مـحـبـة الـعـبـد لـربـه:
محبة العبد لربه من أعظم واجبات الإيمان عند أهل السُنّة وأكبر أصولها وأجل قواعدها، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان ولوازمه، والله سبحانه وتعالى يُحِب أن يُحَب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه ويحب الوسيلة تبعًا لذلك.
وقد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العبد لربه كما في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" (البقـرة: 165)، أشد حبًا من حب الأتباع لمتبوعيهم.
وقال: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ".
وقد جعل النبي –صلى الله عليه وسلم– تقديم محبة الله ورسوله على غيرهما من خصال الإيمان ومن علامات وجود حلاوة الإيمان: « ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه فقد وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مِمَّا سواهما...» الحديث متفق عليه، ولا شك أن هذا أعظم الحب، فإن وجود حلاوة الإيمان بحب الله عمَّنْ سواه، ووجود محبة الرسول من محبة الله، وهذا يقتضي كمال الذُّل والخضوع، وهو أصل دعوة الرُّسل: فإفراد الله "بالإلهية" المتضمنة لمحبة الله وحده من كل وجه وليس شيء يُحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكذلك لا تصلح "الإلهية" إلا له، ذلك لأن "التأليه": المحبة والطاعة والخضوع، والإله هو الذي يألهه العباد حبًا وذلاً ورجاءً وتعظيمًا وطاعة، وأصل "التأله": التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب.
فإن أول مراتب الحب:
العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ثم العشق، ثم الشوق ثم التيم وهو التعبد.
ومحبة العباد على نوعين:
1) محبة محمودة:
وهي محبة الله، وهي أصل السعادة ورأسها، ولا تكتفي هذه وحدها للنجاة من عذاب الله والفوز بثوابه؛ فإن المشركين واليهود وعبَّاد الصليب وغيرهم يحبون الله.
فلابد إذن من:
أ- محبة ما يحبه الله:
وهذه هي التي تُدخل الإسلام وتخرج من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.
ب- الحب لله وفيه:
وهي من لوازم ما يحبه الله.
2- محبة مذمومة:
وهي المحبة مع الله، هذه محبة الكافرين الذين اتخذوا أوليائهم أندادًا من دون الله، فهذه من أعظم أنواع المحبة المذمومة.
والمحبة أصل كل عمل ديني، وكل عمل ديني متضمن للمحبة مع الذلّ، والعبادات وسائل تقرب إلى المحبوب، فمحبة العبادات والطاعات علامة لمحبة الله، وإلا فمن لا يحب الله لا يحب طاعته وعبادته، فالذي يعمل بِعِوَض –مثلاً– لينال منه خيرًا أو لدفع عقوبة عنه فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له، فمحبة الله لا تعلق لها بمجرد العوض، فقد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال، فعلم أن ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أن يكون معناه مجرد محبة العمل الذي يناله به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلاً.
فالخوف والرجاء والإنابة والتوكل والخشوع والخضوع وغير ذلك من العبادات مستلزمة للمحبة – فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من الخوف لينال محبوبه، ولهذا كانت الجنة دار المحبين، وهي اسم جامع لكل خير، ومن ذلك الخير التمتع بالنظر إلى وجه الرب المحبوب.
وهنا يتبيّن زوال الاشتباه في قول مَنْ قال:
"ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك".
فإن هذا القائل ظنَّ هو ومَنْ تبعه أن الجنة لا يدخل في مُسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسَّماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، فعلم أن الجنة هي: الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيه: النظر إلى وجه الله تعالى وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة.
فاستوجب هنا حب الله بفعل أوامره واجتناب ما نهى عنه وزجر وتحمل المشاق وإيثار ذلك على أغراض الدنيا ولهذا قيل: مَنْ عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومَنْ عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومَنْ عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومَنْ عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن.
ولا شك أن ذكر الله من أعظم الوسائل التي تثمر عنها المحبة والمحبة إذا لم تكن مقترنة بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها، بل قد تضره، لأنها توجب الإذلال والانبساط، وربما زلت بكثير من الجهال إلى أنهم يستغنون بها عن الواجبات باعتقادهم أن القصد من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل!
* * *
الـجـهـــــاد:
الحب يتطلب الجهاد وبذل النفس والنفيس من أجل المحبوب ولأن المحب يحب ما يحبه محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه فهو موافق له في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته.
ومن المعلوم أن مَنْ أحب الله الحب التام والحب الواجب فلابد له من بغض أعدائه وأهل معصيته يبغضهم بقدر معصيتهم، فصاحب الكبيرة مبغوض أكثر ممن أتى بالصغائر وهكذا.. نحب الشخص بقدر ما فيه حبًا لله ولرسوله ونبغضه بقدر ما يكون بعيدًا عن الله ورسوله.
ومَنْ أحب الله لا يجوز له موالاة ومحبة مَنْ حآد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، فإن حب الله يفسده مودة الكافرين.
وإذا علم تحريم موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم، فليعلم أيضًا أن الأسباب الجالبة لمودتهم كثيرة منها: مصافحتهم وزيارتهم وتولي أعمالهم والتزيي بزيهم والفرح بأعيادهم والتأدب بآدابهم وتعظيمهم بالقول والفعل:
أتحب أعداء الحبيب وتدَّعي
حبًا له ما ذاك في إمكان
شرط المحبة أن توافق من تحب
على محبته بلا عصيان
فإذا ادَّعيت له المحبة مع
خلافك مما يحب لأنت ذو بهتان
وحاصل ما تقدم أن مَنْ أحب قومًا حُشر معهم.
وجاء رجل لرسول الله –صلى الله عليه وسلم– وهو يخطب على المنبر فقال له متى الساعة؟ فقال له النبي: «ما أعددت لها؟» قال الرجل: والله يا رسول الله ما أعددت لها كثير صوم ولا صلاة، لكني أحب الله ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنت مع مَنْ أحببت».
لـمـاذا نـحـب اللـه؟
أفضل نعمة يرجع بها العبد لربه نعمة الخلق والإيجاد ثم الهداية، وأسرع دواعي المحبة ورودًا على الذهن هي تلك النعم التي يخوض العبد فيها خوضًا، وهي على كثرتها وسعتها محصورة به سبحانه: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" (النحل: 18)، "وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ" (النحل: 53).
وهذه المحبة أيضًا متولدة من الإدراك الكامل لقدرة الله وجماله وجلاله ولطفه وإحسانه وجمال خلقه وإبداعه في عزة وإتقان "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (سورة النمل).
إن شئت في فلك أو شئت في ملك
أو شئت في مدر أو شئت في حجر
فالكل ينطق أن الله خالقه
وهو المليك ورب النفع والضرر
وقال آخر:
يقولون أين الله أين عجائبه
وذا الكون سِفر واضح وهو كاتبه
فأي امرئٍ في الجوِّ يرسل طرفه
إذا ما بدت أقماره وكواكبه
عجائب ربي في الأنام كثيرة
ولكن جهل المرء لا شك غالبه
فاغتباط القلب واطمئنانه إلى محبوبة المنعم المفيض من خلال آياته في الكون لأعظم برهان وأكبر دليل على حب الله، فيصبح القلب بذلك مشغولاً به ذاكرًا له، يجد لذة الارتياح في طاعته وعدم مخالفته ولا ضائق به صدره إذا ناله شيء في سبيله صابرًا محتسبًا غير متبرِّم به.
* وتتلخص محبة العبد لربه والأسباب الجالبة لها بالآتي:
1) معرفة نعم الله عليه وعظيم كرمه ومنّه ومطالعة ذلك: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..." (النحل: 18).
2) معرفة الله وحب سماع أسمائه وأوصافه – والإيمان بعلو الله المطلع على كل شيء ليكون في القلب إمامًا يقصده ويتقرب إليه ويتوجه إليه فمن عرف الله أحبه ومن أحبه أطاعه، فطاعة المحبوب عنوان محبته.
تعصى الإله وأنت تزعم حبه
هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
3) محبة الأذكار والاشتغال بها على كل حال:
فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، وكذلك محبة القرآن الجالبة لحبه وتدبره وتفهم معانيه، بحيث يُغني سماعه عن سماع غيره.. وعلى مدى محبة الله تكون محبة كلامه، فمن أحب محبوبًا أحب حديثه والحديث عنه كما قيل:
إن كنت تزعم حبي
فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيه
من لذيذ خطابي
4) اتباع الرسول –صلى الله عليه وسلم– فيما أمر وفيما نهى وتقديم محابه على محاب النفس عند غلبات الهوى.
5) الجهاد في سبيل الله تعالى.
6) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
7) محبة الناس له دليل على محبة الله تعالى له ووضع محبته في قلوب الناس.
الشعور بالحاجة إلى هداية الله له والفقر إليه في كل لحظة.
9) انكســار القلـب بالكلية بين يدي الله تعالى والإذلال له، وهذا من أعظمها..
تذلَّل لِمَنْ تهوى لتكسب عزّه
فكم عزةٍ قد نالها المرء بالذُّل
10) محبة الخلوة وقت النزول الإلهي لمناجاته ولتلاوة كلامه.
يقول تقي الدين بن شقير: خرج شيخ الإسلام بن تيمية يومًا فخرجت خلفه، فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس بحيث لا يراه أحد سمعته يتمثل بقول الشاعر:
وأخرج من بين البيوت لعلَّني
أحدث عنك القلب بالسِّرُّ خاليًا
وكل حبيب ذاكر لحبيبه
يرجى لقاه كل يوم ويطمع
11) الغيرة على محارم الله وأقوى الناس حبًا أعظمهم غيرة، وأقلها أن يغار على نفسه وهواه وشيطانه.
يتبع إن شاء الله...