65- اسـم الله: "الغني والمغني"
===================
بســــم الله الرحمـــن الرحيــــم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون...
مع الدرس الخامس والستين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم هو اسم الغني والمُغني.
الغنيُّ والمُغني:
اسمان من أسماء الله الحُسنى، إلا أنَّ أكثر الذين بحثوا في هذين الاسمين؛ بحثوا فيهما معاً، وذكروهما معاً، فكان الجمع بينهما من تقليد العلماء الذين درسوا أسماء الله الحُسنى، لذلك الاسم اليوم الغني والمُغني، والأصح أن نقول الاسمان اليوم الغنيُّ والمغني.
الغنى - كما تعلمون - ضدُّ الفقر، والغنى له معانٍ عديدة.. أحدها عدم الحاجة إطلاقاً، وليس ذلك إلا لله تعالى.
الله وحده الذي لا يحتاج إلى أحد، بل إنَّ الله وحده يحتاجه كلُّ شيء في كلِّ شيء.
الله وحده لا يحتاج أحداً، إذاً غنيّ.. غنيٌ عن خلقه، آمنوا، كفروا، أحسنوا، أساءوا، قدَّروا لم يُقدِّروا، عرفوا جهلوا، جحدوا، ألحدوا، غنيٌ عن خلقه، فقد قال تعالى:"إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)" (سورة إبراهيم).
شأن المخلوق أنَّه يحتاج ربَّه في كلِّ شيء، شأن العبد أنَّه يحتاج ربَّه في كلِّ شيء، وشأن الربِّ أنَّه لا يحتاج أحداً.
لذلك أيُّها الإخوة:
كتطبيقٍ سريعٍ لهذا الاسم..
* كلَّما استغنيت عن الناس، شعرت براحةٍ نفسيّة.
* كلَّما استغنيت عن ما في أيدي الناس، أحبَّك الناس.
* كلَّما استغنيت عن أموالهم، وعن عطاءاتهم، وعن ما يخصُّونك به، شعرت بكرامة.
دققوا في هذه الأقوال الثلاثة..
احتج إلى الرجل تكن أسيره، أحسن إليه تكن أميره، استغنِ عنه تكن نظيره.
لذلك من بعض الأدعية اللطيفة:
اللهمَّ لا تجعل حوائجنا إلا إليك، ودُلَّنا بك عليك.
الغنيُّ هو الذي لا يحتاج أحداً، وهذه ليست إلا لله.
أما العبد فإنه يحتاج، إلا أنَّه إذا احتاج إلى ربِّه بقي عزيزاً، أما إذا احتاج إلى عبيده كان ذليلاً لهم.
الإمام الحسن البصري من كبار التابعين وله هيبةٌ لا توصف، وله مكانةٌ عَليَّة، سُئِلَ مرةً بِمَ نِلت هذا المقام؟
قال:
باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي.
أما إذا تعلَّم الإنسان العلم الشرعي، ثم احتاج إلى دنيا الناس واستغنوا عن علمه، فو الله هذا منتهى الذل.. أن يستغني الناس عن علمك، وأن تحتاج إلى دنياهم، لكنَّ الإمام الحسن البصري نال هذا المقام الرفيع باستغنائه عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمه.
والحقيقة:
اسم الغني.. والمؤمن إذا أقبل على الله عزَّ وجلَّ، يشتقُّ من هذا الاسم شيئاً، يشعر أنَّه غنيٌ عن المطامع. الطمع أذلَّ رقاب الرجال، غنيٌ عن ما في أيدي الناس، لا يشتهي ما لا يجد.. لي صديقٌ كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظَّمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينيه، كان لا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وجد. خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً.. من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر.
الله غنيّ.. لا يحتاج إلى خلقه.
المؤمن باتصاله بالله عزَّ وجلَّ يشتقُّ من هذا الاسم شيئاً، يصبح غنياً عن الناس، لا ينظر إلى ما عندهم.
الإنسان يدخل إلى أحد البيوت، تجده ينظر إلى كل ما فيه من أشياء ويسأل: كم ثمن هذه الثُريّا، ومن أين اشتريت هذه، وكيف حصَّلت هذه؟
تشعر بضعفه وتشعر بدنوّه.. أما هناك إنساناً لا يأبه بكلِّ هذه المظاهر.. ربما يركب مركبة فخمة فلا بدَّ من أن يسأل عن ميِّزاتها وعن سرعتها، وعن مصروفها وعن ثمنها، وكيف طَوَّبْتَها، و هل مستأجرة أم هي ملكا لك؟ أم سياحي وما وضعها؟ يبدو أن نفسه قد تاقت لها.. المؤمن المتصل بالله يستغني، يشعر بغنى.
دخلوا على سيِّدنا أبي عبيدة الجراح، وكان قائد الجيوش الإسلاميَّة في بلاد الشام، رأوا في غرفته قدر ماءٍ مغطىً برغيف خبزٍ، وجلداً يجلس عليه، وسيفٌاً معلَّقٌاً في الحجرة.
قيل له:
يا أبا عُبيدة ما هذا؟
قال:
هو للدنيا وعلى الدنيا كثير، ألا يُبلِّغنا المقيل؟.
ازهد بما في أيدي الناس، يحبُّك الناس.. ارغب بما عند الله، يُحبُّك الله، الله بالعكس إن أحببت ما عنده أحبَّك، وإن زهدّتَ بما في أيدي الناس، أحبَّك الناس.
فالغني هو الله الذي لا يحتاج أحداً، وجوده ذاتي أما الإنسان يحتاج؛ لكن بين أن يحتاج الله عزَّ وجلَّ، ويحتاج إلى ما عنده، وبين أن يحتاج إلى خلقه.
إذا احتاج ما عنده علا، إن احتاج إلى خلقه دنى.. احتج إلى الرجل تكن أسيره، استغنِ عنه تكن نظيره، أحسن إليه تكن أميره.
بالمناسبة إنَّ أدقَّ ما في هذا الموضوع؛
حديثٌ صحيح قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) (سنن الترمذي).
لا تنسوا.. أنْ، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً.
إذا كان لديك آلة بسيطة فتصليحها سهلٌ، أما إذا كانت تعمل بالحاسوب وتعطَّلت، ولا يوجد من يصلحها لك، يأتيك الهم فكلَّما كانت الآلة شديدة التعقيد، فتصليحها يكون صعباً وهمَّاً أكبر.. هذه قاعدة.. خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً.
يقول الله عن ذاته:
"فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ".
وهذه لها معنى دقيق.. فأحياناً الإنسان يستغني عن الناس، لأنَّه مستغنٍ عنهم، يترفَّع عنهم، ويستعلي عليهم، وأحياناً يحتقرهم، يؤذيهم بقوله لكنَّ الله جلَّ جلاله مع أنَّه غنيٌ عن خلقه؛ لكنَّ كماله مطلق.
تجد غنياً بعيداً عن الله، به كبرٌ، وغطرسة، واستعلاء، وتأفف.. وأحياناً تجد غنياً على حجمه المالي الكبير متواضعاً، قريباً منك.. العظمة أن تكون مستغنياً عن الناس؛ وأنت معهم، تصغي إلى حديثهم، تتعاطف مع مشكلاتهم، يعنيك ما يعنيهم، يؤلمك ما يؤلمهم، ترجو لهم ما ترجو لنفسك.
وهذه صفة عالية جداً، الأنبياء كانوا مع الخلق، يمشون في الأسواق، يعيشون معهم، لذلك قالوا: هناك برجٌ عاجيٌّ فكري، وهناك برجٌ عاجيٌّ أخلاقي.. البرج العاجي مذموم.. يقولون لك: فلان يعيش في برج عاجي، ليس واقعياً، بعيداً عن هموم الناس، إذا ابتعدت عن هموم الناس وعن حياتهم اليوميَّة، وعن مآسيهم، وعن آلامهم، وعن طموحاتهم فأنت في بُرجٍ عاجيٍّ فكري.
أنت تعيش في الأحلام.
أما إذا ابتعدت عن سقطاتهم وانحرافاتهم ومعاصيهم فأنت في برجٍ عاجيٍ أخلاقيّ.
فالمؤمن ينأى بأخلاقه عن سقطات مجتمعه، أما بفكره يعيش معهم؛ يألم لألمهم.. سيِّدنا عمر جاءته هديَّةٌ من أذربيجان، فقال لرسول أذربيجان: ما هذه؟ قال له: هديَّةٌ.. طعامٌ أهداه إليك عاملك على أذربيجان، ففتح العُلبة، فوجد فيها طعاماً نفيساً جداً.
فسأل رسول عامله على أذربيجان: هل يأكل عندكم عامَّة المسلمين هذا الطعام؟ قال: لا هذا طعام الخاصَّة.
أخرجها من فمه وقال: قل لصاحبك كيف يعنيك أمر المسلمين إن لم تأكل مما يأكلون؟ حرامٌ على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين، خذ هذه الهديَّة ووزعها على فقراء المسلمين في المسجد النبوي. ولم يأكل منها.
سيِّدنا عمر حينما كان هناك عام مجاعةِ في المدينة، ترك اللحم أربعة أشهر، فقرقر بطنه فخاطبه قال: قرقر أيُّها البطن أو لا تُقرقر، فو الله لا تذوق اللحم حتى يشبع منه صِبْيَةُ المسلمين.
المعنى الأول..
أنَّ الله هو الغني، أي هو الذي لا يحتاج أحداً. شأن الخالق أنَّه غنيٌ عن خلقه، وشأن المخلوقات أنَّهم مفتقرون إلى ربِّهم.
لذلك قالوا:
الربُّ ربٌ، والعبد عبدٌ.
شأنُك يا رب أنَّك غنيٌ عنا، وشأنُنا أننا مفتقرون إليك، لكن أيُّها الإخوة: ما أحلى وما أجمل وما أكرم أن تفتقر إلى الله، وما أصعب وما أقسى أن تفتقر إلى عبدٍ لئيم.
سيِّدنا علي كرَّم الله وجهه سُئِل ما الذل؟
قال:
أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يَرُدُّه.
ويقول سيِّدنا علي:
والله والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين -مستحيل-، وكنسِ أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين -أيضاً مستحيل-، ونقلِ بحرين زاخرين بمنْخَلين، وغسلِ عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون عليَّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين.
أيُّها الإخوة:
المؤمن غنيٌ بالله، عبارة في الفقه تُعجبني.. هل يجوز أن تُعطي طفلاً صغيراً زكاة مالك وله أبٌ غني؟
قد يقول القائل ليس معه مال، لا يملك قرشاً واحداً في جيبه.
يجيب الفقهاء عن هذه المسألة:
الطفل الصغير الفقير غنيٌ بغنى أبيه.
فما دام أبوه غني هو غني، غنيٌ بأبيه، ولو سحبنا هذه القاعدة على موضوع درسنا.. المؤمن فقير لكنَّه غنيٌ بالله، غنيٌ بربِّه، لذلك تجد أحياناً إنساناً مطمئناً ويقول لك: أنا أملك خمسة كيلو ذهباً، وكل كيلو ثمنه نصف مليونٍ من الليرات..
أو معي عملة صعبة، القول الرائع: كن بما في يدي الله، أوثق بما في يديك.
فأحياناً تجد إنساناً معتمداً على توفيق الله وعلى حفظه، ومتوكِّلاً عليه يثق بما عند الله، هذا أغنى ممن يملك ملايين كثيرة، بالداخل وبالخارج جامداً وسائلاً، فهذا أغنى.
المعنى الثاني من معاني الغني..
قال: قِلَّة الحاجات، وهو المشار إليه في قوله تعالى:"وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)" (سورة الضحى).
أي أنَّ الإنسان محتاج إلى طعام، إلى شراب، إلى مسكن، إلى ثياب، إلى أوانٍ، إلى سرير، الإنسان يحتاج إلى آلاف مؤلَّفة من الحاجات، مثلاً لو اشترى بيتاً مَلَكهُ ومفروش، وعنده مركبة فرضاً، وله محل تجاري مورداً لرزقه، ويملك بيتاً في المَصِيْفِ، عنده ألبسة كثيرة جداً، عنده مال سائل؛ هذا بالمعنى الثاني غني، فبيته ملكه البيت مفروش، في عنده وقود للتدفئة، في عنده أجهزة ومركبة وطعام، وعنده مال سائل.
لكن هذا يحتاج إلى طبيب، ويحتاج إلى معلّم ابنه ضعيف بالرياضيات لكن حاجاته قليلة، أما أكثر الحاجات لديه موجودة.
فالمعنى الثاني للغني قالوا:
قِلَّة الحاجات.. وهو المشار إليه في قوله تعالى:"وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى".
أغناك، فإذا أغنى الله رسول الله لن يعُد النبيّ الكريم محتاجاً إلى الله؟ لا.. الحاجة إلى الله ثابتة، و دائمة، ثم إنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا المعنى بشقٍ آخر قال: ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)) (صحيح البخاري).
فأحياناً الإنسان يكون لديه نفسٌ عظيمة تبتغي الوصول إلى الله، وأمور الدنيا عندها ثانويَّة، مستغني عن دنيا الناس؛ لكنَّه مفتقرٌ إلى فضل الله، هذا شأن الصدِّيقين، والمؤمنين الكبار، الغنى غنى النفس.
أحياناً تجد شخصاً ذا نفس عفيفة، تقول له: هل يلزمك شيء من المكان الفلاني؟ يقول لك: شكراً. لا يطلب.
وهناك شخصاً يقول لك: أين ذاهب؟ أين أنت مسافرٌ؟ أحضر لي كذا وكذا.
يبحث ولا يترك إنساناً إلا وسخَّره، يقول: هناك هذا الشيء رخيص أحضره لي.
وهناك إنسانٌ لا يطلب شيئاً.. وكلَّما قلَّت طلباتك، ارتقى مقامك.
حتى النبي الكريم قال:
((عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مؤُونَةً)) (مسند الإمام أحمد).
من قبل عدّة أيّام، توفي شيخ الأزهر، وقد لفت نظري تحقيقٌ كتب عنه وعن بيته وهو شيء مدهش.. فهو يسكن في بيت صغير، ومكتبه طاولة من الفورميكا، وكتبه داخل العلب الكرتونيّة، فلا يوجد لديه مكتبة لوضعها فيها.
كم تقدِّرون ما تحت يده من ميزانيَّة؟ تحت يده مبالغ كبيرةً جداً جداً، ويسكن في بيت في الطابق الرابع، وقد أجرى عمليّتين في ركبتيه، بسبب التهاب المفاصل، ولم يتمكَّن من أن يبدل بيته.
والذي مساحته صغيرة.
وشيخ الأزهر تأتي رتبته بعد رئيس الوزارة، وتحت يده أموالٌ طائلة، ملايين مملينة، ولكن عنده غنى.. وهذا هو الغنى، وفيه عفَّة، وخرج لجنازته خمس عشرة مليوناً من المشيعين.
فالغنى غنى النفس، فأحياناً الإنسان يستغني بالله؛ فلا يحتاج لشيء ما دام طعامٌ يأكله، وشرابٌ يشربه، ولباسٌ يستره، وبيتٌ يسكنه ويؤويه انتهى الأمر.
المعنى الثالث:
الغني؛ الذي عنده الشيء الكثير من متاع الدنيا، فهو يملك بيتين أو ثلاث، وسيّارتين أو ثلاث، ومئة وكلَّها أجنبية الصنع، وثلاثمائة حذاء من الدرجة الأولى.. ثمن الحذاء ثمانية آلاف.
فالمعنى الثالث؛ مَنْ عنده مقتنيات كثيرة فهو غني.
المعنى الأول للغنى:
أن لا تحتاج إلى أحد.. من؟ الله وحده.. شأن الله أنَّه لا يحتاج أحداً، شأن العبد أنَّه يحتاج، إن احتاج الله عزَّ وجلَّ علا، وإن احتاج إلى خلقه دنا.
المعنى الثاني:
قلَّة الحاجات.. عنده كلُّ شيء، حاجاته قليلة لكنَّه يحتاج إلى طبيب لأسنانه، ولو كان معه ملايين! يحتاج إلى طبيب صحَّة، إلى أستاذ لأولاده، يحتاج إلى صاحب مهنة معيَّنة لإصلاح خللٍ طرأ في بيته.
المعنى الثالث:
أن تكْثُرَ مقتنياتك.. هذا الغنى بالنسبة للمعنى الثالث وأشير إليه في قوله تعالى:"وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ" (سورة النساء الآية: 6).
"وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ".
اليهود حينما سمعوا قول الله عزَّ وجلَّ:
"مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً" (سورة البقرة).
قالوا: "إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ" (سورة آل عمران).
قالوا: "قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ".
فقال الله عزَّ وجل:
"سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا"
هذه معاني الغنى في اللغة.. معانٍ ثلاث.
الإمام الغزالي يرى؛ أنَّه من معاني الغني:
هو الذي لا تعلُّق له في ذاته.
أي أنّ ذاته لا تتعلَّق بشيء.
فأنت متعلِّق بالحرارة..
فإذا كان البرد شديداً؛ فأنت بحاجة إلى معطف، متعلِّق بالبرودة، وإذا كان الحرَّ شديداً؛ فأنت بحاجة إلى جهاز تكييف، وإذا كنت جائعاً؛ فأنت بحاجة إلى الطعام، وإذا كان هناك عطشٌ؛ فأنت بحاجة إلى ماء، وكنت بلا مأوى؛ فأنت بحاجة إلى بيت، وبحاجة إلى سرير، وإلى أن تنام.
فأنت ترى سيارة ثمنها ملايين، وقالبة على الطريق؛ والسبب أنَّ السائق قد نام؛ فالنوم سلطان وحاجته للنوم أودت به في هذا الحادث؛ فأنت محتاج للنوم، محتاج للطعام، وللشراب، ولجو مريح، ولهواء، ولثياب، ولمأوى، وتحتاج إلى زوجة.
فأحياناً:
الإنسان يكون قد تعوَّد على زوجته، فالأكل واللبس والطعام المطبوخ.
وهي تؤنسه أحياناً، فإذا سافرت أو مرضت يقول لك: تغيَّرت حياتي.
فأنت مفتقر إلى زوجة كذلك مفتقر إلى طفل.. يقول لك: هذا الطفل ملأ البيت بهجة.
فأحياناً لا ينجب الزوجان؛ فتجد البيت أصبح مثل القبر، فالأطفال لهم ضجيج ولهم لعب ولهم مطاليب لكن يملؤه البيت فرحةً.
فكم حاجة أنت تحتاجها؟
تحتاج إلى زوجة، وإلى ولد، وأن تشرب، وأن تأكل، وأن تنام، ولثياب، وأن تأكل شيء ذي مذاق حلو، أو لكأسٍ من الشاي لتشربه، وتحتاج إلى فاكهة لتأكلها، فلو مكثت شهراً من غير أن تأكل الفاكهة، تشعر بحاجتك الأساسيّة لها.. فأنت محتاج إلى مليون حاجة، أما الغني الحقيقي ذاته لا تتعلَّق بشيء، فأنت مربوط بمليون رابط.
مثلاً معك كميَّة من الذهب، فتجدك متتبِّعاً للأسعار هل غلي الذهب أم رخص سعره؟ ولو اشتريت بضاعة فتسأل نفسك هل هناك بالسوق منافس لك؟ وما هي أسعار البضاعة؟ وأنت بحاجة إلى أن تربح، فيومياً لديك آلاف الحاجات، لكن الغني الحقيقي هو الذي لا يتعلَّقُ بشيء..
ذلك هو الله ففي الحديث:
((لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَ آخِرَكُمْ وَ إِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا)) (صحيح مسلم).
وقيل:
مَنْ تعلَّق بغيره فهو محتاجٌ إليه.
وقيل:
الغنيِّ؛ هو الذي لا يحتاج إلى شيء، وهو المستغني عن كلِّ شيء، المفتقر إليه كلُّ شيء.
وقيل:
الغنيُّ؛ هو الغنيُّ بذاته عن العالمين، المتعالي عن جميع الخلائق في كلِّ زمنٍ وحين، الغنيُّ عن العباد، المتفضِّل على الكلِّ بمحض الوداد.
هذا هو الغنيّ...
ورد اسم الغنيِّ في القرآن الكريم في مواطن كثيرة..
في سورة البقرة قال تعالى:
"قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)"(سورة البقرة).
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ غنيٌ عن صدقةٍ يتبعها أذى.. هذه الصدقة لك وليست لله، أمرك أن تدفعها من أجل أن تقبل عليه، فإن أتبعتها بالمنِّ والأذى؛ لا قيمة لها، هو غنيٌ عنك.
وقال تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267)" (سورة البقرة).
أيضاً.. غنيٌ عن صدقةٍ تكرهها.. أكلةٌ عافتها نفسك، وتصدَّقت بها.. هذه الصدقة الله غنيٌ عنها، أمرك أن تُعطي مما تحب؛ من أجل أن تُقبل عليه، من أجل أن ترقى عنده، فإن فعلت ما لا تُحِب، فهو غنيٌ عن هذه الصدقة.