الفصل الرابع:
القراءات وتركيبها
تمهيد:
لم يكن جمع القراءات في ختمة واحدة معمولاً به ولا معروفاً على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث لم يرد في الآثار ذكره، ولا إشارة إليه، وكان حسب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يقرأ الآيات فور نزولها فيتلقاها عنه كتبة الوحي والحفظة من الصحابة، وكان حسب الصحابة -رضي الله عنهم- أن يراجعوه كلما أشكل عليهم الأمر.
وبعد النبي (صلى الله عليه وسلم) اختار القُرَّاءُ من أصحابه لأنفسهم حروفاً قرأوا وأقرأوا بهـا غيرهم، فصار يقال: حرف أبَيْ وحرف ابن مسعود.. وغير ذلك.
واستمر الحال على هذا الأمر حتى القرن الخامس الهجري حيث ظهر علماء القراءات كـأبي عمرو الداني وابن شيطا والأهوازي والهذلي وغيرهم وكان هؤلاء لا يتقيدون بحرف معين وإنما جمعوا كل ما صح عندهم من القراءات واتخذوا مجالس للإقراء يُقرئُون بها، وجعل الناس يرحلون إليهم من كل حدب وصوب للسماع منهم والقراءة عليهم فكان مقتضى ذلك أن يجمع القارئ عدة قراءات لأئمة مختلفين في ختمةٍ واحدةٍ تسهيلاً للأداء واختصاراً للوقت.
وجمع القراءات في ختمة واحدة لم يسلم من الانتقاد والرد حيث أعتبره البعض أمراً مُحدثاً لا يجوز في كتاب الله ولا يُقرأ كتاب الله إلا على الوجه الذي به أنزل.
وما عنيناه في هذا الفصل هو معرفة خلافهم في ذلك وبيان أثر ابن الجزري فيه من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: حكم جمع القراءات.
المبحث الثاني: كيفية جمع القراءات.
المبحث الثالث: حكم ترتيب القراءات.
المبحث الأول: حكم جمع القراءات
لقد أجمع العلماء قاطبة على أن قراءة القرآن بإفراد القراءات أمر لا خلاف فيه، ذلك لأنه فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وعادة أصحابه ومن جاء بعدهم، بينما اختلفوا في حكم الجمع بالقراءات في ختمة واحدة، وفيما يلي بيان ذلك الخلاف وموقف ابن الجزري منه.
المطلب الأول: مذاهب العلماء في حكم الجمع
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة فذهبوا مذاهب ثلاثة، منهم المُجيز لجمع القراءات بإطلاق ومنهم المانع لها بإطلاق ومنهم المفصل بحسب أحوال القراءة.
أولاً: القول بالمنع مطلقاً
ذهب أصحاب هذا القول إلى المنع مطلقاً التزاماً بما جاء عن الأئمة الأقدمين حيث كانوا إذا قرأوا بالرواية لا ينتقلون إلي غيرها حتى يتمُّوا الأول.
قال الإمام ابن الجزري:
"ولقد كانوا في الحرص والطلب بحيث إنهم يقرأون بالرواية الواحدة على الشيخ الواحد عدة ختمات لا ينتقلون إلى غيرها" وكان هذا ما فعله الأستاذ أبو الحسن على بن عبد الغني الحصري القيرواني حيث ختم على شيخه أبي بكر القصري تسعين ختمة كلما ختم واحدة أتى بالأخرى حتى أكمل ذلك في عشرين سنة، وأيضاً هو فعل ابن مجاهد مع تلاميذه وابن سوار وغيرهم كثير.
وذهب إلى القول بهذا جماعة منهم القاضي جمال الدين القابسي صاحب الحاوي القدسي الذي نقل عنه قوله: "وقراءة القرآن بقراءات معروفة أو شاذة دفعة واحدة بترجيع الكلمات مكروهة" وأيضا العلامة ابن الجوزي في كتابة تلبيس إبليس حيث قال: "ومنهم من يجمع القراءات فيقول: ملك، مالك، ملاك، وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عن نظمه"، وناصر هدا القول ممَّنْ جاء بعد ابن الجزري علي النورى الصفاقسي حيث قال في كتابه غيث النفع: "وكان بعض الأئمة ينكره من حيث أنه لم يكن عادة السلف قلت: وهو الصواب إذ المعلوم أن الحق والصواب في كل شيء مع الصدر الأول" وهو بعبارته هذه يصرح أنه من منكري الجمع في الختمة الواحدة.
وأقوى الأدلة التي أعتمدها هؤلاء أن الجمع في ختمة واحدة أمر مُحدَث، فهو بدعة لم يكن عليها السلف وأن القرآن لم ينزل بهذه الصورة.
وهذا الدليل على قوته -ظاهراً- إلا أنه لا يمس لب مسألة الخلاف حيث أن القراءة بالجمع: قرأ رسول (صلى الله عليه وسلم) بإفرادها وترك السلف لها لعدم حاجتهم إليها، ولم يرد عنهم ما يمنع القارئ من أن يكرر الآية مرات حتى يستوفي ما ورد فيها من أوجه حتى يعتبر مبتدعاً.
وأما قول صاحب الحاوي القدسي وقول ابن الجوزي فهما قولان يخصان نوعاً من أنواع الجمع بين القراءات وإحدى كيفياته، وليس يُفهم منهما المنع على الإطلاق.
ثانياً: القول الجواز مطلقاً
وذهب قوم آخرون إلى القول بالجواز مطلقاً سواء كان ذلك حال التلقي للقراءات أو في غيره.
ومن القائلين بهذا القول صاحب كتاب: هداية القراء والمقـرئين الذي نقل جواز ذلك عن الأئمة القراء الذين جاءوا بعد المائة الرابعـة.
وأيد هذا القـول بعض المتأخرين أيضـًا واعتبروا ذلك مما يتيسر من قــراءة القرآن.
واستدل أصحاب هذا الرأي بأنه عمل القراء منذ القرن الخامس حتى يومنا هذا دون أن ينكره أحد من الأئمة وهو ما اعتبروه إجماعاً على جواز الجمع، وعدم وجود دليل صريح يمنع قبوله وجوازه.
وهذا الدليل لا يستقيم على إطلاقه حيث إن جمهور القراء لم يجيزوا الجمع إلا بشروط، وما إجماعهم على الجواز إلا بتلك الشروط.
ثالثاً: القول بالجواز حال التلقي فقط
وهذا القول يمثل قول الجمهور من القراء منذ المائة الخامسة قال ابن الجزري: "...إلى أثناء المائة الخامسة عصر الداني وابن شيطا والأهوازي والهذلي ومن بعدهم فمن ذلك الوقت ظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة واستمر إلى زماننا وكان بعض الأئمة يكره ذلك من حيث إنه لم تكن عادة السلف عليه، ولكن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به والتقرير عليه وتلقيه بالقبول وإنما دعاهم إلى ذلك فتور الهمم وقصد سرعة الترقي والانفراد".
وقال أيضاً:
"ظهر لي أن الإقراء بالجمع ظهر من حدود الأربعمائة وهلم جرا وتلقاه الناس بالقبول وقرأ به العلماء وغيرهم لا نعلم أحداً كرهه، أقرأ به الحافظ أبو عمرو الداني ومكي القيسي وابن مهران وأبو القاسم الهذلي وأبو العز القلانسي والحافظ أبو العلاء الهمذاني والشاطبي وممن قرأ به من المتأخرين الإمام الحافظ أبو شامة والإمام المجتهد أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الجعبري».
ومسوغ هذا القول عند أصحابه قصد سرعة الترقي والانفراد والتيسير على الناس حيث ضعفت العزائم وكثرت المشاغل والصوارف عن القراءات وجمعها.
المطلب الثاني: موقف ابن الجزري
تناول ابن الجزري هذه المسألة وبين مذهب السلف فيها وحدد زمن ظهورها عند القراء وأفصح عن رأيه فيها، وظهر ذلك في قوله السابق.
لقد اعتبر ابن الجزري أن الخلاف في هذه المسـألة محسوم، وأنه لا عبرة بقول من قال بغير الجواز حال التلقي وقرر ذلك في قوله: "…ولكـن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به والتقرير عليه وتلقيه بالقبول".
وعلل ذلك بقوله:
"وإنما دعاهم إلى ذلك فتور الهمم وقصد سرعة الترقي والانفراد".
ولم يكتف بهذا التقرير فحسب بل حشد جملة من أسماء القراء الذين أخذوا به قدامى ومتأخرين، أمثال: الداني ومكي والهذلي وأبو شامة والجعبري وغيرهم.
واستشهد أيضاً بواقع القراء الذي يشهده مع شيوخه حيث كانوا يقرؤون ويقرئون بالجمع في الختمة الواحدة.
ويشترط ابن الجزري لِمَنْ أراد الجمع أن يُفرد القراءات أولاً حتى إذا ضبطها وأتقنها جمعها، وينقل هذا الشرط عن شيوخه فيقول: "...ولم يكن أحد من الشيوخ يسمح به إلا لِمَنْ أفرد القراءات وأتقن معرفة الطرق والروايات وقرأ لكل قارئ ختمة على حده".
ويمثل لذلك بقوله:
"...إذا أراد قراءة ابن كثير مثلاً، يقرأ أولاً برواية ختمة البزي ثم ختمة برواية قنبل ثم يجمع البزي وقنبل في ختمة وهكذا".
واعتبر ابن الجزري جمع القراءات دون إفرادها تساهلاً في الأخذ فقال: "...وكان الذين يتساهلون في الأخذ يسمحون أن يقرأوا لكل قارئ من السبعة بختمة سوى نافع وحمزة فأنهم كانوا يأخذون ختمة لقالون ثم ختمة لورش ثم ختمة لخلف ثم ختمة لخلاد".
وفي الجملة فإن ابن الجزري يرى جواز الجمع في ختمة واحدة بشرطين هما:
1 – أن يكون ذلك حال التلقي حيث أن كل ما قاله ونقله عن الأئمة كان في معرض التلقي.
2 – أن يسبق جمع القراءات إفرادها واحدة واحدة حتى إذا أتقنها القارئ ساغ له جمعها.
وتبدو وجاهة هذا الرأي في كونه يسلم من الاعتراض المتمثل في بدعية الجمع ومخالفة السلف فيه حيث لم يقل ابن الجزري بذلك في العبادات المحضة كالتلاوة –تعبداً– أو الصلاة، وإنما قيد جواز ذلك بحال التلقي الذي هو طريقة تعليمية لا غير.
وشرطه الثاني يضمن عدم التخليط بين القراءات الذي يفضى إلى التحريف.
فمن أفرد على شيخ قراءة، وضبط رواياتها وطرقها سهل عليه الجمع فيها وأمن من الخلط.
وفي الوقت نفسه يفيد القارئ من مزايا الجمع وفوائده المتمثلة في سرعة الترقي والانفراد.
المبحث الثاني: كيفية الجمع بين القراءات
بعد ما بينا خلافهم في حكم جمع القراءات في ختمة واحدة، وجدنا أصحاب القول بالجواز يختلفون في كيفية الأخذ بالجمع، فمنهم مَنْ يرى كيفيةً ما ويرى الآخر غيرها.
فما هي تلك الكيفيات؟
وما خواص كل منها؟
وما أثر ابن الجزري في ذلك؟
وهو ما أردنا بيانه وتفصيله في هذا المبحث.
المطلب الأول: المذاهب في كيفية الجمع قبل ابن الجزري
جرى العمل عند الأئمة السابقين على ابن الجزري والآخذين بالجمع في ختمة واحدة في تحمل القراءات على المذاهب التالية:
أولاً: مذهب الجمع بالحروف
مفاد هذا المذهب أن يشرع القارئ في القراءة على وجه معين حتى إذا بلغ كلمة فيها خلاف بين القراء -سواء كان الخلاف في الأصول أو في الفرش- فإنه يعيد تلك الكلمة بمفردها حتى يستوفي ما فيها من وجوه للقراء ثم يستأنف قراءته حتى يأتي عند كلمة خلافية أخرى، وإذا كان الخلاف يتعلق بكلمتين متعلقتين حكماً نحو: "جاءوا أباهم" حيث تعلقت الكلمتان فـي حكـم المد المنفصل، ونحو: "ربحت تجارتهم" حيث تعلقت الكلمتان في حكم الإدغام فإن الوقف يكون على الكلمة الثانية، ويستوعب الخلاف بالتكرار قبل الانتقال إلى غيرها، واشتهر هذا المذهب عند القراء المصريين.
وميزة هذا المذهب السهولة في الأداء غير أنه ربما أذهب برونق التلاوة وغير معاني الآيات وأدى إلى ضياع الخشوع والهيبة المرجوة من التلاوة.
قال السيوطي معلقاً على خواص هده الكيفية:
"وهو أوثق في الاستيفاء، وأخف على الآخذ، لكنه يخرج عن رونق القراءة وحسن التلاوة".
ثانياً: مذهب الجمع بالوقف
يراد بهذه الكيفية أن يستأنف القارئ تلاوته على وجه معين حتى إذا بلغ موضعاً يسوغ الوقف عليه فيقف، ثم يعيد المقطع المقروء بوجه آخر، وهكذا حتى يستوفي جميع الخلاف الوارد للقراء والرواة في هذا المقطع، ثم يستأنف القراءة بمقطع آخر وهكذا حتى يتم ختمته، واشتهرت هذه الكيفية لدى القراء الشاميين.
وخاصية هذا المذهب أنه أدعى لحصول الخشوع والهيبة المرجوة أثناء التلاوة إلا أنها تحتاج إلى وقت أطول، وإنها أشد على القارئ في استحضار الأوجه، وهو ما يثقل على الطلاب.
قال السيوطي:
"...وهو أشد استحضاراً، وأشد استظهاراً، وأطول زمناً، وأجود مكاناً".
ثالثاً: مذهب الجمع بالآي
تتمثل كيفية هذا المذهب في أن القارئ يشرع في القراءة من أول الأية حتى يأتي آخرها فيقف، ثم يعيدها لقارئ آخر وهكذا يظل يكررها حتى يأتي على كل خلاف فيها، فينتقل إلى آية أخرى.
وميزة هذه الكيفية أنها أسلم من التركيب وأبعد عن التخليط وهي أشبه بقراءة النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما روته أم سلمة –رضي الله عنها- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقطع قراءاته آية آية".
هذا بالرغم من أنها تستغرق وقتاً طويلاً حيث يلزم القارئ بإعادة الآيات مهما طالت مرات كثيرة وربما تكون مواضع الخلاف فيها قليلة.
وممَّا يُلاحظ على هذا المذهب أن هناك بعض رؤوس الآي لا يحسن الوقف عليها نحو قوله تعالى: "فويل للمصلين".
وأيضاً ما وقع من خلاف بين القراء في عد الآي: فربما كان عند قارئ نهاية آية أي رأس آي وهو ليس كذلك عند قارئ آخر، فيقع الإشكال على أي عد يقف القارئ؟.
ومن الأمثلة على ذلك قوله -تعالى-: في سورة الفاتحة: "صراط الذين أنعمت عليهم" فإن قراء المدينة يعدُّون (عليهم) رأس آية حيث تنتهي عندها الآية في حين نجد قراء الكوفة لا يعدُّونها رأس آية.
يتبع إن شاء الله...