{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}
(ماشطة بنت فرعون)
"مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبةُ يَا جِبْرِيلُ؟!"
(رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-).
كثيرٌ مِنَّا مَنْ يعتقد أنه قد أصبح مسلمًا مؤمنًا لمجرد التزامه بفروض اللَّه!
فهناك من الناس مَنْ يتصدَّق بثلاثة دنانير ليرفع يديه عاليًا إلى السماء وهو يقول: "اللهم لا تضيعها عندك"!
وهناك مَنْ يدفع زكاة ماله -المفروضة عليه- ليشترط على اللَّه القصر الأبيض في جنات الفردوس!
ومنَّا مَنْ يقوم للهِ ليلةً يتيمةً ليعتقد بعدها أن اللَّه سيبني له منزلًا في الجنَّة بجوار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-!
ومن الناس مَنْ يذهب للدعوة إلى سبيل اللَّه فإذا قوبل بالرفض من أول مرة رفع يديه إلى السماء ليقول: "اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد"!
وهناك من الدُّعاة مَنْ إذا سُبَّ أو اسْتُهْزئَ به لمرةٍ واحدةٍ فقط رجع حزينًا وهو يقول: "اللهم إني أشكو لك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"!
فيظنُّ هؤلاء بذلك أنهم قد وصلوا إلى مرتبة الصِّدِّيقين والشهداء!!!
ولكن الإيمان الحقيقي لهو أعظم من ذلك بكثير... والحقيقة هي أنك إذا لم تتعرض لابتلاء، فأعلم أنك لم تصل إلى مرحلة الإيمان!
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت].
وبطلتنا الآن هي إنسانة دخلت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، فهذه الإنسانة لم يبتليها اللَّه فحسب، بل ابتلاها اللَّه بأحقر وأسفل خلقه في التاريخ: فرعون!
إننا نتحدث عن ماشطة بنت فرعون، والتي لم تكن أكثر من مجرد امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها في ظل مُلك فرعون، فقد كان زوجها مُقَرَّبًا من فرعون، بينما كانت هي ماشطة لبنات فرعون.
فَمَنَّ اللَّهُ عليهما بالإيمان، فلم يلبث أن عَلِمَ فرعونُ بإسلام زوجها، فقتله على التَّو واللحظة، فأخفت زوجته إسلامها، واستمرت في العمل في قصر فرعون تُمَشِّطُ بناته، وتنفق على أولادها الخمسة.
وفي يومٍ من الأيام وبينما هي تُمَشِّطُ ابنة فرعون، وإذ بالمشط يقع من يدها على الأرض، فتناولته هذه المرأة المؤمنة من الأرض وهي تقول: "بسم اللَّه"، فقالت ابنة فرعون: "اللَّه أبي؟!"
فصاحت الماشطة بابنه فرعون: "كلا! بل اللَّه رَبِّيِ، ورَبُّكِ، ورَبُّ أبيكِ".
فذهبت تلك المُجرمة ابنةَ المُجرم إلى أبيها لتخبره بأمر ماشطتها، فثارت قيامة فرعون بوجود مَنْ يعبُدُ اللَّه بقصره، فأحضرها، وقال لها: "مَنْ رَبُّكِ؟ " فقالت: "رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ".
فأمرها فرعون بالرجوع عن دينها، وإلا حبسها وعذَّبها، فأبت تلك البطلة أن ترتدَّ عن الإسلام، فأمر فرعون بِقِدْرٍ من نُحَاسٍ فمُلِئَتْ بالزَّيت، ثم أحْمِيَ حتَّى غلا، فأوقفها أمام القِدْر، فلما رأت العذاب، أقبلت على القِدْر تريد الشهادة، فعلم فرعون أن أحَبَّ الناس إليها هم أولادها الخمسة، الذين كانت تُربيهم بعد أن قُتِلَ أباهم.
فأراد ذلك المجرم أن يزيد في عذابها، فأحضر الأطفال الخمسة إلى غُرفة التَّعذيب الفرعونية، فلما رَأوْا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبَّت عليهم تُقبّلهم وتضمُّهم إلى حضنها باكية.
فأخذت أصغرهم وضمَّته إلى صدرها وأرضعته، فأمر فرعون بأكبرهم، فجرَّه الجُنود ودفعوه إلى الزيت المغلي والغُلام يصيح بأمّه ويستغيث ويسترحم الجنود ويتوسَّل الى فرعون ويحاول الفِكَاكَ والهرب، ولكن الجنود كانوا يصفعونه ويدفعونه إلى الزَّيت المغلي دفعًا.
كل هذا وأمُّهُ تنظر اليه وتودّعه بدموعها بعد أن عجز لسانها عن الحركة، وما هي إلا لحظات، حتى ألْقِيَ الصَّغير في الزَّيت، والأمُّ تبكي وتنظر إلى طفلها وهو يحترق، بينما فرعون يقهقه، وإخْوَتُهُ يغطّون أعينهم بأيديهم الصغيرة من هَوْلِ المنظر، حتى إذا ذاب لحمه على جسمه النَّحيل، وطفت عظامه البيضاء فوق الزَّيت، نظر إليها فرعون مرة أخرى وأمرها بالكفر لكي يعفو عن البقية، فأبت هذه الفدائية، فزاد غضب فرعون.
فأمر بولدها الثاني، فسُحِبَ من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألْقِيَ في الزَّيت، والأم تنظر إليه وتبكي، حتى طَفَتْ عظامه البيضاء واختلطت بعظام أخيه، فما زاد ذلك المنظر الأم إلا ثباتًا على الإسلام.
ثم أمر فرعون بالثالث فَفُعِلَ به نفس الشيء، ثم أمر السَّفاح فرعون أن يُطرح الرَّابع في الزَّيت، وما هي إلا ثوانٍ حتى غاب الجسد وانقطع الصَّوت، فجاهدت الأمُّ نفسها أن تتجلّد وأن تتماسك، فالتفتوا إليها وتدافعوا، وانتزعوا الخَامس الرَّضِيعَ من بين يديها.
فلَمَّا انْتُزعَ منها صرخ الصَّغيرُ فانهارت الأمُّ ودُموع الرضيع تُغطي يديها، فكادَت أن تتقاعس من أجل رضيعها المظلوم، عندها حصل شيء لم يتكرَّر في تاريخ الأرض إلا أربع مرات!
فلقد تكلّم ذلك الرَّضيع، وقال لها: "يا أمَّاهُ اصبري فإنكِ على حق"
ثم انقطع صوته عنها بعد أن ألقوه في الزَّيت المغلي، لتختلط عظامه بعظام إخوته الأربعة، فها هي عظامهم يلوح بها القِدْرُ، ولحمُهم يفور به الزَّيت، لتنظر المسكينة إلى هذه العظام الصَّغيرة وهي تتذَّكر أطفالها الصغار يمرحون بين يديها.
ثم اندفع أولئك المُجرمون نحوها وأقبلوا عليها كالكلاب الضَّارية، وقبل أن يُلقُوها في الزَّيت المغلي، التفتت إلى فرعون وقالت: "لي إليك حاجة" فصاح المُجرم فرعون: "ما حاجتكِ؟" فقالت: "أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد" فقال فرعون وهو يقهقه: "لكِ ذلك".
فألقى الجُنْدُ بها في الزَّيت المغلي، لتُستَشهد في سبيل اللَّه، وتختلط عظامها بعظام أطفالها الصّغار...
وبعد ذلك بما يزيد عن 1500 سنة وبينما رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مع جبريل في ليلة الإسراء والمعراج، وإذ به يَشْتَّمُ رائحةً طيبةً، فيسأل جبريل عنها قائلأ: "مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟"، فيجيبه جبريل -عليه السلام-: "هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَأَوْلادِهَا"!
ولكن وبعد هذا الإجرام الذي ارتكبه فرعون، أكبر مُجرمٍ عرفته البشرية، ما الذي حدث له؟
وما هي العقوبة الربانية الفريدة من نوعها التي لم يُنزلُها اللَّهُ إلا عليه؟
وكيف اختفى هذا الفرعون ليظهر عام 1881 م مجددًا؟
وكيف كان ظهوره سببًا لبزوغ نجم عظيم جديدٍ من عظماء أمة الإسلام المائة؟
يتبع...
يتبع إن شاء الله...