محمد صلى الله عليه وسلم
في جو مشحون بزيف الباطل، وركام الجاهلية، يسوس الناس جهلهم، ويحكمهم عرفهم وعاداتهم، قتل وزنا، عهر وخنا، وأد للبنات، تفاخر بالأحساب والأنساب، ساد في البقاع قانون الغاب، فالبقاء للقوي، والتمكين للعزيز، تُغِيرُ القبيلة على الأخرى لأتفه الأسباب، تقوم الحروب الطاحنة، تزهق فيها الأرواح، وتهلك الأموال، وتسبى النساء والذراري، وتدوم السنون، وتتعاقب الأعوام، والحرب يرثها جيل بعد جيل، وأصلها بعيرٌ عُقر، وفرسٌ سبقت أخرى، أو قطيع أغنام سيق وسرق.
ساد في ذلكم المجتمع عادات غريبة عجيبة، فعند الأشراف منهم كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، بينما كان الحال في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة.
كانت الخمر ممتدح الشعراء، ومفخرة الناس، فهي عندهم سبيل من سبل الكرم، ناهيك عن صور الشرك وعبادة الأوثان، التي تصور كيف كان أولئك يعيشون بعقول لا يفكرون بها، وبأعين لا يبصرون بها، وأذان لا يسمعون بها "إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ" [الفرقان: 44].
في هذه الأثناء حدث حادث عجيب لمكة وحرمها، رأى أبرهة الصباح نائب النجاشي على اليمن أن العرب يحجون الكعبة، فبنى كنيسة كبيرة بصنعاء ليصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً ولطخ قبلتها بالعذرة، ولما علم أبرهة بذلك ثار غضبه وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش قرابة ثلاثة عشر فيلاً، وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم، وكلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق قام يهرول، وإذا وجهوه قبل الكعبة برك فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار مثل الحمص، لا تصيب أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهرب من لم يصبه منها شيء يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل مهلك، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
وكانت هذه الوقعة قبل مولد النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وبعد أيام من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكون تزف البشرى ولد سيد المرسلين، وإمام المتقين، والرحمة للعالمين في شعب بني هاشم بمكة صبيحة يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، ولد خير البشر، وسيد ولد آدم، ولد الرحيم الرفيق بأمته أطل على هذه الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، فعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِى طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ دَعْوَةِ أَبِى إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ وَرُؤْيَا أُمِّى الَّتِى رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ... ».
وأرسلت على جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهو اسم لم يكن معروفًا في العرب، وختنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل، وقد ولد يتيمًا حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين، وأول من أرضعته بعد أمه آمنة ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادًا على أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه..
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ أُمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ وَذَلِك فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا.
قَالَتْ فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا، وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا الّذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ، مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ يُغَذّيهِ- وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ فَمَا مِنّا امْرَأَةٌ إلّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قِيلَ لَهَا إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِك أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لِذَلِك، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْت لِصَاحِبِي: وَاَللّهِ إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاَللّهِ لَأَذْهَبَن إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.
قَالَتْ فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْته، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلّا أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ.
قَالَتْ فَلَمّا أَخَذْتُهُ رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا " وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ.
فَإِذَا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَيْنَا رِيّا وَشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ.
قَالَتْ يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تَعَلّمِي وَاَللّهِ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت: وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ.
قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت (أَنَا) أَتَانِي، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاَللّهِ لَقَطَعَتْ بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت خَرَجْت عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنّ بَلَى وَاَللّهِ إنّهَا لَهِيَ هِيَ فَيَقُلْنَ وَاَللّهِ إنّ لَهَا لَشَأْنًا.
قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا.
فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ اللّهِ الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْتُهُ وَكَانَ يَشِبّ شَبَابًا لَا يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا.
قَالَتْ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ.
فَكَلّمْنَا أُمّهُ وَقُلْت لَهَا: لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ مَكّةَ، قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ مَعَنَا.
قَالَتْ فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا (بِهِ) بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يَسُوطَانِهِ.
قَالَتْ فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقَعَا وَجْهُهُ.
قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك يَا بُنَيّ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا بَطْنِي، فَالْتَمِسَا (فِيهِ) شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، قَالَتْ فَرَجَعْنَا (بِهِ) إلَى خِبَائِنَا.
قَالَتْ وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَفَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك؟ قَالَتْ فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ اللّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنُك، فَاصْدُقِينِي خَبَرَك، قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتُهَا.
قَالَتْ أَفَتَخَوّفَتْ عَلَيْهِ الشّيْطَانَ؟ قَالَتْ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ كَلّا، وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ لِبُنَيّ لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ قَالَتْ (قُلْت) بَلَى، قَالَتْ رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ، ثُمّ حَمَلْتُ بِهِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ (عَلَيّ) وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السّمَاءِ دَعِيهِ عَنْك وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ.
ثُمَّ غَسَلَهُ فِى طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِى مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ -يَعْنِى ظِئْرَهُ- فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ.
فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ.
قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِى صَدْرِهِ.
وبعد هذه الحادثة خشيت عليه حليمة فردته إلى أمه ولما بلغ سنته السادسة توفيت أمه فكان عند جده عبد المطلب، فحنَّ عليه كأشد ما يكون الحنو، بل آثره على أولاده، فكان رسول الله يأتي وهو غلام فيجلس على فراش جده في ظل الكعبة وأعمامه حول الفراش فيقول جده: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنًا، ولما تخطى سنته الثامنة توفي جده الذي عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه، فكان يوليه من العناية ما لا يجعله لأبنائه، ويخصه بفضل احترام وتقدير ومكانة.
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان فيها راهب يقال له بحيرًا، فلما نزل الركب، خرج وأكرمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك.
عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلاَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَلْتَفِتُ.
قَالَ فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَا عِلْمُكَ فَقَالَ إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلاَ حَجَرٌ إِلاَّ خَرَّ سَاجِدًا وَلاَ يَسْجُدَانِ إِلاَّ لِنَبِىٍّ وَإِنِّى أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِى رِعْيَةِ الإِبِلِ قَالَ أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَىْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ انْظُرُوا إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لاَ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمْ قَالُوا جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِىَّ خَارِجٌ فِى هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلاَّ بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا فَقَالَ هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا.
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ قَالُوا لاَ.
قَالَ فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ قَالَ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالُوا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ... وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ.
وكان عليه السلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمسًا وعشرين سنة خرج تاجرًا إلى الشام في مال لخديجة مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة، وشمائله الكريمة، وما أوتي من فكر راجح ومنطق صادق، ونهج أمين، ففاتحت خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر، فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، فرضي الله عنها وأرضاها.
ثم جاء عمه أبو طالب وعمه حمزة وخطباها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة، وكانت نعم الزوجة الصالحة، فقد ناصرته في حياتها، وبذلت كل ما تملك في سبيل إعلاء كلمة الله، لقد تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته.
وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن تدبيره وحكمته ورجاحة عقله في حل المشكلات، ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فعزمت قريش على بناءها وألا يدخلوا في مالها إلا طيبًا فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، وكاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا أول داخل من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون أول داخل هو رسول الله فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فأمر برداء ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة.
هذا هو النبي وهذه هي حياته قبل مبعثه، جمع خير ما في طبقات الناس من ميزات، كان طرازًا رفيعًا، وواحدًا فريدًا، ذا نظرة سديدة وفكر صائب، وفطنة وحسن خلق، نفر مما كان عليه قومه من خرافات وعبادات، ما وجده حسنًا شارك فيه، وما كان قبيحًا مشينًا عافه ونفر منه، وعاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً.
ولا شك أن الله جل وعلا قد أحاطه بعنايته فحال بينه وبين أمور الجاهلية.
عن ْجَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضى الله عنهما- قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ «أَرِنِى إِزَارِى» فَشَدَّهُ عَلَيْهِ.
كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه الأمين.
حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسول مرسل من ربه.
فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) » .
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » .
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى .
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ .
فكان هذا الحادث هو بداية الوحي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف مما حدث له، فذهب إلى خديجة وطلب منها أن تغطيه، ثم حكى لها ما حدث، فطمأنته، وأخبرته أن الله لن يضيعه أبدًا، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما رأى، فبشره ورقة بأنه نبي هذه الأمة، وتمنى أن لو يعيش حتى ينصره، لكن ورقة مات قبل الرسالة، وانقطع الوحى مدة، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل الوحى مرة ثانية، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ فَتْرَةً ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِى فَقُلْتُ زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى ( فَاهْجُرْ ) » . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالرِّجْزُ الأَوْثَانُ . [البخارى] .
وبعد هذه الآيات التى نزلت كانت بداية الرسالة، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الأقربين إلى الإسلام، فكان أول من آمن خديجة زوجته، وأبو بكر صديقه، وعلي بن أبى طالب ابن عمه، وزيد بن حارثه مولاه، ثم تتابع الناس بعد ذلك في دخول الإسلام، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) صَعِدَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى «يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ» قَالُوا نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا.
قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » .
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ).
ولما نزل قول الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنكر عبادة الأصنام، وما عليه الناس من الضلالة، وسمعت قريش بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذتهم الحمية لأصنامهم التى لا تضر ولا تنفع، وحاولوا أن يقفوا ضد هذه الدعوة الجديدة بكل وسيلة، فذهبوا إلى أبى طالب، وطلبوا منه أن يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض، وكانوا يشوهون صورته للحجاج مخافة أن يدعوهم، وكانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن، ويتهمونه بالجنون والكذب، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، فحاول بعضهم تأليف شيء كالقرآن فلم يستطيعوا، وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الإيذاء كي يردوهم عن الإسلام، فكانت النتيجة أن تمسك المسلمون بدينهم أكثر.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سرًّا في دار الأرقم بن أبى الأرقم يعلمهم أمور الدين، ثم أمرهم بعد فترة أن يهاجروا إلى الحبشة، فهاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة، فأرسلت قريش إلى النجاشى يردهم، لكن الله نصر المسلمين على الكفار؛ فرفض النجاشى أن يسلم المسلمين وظلوا عنده في أمان يعبدون الله عز وجل، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِىَّ أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِىِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقاً إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِىِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِىَّ فِيهِمْ ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ.
قَالَتْ فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِىَّ ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَم يَدْخُلُوا فِى دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ.
فَقَالُوا لَهُمَا نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِىِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالاَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِىُّ كَلاَمَهُمْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ فَغَضِبَ النَّجَاشِىُّ ثُمَّ قَالَ لاَهَا اللَّهِ ايْمُ اللَّهِ إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلاَ أَكَادُ قَوْماً جَاوَرُونِى وَنَزَلُوا بِلاَدِى وَاخْتَارُونِى عَلَى مَنْ سِوَاىَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِى أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولاَنِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِى قَالَتْ ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- كَائِنٌ فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِىُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِى دِينِى وَلاَ فِى دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِى كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ -قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلاَمِ- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أُحِلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِى جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ.
قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ فَاقْرَأْهُ عَلَىَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ (كهيعص) قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِىُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلاَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِىُّ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَداً وَلاَ أَكَادُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ.
قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا - لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا . قَالَ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً.
فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ - قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ - فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِناً فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِى جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ .
قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِىُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُوداً ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِى - وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى دَبْراً ذَهَباَ وَأَنِّى آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ - رَدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلاَ حَاجَةَ لَنَا بِهَا فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّى الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَىَّ مُلْكِى فُآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِىَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُوداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِى - مَنْ يُنَازِعُهُ فِى مُلْكِهِ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزِنٍ حَزَنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَيَأْتِى رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِىُّ يَعْرِفُ مِنْهُ - قَالَتْ - وَسَارَ النَّجَاشِىُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ قَالَتْ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ قَالَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا.
قَالَتْ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا - قَالَتْ - فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِى صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِى بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ - قَالَتْ - وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِىِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِى بِلاَدِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِى خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِمَكَّةَ .
وحاول المشركون مساومة أبى طالب مرة بعد مرة بأن يسلم لهم محمدًا إلا أنه أبى إلا أن يقف معه، فحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله منعه وحفظه.
وفي هذه الأوقات العصيبة أسلم حمزة وعمر بن الخطاب، فكانا منعة وحصنًا للإسلام، ولكن المشركين لم يكفوا عن التفكير في القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبد المطلب واتفقوا على أن يمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى، فوافق بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، فاتفقت قريش على مقاطعة المسلمين ومعهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، فكان الحصار في شعب أبى طالب ثلاث سنوات، لا يتاجرون معهم، ولا يتزوجون منهم، ولا يجالسونهم ولا يكلمونهم، حتى قام بعض العقلاء، ونادوا في قريش أن ينقضوا الصحيفة التى كتبوها، وأن يعيدوا العلاقة مع بني هاشم وبني عبد المطلب، فوجدوا الأرضة أكلتها إلا ما فيها من اسم الله.
وتراكمت الأحزان فيما بعد لوفاة أبى طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة بنت خويلد، فقد ازداد اضطهاد وتعذيب المشركين، وفكَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، إلا أنهم كانوا أشرارًا، فأهانوا النبي صلى الله عليه وسلم وزيد ابن حارثة الذي كان معه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أُعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.