لاختاره الله لنبيه r ؛ ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن الحج راكباً أفضل؛ كما ذَكَره النووي في "شرح مسلم"، وراجع رسالتي "حِجّة النبي r كما رواها جابر - رضي الله عنه –" (ص16) من الطبعة الأولى، والتعليق (16) من طبعة المكتب الإسلامي.
وجوب الإحرام من الميقات
1 - حديث: من تمام الحج أن تُـحْرِمَ من دُوَيــْرَةِ أهلِكَ .
منكر. "الضعيفة" برقم (210).
* فائدة:
وقد روى البيهقي كراهة الإحرام قبل الميقات عن عمر، وعثمان - رضي الله عنهما - وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت.
وما أحسن ما ذَكَرَ الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام" (1/167)، ومن قبله الهروي في "ذم الكلام" (3/54/1) عن الزبير بن بْكَّار قال: حدثني سفيان بن عيينة قال:
(سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! من أين أُحرِم؟
قال: من ذي الحليفة، من حيثُ أحْرمَ رسول الله r.
فقال: إني أريد أن أُحْرِم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل، فإني أخشَى عليك الفِتنة.
فقال: وأيُّ فتنة في هذهِ؟ إنما هي أميال أزيدها!
قال: وأيُّ فتنة أعْظَمُ من أنْ ترى أنك سبقتَ إلى فضيلةٍ قصَّر عنها رسولُ الله r؟!
إني سمعتُ الله يقول: فَلْيَحْذَرِ الذينَ يُخالِفون عنْ أمْرِهِ أنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عذابٌ أليمٌ (النور:63)!
فانظر مبلغ أثر الأحاديث الضعيفة في مخالفة الأحاديث الصحيحة والشريعة المستقرة،
ولقد رأيتُ بعض مشايخ الأفغان هنا في دمشق في إحرامه، وفهمت منه أنه أحْرَم من بلده! فلما أنكرتُ ذلك عليه احتج عليَّ بهذا الحديث! ولم يدْرِ المسكين أنه ضعيف لا يُحتَجّ به، ولا يجوز العمل به لمخالفته سنّة المواقيت المعروفة، وهذا مما صرّح به الشوكاني في "السيل الجرّار" (2/168).
2 - يُـذكَر عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي r قال:
مَنْ أهَلَّ بـحَجَّةٍ أو عُمْرةٍ من المسجدِ الأقصى إلى المسجد الحرام؛ غُفِرَ له ما تقدمَ من ذنبه وما تأخر، أو وجَبَتْ لهُ الجنة .
ضعيف. "الضعيفة" برقم (211).
* فائدة:
ثم إن الحديث؛ قال السندي، وتبعه الشوكاني: (يدل على جواز تقديم الإحرام على الميقات).
قلتُ: كلا، بل دِلالته أخصّ من ذلك، أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد؛ فالأصْل الإحرام من المواقيت المعروفة، وهو الأفضلُ؛ كما قرره الصنعاني في "سبل السلام" (2/268-269)، وهذا على فرض صحة الحديث، أما وهو لم يصح كما رأيتَ؛ فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم.
باب/ وجوب التمتع في الحج
1 - عن عائشة - رضي الله عنها- قالت:
دخل عليّ رسول الله r لأربع ليال خَلوْنَ أو خمس من ذي الحجة وهو غضبان، فقلتُ: يا رسول الله! من أغضبك أدخله الله النار؟!
فقال: أما شَعَرْتِ أني أمَرتُهم بأمْرٍ فَهُمْ يترددون، ولو كنتُ استقبلتُ من أمري
ما اسْتَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولا اشتريته حتى أحِـلَ كما حلُّوا .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2593).
* فائدة:
قلت: وهذا الحديث مثل أحاديث كثيرة ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد"، فيها كلها أَمْره r المفرِدِين والقارنين الذين لم يسوقوا الهدي بفسخ الحج إلى العمرة، وأَثرتُ هذا منها بالذكر هنا لعزة مخرجه الأول: "مسند إسحاق"، وحكاية عائشة غَضَبه r بسبب تردّد أصحابه في تنفيذ الأمر بالفسخ، عِلْماً أن ترددهم - رضي الله عنهم - لم يكن عن عصيان منهم، فإن ذلك ليس من عادتهم، وإنما هو كما قال راويه الحكم عند أحمد وغيره: ( كأنهم هابوا )،
وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعرفون العُمْرة في أيام الحج كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أنهم رأوا النبي r لم يَحِـلّ معهم، فظنوا أن في الأمر سَعَة فترددوا، فلما عَرَفوا منه السبب وأكد لهم الأمر بادروا إلى تنفيذه - رضي الله عنهم -.
وإذا كان الأمر كذلك فما بال كثير من المسلمين اليوم - وفيهم بعض الخاصة - لا يتمتعون، وقد عَرَفوا ما لم يكن قد عرفه أولئك الأصحاب الكرام في أول الأمر، ومن ذلك قوله r في بعض تلك الأحاديث: دخلت العمرة في الحج إلى يومِ القيامة ، ألا يخشون أن تصيبهم دعوة عائشة - رضي الله عنها -؟!
2 - يُـذكَر عن بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه -؛ أنه قال: قلت: (يا رسول
الله! فَسْخ الحج لنا خاصة؟ أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة . يعني فسخ الحج إلى العمرة).
ضعيف. "الضعيفة" برقم (1003).
* فائدة:
قال أبو داود في "المسائل" (ص302): (قلتُ لأحمد: حديث بلال بن الحارث في فَسْخ الحج؟ قال: ومن بلال بن الحارث أو الحارث بن بلال؟! ومن روى عنه؟! ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى يُفتي به في خلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر).
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/288): (وأما حديث بلال بن الحارث، فلا يُـكتَب،
ولا يُعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يَرَى للمُهِلّ بالحج أن يفسخ حَجَّة إنْ طاف بالبيت وبين الصفا والمروة.
وقال في المتعة: هو آخر الأمرين من رسول الله r.
وقال r: اجْعلُوا حجكم عُمْرة ( 1 ).
قال عبد الله: فقلتُ لأبي: فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحج؟ يعني قوله: لنا خاصة قال: لا أقول به، لا يُـعرَف هذا الرجل (قلتُ: يعني ابنه الحارث)، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثَـبْت).
قال ابن القيم: (ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد، وأن هذا الحديث لا يصح، أن النبي r أخبر عن تلك المتعة التي أَمَرهم أن يَفسخوا حجهم إليها أنه لأبد الأبد، فكيف يثبت عنه بَعْدَ هذا أنها لهم خاصة؟! هذا من أمْحل المحال، وكيف يأمرهم بالفسخ، ويقول: دَخَلَتِ العمرة في الحج إلى يوم القيامة ( 2 )، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة، دون من بعدهم؟ فنحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله r وهو غلط عليه).
وأما ما رواه مسلم في "صحيحه" وأصحاب "السنن" وغيرهم عن أبي ذر أنّ المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا مع كَوْنه موقوفاً، إن أريد به أصل المتعة، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة، ولذلك قال الإمام أحمد: (رحِمَ اللهُ أبا ذرّ هي في كتاب الرحمن: فَمَنْ تمتّع بالعُمرِة إلى الحجَّ (البقرة: 196)).
وإن أريد به مُتْعة فسخ الحج، احتمل ثلاثةَ وجوه من التأويل، ذَكَرها ابن القيم، فليراجعها من شاء، فإن غرضنا هنا التنبيه على ضعف هذا الحديث الذي يحتج به من لا يذهب إلى أفضلية متعة الحج ويرى الإفراد أو القِرَانَ أفضل، مع أن ذلك خلاف الثابت عنه r في أحاديث كثيرة استقصاها ابن القيم في "الزاد" فلتُـطلبْ من هناك.
وقال ابن حزم في "المحلى" (7/108):
(والحارث بن بلال مجهول، ولم يخرج أحد هذا الخبر في صحيح الحديث، وقد صح خلافه بيقين، كما أوردنا من طريق جابر بن عبد الله أن سُراقة بن مالك قال لرسول الله إذ أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة: يا رسولَ الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال رسول الله : بل لأبَد الأبَد. رواه مسلم).
وبهذه المناسبة أقول:
من المشهور الاستدلال في رد دِلالة حديث جابر هذا وما في معناه على أفضلية التمتع،
بل وُجوبه بما ثبت عن عمر وعثمان من النهي عن مُتعة الحج، بل ثبت عن عمر أنه كان يضرب على ذلك، ورُوي مثله عن عثمان ( 1 )، حتى صار ذلك فتنة لكثير من الناس وصادّاً لهم عن الأخذ بحديث جابر المذكور وغيره، ويَدْعَمون ذلك بقوله : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين ، وقوله: اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر ، ونحن نجيب عن هذا الاستدلال غَيْرة على السنة المحمدية من وُجوه:
الأول: أن هذين الحديثين لا يراد بهما قطعاً اتباع أحد الخلفاء الراشدين في حالة كونه مخالفاً لسنته r باجتهاده، لا قصداً لمخالفتها، حاشاه من ذلك، ومن أمثله هذا ما صح عن عمر- رضي الله عنه - أنه كان ينهى من لا يجد الماء أن يتيمم ويصلي ( 1 )!! وإتمام عثمان الصلاة في مِنى مع أن السنّة الثابتة عنه r قَصرُها كما هو ثابت مشهور، فلا يشك عاقل، أنهما لا يُـتَّبعان في مثل هذه الأمثلة المخالفة للسنّة، فينبغي أن يكون الأمر هكذا في نَهْيِهما عن المتعة للقطع بثبوت أمْرِه r بها.
لا يُقال: لعل عندهما علماً بالنهي عنها، ولذلك نَهَيَا عنها، لأننا نقول:
قد ثَبَت من طرق أن نهيَهما إنما كان عن رأي واجتهادٍ حادث، فقد روى مسلم (4/46) وأحمد (1/50) عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رُويدَك ببعض فُـتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدُ، حتى لقيه بعدُ، فسأله عمر: قد علمتُ أنّ النبي r قد فعله وأصحابه، ولكن كرِهتُ أن يظلوا مُعَرَّسين بهنّ في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم).
ورواه البيهقي أيضاً (5/20).
وهذا التعليل من عمر - رضي الله عنه - إشارة منه إلى أن المُتعة التي نهى عنها هي التي فيها التحلل بالعمرة إلى الحج كما هو ظاهر، ولكن قد صح عنه تعليل آخر يشمل فيه مُتعة القِرَانَ أيضاً فقال جابر - رضي الله عنه - : تمتعنا مع رسول الله r، فلما قام عمر قال: (إن الله كان يُحِـلّ لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القُـرْآن قدْ نَزَل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله
كما أمركم الله، فافْصِلوا حجكم عن عُمرتكم؛ فإنه أتمّ لحِجّتكم، وأتمّ لعُمْرتكم).أخرجه مسلم والبيهقي (5/21).
فثبت مما ذكرنا أن عمر - رضي الله عنه - تأول آية من القرآن بما خالف به سنّته r فأمر بالإفراد، وهو r نهى عنه، ونهى عمر عن المُتعة، وهو r أمرَ بها، ولهذا يجب أن يكون موقفنا من عمر هنا كموقفنا منه في نهيه الجنب الذي لا يجد الماء أن يتيمم ويصلي،
ولا فَرْقَ.
الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - قد ورد عنه ما يمكن أن يُؤخَذ منه أنه رجع عن نهيه عن المُتعة. فروى أحمد (5/143) بسند صحيح عن الحسن أن عمر - رضي الله عنه - أراد أن ينهى عن مُتعة الحج، فقال له أُبَيّ: ليس ذاك لك، قد تمتعنا مع رسول الله r،
ولم ينهنا عن ذلك، فأضربَ عنْ ذلك عمر.
قلتُ: الحسن - وهو البصري - لم يسمع من أُبَيًّ، ولا من عمر،كما قال الهيثمي(3/236) ولولا ذاك لكان سنده إلى عمر صحيحاً، لكن قد جاء ما يشهد له، فَرَوى الطحاوي في
"شرح المعاني" (1/375) بسند صحيح عن ابن عباس قال: (يقولون: إن عمر - رضي الله عنه - نهى عن المُتعة، قال عمر - رضي الله عنه -: لو اعتمرتُ في عام مرتين ثم حججتُ لجعلتُها مع حِجتي).
رواه من طريق عبد الرحمن بن زياد قال: ثنا شعبة عن سلمة بن كُهيل قال: سمعتُ طاوساً يحدّث عن ابن عباس.
قلتُ: وهذا سند جيد رجاله ثقات معروفون، غير عبد الرحمن بن زياد وهو الرصاصي، قال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو زُرعة : لا بأس به. ولم يتفرد به، فقد أخرجه الطحاوي أيضاً من طريق أخرى عن سفيان عن سلمة بإسناده عنه قال: قال عمر: فذكر مثله. وسنده جيد أيضاً، وقد صححه ابن حزم فقال (7/107) في صدد الرد على القائلين بمفضولية المتعة، المحتجين على ذلك بنهي عمر عنها: (هذا خالفه الحنفيون والمالكيون والشافعيون؛ لأنهم متفقون على إباحة مُتعة الحج، وقد صح عن عمر الرجوع إلى القول بها في الحج، رُوَّينا من طريق شُعبة عن سلمة بن كُهيل عن طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: لو اعتمرتُ في سنة مرتين ثم حججتُ لجعلتُ مع حِجّتي عُمرة. ورُوَّيناه أيضاً من طريق سفيان عن سلمة بن كُهيل به. ورُويناه أيضاً من طُرُق).
فقدْ رَجَع عمر - رضي الله عنه - إلى القول بالمُتعة اتباعاً للسنّة، وذلك هو الظنّ به
- رضي الله عنه - فكان ذلك من جملة الأدلة الدالّة على ضَعْف حديث الترجمة.
والحمد لله رب العالمين.
باب/ يُجتَنَب في العُمرة ما يُجتَنَبُ في الحجّ
عن صفوان بن أمية (عن أبيه)، قال:
جاء رجل إلى رسول الله r مُـتَـضَمَّخٌ بالخَلُوق، عليه مقطعات قد أحرم بعمرة، قال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله - عز وجل - : وأتّموا الحجّ والعُمْرةَ للهِ
(البقرة: 196). فقال رسول الله : أين السائل عن العمرة؟! .
فقال: (ها) أنا (ذا). فقال: ألقِ (عنك) ثِيابَكَ واغْتَسِل، واستنقِ ما استطعتَ،
وما كنتَ صانعاً في حجتك، فاصنعه في عمرتك .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2765).
* فائدة:
قال في " الفتح " (3/394):
(قال ابن المُنَيَّر في "الحاشية": قوله: وأصنع معناه: اتْرُكْ؛ لأن المراد بيان ما يجتنبه المُحْرِم، فيؤخذ منه فائدة، وهي أن التَّرْك فِعْل).
باب/ نهي الـمُحْرِمة عن تغطية وجهها بالـخِمار
عن عُقْبة بن عامر الجُهنيّ - رضي الله عنها - قال: نَذَرتْ أختي أنْ تمشيَ إلى الكعبة حافية حاسرة، فأتى عليها رسول الله ، فقال: ما بالُ هذهِ ؟ قالوا: نذرتْ أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة!
فقال: مُروها فَلْتَرْكب وَلْتَخْتَمِرْ (وَلْتَحُحَّ)، (وَلْتَهْدِ هَدْياً) .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2930).
* فائدة:
وفي الحديث فوائد هامة منها:
أنّ إحرام المرأة في وجهها، فلا يجوز لها أن تضرب بـخِمَارها عليه، وإنما على الرأس والصدر، فهو كحديث: لا تنتقب المرأة المُحْرِمة، ولا تلبس القفازين .أخرجه
الشيخان ( 1 ).
باب/ جواز تغطية المحرم وجهه للحاجة
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ أن النبي r :
(1) كان يُخَمرُ وجهه وهو محرم .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2899).
عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه
(2) رأىْ عثمان بن عفان بـ (العَرْج) مخمراً وجهه بقطيفة أُرْجُوان في يوم صائف وهو مُحْرِم.
صحيح. "الصحيحة" تحت حديث الترجمة.
* فائدة:
وإذا عرفت صحة (إسناد الحديث)، فلا تعارض بينه وبين الموقوف على عثمان كما هو ظاهر، إذ لا شيء يمنع من القول بجواز أن عثمان فعل ما يمكن أن يكون r فعله.
هذا خير من نسبة الخطأ إلى الثقة لمجرد فعل عثمان بما رواه عن النبي- عليه الصلاة والسلام -.
ألا ترى معي أنه لا فرق بين تصويب الدارقطني - رحمه الله - للموقوف على المرفوع، وبين من لو عكس عليه الأمر، فصوب المرفوع على الموقوف. فالحق أن كلا منهما صحيح،
فلا يُعارَضُ أحدهما بالآخر.
وقد جاء آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين بجواز تغطية المحرم لوجهه للحاجة، وبها استدل ابن حزم في "المحلى" (7/91 - 93) مؤيداً بها الأصل، وخرَّج بعضها البيهقي (5/54).
ولا يخالف ذلك قوله r فيمن مات مُحْـرِماً:
اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبه، ولا تُـخمروا وجهه ورأسه .
رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في "الإرواء" (4/198- 199).
فإن هذا حكم خاص فيمن مات مُحْرِماً، وحديث الترجمة في الأحياء، فاختلفا.
أنظر لتمام البحث "المحلى" .
باب/ علة شرعية الرَّمَل في الطواف
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - :
(أن قريشاً قالت: إن محمداً وأصحابه قد وَهَـنَـتْـهُمْ حُمَّى يثرب، فلما قَدِمَ رسول الله r العام الذي اعتمر فيه قال لأصحابه:
ارمُلوا بالبيت؛ ليرى المشركون قُـوَّتَـكُمْ .
فلما رَمَلوا قالت قريش ما وهنتهم).
صحيح. "الصحيحة" برقم (2573).
* فائدة:
قد يقول القائل: إذا كان علة شرعية الرمل إنما هي إراءة المشركين قوة المسلمين، أفلا يقال: قد زالت العلة فيزول شرعية الرمل؟
والجواب: لا؛ لأن النبي r رَمَـل بعد ذلك في حجة الوداع كما جاء في حديث جابر الطويل وغيره مثل حديث ابن عباس هذا في رواية أبي الطفيل المتقدمة. ولذلك قال ابن حبان في "صحيحه" (6/47 - الإحسان): (فارتفعت هذه العلة، وبقي الرَّمَل فرضاً على أمة المصطفى r إلى يوم القيامة) .
باب/ تحية البيت - لغير المُحْرِم - ركعتان
حديث: تحية البيت الطواف .
لا أصل له. "الضعيفة" برقم (1012).
* فائدة:
قلتُ: ولا أعلم في السنّة القولية أو العملية ما يشهد (لمعنى هذا الحديث)، بل إن عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد تشمل المسجد الحرام أيضاً، والقول بأن تحيته الطواف مخالف للعموم المشار إليه، فلا يُـقْـبَل إلا بعد ثبوته وهيهات، لا سيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا يمكن للداخل إلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام المواسم، فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، وما جَعلَ عليكم في الدّين مِنْ حَرَج (الحج: 78).
وإن مما ينبغي التنبّه له أن هذا الحكم إنما هو بالنسبة لغير المُـحرِم، وإلا فالسنّة في حقه أن يبدأ بالطواف ثم بالركعتين بعده. انظر بدع الحج والعمرة في رسالتي "مناسك الحج والعمرة" رقم البدعة (37).
باب/ المبيت بالأبطح ليلة التاسع من ذي الحجة
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (من السنّة النزول بــ (الأبطحِ) عشية النَّـفْرِ).
صحيح. "الصحيحة" برقم (2675).
* فائدة:
ولقد بادرت إلى تخريج هذه الحديث فور حصولي على نسخة مصورة من "المعجم الأوسط" لعزته، وقلة من أورده من المخرجين وغيرهم، ولكونه شاهداً قوياً لما رواه مسلم
(4/85) عن نافع أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنة.
قلتُ: فكأنّ ابن عمر تلقى ذلك من أبيه - رضي الله عنهما - فتقوى رأيه بهذا الشاهد
الصحيح عن عمر.
وليس بخاف على أهل العلم أنه أقوى في الدلالة على شرعية التحصيب من رأي ابنه؛
لِما عُـرف عن هذا من توسعه في الاتباع له r حتى في الأمور التي وقعت منه r اتفاقاً
لا قصداً، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ذكر بعضها المنذري في أول "ترغيبه"، بخلاف أبيه عمر كما يدل على ذلك نهيه من اتباع الآثار، فإذا هو جزم أن التحصيب سنة، اطمأن القلب إلى أنه يعني أنها سنة مقصودة أكثر من قول ابنه بذلك، لا سيما ويؤيده ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله r ونحن بِـمِـنَى: نحن نازلون غداً بـخَيْف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفْر .
وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم
ولا يبايعوهم حتى يسلّموا إليهم رسول الله r. يعني بذلك التحصيب. والسياق لمسلم.
قال ابن القيم في "زاد المعاد":
(فقصد النبي r إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله. وهذه كانت عادته - صلوات الله وسلامه عليه - : أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك كما أمر أن يُبَنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى).
وأما ما رواه مسلم عن عائشة أن نزول الأبطح ليس بسنة، وعن ابن عباس أنه ليس بشيء. فقد أجاب عنه المحققون بجوابين:
الأول: أن المُثبِت مقدّم على النافي.
والآخر: أنه لا منافاة بينهما، وذلك أن النافي أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، والمثبت أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله r، لا الإلزام بذلك.
قال الحافظ عَقِبه (3/471): (ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس وابن عمر).
قلتُ: وهما في "مختصري لصحيح البخاري" (كتاب الحج/83 - باب و (148 - باب).
(الأبطح): يعني أبطح مكة، وهو مسيل واديها، ويجمع على البطاح والأباطح، ومنه قيل: قريش البِطاح، هم الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها. "نهاية".
و (التحصيب): النزول بــ (المحَصَّب) وهو الشَّعب الذي مَخْرَجُه إلى الأبطح بين مكة ومِنَى. وهو أيضاً (خَيْف بني كنانة) .
باب/ التقاط الجمرات من مِنى لا المزدلفة
عن الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله r للناس حين دفعوا عشية عرفة وغداة جَـمْع: عليكم بالسَّـكِينة وهو كافٌّ ناقَـتَـه، حتى إذا دخل مِنى، فهبط حين هبط مُحَسراً قال: عليكم بحصى الخَـذْفِ الذي ترمى به الجمرة .
قال: والنبي r يشير بيده كما يخذف الإنسان.
صحيح "الصحيحة" برقم (2144).
* فائدة:
ترجم النسائي لهذا الحديث بقوله: (من أين يلتقط الحصى؟)، فأشار بذلك إلى أن
الالتقاط يكون من مِنى، والحديث صريح في ذلك؛ لأن النبي r إنما أمرهم به حين هبط مُحسراً، وهو من مِنى كما في رواية مسلم والبيهقي، وعليه يدل ظاهر حديث ابن عباس قال: قال لي رسول الله r غداة العَـقَـبة وهو على راحلته: هات القُـطْ لي ، فلقطتُ لهُ حَصَبات هن حَصَى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين .أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد
(1/215و247) بسند صحيح.
ووجه دلالته إنما هو قوله: (غَداة العَـقَبة) فإنه يعني غداة رمي جمرة العقبة الكبرى، وظاهره أن الأمر بالالتقاط كان في مِنى قريباً من الجمرة، فما يفعله الناس اليوم من التقاط الحَصَبَات في المزدلفة مما لا نعرف له أصلاً في السنة، بل هو مخالف لهذين الحديثين، على
ما فيه من التكلف والتحمل بدون فائدة!
باب/ هل يرمي الحاج الجمار ماشياً؟
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي r: كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهباً وراجعاً .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2072).
* فائدة:
قال الترمذي عقب الحديث: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وقال بعضهم: يركب يوم النحر ويمشي في الأيام التي بعد يوم النحر، (قال أبو عيسى) وكأنه من قال هذا إنما أراد اتباع النبي r في فعله، لأنه إنما رُوِيَ عن النبي r أنه ركب يوم النحر حيث ذهب يرمي الجمار، ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة).
قلتُ: رميه r جمرة العقبة راكباً هو في حديث جابر الطويل في "حجة النبي r" من رواية مسلم وغيره (ص 82 - الطبعة الثانية)، ولذلك فحديث ابن عمر يُـفسَّـر على أنه أراد الجمار في غير يوم النحر توفيقاً بينه وبين حديث جابر. والله أعلم.
ثم رأيت ما يؤيد ذلك من رواية عبد الله بن عمر عن نافع بلفظ: (عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً، ويخبر أن النبي r كان يفعل ذلك). أخرجه أبو داود (1969)، وأحمد (2/156)، وفي رواية له (2/114 و 138) :
(كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك
إلا ماشياً ذاهباً وراجعاً، وزعم أن النبي r كان لا يأتيها إلا ماشياً ذاهباً وراجعاً).