الثاني: اختلاف العلماء
وقد اختلف العلماء في مسألة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد على أربعة أقوال:
1ـ القول الأول
تجب الجمعة على من شهد العيد، ولا تسقط الجمعة عن أهل البلد ولا أهل القرى، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، واستدل بالعمومات الدالة على وجوب الجمعة.
2ـ القول الثاني
أنَّ صلاة العيد إذا صُليت، سقطت الجمعة عن أهـل القرى وتبقى واجبة على أهل البلد، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، واستدل بقـول عثمان -رضي الله عنه-: (إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له (موطأ مالك 1 / 116).
3ـ القول الثالث
أنَّ من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، وتجب عليه صلاة الظهر، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وفي وجوبها على الإمام روايتان، والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 24 / 211 ): أنَّ على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد.
واستدل الحنابلة بالأحاديث المتقدمة في مطلع البحث.
4ـ القول الرابع
أنَّ من شهد صلاة العيد سقطت عنه الجمعة والظهر، وهو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (وما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنه كان إذا اجتمع عيدان في يوم واحد، صلى في أول النهار العيد، وصلى في آخر النهار الجمعة). رواه عبد الرزاق (5733). فهو منقطع)، ومذهب ابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم، وعطاء بن أبي رباح والشوكاني رحمهما الله (انظر: المجموع للنووي (4 / 492) والفتاوى لابن تيمية (24 / 211) ونيل الأوطار للشوكاني (3 / 283) والمغني لابن قدامة (2 / 105).
وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ذكرها ابن قدامة في المغني (2 / 106) قال:
إذا جعل الأولى عن الجمعة تجزئه عن العيد والظهر (ا.هـ).
وقد ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر بصلاة العيد، من المعاصرين:
السيد سابق رحمه الله، حيث قال في فقه السنة (1 / 316): وتجب صلاة الظهر على من تخلَّف عن الجمعة لحضوره العيد عند الحنابلة، والظاهر عدم الوجوب (ا.هـ)، وقد علّق الألباني على بعض ما حققه السيد سابق من الأحاديث، في هذا الباب، في تمام المنّة (343 و 344) ولم يعلّق على ترجيح السيد سابق، مما يدل على الموافقة.
الثالث: الترجيح
والقول الأخير هو الذي تؤيده الأدلة: (أنَّ من شهد صلاة العيد سقطت عنه الجمعة والظهر)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن لمن صلى العيد أن يترك الجمعة.
قال الصنعاني في سبل السلام (2 / 107):
والحديث دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة يجوز فعلها وتركها، وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلِّها (ا. هـ).
وقال السندي في حاشية النسائي (3 / 194):
ولا يخفى أن أحاديث الباب دالة على سقوط لزوم حضور الجمعة (ا.هـ).
وقال الألباني في الأجوبة النافعة (49):
تعليقاً على قوله (صلى الله عليه وسلم): (من شاء أن يصلي فليصلِّ)، يدل على أن الجمعة تصير بعد صلاة العيد رخصة لكل الناس، فإن تركها الناس جميعاً فقد عملوا بالرخصة، وإن فعلها بعضهم فقد استحق الأجر، وليست بواجبة عليه، من غير فرقٍ بين الإمام وغيره.
وقال صفحة (50):
وقد تركها ابن الزبير -رضي الله عنهما- في أيام خلافته ولم ينكر عليه الصحابة ذلك. ا.هـ.
وهل تسقط الظهر أيضاً؟
الراجح أنها تسقط، وهذا ما فهمه الصحابة -رضي الله عنهم-، فإن ابن الزبير -رضي الله عنه- لما اجتمع في عصره جمعة وعيد لم يزد على أن يصلي العيد فقط، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أصاب السنة).
قال النووي:
قول ابن عباس -رضي الله عنهما- من السنة، مرفوع. (المجموع 4 / 492).
قال الشوكاني:
ظاهره أنه لم يصلِّ الظهر (نيل الأوطار 3 / 283)، وقال السندي في حاشية النسائي (3 / 195): بعض الروايات يقتضي سقوط الظهر، كروايات حديث ابن الزبير. ا.هـ.
الرابع: التعليل
والتعليل لهذا الحكم، أن صلاة العيد والجمعة وقتهما واحد، وقد اجتمعا في يوم واحد فتدخل الجمعة في صلاة العيد فتجزئ عنهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (24 / 211):
ولأن يوم الجمعة عيد، ويوم الفطر والنحر عيد، ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل إحداهما في الأخرى كما يدخل الوضوء في الغسل، وأحد الغسلين في الآخر (ا. هـ).
وقال ابن قدامة في المغني (2 / 106):
وإن قدّم الجمعة فصلاّها في وقت العيد، فقد روي عن أحمد قال: تجزئ الأولى منهما، فعلى هذا يجزئه عن العيد والظهر، ولا يلزمه شيء إلى العصر، عند من جوّز الجمعة في وقت العيد (ا.هـ).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (3 / 283):
بعد أن ذكر كلام المجد المماثل لنقل ابن قدامة: ولا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف.ا.هـ.
أي أنه لا داعي لهذا التفريق بالنيّة بأن يجعل الأولى التي صلاّها عن الجمعة وتسقط العيد، لأن صلاة العيد والجمعة عبادتان واجبتان اجتمعا في وقت واحد، فتدخل الثانية في الأولى وتجزئ عنهما، ولسنا بحاجة إلى هذا التفريق، إذ العبرة من ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (24 / 211): فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الاجتماع. ا.هـ.
الخامس: بيان أن أول وقت الجمعة هو أول وقت العيد
وأول وقت لصلاة الجمعة هو أول وقت العيد -حين ترتفع الشمس قدر رمح- على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
قال ابن قدامة في الكافي (1 / 215):
تجوز في وقت العيد، لأن أحمد قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد (ا.هـ).
وهذا ما تؤيده الأدلة:
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: (كنا نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجمعة، ثم نرجع فنريح نواضحنا، قلت: أية ساعة؟ قال: زوال الشمس) (رواه مسلم (6 / 147) نووي. والنسائي (3 / 100)).
وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال:
(كنا نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجمعة ثم نرجع وليس للحيطان فيء يستظل به) (رواه مسلم (6 / 148) نووي، والنسائي (3 /100)).
قال الشوكاني في نيل الأوطار (3/ 261):
واستدلالهم بالأحاديث القاضية بأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى الجمعة بعد الزوال، لا ينفي الجواز قبله، وقد دلّ على ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم.
فقد روى ابن أبي شيبة (2 / 17):
عن عبد الله بن سلمة قال: (صلى بنا عبد الله الجمعة ضحى، وقال خشيت عليكم الحر) (صححه الألباني في الأجوبة النافعة (24)).
وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً (2 / 17):
عن سعيد بن سويد قال: (صلى بنا معاوية الجمعة ضحى (( صححه الألباني في الأجوبة النافعة (25)).
وأخرج ابن أبي شيبة (2 / 18):
عن بلال العبسي قال: (إن عماراً صلى بالناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل) (قال الألباني في الأجوبة النافعة (25 ): سنده صحيح).
وروى ابن أبي شيبة (2/ 18):
عن أبي رزين قال: (كنا نصلي مع علي الجمعة، فأحياناً نجد فيئاً، وأحياناً لا نجده).
قال الألباني في الأجوبة النافعة (25):
إسناده صحيح على شرط مسلم.
قال الشوكاني في نيل الأوطار (3 / 260):
وظاهر ذلك أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار (ا.هـ).
وقال الألباني في الأجوبة النافعة (25):
وهذا يدل لمشروعية الأمرين، الصلاة قبل الزوال، والصلاة بعده كما هو ظاهر (ا.هـ)، وهو ما ذهب إليه إسحاق بن راهويه أيضاً كما ذكر ذلك النووي في شرح مسلم (6 / 148).
الجواب عمّا ذهب إليه الحنفية:
ويجاب عن عدم قول الحنفية بإجزاء صلاة العيد عن الجمعة: بأن الأدلة التي استدلوا بها كقوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله (نصوص عامة، تخصصها الروايات المصرِّحة بالإجزاء عن اجتماع الجمعة والعيد، وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص، يحمل العام على الخاص.
الجواب عما ذهب إليه الشافعية:
ويجاب عن استدلال الشافعية بقول عثمان -رضي الله عنه-: بأنه خاطب بالرخصة أهل العوالي فقط، يعارضه من الأدلة ما هو أعلى منه، وهو قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعموم الحاضرين في عصره: (من شاء أن يصلي فليصلِّ) كما أنه معارض بفعل ابن الزبير -رضي الله عنه- وهو من علماء الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يخالفه أحدٌ منهم بل صرّح ابن عباس -رضي الله عنه- بقوله: (أصاب السنة).
الجواب عن قول الصنعاني بعدم سقوط الظهر:
ويجاب عن قول الصنعاني: (سقوط صلاة الظهر غير صحيح، لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في قول عطاء إنهم صلوا وحداناً، أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: إن مراده صلوا الجمعة وحداناً، فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعا (سبل السلام 2 / 107).
والجواب بأن هذا القول غير صحيح، لأنه ردٌ لصريح ترك ابن عباس -رضي الله عنه- لصلاة الظهر بقول الراوي: (ثم لم يزد عليهما -أي ركعتي العيد- حتى صلى العصر) فهذا صريح في ترك الظهر وأما فعل عطاء أنهم صلوا وحداناً فقد تراجع عنه عطاء، حيث روى عبد الرزاق في مصنفه (5725) عن ابن جريج قال: قال عطاء: (إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما فليصل ركعتين فقط، حيث يصلي صلاة الفطر، ثم هي هي حتى العصر)، ثم ذكر عطاء حديث ابن الزبير، ثم قال: (فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه، قال: ولقد أنكرت أنا ذلك عليه، وصليت الظهر يومئذٍ، قال: حتى بلغنا بعد أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة).
هذا، والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه
كتبه الفقير إلى عفو ربه تعالى
سعد الدين بن محمد الكبي
4 / 12 / 1422هـ
مزايـا توافق يوم الجمعة مع يوم عرفة
قال ابن القيم: ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة هي:
1- اجتماع اليومين اللذين هما من أفضل الأيام.
2- أنه اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.
3- موافقته ليوم وقفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
4- أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة، فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه.
أن يوم الجمعة يوم عيد ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة ولذلك كره لمن بعرفة صومه... والمقصود أنه إذا اتفق يوم عرفة ويوم جمعة فقد اتفق عيدان.
أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين وإتمام نعمته عليهم، قال تعــــــالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3) قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعرفة يوم جمعة، ونحن واقفون معه بعرفــة (البخاري برقم 45- 4407 - 4606 - 7268 و مسلم برقم 3017).
أنه موافق ليوم الجمع الأكبر، والموقف الأعظم يوم القيامة، فإن القيامة تقوم يوم الجمعة، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه (مسلم برقم 852 - 854 وكذلك أبو داود ومالك والترمذي).
أن الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته، ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل، عجّل الله عقوبته ولم يمهله.
[color=#ff0000]أنه موافق ليوم المزيد في الجنة.
10- أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية يوم عرفة من أهل الموقف ثم يباهي بهم الملائكة فيقول [ما أراد هؤلاء، أشهدكم أني قد غفرت لهم] (مسلم برقم 1348 وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والمنذري في الترغيب).
وتحصل مع دنوه منهم ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائلاً يسأل خيراً فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة.
ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب:
أ- قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة.
ب- قربه الخاص من أهل عرفة.
فبهذه الوجوه فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها، وأما كونها تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل لــه (زاد المعاد 1/60).
يتبع إن شاء الله...