مقدمة[/center">
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له ولن تجد له وليًا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته وسائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،،
فإن القضية التي ننتصب لبيانها في هذا البحث الموجز هي منزلة الصحابة في القرآن، وشهادة الله لهم بحقيقة الإيمان، وتبشيره لهم بالرحمة والرضوان، والنعيم المقيم في جنات النعيم.
ولقد كان العلم بهذه القضية من الانتشار والذيوع حتى أصبحت من المعلوم من الدين بالضرورة يعرفها العلماء والعوام، ويدين بها الخاصة والعامة، ولا يتصور جهلها أو الجحد بها من أحد.
إلا أن طائفة من المنتمين إلى الإسلام قد خرجت على هذا الإجماع المستيقن فسبت أصحاب رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، ونسبتهم إلى ما لا يليق بهم من الشنائع والمنكرات، بل إلى ما شهد لهم بنقيضه في آياته المحكمات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوز ذلك إلى أن شهدوا عليهم –إلا قليلاً منهم– بالكفر والردة بل وإلى الطعن في مصادر الشريعة الثابتة لما تضمنته من أدلة تدين هذا الشطط وتدك معاقله مخالفين بذلك النصوص المحكمة في الكتاب والسنة وحقائق تاريخ الأمة، ثم تلا ذلك سيل من البدع والمفتريات.
ولسنا بصدد البحث التفصيلي لهذه المعتقدات فذلك أكبر من أن تحيط به هذه الصفحات القلائل، وإنما أردنا فقط أن نتناول بالبيان منزلة الصحابة في القرآن معتمدين في ذلك على شهادة القرآن في المقام الأول، لأن القوم لا يزالون يعلنون في كل محاجة إنهم يؤمنون بالقرآن، وأن ما ينسب إليهم من القول بتحريفه محض افتراء وبهتان.
فهلم إلى آيات القرآن نستمع من خلالها إلى شهادة رب العالمين بما كان عليه أصحاب رسول الله من الهدي والحق المبين، وبأنهم خير أمة أخرجت للناس أجمعين، وإلى ما بشروا به من الفوز العظيم في جنات النعيم.
قال تعالى: "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" [الأنعام: 19].
وإننا نهيب بمن يقرأ هذا البحث ممن زلت به القدم في شيء من هذه المهلكات أن يقبل على آيات الله يتدبرها تدبر الطالب للحق، المتحرر من أسر الهوى والشهوة الخفية الموقن بأن الله يجمع الناس ليوم لا ريب فيه ليسألهم جميعًا ماذا أجبتم المرسلين؟ فتبيض وجوه وتسود وجوه؟
كما نأمل أن يدرك بأن الهدف من هذا البحث هو مجرد إحقاق الحق وإبطال الباطل بعيدًا عن شبهة التشويه والتجريح، أو الانتصار لاتجاه سياسي أو لآخر.
فعلم الله ما تحرك القلم إلا حبًا لله ورسوله وما خططنا سوادًا في بياض إلا نصحًا لله ورسوله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ولأئمة المسلمين وعامتهم، وحرصًا على أن تجتمع على الحق كلمة المسلمين، وشلت يد تعمد إلى آيات الكتاب فتطوعها خدمة للطواغيت أو انتصارًا لشهوة من شهوات الدنيا!!
فإلى القرآن أيها المؤمنون بالقرآن، نرد إليه ما شجر بيننا من خلاف والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمة تصاغ لأعظم مهمة:
لقد صاغ الله عز وجل أصحاب رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أعظم صياغة ليكونوا وزراء نبيه وحملة رسالته من بعده.
قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" [الحجرات: 7].
فلكي يتأهلوا لشرف الصحبة أعدهم الله ذلك الإعداد الرفيع فحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدون كما تنطق الآية الكريمة.
ولقد زاغ عن الحق فريق من الجهلاء فزعموا أن أصحاب محمد -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ما بين كافر وفاسق وعاص! إلا نفراً قليلاً منهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين!
فمن نصدق يا أولي الألباب؟
أنصدق شهادة القرآن لهم بالرشد والإيمان؟
أم شهادة القوم عليهم بالكفر والفسوق والعصيان؟
خير أمة أخرجت للناس:
قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" [آل عمران: 110].
فقد جعلهم الله خير أمة، وذلك لما قاموا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما وقر في قلوبهم من الإيمان بالله، وزعم فريق من الجهلاء أنهم شر أمة، يخونون أمانة الله، ويتواطؤون على الظلم والعدوان وينقلبون على أعقابهم إلى الكفر والجاهلية! فمن نصدق إذن؟
أنصدق القرآن في شهادته لهم بالإيمان والخيرية؟
أم نصدق القوم في شهادتهم عليهم بالخيانة والجاهلية؟
أجيبوا يا أولي الألباب!!
وقال تعالى: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [آل عمران: 101].
فالكفر بعيد الوقوع من هذه الأمة الربانية التي يصوغها الله هذه الصياغة الفريدة لحمل أمانة هذا الدين للقيام بدعوة خاتم المرسلين.
كيف يكفر هؤلاء وقد كرَّه اللهُ إليهم الكفر؟ بل كيف يكفرون وعليهم تُتلى آيات الله وفيهم رسوله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؟
الشهادة لهم بحقيقة الإيمان:
لقد شهد الله لأصحاب نبيه من المهاجرين والأنصار بحقيقة الإيمان في مواضع شتى من القرآن الكريم.
قال تعالى: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال: 74].
وقال تعالى: "وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ" [الأنفال: 62].
وفي هذه الآية يذكر الله نعمته على نبيه -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار.
وفيها دلالتان:
الأولى:
الشهادة لهم بحقيقة الإيمان لأنها شهادة العليم الخبير.
الثانية:
أنهم جيش تحققت بهم النصرة وليسوا أفرادًا قلة كما يزعم الزاعمون.
وقال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
وفي الآية دلالتان:
الأولى:
أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس.
الثانية:
أن سبب ذلك هو ما اتصفت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والصحابة هم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب بلا نزاع لأنهم أول من خوطبوا به.
وقال تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر: 8-10].
وفي هذه الآيات بيان لحال المستحقين للفيء من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان.
- وقد أثنى الله في الآية الأولى على المهاجرين بأنهم أخرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه، وبنصرتهم لله ورسوله، ثم شهد لهم بالصدق في نهايتها.
- ثم أثنى على الأنصار بحبهم لإخوانهم المهاجرين، وسلامة أنفسهم من الحسد لهم، وإيثارهم لهم على أنفسهم، ثم أشار إلى فلاحهم وذلك في الآية الثانية.
- ثم أثنى على الذين جاؤوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلا للسابقين من المؤمنين.
وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الأخيرة إن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء.
وإذا ولينا وجهنا شطر النصوص التفصيلية فإننا نجد شهادة القرآن لكثير من أصحاب رسول الله بالإيمان في مختلف المواقع والمواقف التي تفيد في مجموعها ما تفيده النصوص العامة من الشهادة لمجموعهم بالإيمان، ولم لا؟ وقد خوطب الصحابة بوصف الإيمان في القرآن ما يقرب من تسعين مرة!
قال تعالى متحدثًا عن أهل بدر: "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران: 124 - 125].
وقال عنهم في موضع آخر: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ" [الأنفال: 11 - 12].
وقال تعالى: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال: 17].
وقال تعالى: "قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ" [آل عمران: 13].
والآية تشير إلى اللقاء الذي وقع بين المسلمين وبين المشركين يوم بدر وفيها شهادة من الله لأصحاب بدر بخلوص نيتهم، وأنهم ما قاتلوا يوم ذلك حمية ولا شجاعة ولا لترى أماكنهم وإنما قاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فأيدهم الله بنصره والله يؤيد بنصره من يشاء.
وقال في مَنْ شهدوا أُحدًا: "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [آل عمران: 121-122].
"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران: 152].
وقال فيهم وقد ندبهم رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لتعقب القوم بعد انتهاء المعركة: "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" [آل عمران: 172 – 174].
وقد كان ذلك يوم (حمراء الأسد) وذلك إن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم فلما استمروا في سيرهم ندموا أنهم لم يجهزوا على أهل المدينة ويجعلوها الفيصلة فلما بلغ ذلك رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم إن بهم قوة وجلدًا، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والاثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فانزل الله هذه الآيات.
وقد يقول قائل:
إن الله عز وجل قد ذكر أن فيهم مَنْ يريد الدنيا وذلك في قوله تعالى: "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ".
والجواب:
إن ذلك لا يقدح في حقيقة إيمانهم وذلك بدلالة بقية الآية: فقد ذكر الله بعد ذلك أنه قد عفا عنهم، وأشار إلى أن ذلك العفو كان فضلاً منه عليهم بسبب إيمانهم.
فقال تعالى: "وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ". وقال فيمَنْ شهدوا صلح الحديبية وانقادوا لحكم الله ورسوله وكانوا أربع عشرة مائة: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا" [الفتح: 4-5].
وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ" مرجعه من الحديبية قال النبي -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لقد أنزلت عليَّ آية أحبَّ إليَّ ممَّا على الأرض، ثم قرأها عليهم النبي -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقالوا: هنيئًا مريئًا يا نبي الله، بيَّن الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: "لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، حتى بلغ: "فَوْزًا عَظِيمًا".
وهؤلاء هم أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم:
"لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [الفتح: 18-19].
وسبب هذه البيعة ما هو معروف في كتب السيرة من أن رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قد أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه ليُخبر قريشًا إنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومُعظمًا لحُرمته فاحتبسته قريشٌ عندها، وبلغ رسول الله إن عثمان قد قتل فقال -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة تلك البيعة التي لم يتخلف عنها أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس، وكان عدد الصحابة الذين بايعوا رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يومئذ ألفا وأربعمائة كما يرويه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه.
وفي هذه الآيات التي نزلت بشأن هذه البيعة:
- يعلن الله رضاه عن أصحاب هذه البيعة، ولذلك سميت بيعة الرضوان: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ".
- يزكي قلوبهم وما وقر فيها من الوفاء والصدق بقوله: "فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ".
- يرتب على رضاه عنهم وعلمه بما في قلوبهم ما أنعم عليهم به من سكينة وفتح ومغانم فقال تعالى: "فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا".
وهؤلاء أيضًا هم الذين ألزمهم الله كلمة التقوى –كلمة التوحيد– وكانوا أحق بها وأهلها.
قال تعالى:
"إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" [الفتح: 26].
ومن أصحاب رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مَنْ آمن من أهل الكتاب وفيهم نزل قوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" [آل عمران: 113 - 115].
والمشهور عند كثير من المفسرين إن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسيد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم، وقد شهد الله لهم فيها بالصلاح والإيمان بالله واليوم الآخر وغير ذلك من خصال الخير وشعب الإيمان.
أوصافهم في القرآن:
المؤمنون حقًا:
قال تعالى: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال: 74].
الراشدون:
قال تعالى: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" [الحجرات: 7].
الفائزون:
قال تعالى: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [التوبة: 20].
الصادقون:
قال تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحشر: 8].
رضي الله عنهم ورضوا عنه:
قال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة: 100].
أهل التوبة والرحمة:
قال تعالى: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة: 117].
المبشرون من ربهم:
قال تعالى: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ" [التوبة: 20-21].
خير أمة أخرجت للناس:
قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [color=#ff0000]