لماذا قُبِلَت هذه الكلمة من سيدنا يونس ولم تُقبل من فرعون؟
كلاهما في المحنة قال: لا إله إلا الله، العلماء قالوا: "فرعون ما عَرَفَ الله قبل المحنة لذلك ما نفعته عند المحنة، سيدنا يونس عَرَفَ الله قبل المحنة فلما جاءت المحنة نفعته هذه الكلمة هذا أول فرق"، فرعون ماذا قال: "فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى" (سورة النازعات).
أما يونس نادى وهو مكظوم: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (سورة الصافات: 143- 144).
عزيزي القارئ إني أدعوك لتلاحظ، جميع الناس، فحينما يقع أحدهم في مأزق، أو يعاني من مرضٍ عُضال، أو يتعرض لمشكلةٍ كبيرة أو أمامه شبح مصيبة، ينسى كُلَّ الشركاء ويتجه إلى الله وحده، فليته عرف هذه الحقيقة وهو في الرخاء! أما حينما تداهمه المصيبة وحينما تحدق به مد لهمات الأمور وحينما يُسْقَط في يده فهو لا يرى إلا الله.
حدثني أخ صديق أنّ طائرة تُقِلُّ خبراء من بلاد ترفع شعار "لا إله" أي؛ الله غير موجود، مُلحِدون، فهذه الطائرة مرت بسحابة مكهربة وفي أجواء هوائية عاصفة وفي طقس قاسٍ فصار بعضهم يقول يا الله، والقرآن ذكر ذلك الإنسان الذي إذا ركب البحر وهاج البحر وماج وأصبحت السفينة العظيمة كأنها ريشة في مهب الرياح فعندئذٍ ما رأى إلا الله، إذاً فواقعياً أنَّ المؤمن يرى أن الله وحده بيده كل شيء هذا يؤكده قوله تعالى والآية دقيقة الدلالة جداً: "صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" (سورة الشورى: 53).
لنتساءل الآن:
بِيَدِ مَن كانت الأمور؟ كانت بيد الله ولا تزال بيد الله وهي دائماً بيد الله ولكن أهل الدنيا المُعرِضون يرَوْن الأمر بيد غير الله، أما المؤمن وهو في الدنيا يرى دائماً أن الأمر بيد الله، لذلك ما تعلّمت العَبِيد أفضل من التوحيد.
هناك شيءٌ آخر:
وهو أنَّ سيدنا يونس قال: "لا إله إلا أنت سبحانك" كلمة (أنت) يخاطبه وجهاً لوجهٍ، أما فرعون فماذا قال: "لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل"، سيدنا يونس قال: "لا إله إلا أنت" وكأنه يرى الله معه، أما فرعون سمع أنه يوجد إله لموسى بيده كل شيء فلما شرع في الغرق شعَر أن إله موسى هو الذي أغرقه فقال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل"، فذِكرُ ضمير الغائب دليل على أنه غير مُتحقق، لذلك اِعرفْني في الرخاء أعرفْك في الشِدّة، قُبلتْ (لا إله إلا الله) من سيدنا يونس لأنه كان من المُسبحين ولم تُقبل من فرعون لأنه لم يكن من المُسبحين.
حينما تقع في محنة مهما كان مستوى إيمانك ومهما كان نوع عقيدتك ومهما كان مستوى توحيدك تقول: يا الله، لكن إذا كان إيمانك قبل المحنة عظيماً تقول يا الله لا إله إلا أنت، لك عنده رصيد، لك عنده سابقة عمل صالح، لك عنده معرفة برحمته، لك عنده معرفة بعَفوِه بقُدرَته بِحُبِّهِ.
قال العلماء:
فرعون حينما ذكر هذه الكلمة (لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل) ما قالها تعبداً بل قالها من أجل خلاصِه، شتَّان بين من يضطر إلى الإيمان بالله وبين من يؤمن بالله طواعية.
إن كل إنسان يعلم أن العالم كان مقسوماً إلى شرق وغرب وإلى أُمم تقدّس الفرد وإلى أُمم تقدّس المجموع كِلا الفريقين تطرَّفا وعادا إلى الوسط، والإسلام وسَطي لم يعودا إلى الإسلام إيماناً به ولا اعتقاداً بأنه منهج الله عزّ وجل ولكن طبيعة الظروف التي رافقت هذا التطرف ألجأتْهم إلى الوسَطيّة، فالذين آمنوا بالفرد إيماناً مطلقاً على حِساب المجموع اضطروا أنْ يعودوا إلى حقوق المجموع، والذين آمنوا بالمجموع على حِساب الفرد اضطروا إلى أن يرعوا حقوق الفرد، إذاً عادوا إلى الوسط هذا معنى قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" (سورة البقرة: 143).
"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً"، ففِرعون حينما قال: لا إله إلا الله قبل أن يغرق قالها ليتخلّص من الغرق، هذا يُفسّر لنا أن بني إسرائيل حينما خرجوا من البحر رَأَوْا قوما يعكُفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟ ألم تروا أن البحر أصبح طريقاً يبَساً.
قال العلماء:
إنهم آمنوا بموسى ليتخلصوا من فرعون، إيمانهم مشوب بمصلحة لذلك أرقى أنواع الإيمان أن تؤمن بأن الله عزّ وجل هو الخالق ويستحق العبادة، هذا ما قالته رابعة العدوية: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكنني رأيتك أهلا للعبادة".
وما مقصــودهــم جنات عـدن
ولا الحور الحسان ولا الخيام
سوى نظــر الحبيب فذا مُناهم
وهـــذا مطــلَبُ القومُ الكـرام
قال بعضهم إن كل الطاعات يرفعها مَلَكٌ إلى رب العِزة إلا كلمة لا إله إلا الله فتصعد وحدها وهذا معنى قوله تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ" (سورة فاطر: 10).
هناك نقطة دقيقة الدلالة جداً مرت معي في حديث شريف -وقد ذكرته سابقاً- "مَنْ ازداد علماً ولم يزدد هدىً" -كأنّ هناك خطَ العلم وخط الهدى- خطَ العلم أن تقرأ كتاباً وتفهمه وتستوعبه وتحفظه، أن تستمع إلى محاضرة وأن تقف عند دقائقها وخطوطها الرئيسة والأدلة التي قيلت حول أفكارها، هذا هو العِلم: أن تقتبس معلومات، حقائق، أفكار، تصورات قناعات، فما هو الهدى إذاً؟ من ازداد علماً ولم يزدد هدىً، خط الهُدى مُقصّر عن خط العِلم كأن الهُدى أن تعرف أن الله سبحانه وتعالى: لا إله إلا الله، لا إله إلا هو، أنْ توحده وتعبده، يمكن أن أقول لكم الدين كله أن توّحد الله وأن تعبده.
في القرآن وردت قصص أنبياء كثيرين "وكلهم يول لومه أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره": "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (سورة هود: 73).
هذه الآية وردت مكررةً عشر مرات أو أقل:
"اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "، فصار ديننا أن تؤمن أنه لا إله إلا الله وأن تعبده، نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل طاعة الله عز وجل.
روي في الأثر أن العبد إذا قال:
لا إله إلا الله أعطاه من الثواب ما كان مقسوماً لكل كافر وكافرة من الجنة لو أنهما لم يكفرا، والسبب أنه عندما قال هذه الكلمة فكأنه قد رد على كل كافر وكافرة فلا جرم أن يستحق الثواب ماذا أمرنا الله عزّ وجل بالقرآن؟
"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" (سورة محمد: 19).
"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ" والعِلم يقتضي البحث والدرس واليقين والتدقيق والتمحيص واستحضار الأدلة وانتهاء بقناعة ثابتة، أما الذي يبقى علمه في ترددٍ وفي شك فهذا ليس علماً: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (سورة الحجرات: 15).
بعضهم قال في تفسير:
"حم * عسق" (سورة الشورى: 1-2)، قال: الحاء حلمه وحكمه وحجته، والميم ملكه ومجده، والعَين عظمته وعلوه وعزته وعلمه وعدله، والسين سناؤه وسره، والقاف قهره وقدرته.
يقول الله تبارك وتعالى:
بحلمي وحكمتي وحجتي ومجدي وملكي وعظمتي وعدلي وعلمي وعزتي وعلوي وسري وثنائي وقدرتي وقهري لا أعذب في النار مَنْ قال لا إله إلا الله، لماذا لا يعذب؟ لأنه عرف أن الأمر كله بيد الله عزّ وجل فاستقام على أمره، خلاصة هذا الدين أن عرف أن الأمر كله راجع إليه.
بالمناسبة أذكر للقراء الكرام بعض آيات التوحيد فهناك في القرآن آيات في التوحيد رائعة في الدلالة والبيان فمنها قوله تعالى: "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (سورة هود: 123).
وقوله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (سورة آل عمران: 26).
"بيدك الخير إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" هذه الآية دليل على فكرة دقيقة جداً أنه لا يوجد في الكون شرُ مُطلق ومعنى الشر المُطلق الشر المُراد لذاته.
أيضاً:
"بل الله فاعبد وكن من الشاكرين" (سورة الزمر: 66).
وقوله تعالى: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (سورة الأنفال: 17).
وقوله تعالى: "(الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل)" (سورة الأعراف: 54)، أيُّ شيءٍ خَلقَه أمره عائد إليه.
وقوله تعالى: "قل هو الله أحد" (سورة الإخلاص: 1).
وقوله تعالى: "وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (سورة العنكبوت: 22).
وقوله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (سورة الكهف: 110).
وقوله تعالى: "وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (سورة لقمان: 22).
وقوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (سورة الرعد: 41).
وقوله تعالى: "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (سورة هود: 123).
وقوله تعالى: "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (سورة فاطر: 2).
وقوله تعالى: "أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (سورة النمل: 63).
وقوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ" (سورة الزخرف: 84).
ومن الأحاديث:
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ * (موطأ مالك).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ * (رواه الترمذي).
فإذا الإنسان قام بجمع الآيات التي في التوحيد وحفظها فهذا كنز قرآني كبير يبُّث في المرء الاطمئنان، ويدرأ بعيداً أسباب الخوف دائماً فلا يشعر أن جهة في الأرض يمكن أن تلحق به الأذى وإذا شعر أن الله وحده بيده كل شيء وهو رحيم غني ودود قدير عليم فهذا الشعور مُسعد ومُطمئن.
من فوائد هذه الكلمة:
أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت وكأني أنظر إلى أهل لا إله إلا الله عند الصيحة ينفضون شعورهم من التراب يقولون الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن".
إذاً:
فالشيء المخيف جداً وهو القبر تحت التراب، الشيء المخيف حقاً الوحشة والغربة في القبر، ألم يقل المولى عز وجل: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (سورة غافر: 46).
من ستة آلاف سنة:
يعرضون عليها غدواً وعشياً، أما أهل (لا إله إلا الله) فلا وحشة في قبورهم، والقبر المُخيف يغدو روضة من رياض الجنة، لماذا؟ لأنهم عرفوا الله فاستقاموا على أمره، ووحّدوه فاستقاموا على أمره.
كثيراً ما كنت أضرب المثل التالي:
دخلت إلى دائرة حكومية فيها مئة موظف ومعك معاملة، لن يستطيع أحد أن يكتب لك موافق وتأخذ ثمار هذه المعاملة إلاّ المدير العام فهل يمكن أن تتجه لمن سواه؟ كأنْ ترجو آذِناً أو أن ترجو موظفاً بسيطاً؟ مادامت صلاحية التوقيع للمدير فقط فأنت تتجه إليه وحده، وذكرت وما أكثر ما ذكرت لكم سابقاً أن الله قال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" (سورة النساء: 48).
ومن الممكن أن يكون لك مبلغٌ كبيرٌ في مدينة، وأن تركب القطار الذي يوصلك للمدينة ويمكن أن ترتكب ألف غلطة في القطار، لكن القطار في طريقه إلى المدينة وسوف يصل في الوقت المحدد وسوف تقبض هذا المبلغ، قد تركب في الدرجة السادسة وتكون ابتعت بطاقة من الدرجة الأولى قد تختار عربة فيها شبان أخلاقهم شرسة، قد تركب في جهة مخالفة لجهة سير القطار هذا ممكن! قد تُحِس بالجوع الشديد ولا تدري أنه في بعض القاطرات مطعم، هذه كلها غلطات ولكن القطار في طريقه للمدينة وسوف يصل في الوقت المناسب وسوف تقبض هذا المبلغ.
إذاً:
"إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" لكن هناك غلطة لا تُغتفر كأن تتجه إلى قطار خط سيره باتجاه معاكس ولا يوصلك إلى هذه المدينة المطلوبة، أو قطار متوقف لا علاقة له بالحركة إطلاقاً، هُنا المشكلة، فالشِركُ بالله خطير، فلماذا خطير؟ لأنك تتجه لِمَا سِوى الله عزّ وجل، وما سِوى الله لن يغني غنك شيئاً فلماذا الإيمان إذاً عظيم؟ لأنك تتجه لمن بيده كل شيء.
إذاً:
إذا أردتم أعزائي القراء الكرام التفصيل ففصلوا، وإذا أردتم الإيجاز فأوجزوا الإيجاز "لا معبود بحق إلا الله"، لا يستحق أحد أن تعبده إلا الله ولا إله إلا الله نهايةُ العلم، وطاعتُه نهايةُ العمل.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ أَوْ يُمْسِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ مِنَ النَّارِ فَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ وَمَنْ قَالَهَا ثَلاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ فَإِنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ * (رواه أبو داود).
"ما من عبد يقول أربع مرات اللهم إني أُشهدك وكفى بك شهيداً وأُشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك وإني أَشهد أنك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك إلا كتب الله له به عتقاً من النار".
ينقذه من النار، في الحقيقة بالعصور الأخيرة صرت تسمع كلاماً ليس له معنى، وصارت هناك شهادات مزوّرة، أما في الأصل حينما تشهد أنه لا إله إلا الله فهذا تراه رؤية حق وتؤمن إيمان صدق به وعندئذٍ تُطبّق أمَرالله عزّ وجل، وإذا كان آخر الزمان لم يكن لشيء من طاعة الناس فضل كفضل لا إله إلا الله لأن صلاتهم وصيامهم يشوبها أنواع من الرياء والسمعة ولا إخلاص في شيء منها، أما كلمة لا إله إلا الله فهي ذِكرُ الله والمؤمن لا يذكرها إلا من صميم قلبه، هذه من فوائد لا إله إلا الله والحقيقة أن الإنسان كي ينال شهادة علمية فلابُدَّ من أن يبذل جهداً ملموساً ولذلك، فلكي يتحقق من هذه الكلمة فلابُدَّ من بذل جهد وعناء فإنسان بدون جهد ومن دون تضحية بجزء من وقته الثمين ومن دون متابعة و تأمل وبحث فلن يصل إلى الإيمان بهذه الكلمة وإن لم يؤمن بها حقاً فعمله مشوب بالشِرك: "قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (سورة التوبة: 24).
فالإنسان متى يعصي الله عز وجل؟ إذا رأيت شيئا دون رضاه هو أثمنُ من رضاه، فمثلاً مَن يقول (الله أكبر) ويعصي ربه كأن أطاع زوجته وعصى ربه فرؤيته القلبية أنّ رضاها أثمن من رضى الله عزّ وجل، حينما تُؤْثِر شيئاً مما سوى الله على طاعة الله فأنت ترى هذا الشيء أكبر من الله لأنك جعلت إرضاء الله في الدرجة الثانية، وإرضاء هذا الشخص عندك أحق وأولى، فكلما تحقق الإنسان من كلمة لا إله إلا الله انضبط عمله واستقامت رؤيته وصحت.
كلمةُ التوحيد هذه، هي شِعار الإسلام، وهذه الكلمة التي يقولها الإنسان إذا دخل في الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيها التوحيد والإيمان بالرسالة ثم الطاعة والإيمان بأنه لا إله إلا الله والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثم عبادة الله من خلال طاعة الله ورسوله ثم يستقيم على ذلك ما عاش، فهذا هو الدين.
بقيت لدينا في البحث نقطة ذات بعد عملي تتلخص في السؤال التالي:
إذا رأيت المُستقيم قد أكرمه الله ورأيت المُرابي محَقَه الله ورأيت المُنحرف المُعتدي دمَّره الله وإذا رأيت أن هناك أفعالاً مؤداها العدالة فهذا شيء يمكن أن يُرسّخ إيمانك (بلا إله إلا الله) فإيماننا يزداد بهذه الكلمة عن طريق التفكُّر في الكون أولاً وعن طريق تدبُر آيات الله ثانياً وعن طريق النظر في أفعال الله ثالثاً.
إلا أن التحفُّظ في آخر هذا البحث هو:
أن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار عمل وجعل الآخرة دار جزاء، أما إذا جازى المسيء في الدنيا فهذا جزاء ردعي لبقية المسيئين وإذا أكرم المُحسن فهذا إكرام تشجيعي لبقية المُحسنين لكن الحساب الكامل نجده في قول الله تبارك وتعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (سورة آل عمران: 185).
والحمد لله رب العالمين.