"صاحب بشارة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"
(محمد الفاتح)
"لتفتحن القسطنطينية... فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"
(رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-).
كاد السُّلطان (محمَّد الفاتح) أن يُغمَى عليه من هَوْل الصَّدمة، فلقد أخذه أستاذه الشَّامي (شمس الدين آق) بعد صلاة الفجر إلى مكانٍ مجهولٍ خلف أسوار القسطنطينية، هناك طلب منه أستاذه أن يَحْفُرَ بين الصُّخور المُتراكمة وأن يُزيل بِمِعْوَلِهِ النباتات التي تشابكت أغصانها حول تلك التَّلّةَ خلف تلك الأسوار العالية.
في نفس الوقت أخذ الشيخ شمس الدين يتلفت يميناً وشمالاً ليتثبَّت من هذا الموقع الذي رآه في مَنَامِهِ في تلك الليلة، عندها اصطدم مِعْوَلُ الفَاتح بلوحةٍ حجريةٍ مكتوبة باللغة اللاتينية التي كانت إحدى اللغات السَّبع التي يُجيدها السُّلطان الشَّاب مُحَمَّدْ.
فما إن فرغ الفاتح من قراءة تلك اللوحة حتى انهمرت دموعه بغزارة وكاد أن يسقط على الأرض وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الأستاذ... لقد وجدته!
لقد وجدت قبر الرجل الأسطورة، لقد وجدت قبر صاحب رسول اللَّه! لقد وجدت قبر أبي أيوب الأنصاري!
لقد كان ذلك بالفعل هو قبر صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبي أيوب الأنصاري، فلقد لاحظ الرُّوم أن يزيد بن معاوية رحمه اللَّه قام بدفن أبي أيوب على أسوار القسطنطينية بناءً على وصيته، فعندها سأل الرُّومُ المُسلمينَ عن أمر ذلك الرجل، ليخبرهم المسلمون بأنه رجلٌ من خِيرَةِ أصحاب نبيّهم، وأنهم سيدمّرون أخضر الرُّوم إذا ما فكروا يومًا ما في نبش القبر بعد رحيل المسلمين عنه.
فلما رحل يزيد بالحسين ومَنْ معه من الصَّحابة والتَّابعين، ذهب الرُّوم إلى ذلك القبر وأخذوا يتبرَّكُون به ظنًا منهم أن صاحب القبر بإمكانه منحهم البركة لأنه من الأولياء الصالحين.
ولم يعلم أولئك المشركون أن مَنْ في القبر لا يسمعهم، ولو سمعهم ما استجاب لدعائهم!
فظل الرُّوم الجُهلاء يتبرَّكُون بالقبر بعد أن بَنَوْهُ بالرُّخام وكتبوا عليه قصة صاحبه باللاتينية، إلى أن اختفى القبر بعد مئات السنين نتيجة لعوامل الطقس والبيئة.
حتى جاء العثمانيون الأبطال وفتحوا القسطنطينية، فجاءت تلك الليلة التي رأى بها العالم الدّمشقي شمس الدين آق كبير عُلماء المسلمين مكانَ القبر في منامه، ليبنى المسلمون جامعًا بجانبه اسمه جامع أبي أيوب الأنصاري (موجود إلى الآن في إسطانبول) وليكون ذلك الجامع هو المكان الذي يتولى فيه سلاطين بني عثمان الخلافة عند بداية عهد كل خليفة عثماني مسلم!
والآن... لنرجع إلى قصة هذا السلطان العثماني البطل: محمَّد الفاتح، أو محمَّد الثاني كما تحب كتب المناهج العربية أن تطلق عليه، وكأن من وضعوا هذه المناهج الدراسية لا يريدون لنا أن نسمع كلمةً بها رائحة النَّصر أو الفُتوحات من قريبٍ أو بعيدٍ.
وكأنه كُتب علينا أن نظل أسرى لقصص الهزائم والنَّكبات والنَّكسات، وواللَّه إننى ما عدت الآن ألوم أولئك الشباب اليائس المُحَطّم الذين أقابلهم بين الحين والآخر لأسمع منهم كلمات الهزيمة الداخلية ولأرى في أعينهم علامات الانكسار النفسي والهوان.
فبعد أن تعمَّقت في تاريخ الأمَّة، وأدركت عِظَمَ قَدْرِ التَّزييف الذي يتعرَّض له تاريخنا بأسره، أيقنت أن هؤلاء الشباب ما هم إلا ضحية من ضحايا الغزو التاريخي الرهيب الذي وضَعَ لهم مناهجهم التي تعلموها في مدارسهم.
ولا شك أن تلك الهزيمة النفسية التي زُرِعَتْ في شبابنا زرعًا هي التي تدفعهم لكي يُلقُوا بأنفسهم إلى بحار الظلمات، ليصبحوا وجبة شهية لأسماك البحار المفترسة.
وما هذا العمل الذي أقوم به في هذا الكتاب، إلّا محاولة لزرع روح الأمل في شباب الأمة من جديد، من خلال تسليط الأضواء على المواقف المشرقة أصلًا في تاريخ هذه الأمة.
وبطلُنا الآن هو شَابٌ أيضًا لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره عندما فتح القسطنطينية، إننا نتحدث عن رجل لم يفتح مدينة عاديَّة من مدن العالم، بل إننا نتحدث عن رجلٍ فتح القسطنطينية!
تلك المدينة التي كتب عنها (نابليون بونابرت) في مذكراته من منفاه في جزيرة "سانت هيلينا": "أنها عاصمة العالم بأسره إذا ما كان العالم دولةً واحدة".
بل إن هذه المدينة حَظِيَتْ باهتمامٍ شخصي من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على عَظَمَتِهِ وقدرهِ، ليس من أجل جمال طبيعتها الخلّابة وموقعها الاستراتيجي الخطير بين أوروبا وآسيا، بل لأن القسطنطينية كانت هي عاصمة الكُفر في العالم آنذاك.
ولتقريب الصورة أكثر فإن القسطنطينية كانت بمثابة "الفاتيكان" قبل فتح المسلمين لها، بل إن اسم القسطنطينية مشتق من اسم الإمبراطور الرُّوماني (قسطنطين) واضع أسس الديانة المسيحية الحديثة التي تعتقد بألوهية المسيح عليه السلام (وقد تحدثنا عن ذلك مُفَصَّلاً في مَعْرِضِ حديثنا عن آريوس).
أضف إلى ذلك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مَدَحَ فاتح القسطنطينية بنفسه عندما قال: "لتفتحن القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها ولَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش".
لذلك أراد كُلُّ قائدٍ عظيم من عُظماء المسلمين أن ينال شرف فتحها ليكون صاحب بِشَارَةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحاصرها المسلمون إحدى عشرة مرة.
فكان أول بطل منهم هو القائد الأموي يزيد بن معاوية رحمه اللَّه، ثم حاول القائد الأموي البطل مسلمة ابن عبد الملك بن مروان رحمه اللَّه الكَرَّةَ مرتين على القسطنطينية، الأولى في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، والثانية في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (انظر إلى همة الأمويين!).
وعلى الرغم من أن فتح القسطنطينية وحده يؤهل السُّلطان محمَّد الفاتح لكي ينضم إلى قافلة العُظماء المائة في تاريخ الإِسلام، إلّا أن الفاتح لم يكتفِ بذلك، فعظمة السُّلطان محمَّد الفاتح لا تَكْمُنُ فقط في كونه هو الرجل الذي فتح القسطنطينية فحسب، بل تكمن بما فعله بعد فتحه لتلك المدينة العظيمة.
فقد قام الفاتح رحمه اللَّه بتحويل اسم "القسطنطينية" إلى "إسلامبول" أي "مدينة الإِسلام"، ثم حُرِّفَتْ بعد ذلك إلى "إسطانبول"، وأمر هذا الخليفة المسلم بالعفو عن جميع النصارى في القسطنطينية، وأمَّنَهُمْ على أرواحهم وممتلكاتهم، وأمر بترك نصف عدد الكنائس للنصارى وتحويل النصف الآخر إلى مساجد يُذْكَرُ فيها اسمُ اللَّه، على الرغم من أن قانون الحرب في ذلك الزمان يتيحُ للفاتح أن يفعل ما يراه في البلد المفتوح.
وقارن ذلك بما فعله الصليبيون الكاثوليك من مجازر في حق إخوانهم من الأرثوذوكس في القسطنطينية إبَّان زمن الحروب الصليبية، وقارن ذلك بما فعله الإسبان من مجازر في حق المسلمين ومن تحويل كل مساجد الأندلس إلى كنائس وحرق كل مكاتبها (سيأتي ذكر ذلك تباعًا في هذا الكتاب إن شاء اللَّه).
ثم دعا الفَاتحُ السكانَ الهاربينَ -من أرثوذوكس وكاثوليك ويهود- إلى العودة إلى بيوتهم بالمدينة وأمَّنَهُمْ على حياتهم، كذلك أطلق السُّلطان محمَّد الفَاتح سَرَاحَ السُّجناء من جنود وسياسيين، ليسكنوا المدينة ويرفعوا من عدد سكانها.
وأرسل إلى حكّام المُقاطعات في الرُّوملي والأناضول يطلب منهم أن يرسلوا أربعة آلاف أسرة لتستقر في العاصمة، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، وذلك حتى يجعل من مجتمعها مجتمعًا متعدد الثقافات.
وأمَرَ ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمَّامَات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، ولم يكتفِ هذا الأمير الإِسلامي العظيم بفتح القسطنطينية التي تَكْفُلُ له الخُلود في صفحات التاريخ الإنساني، بل قام أيضًا بفتح بلاد الأفلاق (رومانيا) وبلاد البوشناق (البوسنة والهرسك) وبلاد البغدان (مولدافيا) وبلاد القِرْمْ (أوكرانيا) وبلاد القِرْمَانْ (جنوب تركيا).
وفتح الفاتح بلاد الفلاخ الرومانية بعد أن هزم ملكها السَّفاح (دراكولا)، (ودراكولا هذا هو نفسه دراكولا مصَّاص الدّمَاء الشهير، وما لا يعلمه شبابنا من مُحَبَّي أفلام الرُّعب أن البطل المسلم محمَّد الفاتح هو مَنْ قتل دراكولا الذي كان يَعِيثُ فسادًا في الأرض.
وفتح الفاتح (بلغاريا) و (ألبانيا) و (المجر) و (ألبانيا) و (مقدونيا) و (الجبل الأسود - مونتينيغرو) و (كرواتيا) و (صربيا) و (سلوفينيا) و (سلوفاكيا) وفتح الفاتح بلاد الإغريق (اليونان) وحافظ على تراثها القديم (على عكس ما سيفعله اللاتين الصليبيين بالتراث الإغريقي بعد ذلك بمائتي عام).
وفتح الفاتح (المجر) وأجزاء من (روسيا) وحاصر (رودس) وفتح الفاتح جنوب (إيطاليا) لكي ينال شرف فتح القسطنطينية وروما في آن واحد.
وفعلاً تقدَّم نحو روما، إلا أن اللَّه سبحانه وتعالى أراده إلى جواره بعمر 53 سنة فقط قضاها في نشر دين اللَّه في أصقاع أوروبا, ولكي تنتهي بذلك قصة قائد إسلامي عظيم احتفل بابا روما شخصيًا ثلاثة أيام بموته.
وقال عنه المؤرخ الفرنسي الشهير (جي ييه): "ينبغي على جميع النَّصارى في العالم أن يدعو الرَّب ألا يُظهر مرةً أخرى رجلاً في صفوف المسلمين مثل السُّلطان محمَّد الثاني".
والذي لا يعرفه الكثيرون عن سيرة هذا الأمير الإِسلامي العظيم، أنه لم يكن بطلًا عسكريًا فحسب، بل كان شاعرًا من أعظم شعراء المسلمين على مَرِّ التَّاريخ, له ديوان في غاية الروعة لا يتسع المجال هنا لذكر ما يحتويه من رقائق وروائع.
وكان هذا العملاق التُّركي حَافِظًا لكتاب اللَّه، عاملًا بِسُنَّةِ رسوله، مُعَظِّمًا للعُلماء.
وكان يُتْقِنُ العربية والعثمانية والفارسية والسلافية واللاتينية والاغريقية واللاتينية، وكان أعوانه يشاهدونه يبكي في ظلمات الليل وهو يُصِلِّي للَّهِ ويتضرَّع له.
فَصَدَقَ الصَّادقُ المَصْدُوق مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنِعْمَ الأميرُ أنْتَ أيها السلطان مُحَمَّدْ، فَرَحِمَكَ اللهُ أيها الفاتح... يا صاحب بِشَارَةِ رَسُولِ اللَّه!
ولكن الشيء الآخر الذي لا يعلمه الكثير من المسلمين، أن هذا البطل المُتنوّع المواهب ما كان في صغره إلا صبيًا مُتسكعًا مُهملًا يتوقع له الجميع الفشل في الحياة!
فَمَنْ الذي صَنَعَ منه هذا البطل الأسطوري وحَوَّلَهُ إلى عظيمٍ من عُظماءِ أمَّةِ الإِسلام ليُصبحَ صاحبَ بِشَارَة رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟
يتبع...
يتبع إن شاء الله...