المطلب الثاني: مذهب ابن الجزري وأهميته
بعدما تعرض ابن الجزري لهذه المذاهب وأوضحها وأشار إلى من أخذ بكل منها رأي أن يعرض رأيه ومذهبه الذي اختاره في هذه المسألة، وهو مذهب مركب من المذهبين الأول والثاني، جمع فيه محاسن كل منهما وترك ما يعاب فيها.
وهذا تفصيل لمذهبه وبيان لأهميته
أولاً: حقيقة مذهب ابن الجزري
حقيقة مذهب ابن الجزري تتمثل في قوله:
"...ولكني ركبت من المذهبين مذهباً، فأبتدئ بالقارئ وأنظر إلى مَنْ يكون من القراء أكثر موافقة له، فإذا وصلت إلى كلمة، بين القارئين فيها خلاف وقفت وأخرجته معه، ثم وصلت حتى أنتهي إلى الوقف السائغ جوازه".
ويوضح ذلك أكثر من معرض حديثه عن حكم الجمع بقوله:
"على الجامع أن ينظر ما في الأحرف من خلاف –أصولاً وفرشاً– فما أمكن فيه التداخل اكتفى منه بوجه، وما لم يمكن فيه نظر، فإن أمكن عطفه على ما قبله بكلمة أو كلمتين أو بأكثر من غير تخليط ولا تركيب اعتمده، وإن لم يحسن عطفه رجع على موضع ابتدائه حتى يستوعب الأوجه كلها من غير إهمال ولا تركيب ولا إعادة ما دخل؛ فإن الأول ممنوع، والثاني مكروه والثالث معيب".
ويُفهم من قول ابن الجزري هذا:
أن مذهبه لا يعتمد على تكرار القراءة بالوجه الواحد إذا لم يختلف فيه القراء وإنما يكتفي بقراءة واحدة لكل القراء وهو بذلك يكون قد جمع لكل القراء، ولا يرى تكرار القراءة إلا إذا اختلفت أوجه التلاوة بين القراء حيث يقدم مَنْ كان خلافه أقرب إلى الوقف الذي اختاره، وبهذا يحصل التداخل الذي من شأنه أن يفيد في اختصار الوقت وسرعة الأخذ.
وللإيضاح أكثر نـأخذ على سبيل التمثيل قوله تعالى:
"الحمد لله رب العالمين"، إذا قرئت مرة واحدة لقارئ واحد فإن بتلك القراءة يتداخل كل القراء فلا تعاد القراءة لأحد حيث لا خلاف بينهم فيها.
وأما إذا قرئ قوله تعالى:
"ملك يوم الذين" لقالون فإنه يقرئ (ملك) ولا يقف إلا على كلمة (الذين).
وبهذه القراءة يندرج كل القُراء السبعة عدا الإمامين عاصم والكسائي، ثم يعيد القراء لعاصم فيقرأ: « مالك» ويندرج الكسائي مع عاصم حيث لا خلاف بينهم في هذا الحرف، وهكذا حتى يتم السورة ثم الختمة.
ثانياً: شـروط مذهب ابن الجزري
ولضمان سلامة التلاوة وبعدها عن التخليط والتركيب والتحريف اشترط ابن الجزري لهذه الكيفية التي اختارها شروطاً منها اللازمة التي تجب على كل جامع للقراءات مهما كان تثبته وإتقانه ومنها المستحبة التي لا يؤخذ بها إلا في حق ضعيف الاستحضار.
فأما الشروط اللازمة فـهي:
1 – رعاية الوقف:
فلا يقف القارئ إلا على موضع يحسن المعني عنده تجنباً لتحريف معنى اللفظ القرآني، ولا يشترط ابن الجزري الوقف على رؤوس الآي خشية الإطالة ولأن بعض الوقف على بعض رؤوس الآي لا يجعل المعنى سائغاً ولا مراداً.
2- رعاية الابتداء:
فلا يبتدئ القارئ إلا بما يحسن البدء به، فلا يبتدأ مثلاً: بقوله تعالى: "المسيحُ ابنُ الله" الواقعة، في قوله تعالى: "وقالت النصارى المسيح ابن الله" حيث يجب الابتداء بـ: (قالت) وإلا التبس المعنى بما هو ليس مراداً بقول الله تعالى.
ونشير هنا إلى أن كل موضع جاز الوقف عليه، وكان الوقف تاماً أو كافياً جاز الابتداء بما بعده.
3- حُسنُ الأداء:
ولا يحصل إلا برياضة اللسـان على حُسنُ التلاوة، ولا يجمع القراءات إلا مَنْ حَسُنَ أداؤه بالقراءة المفردة، وجمع القراءات شـأن الحذاق المقرئين لا شأن المبتدئين الطالبين.
4- عدم التركيب:
وهو عدم الانتقال من وجه إلى وجه أو من رواية إلى رواية دون الرجوع إلى موضع الوقف، وإلا يكون القارئ قد قرأ نصف المقطع بوجه والنصف الآخر بوجه آخر لقارئ آخر، وهو ما يسمى في عرف القراء تلفيقاً بين القراءات، وبهذا تتداخل القراءات والروايات والأوجه دون ضابط.
قال ابن الجزري جامعاً هذه الشروط الأربعة:
"والحاصل أن الذي يشترط على جامع القراءات أربعة شروط لابد منها وهي: رعاية الوقف، والابتداء، وحسن الأداء، وعدم التركيب".
وأما الشروط المستحبة هي:
1 – مراعاة الترتيب:
وهو أن يلتزم القارئ تقديم صاحب قراءة معنية بعينه، كما يلزم القراء من طريق الشاطبية بتقديم قالون على ورش لنافع وتقديم خلف على خلاد لحمزة، وتقديم نافع على القراء السبعة إذا جمع لهم جميعاً.
ولم يعتبره ابن الجزري شرطاً أساسياً وإنما عده مستحباً لأنه أدعى للاستحضار وأخف في الأخذ ولا يختل الجمع من دونه وأفصح عن ذلك في قوله: "وأما رعاية والتزام تقديم شخص بعينه أو نحو ذلك فلا يشترط، بل الذين أدركناهم من الأساتذة الحذاق المستحضرين لا يعدون الماهر إلا من لا يلزم تقديم شخص بعينه، لكن إذا وقف على وجه لقارئ ابتدأ لذلك القارئ، فإن ذلك أبعد من التركيب وأملك للاستحضار والتدريب".
ويؤكد أن هذا الشرط لا يُستحب إلا لمن كان ضعيف الاستحضار من الطلاب فيقول: "...أما من كان ضعيف الاستحضار فينبغي أن يسلك به نوعا واحداً من الترتيب لا يزول عنه ليكون أقرب للخاطر".
2 – مراعاة التناسب:
وهو أن يلتزم القارئ تقديم وجه معين من أوجه القراءة الواجبة ولا يزال يأتي بالأوجه الأخرى حتى يأتي عليها كلها والأوجه الواجبة نحو أوجه البدل والفتح والتقليل والإمالة، والسكت والتحقيق وغير ذلك، فإذا قرأ القارئ بقصر البدل ظل معه حتى يأتي إلى أعلى مرتبة فيه، وإن هو ابتدأ بالإشباع ظل معه حتى يأتي بأدنى مرتبة فيه، وأيضاً إذا ابتدأ بالفتح أتى بعده بالتقليل ثم الإمالة الكبرى وهكذا.
ولم يعتبر ابن الجزري هذا الشرط إلا لمن كان ضعيف الاستحضار حيث قال: "كنت أنوّع بمثل هذه التنويعات حالة الجمع على أبي المعالي بن اللبان لأنه كان أقوى من لقيت استحضاراً، فكان عالماً بما أعمل، وهذه الطريقة لا تسلك إلا مع من كان بهذه المثابة".
ثالثاً: أهمية مذهب ابن الجزري
تظهر أهمية هذا المذهب في كونه حين ركب من المذهبين السابقين جمع مزاياهما وطرح ما يُعاب فيهما فكان غاية في الحسن.
وذلك لكونه جمع بين الاختصار المؤدي إلى كسب الوقت أثناء الجمع و بين حسن التلاوة و فهم معاني الآيات أثناء القراءة.
وقد كان ابن الجزري يقرأ بهذه الكيفية ويسبق الذين يقرؤون بالحرف فقال عن نفسه واصفاً الاختصار الذي حصل في طريقته: "رحلت إلى الديار المصرية ورأيت الناس يجمعون بالحرف –كما قدمت أولاً– فكنت أجمع على هذه الطـريقة بالوقف وأسبق الجامعين بالحرف، مع مراعاة حسن الأداء وكمال القراءة".
ومن حيث حسن التلاوة وفهم معاني الآيات فإن ابن الجزري وضع مذهبه وكان يراعي فيه هذا الجانب حيث نجده يؤكد أن القراءة ليست للرواية فحسب بل هي أيضاً يقصد بها التلاوة والتعبد والتزود من الأجر حيث بكل حرف عشر حسنات، ولتحقيق ذلك اشترط شروطه الأربعة من مراعاة الوقف والابتداء ضماناً لسلامة معاني الآيات المقروءة، ومن مراعاة حسن الأداء وعدم التركيب ضماناً لسلامة القراءة من التحريف والتخليط.
قال ابن الجزري موضحاً ذلك:
"والذي ينبغي أن القارئ لا يقصد بتكراره وجه الرواية فقط، وإنما يقصد التدبر والتفكر وتكثير الأجر وأن له بكل حرف عشر حسنات، وينبغي ألا يوقف إلا على وقف أجازه العلماء ولا يبتدئ إلا بما تظهر فيه الفائدة، وليكرر الوجه بعد الوجه من الابتداء إلى الوقف".
وأما ما كان من أوجه الجمع لا يؤدي إلى التلاوة المفهمة منعه واعتبره بدعة، ويظهر ذلك في الجمع بالكلمة حيث يوقف على الكلمة الخلافية مهما كان المعني الناتج عن ذلك الوقف، ويبتدأ بما بعدها مهما كان المعني الناتج عن ذلك الابتداء، قال ابن الجزري: "وأما ما أخذ به بعض المتأخرين من أنهم يقرؤون الجمع كلمة كلمة فبدعة وحشة".
ولأهمية هذا المذهب وقيمته العلمية ووجاهته وسداده وتحقيقه للمراد من الجمع بين القراءات اعتمد للإقراء في كل من قسم القراءات بالأزهر الشريف وكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وبه قرأنا على شيوخنا.
المبحث الثالث: تركيب القراءات
يطلق مصطلح تركيب القراءات في عُرف القُرَّاء ويراد به خلط قراءة بأخرى، وذلك بأن يَشرع القارئ في التلاوة بقراءة قارئ أو رواية راو، ولا يزال على ذلك حتى إذا بلغ موضع خلاف قرأه برواية أخرى، فيكون جزء من تلاوته برواية والجزء الآخر برواية أخرى، وربما يجتمع في قراءته أكثر من ذلك، وهذا ما يسمى أيضاً في اصطلاح القراء تلفيقاً وخلطاً.
ويفارق بين تركيب القراءات وجمعها بأن التركيب هو انتقال عشوائي دون ضابط من رواية إلى أخرى دون الإعادة من موضع الابتداء، وأما الجمع فهو إعادة القراءة من موضع الابتداء برواية أخرى مع الالتزام بشروط الجمع وبإحدى كيفياته.
وبعد بياننا لموقف ابن الجزري في مسألة الجمع وكيفياته رأينا أن نعرض موقفه في مسألة التركيب.
المطلب الأول: أقول مَنْ سبق ابن الجزري في المسألة
اختلف العلماء قبل ابن الجزري في هذه المسألة اختلافاً بيناً، فمنهم من كان يرى الجواز بإطلاق ولم يقيد ذلك بقيد ولا شرط، ومنهم من ذهب إلى القول بالمنع مطلقاً دون استثناء لبعض الأحوال، ومنهم من أجاز في حال ومنع في حال آخر، وفيما يلي تفصيل لأقوالهم.
أولاً: قول الإمام ابن العربي
ينص الإمام ابن العربي على أن القارئ له أن يقرأ بما يشاء من الروايات وله أن يركب بعضها ببعض كيف ما يشاء طالما أن ذلك لا يخرج عما ثبتت صحته –جميعاً– عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم ير أن يلتزم القارئ برواية ما، وحسبه أن يقرأ بما يقدر عليه، وبما يتيسر له، وجاء هذا المعنى في قوله الذي أبان فيه عن منهجه في القراءة فقال: "والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكثر الحروف المنسوبة إلى قالون إلا الهمز فإني أتركه أصلاً إلا فيما يُحيل المعنى أو يُلبّسه مع غيره، أو يُسقط المعنى بإسقاطه، ولا أكسر ياء "بيوت" ولا عين "عيون"؛ فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه، وأكسر ميم "مت"، وما كنت لأمد مدً حمزة ولا أقف على الساكن وقفته، وذلك أخف".
وقال أيضاً مُرجحاً ومُختاراً لهذا الرأي:
"والمُختار أن يقرأ المسلمون على خط المصحف بكل ما صح في النقل ولا يخرجوا عنه، ولا يلتفتوا إلى قول مَنْ يقول نقرأ السورة الواحدة أو القرآن بحرف قارئ واحد، بل يقرأ بأي حرف ولا يلزمه أن يجعل حرفاً واحداً ديدنه ولا أصله، والكل قرآن صحيح".
ونلاحظ هنا أن ابن العربي قاس حاله على حال الصحابة الذين كان القرآن يتنزل بينهم، فكانوا يقرأون بما تطاوعهم ألسنتهم وبما يختارونه من الأحرف السبعة دون قيد أو شرط.
ومسلك ابن العربي هذا يطلق العنان لكل قارئ بأن يختار لنفسه ما يشاء من اختيارات القراءة، وأي وجه أثقل عليه ورغب عنه عدل به إلى غيره من حروف الأئمة الآخرين، وكان ابن العربي يفسح المجال لكل قارئ بأن يحاكي عمل الأئمة القراء نافع وابن كثير وغيرهم في اختيار القراءة فيختار من الحروف الثابتة ما يشاء ويخلط رواية برواية وقراءة بقراءة كيف شاء.
ثانياً: قول الإمام أبو الحسن السخاوي
ذهب الإمام السخاوي في كتابه جمال القراء وكمال الإقراء إلى نقيض ما ذهب إليه ابن العربي حيث أعتبر تركيب القراءات خطأً فقال: "وخلط هذه القراءات بعضها ببعض خطاً".
ولا يفهـم من عبارة الإمـام "خطأ" إلا أنه يمنع تركيب القـراءات بعضهـا ببعــض.
ثالثاً: قول الإمام ابن الحاجب
ذهب الإمام ابن الحاجب إلى القول بالمنع إذا كانت إحدى القراءات في موضع مبنية على الأخرى وفيما عدا ذلك فإنه رآه جائزاً غير أنه أعتبره خلاف الأولى.
وجاء هذا المعنى في قوله:
"وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فأولى ألا يفعل، نعم إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى مثل أن يقرأ "نغفر لكم" بالنون و (خطاياكم) بالرفع ومثل "أن تضل إحداهما" بالكسر أي بكسر الهمزة (إن) و "فتذكر إحداهما" بالنصب أي بنصب الراء من (فتذكر)، فهذا أيضا ممتنع".
رابعاً: قول الإمام أبي شامة
ذهب أبو شامة إلى إطلاق الجواز والتخيير في حالة ما إذا لم تتعلق إحدى القراءتين بأخرى ولم يعتبر ذلك خلاف الأولى وأما إذا تعلقت القراءات ببعضها فلا يرى غير المنع وظهر ذلك في قوله: "المنع من هذا ظاهر، وأما ما ليس كذلك فلا منع، منه فإن الجميع جائز والتخيير في هذا، وأكثر منه كان حاصلاً بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة أحرف توسعة على القراء فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه".
وهذا الرأي يتوافق مع رأي ابن العربي في حالة عدم تعلق القراءات ببعضها، ورأي ابن الحاجب قريب منه حيث لا يعتبر ذلك إلا خلافاً للأولى.
خامساً: قول الإمام أبي زكرياء النووي
ذهب الإمام النووي إلى القول باستحباب عدم التركيب، واعتبره أولى من التركيب سواء تعلقت الأحرف ببعضها أم لم تتعلق وظهر ذلك صريحاً في قوله: "إذا ابتدأ بقراءة أحد القراء فينبغي أن لا يزال على القراءة بها ما دام الكلام مرتبطاً، فإن انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أخرى من السبعة والأولى دوامة على الأولى في هذا المجلس".
وعبارة النووي:
«ينبغي» لا تدل على أكثر من الأولوية والاستحباب.
وتوافق هذا القول مع قول ابن الصلاح الذي جاء في جوابه على سؤال ورد إليه من بلاد العجم حول هذه المسألة فقال: "إذا شرع القارئ بقراءة فينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به".
سادساً: قول الإمام أبي إسحاق الجعبري
ذهب إلى القول بحرمة التركيب بين القراءات إذا تعلقت إحداهما بالأخرى، وبالكراهة إذا انتفى التعلق وجاء هذا صريحاً فيما نقله عنه ابن الجزري حيث قال: "والتركيب ممتنع في كلمة وفي كلمتين إن تعلق أحدهما بالآخر وإلا كره".
ويظهر من هذه الأقوال التي قمنا بسردها أن خلاصة الآراء في المسـألة كالتالي:
1- رأي بالجواز ويمثله ابن العربي والنووي وابن الصلاح غير أن هذا الأخير يعده خلاف الأولى.
2- رأي بالمنع ويمثله السخاوي.
3- رأي بالمنع حال تعلق الأحرف ببعضها، والجواز في غير ذلك على خلاف بين أصحاب هذا القول في اعتبار التركيب مكروهاً أو خلافاً للأولى أو فيه التخيير مطلقاً.
المطلب الثاني: قول ابن الجزري وتقويمه
أولا: قول ابن الجزري
لقد تعرض ابن الجزري إلى هذه المسألة في كتابه النشر وبيَّن خلاف العلماء فيها ثم بسط رأيه الذي اختاره وارتضاه فقال: "والصَّواب عندنا في ذلك التفصيل والعدول بالتوسط إلى سواء السبيل فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنع من ذلك منع تحريم كمَنْ يقرأ "فتلقى آدم من ربه كلمات" بالرفع فيهما أو بالنصب آخذاً رفع (آدم) من قراءة غير ابن كثير ورفع (كلمات) من قراءة ابن كثير، ونحو: "وكفلها زكريا" بالتشديد مع الرفع أو كسر ذلك، ونحو: "أخذ ميثاقكم" وشبهه مما يركب بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة، وأما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها، فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضاً من حيث إنه كذب في الرواية وتخليط على أهل الدراية، وإن لم يكن على سبيل النقل والرواية بل على سبيل القراءة والتلاوة فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه ولا حظر، وإن كنا نعيبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات من وجه تساوي العلماء بالعوام، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام إذ كلٌ من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم) تخفيفاً عن الأمة".
ويظهر من خلال هذا النص أن ابن الجزري لم يعط المسألة حكماً واحداً وإنما آثر تفصيل أحكامها بحسب أحوال القراءة.
وكان تفصيله كالتالي:-
1- الحكم بالتحريم مطلقاً إذا كانت الأحرف مرتبطة ومتعلقة ببعضها.
2- الحكم بالتحريم مطلقاً أيضاً إذا كانت التلاوة على سبيل الرواية والنقل.
3- الحكم بالإباحة مطلقاً في غير ذلك من الأحوال غير أنه رأى أن التركيب في هذه الحالة يُعاب على أهل الصنعة وأصحاب الفن فهو عيبٌ صناعي لا عيبٌ شرعي.
ثانيا: تقويم رأي ابن الجزري
يُعد رأي ابن الجزري رأياً مُستفاداً من أراء سابقيه بعد تنقيحها والإضافة عليها، حيث نجده خلص برأي وسط جمع فيه ما استقام من تلك الأراء وطرح منها ما لم يستقم.
فقوله بالتحريم حال تعلّق الحروف ببعضها يوجه بأن ذلك لا تجيزه العربية ولا يصح عند أهل اللغة، ولأن ذلك يؤدي إلى فساد السياق اللغوي فيضيع به المعني القرآني ويوقع في التحريف اللفظي والمعنوي للقرآن الكريم.
وأما منعه للتركيب حال القراءة على سبيل النقل والرواية فوجيه جداً، وذلك لأن القارئ على سبيل الرواية هو ناقل لرواية الراوي الذي يقرأ له، وإذا ما ركب فيها قراءة راو آخر فإنه يقع بذلك التخليط بين الروايتين وهو ما عدَّه ابن الجزري كذباً حيث يروي عن الراوي حرفاً لم يقرأ به، وينسب إليه ما ليس من قراءته.
وهذا مِمَّا أضافه الجزري على أقوال سابقيه حيث لم نجد منهم مَنْ نص على حكم هذه الحالة، وهو ما يعتبر الجديد في المسألة وأما في غير هاتين الحالتين حيث لا تعلق بين الأحرف ولا قراءة على سبيل النقل والرواية فالجواز مطلقا إذ ليس هناك ما يؤدي إلى تحريف معنى ولا كذب في رواية ولا تخليط على أصحاب دراية، ولأن هذا هو المقصود من إنزال القرآن الكريم على سبعة أحرف حيث قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه" وعضد ابن الجزري رأيه بما روي بسند صحيح أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ليس الخطأ أن يقرأ بعضه في بعض ولكن الخطأ أن يلحقوا به ما ليس منه، وليس التخليط في القراءات عند عدم التعلق والترابط إلا قراءة لبعض في بعض.
ولا شك أن هذا الرأي متوافق مع واقع الصحابة -رضي الله عنهم- وواقع التابعين -رحمهم الله- حيث كانوا يقرؤون القرآن بما تيسر لهم من أحرفه السبعة التي أنزل عليها، ولم تكن -بعد- هذه القراءات والروايات المعروفة قد اختارها أصحابها وضبطوها على الشكل الذي استقرت عليه.
ولسداد هذا الرأي ودقة تفصيلاته وسلامته من الاعتراض نقله واعتمده مَنْ جاء بعد ابن الجزري من الأئمة نحو: القسطلاني والصفاقسي والنويري وغيرهم.