أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الخميس 07 أكتوبر 2010, 9:17 pm | |
| محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة - رؤية تأصيلية سلطان العميري 10شوال1431هـ من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى، وغرس التعلق به في كل حياتهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ }[النحل:36].
فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحى في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون، ومنها يقصدون وإليها يرجعون، وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده، وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم، وإنكار عبادة كل ما سواه من الأوثان وغيرها.
والذي يحاول أن يدقق النظر قليلا في طريقة القرآن في شرحه لمهمة الرسل يجد أنه اختار لفظ " العبادة " ومفهوم " العبودية " ليجعله مرتكز دعوة الرسل ؛ وسبب ذلك: هو أن هذا اللفظ وذلك المفهوم يتضمن معاني لا يتضمنها غيره من المفاهيم، وله وظيفة لا يؤديها مفهوم آخر كما يؤديها هو، فمفهوم العبودية يتضمن معنى الحب والخوف والرجاء والإجلال والذل، فأصل معنى العبادة يرجع إلى الذل والخضوع، وهي عبارة عما يجمع غاية الحب مع غاية الخضوع للمعبود، يقول ابن تيمية: (العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له)(10/153)، ويقول منبهاً على العلاقة بين الحب والذل في مفهوم العبادة: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله) (10/153).
ولأجل هذا أكثر القرآن في بيان دعوة الرسل من ذكر اسم الله واسم الإله ؛ لأن هذا الاسم يؤدي إلى نفس المضمون التي تتضمنه العبودية (فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما).
وهذا يؤكد على أن المعْلَم الذي أبرزه القرآن ليكون أساس دعوة الرسل ومحور رسالتهم هو مفهوم العبودية، الذي يتضمن معنى الحب والرجاء والخوف لله تعالى، وهذا يجعل العلاقة بين الله وبين خلقه قائمة على معاني روحية متدفقة، تنبع من داخل الأعماق وتفيض على جميع جوانب الحياة، فهي علاقة أعمق وأدق من كل المعاني الأخرى التي تزاحمها، ولهذا لهج القرآن بذكر أوصاف الله تعالى وأسمائه، التي تقتضي تعلق قلوب العباد به سبحانه بالحب والرجاء والخوف والإجلال والتعظيم، فهذه المعاني الروحية الجملية هي التي جعلها القرآن محور دعوة الرسل، وهي التي سعى القرآن إلى تجذيرها في عقول الناس، وبذل كل السبل في ذلك.
فلم يراع القرآن حين أراد أن يبين مهمة الرسل في تعليق القلوب بالله تعالى معنى الهروب من استبداد الخلق للخلق كأساس، ولم يجعل مهمة الرسل المركزية بيان منزلة الحرية أو بيان حاكمية الله تعالى على الخلق، فالعباد لا يتعلقون بالله لأنه حاكم عليهم فقط، ولا يتعلقون به لأنهم أحرار ليسوا عبيدا لأحد فقط، وإنما يتعلقون به سبحانه لأنه هو الذي يستحق الحب والإجلال والذل له والخوف والرجاء منه، يتعلقون به لأنه خالقهم ورازقهم ومحسن إليهم ورحيم بهم فهو أهلٌ لأن يتعلق به، يتعلقون به لأنه متصف بالكمال من كل وجه، فهذه هي المعاني التي كانت محور دعوة الرسل وأساس منطلقهم في الرسالة، فالمنطلق الأصلي في تعلق الناس بربهم هو أنهم أدركوا كماله واستحقاقه للعبودية لا أنهم تحصلوا على الحرية وانتصروا على الاستبداد.
ونحن إذا رجعنا إلى القرآن والسنة نجد أن الشريعة أكثرت من تفعيل مبدأ العبودية في بيان العلاقة بين الله وخلقه، وكانت تستعمل الألفاظ وتبرز المعاني التي تتضمن العلاقة الروحية الرفيعة بين الله وبين خلقه، وتشيع بين المسلمين الألفاظ التي تغرس محبة الله ومخافته ومراقبته وتعظيمه، ولم تستعمل الألفاظ الأخرى التي لا تؤدي إلى تلك المعاني الشريفة كلفظ الحاكمية مثلاً.
والذي يرجع إلى نصوص الشريعة ويقرأها قراءة تأمل وتدبر، ويحاول أن يستخلص الأهداف الأصلية لدعوة الرسل سيخلص بسهولة إلى أن المرتكز الصلب في دعوتهم هو الحب الإلهي والرضا الرباني، وسيجد أن حجر الزاوية في الإسلام هو التعلق بالله تعالى والارتباط به بمفهوم العبادة دون غيره من المفاهيم.
وسيدرك أن هذا المعنى هو الغاية من الرسالات وهو المقدم على كل غاية، وسيكتشف أنه الهدف الذي ينبغي أن يكون بارزا ظاهرا للعيان، ولا يجوز لأي غرض آخر أن يزاحمه في المحورية والمركزية، وفي بيان اهتمام القرآن بمفهوم العبودية يقول ابن القيم: (غالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد –توحيد الخبر وتوحيد الإرادة- بل نقول قولاً كلياً: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم)(المدارج 3/449)، فالقرآن كله مشتغل بالله تعالى، حتى يتعلق الناس به وينصرفوا عن كل ما سواه.
فالقرآن لما أراد أن يبين الغاية من خلق الناس أبرز مفهوم العبودية للعيان، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[الذاريات:56].
ولما ذكر القرآن مناظرات الرسل لأقوامهم بين أن كل رسول يبدأ أول ما يبدأ في دعوته لقومه بالدعوة إلى العبودية لله، فقال عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم}[الأعراف:59]، وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون}[الأعراف:65]، وقال عن صالح:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }[الأعراف:73]، وقال عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}[الأعراف:85], وواضح من طريقة شعيب في دعوته أنه جعل الدعوة إلى العبودية محوراً أساسياً ثم بعد ذلك بين لوازم هذه العبودية.
ولما أراد القرآن أن يبرز صفات المؤمنين أظهر الصفات المتعلقة بمفهوم العبودية المتضمنة للحب والخوف والرجاء، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون **الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون **أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم}[الأنفال:2-4]، ونبه على أن هذه هي أوصاف المؤمنين سواء كانوا في حالة الاستضعاف أو في حالة القوة، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}[الحج:41]، والمراد بالمعروف هنا: هو كل ما هو عبادة لله تعالى، والمراد بالمنكر: كل ما هو معصية له سبحانه، وقد كرر القرآن كثيرا الصفات التي يتحلى بها المؤمنون، فذكر قيام الليل والجهاد في سيبل الله والخوف من القيام بين يديه.
بل إن الوصف الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه هو وصف العبودية، كما قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وقال: ((ولكن قولوا: عبد الله ورسوله)) ولم يكن يصف نفسه بالحرية ولا الثورة على استبداد الكفار، وما أكثره وأغلظه في زمنه!
وحين ذكر القرآن نعيم المؤمنين في الجنة كان يعلقهم بالله تعالى مباشرة، فغاية نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجهه الكريم، ولما ذكر أصول الأعمال التي تؤدي إلى دخول الجنة كانت كلها راجعة إلى العبودية لله تعالى، ولم يذكر منها الحصول على الحرية أو الثورة على الاستبداد.
وكذلك لما ذكر تعذيب الكفار، وأصول الأعمال الموجبة لدخول النار لم يجعل المناط المؤثر فيها إلا فقدان معنى العبودية لله تعالى وترك أفعال الطاعة كما قال سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر **قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين** وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين **وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين **وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين **حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين}[المدَّثر:41-47]، ولم يجعل من أصول ما يوجب دخول النار الخضوع للاستبداد ولا ترك الحرية، ولا فقدان الحاكمية، نعم نبه القرآن على أن بعض – لا كل – من بقي على الكفر ولم يدخل في الإسلام حتى دخل النار كان نتيجة تقليده لرؤساء قومه، ولكن الشريعة لم تجعل المناط المؤثر إلا ترك العبودية لا غيره.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحث أصحابه على الأعمال الصالحة وعلى المزيد من العبودية لله تعالى يعلقهم بربهم وبالمعاني القلبية المتدفقة، فكان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا وكذا، ولم يقل يوما ما: من كان حرا أبيا فليفعل كذا، أو من كان متحرراً من استبداد البشر فليقل كذا، مما يدل على أن الهدف المركزي الذي يسعى إلى غرسه في قلوب الصحابة هو العبودية لله، والتعلق به بالحب والخوف والرجاء.
وحين بين النبي صلى الله عليه وسلم أمر الدين، وبين مبانيه الكبرى ولخص أصوله لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، لم يذكر إلا ما يدل على أن الغرض الأصلي للدين هو العبودية لله تعالى ومراقبته في السر والعلن، فهذا هو المعنى الذي تتمحور عليه كل الرسالات، وهو ما وصى الله به كل الرسل، كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب}[الشورى:13].
ومن لطيف استعمالات الشريعة أنها لما أرادت التنفير من التعلقات الأخرى المزاحمة للتعلق بالله تعالى استعلمت لفظ (العبودية) كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين}[يس:60], وكما قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون}[يونس:18], وكما قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}[الفرقان:43]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار....))، كل هذا حتى يتشرب الناس مفهوم العبودية المتضمن للحب والخوف والرجاء لله تعالى، وينفرون من تعليق هذه المعاني بغيره سبحانه.
ومن لطيف طريقة القرآن في بناء العبودية لله تعالى أنها لم تجعل الأصل في منطلق الدعوة إلى عبودية الله تعالى إلا بيان الكمالات التي اتصف بها الله تعالى والتي توجب تعلق القلوب به، ثم كملت ذلك ببيان الخلل في التعلقات الأخرى.
فهذه الاستعمالات وغيرها كثير في القرآن والسنة كلها تصب في معنى واحد، وهو أن المرتكز الذي تقوم عليه دعوة الرسل هو تعليق الناس بالله بمفهوم العبودية، وأن كل الأغراض الأخرى التي جاءت الشريعة لتحقيقها إنما هي تابعة لهذا الغرض الأصلي، فالهدف الذي يتربع على رأس الهرم في دعوة الرسل هو مفهوم العبادة.
وليس المراد من الكلام السابق اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى العبودية فقط، ولا اختزال مفهوم العبودية في العبادات المحضة، فلا شك أن الشريعة جاءت بالدعوة إلى أغراض أخرى تتعلق بحياة الناس وأحوالهم، فمن أغراض الشريعة ترتيب دنيا الناس، وإزالة الظلم عن المظلومين، والدعوة إلى العدل، وتقنين معاش البشر، ولكن كل تلك الأغراض متأخرة عن غرض العبودية ومنخفضة عنه في المرتبة ولا يصح أن تزاحمه أو تساويه، فلفظ العبادة يتضمن معاني ويستلزم أخرى، ومن ضروريات التأصيل الشرعي أن نفرق بين المعاني المتضمنة فنجعلها الأساس وبين المعاني المتضمنة ونجعلها التابع. ********* ومع وضوح هذا الأمر وتجليه في الظهور إلا أنه لم يسلم من المضايقات، فقد غدونا نسمع من هنا وهناك دعوات تزاحم مفهوم العبودية ومرتكز لدعوة الرسل، وقد توالت أصوات عديدة في السعي إلى ذلك، ومن تلك المزاحمات:
الأولى: مزاحمة مفهوم العبادة بالدعوة إلى فكرة الحاكمية، فقد ظهرت في أوائل عصرنا الحديث دعوة تقصد إلى إرجاع مفهوم العبودية إلى معنى السلطة والحاكمية، وتجعل جوهر دعوة الرسل يعود إلى تكريس فكرة الحاكمية، ويعد أبو الأعلى المودودي هو أول من أظهر هذه الفكرة وسعى إلى بنائها، وفي هذا المعنى يقول: (خلاصة القول: أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة، سواء أكان يعتقدها الناس من حيث حكمها على هذا العالم حكم معينين على قوانين الطبيعة، ومن حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان، وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسا لما يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير الله، وإثبات الألوهية لله تعالى) (المصطلحات الأربعة 23).
وجعل ألوهية الله تعالى كلها ترجع إلى مفهوم الحاكمية على الخلق، وبالتالي فمفهوم العبودية يرجع إلى الحاكمية، وجعل العبادات إنما شرعت لتكون طريقا لتحقيق الحاكمية.
وقد تبنى سيد قطب هذه الفكرة أيضا، وفي هذا يقول: (الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية... وهي الحاكمية... إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا) (معالم في الطريق9)، ويقول عن الذين خاطبهم القرآن: (كانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله بها معناه: نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى الله) (معالم في الطريق9).
بل إنه يقول: (لا إله إلا الله –كما يدركها العربي العارف بمدلول لغته– لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد لأن السلطان كله لله) (معالم في الطريق31)، وقد أطال سيد جدا في إرجاع مفهوم العبودية ومعنى لا إله إلا الله إلى الحاكمية.
ونحن إذا رجعنا إلى لغة العرب نجد أن الأمر مختلف تماما عما ذكروه، فالمعنى الذي يتضمنه مفهوم العبودية يرجع إلى الذل والتعظيم والحب، ولفظ الإله في اللغة يعني: من تألهه القلوب وتحبه وتعظمه، فكل تلك المعاني معاني زائدة على فكرة الحاكمية، بل إنه لا يتضمنها.
وكذلك إذا رجعنا إلى الدلالات السابقة التي استعملتها الشريعة في بيان دعوة الرسل نجد أنها أبرزت معاني التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال في العلاقة بين الله وبين خلقه، فهي معاني إيجابية تنطلق إلى تعليق القلوب بالله تعالى أولا وقبل كل شيء، فكيف يصح مع هذا أن تقتصر العلاقة على الحاكمية فقط، فالحاكمية هي أحد المعاني التي تدخل في العبودية ولكن ليست أساسها، وقد اجتهد عدد من المفكرين المعاصرين في بيان الخلل المنهجي الذي وقع فيه أبو الأعلى المودودي وسيد قطب في تفسير مفهوم العبودية، وفي شرحهم لمحور دعوة الرسل، ومن أقوى من بين ذلك الخلل: أبو الحسن الندوي في كتابه (التفسير السياسي للإسلام)، ووحيد الدين خان في كتابه (خطأ في التفسير).
الثانية: مزاحمة مفهوم العبودية بالدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد ، فقد غدونا نسمع في المجالس ونقرأ في المنتديات أن الرسل إنما جاءت لتحرر الإنسان من الاستبداد، ونقرأ أن مفهوم التوحيد والعبادة يرجع إلى مفهوم الحرية، أو أن مفهوم الحرية معنى أصلي في التوحيد، ونسمع أن الإنسان لا يكون كامل التوحيد حتى يتخلص من كل أنواع الاستبداد، ونقرأ أن جوهر جهاد الأنبياء يرجع إلى الانقلاب على الظلمة، بل سمعنا من يقول إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن، ووجدنا من يقول إن الفكرة المحورية في الأديان هي الانتصار للمستضعفين.
ولما اطلع بعض الباحثين على هذه العبارات وغيرها أخذ يقول إن أصحابها يقصدون اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى الحرية، وأنهم يقللون من أهمية الشرك بالله في العبادة، وأنهم يؤخرون منزلته عن الحرية.
وإذا اعتبرنا أحوال كثير من عقلاء المشتغلين بالدعوة إلى الحرية والمختصين في شأن الإنكار على الاستبداد لا نرى ذلك الوصف منطبقا عليهم، بل هو توصيف مخالف للحقيقة، فهم لم يقصدوا إلى اختزال مفهوم التوحيد في الحرية ولم يقصدوا إلى التقليل من خطورة الشرك في العبادة. ومكمن الخطأ في نظري راجع إلى معنى آخر، وهو أن تلك العبارات يدل ظاهرها على مزاحمة مفهوم العبادة بمفهوم الحرية، ويدل على مساواة لوازم العبودية لله تعالى بالمعاني المتضمنة فيها، ونحن إذا توجهنا بالتحليل إلى تلك الأفكار، وحاكمناها إلى نصوص الشريعة، فإنا نقف في النصوص على أن المحور الأساسي الذي سعى الإسلام لغرسه في قلوب الناس هو مفهوم العبودية، ولم يركز على مفهوم الاستبداد أو الحرية كمحور ومرتكز لدعوة الرسل، نعم هناك إشارات إلى هذا المفهوم، ولكنها لا تعدوا أن تكون مجرد إشارات لا تنقله وتؤهله لأن يكون مزاحما لمفهوم العبودية، أو يكون عنصرا أساسيا فيها بحيث إذا انخرم يقع الخلل في مفهوم العبادة !، وإنما هو مثله مثل أي طاعة أخرى.
فمما لا شك فيه أن كل الطاعات تدخل في مفهوم العبودية، وكل المعاصي تدخل في مفهوم الشرك من جهة أنها نتيجة الخضوع للهوى والنفس والشيطان، ففعل الزنى – مثلا - يمكن أن نجعله من الشرك، وأنه نتيجة الخضوع لاستبداد الهوى, ولكن هذا لا يبرر لنا أن نجعل الدعوة إلى ترك الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل، وإنما هو تابع للمحور.
ثم إنا لو عقدنا مقارنة بين لفظ (العبادة) ومفهوم (العبودية) وبين لفظ (الحرية) ومفهوم (تحرير الإنسان من الاستبداد) لوجدنا أن مفهوم العبودية يتضمن معاني لا توجد في مفهوم الحرية، فهو يحمل معنى الحب والذل والخوف والرجاء والإجلال، وهذه المعاني لا يتضمنها لفظ الحرية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يصح شرعا ولا عقلا ولا ذوقا أن نزاحم به لفظ العبادة الذي يتضمن معاني روحية عميقة بلفظ آخر مادي جاف، ولا أن نرفعه لنساويه به، وإنما يجب علينا أن نجعل مرتكز دعوة الرسل قائم على مفهوم العبودية لله، ونجعل المعاني الأخرى اللازمة له والناتجة عنه ومنها الحرية تابعة له لا مزاحمة ولا مساوية.
وهذا لا يعني أنا نمنع من استعمال لفظ الحرية في التعبير عن المعاني الشرعية بإطلاق، ولكن غاية ما يعني أنه لا يصح أن نجعله مساويا للفظ الشرعي في المعنى ولا في الدلالة المتضمنة.
ثم إنا لو طالعنا النصوص الشرعية لوجدناها تدل على أنه لا علاقة بين العبودية كمالا ونقصا وبين الحرية كمالا ونقصا، فقد يكون الإنسان كامل الدين مع أنه ناقص الحرية، فقد كان عدد من الصحابة من الرقيق والعبيد، ولا يصح أن نصفهم بنقص الدين لأنهم عبيد، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بالجنة وهو حي يعيش على الأرض، بل إن الشريعة أقرت نظام الرق والعبودية، وهو من أسوأ ما يضاد الحرية، ومع هذا لم تعد الشريعة هذا النظام مناقضا لأصل مفهوم العبودية لله تعالى ولا لكماله، ولو كان كذلك لسعت إلى محاربته كما سعت إلى محاربة عبادة الأوثان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرقيق ليسلم بين يديه لم يكن يقول له إنك عبد مسلوب الحرية أو ناقصها، فلا تقبل منك عبودية الله أو لا يمكن أن تكون كامل العبودية، ولم يكن يحرضه على الثورة على سيده، بل كان يقبل منه إعلانه لتوحيده.
وهذه الدلالة من أظهر الدلالات وأقواها على أن الحرية لا يجوز لها أن تزاحم العبودية، وإنما هي متأخرة عنها بمراحل كبيرة، وكذلك يدل على أن الحرية ليست معنى أساسيا في التوحيد والعبادة ؛ إذ لو كانت كذلك لما رضي النبي صلى الله عليه وسلم بوجود نظام يكرسها، ولابد لنا أن نؤكد على أن الدلالة في هذا الدليل راجعة إلى إقرار الشريعة لنظام الرق لا في إلزام السيد بالعدل مع عبده، فإن المطالبة بالعدل معه وبترك ظلمه لا يرفع عنه كونه مسلوب الحرية التي تميز بها العبد الذي ليس برقيق.
ودلت النصوص الشرعية على أنه إذا تعارض حفظ الدين مع ما ينقص حرية الناس ويوقع عليه الاستبداد، دلت على أنه يجب تقديم ما يحفظ الدين للناس، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون، عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك، قال: لا ما أقاموا لكم الصلاة)) (مسلم 1855).
وهذا المعنى – وهو أن مفهوم الحرية والثورة على الاستبداد لا يصح أن يزاحم مفهوم العبودية وأنه ليس معنى أساسيا في نفيها– هو ما فهمه العلماء والفقهاء والمحدثون الذين ثاروا على الاستبداد وعلى الظلم والبغي وأكل أموال الناس بغير حق، فإنهم لما ثاروا على دولة بني أمية لأجل ما حصل منهم من استبداد، لم يقل أحد منهم الحرية أو الثورة على الاستبداد هو أساس دعوة الرسل ولم يجعل أحد منهم الدعوة إلى الحرية هو جوهر التوحيد، ولم يقل أحد منهم إن الحرية من أصول المعاني العبادية، أو أن من لم يثر على الاستبداد توحيده ناقض وعبوديته مخرومة، كل ذلك لم يحصل منهم، وإنما قدروا الانحراف قدره وأنزلوه منزلته.
ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية الدعوة إلى محاربة الاستبداد ولا إلى إزالة الشرعية عن مشروع المطالبة بحقوق الأمة المسلوبة، فالدعوة إلى ذلك عمل شرعي واجب على عموم الأمة. بل إن محاربة الاستبداد والمطالبة بحقوق الأمة يكون في كثير من الأحوال أولى وأوجب شرعا من الدعوة إلى محاربة بعض البدع التي لا تقدح في أصل الدين.
وإن الإنسان الحريص على الاكتمال في مشروع الإسلام الكبير يسعد حين يرى من يقوم بهذا الواجب الكفائي، تأصيلا وبيانا وتطبيقا، فلا يشك عاقل فضلا عن عارف بنصوص الشريعة أن هذا عمل جليل فاضل، ولا يشك عارف بالواقع في أن ما سلب من حقوق الأمة شيء كبير جدا، يوجب علينا مساندة من تكلف بالعمل فيه ومعاونته، ولكن هذا كله لا يبرر لنا أن نرفع من قدر الثورة على الاستبداد حتى نجعلها مزاحمة لمقصود العبودية لله تعالى، ولا يبرر لنا أن نجعل المعنى الأبرز في دعوة الرسل هو الثورة على الاستبداد، ولا يبرر لنا أن نجعل جوهر العبادة راجع إلى الحرية، ولا يبرر لنا أن نجعل كمال الدين مرتبط بكمال الحرية.
فمهما كان الخطأ الذي يتضمنه الاستبداد ومهما كانت الجريمة التي يتضمنها السطو على حقوق الناس، فهذا لا يبرر لنا أن نرفعها فوق القدر الذي تستحقه في الشريعة، أفرأيتم لو أن مجتمعا ما شاعت فيه فاحشة الزنى شيوعا كبيرا، فهل هذا الشيوع يبرر لمن أدرك خطورة هذه الفاحشة وأراد إصلاح ذلك الفساد أن يجعل محاربة الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل؟!
ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الزنى؟! ويستدل على ذلك بقصة لوط عليه السلام، أو أن مجتمعا شاع فيه الربا، فهل يحق لمن أراد أن يصلح هذا الخلل أن يجعل محاربة الربا محورا أساسيا في دعوة الرسل؟! ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الربا؟!! ويستدل على ذلك بقصة شعيب عليه السلام.
وحين نقدم هذه الرؤية النقدية لا نريد أن ننكر على المختصين في مجال الحرية كثرة ذكرهم للظلم والاستبداد، ولا كثرة إلحاحهم على بيان خطورة السطو على حقوق الأمة، ولا نريد أن نلزمهم بالدعوة إلى التوحيد والعبادة أو بكثرة ذكره كما يفعلون مع الحرية، فإنا لو ألزمناهم بذلك لوجب علينا إلزام المشتغلين بالنحو والمشتغلين بالبلاغة والمشتغلين بأصول الفقه؛ أن يكثروا من الدعوة إلى التوحيد وبيان معانيه كما يكثر النحاة من ذكر الاسم والفعل والحرف، وكما يكثر البلاغيون من ذكر الاستعارة والتشبيه، وكما يكثر الأصوليون من الواجب والمندوب والقياس والنسخ، وهذا ما لم يقل به أحد.
فليس محل النقد إذن اللهج بمبدأ الحرية ولا كثرة الاشتغال به ولا التخصص فيه، وإنما ينحصر محل النقد في استعمال العبارات التي تجعل الدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد محورا أساسيا في دعوة الرسل، ويدخل في النقد استعمال العبارات التي توحي باختزال مهمة الرسل في الدعوة إلى الحرية حتى قال بعض الكتاب: (إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن).
فهي دعوة إلى التوازن في الطرح وتقدير كل شيء قدره بميزان الشرع.
|
|