فصل فيما فى الشرك والزنا واللواطة من الخبث:
وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث فى كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذى وقع فى القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقوله تعالى فى حق اللوطية: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِى كانَتْ تَعْمَلُ الخبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين} [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له.
وقال تعالى فى حق الزناة:
{الخبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالَخبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26].
فأما نجاسة الشرك فهى نوعان:
نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة.
فالمغلظة:
الشرك الأكبر الذى لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
والمخففة:
الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه.
ونجاسة الشرك عينية.
ولهذا جعل سبحانه الشرك نَجَساً، بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجس، بالكسر، فإن النجس عين النجاسة، والنجس، بالكسر، هو المتنجس.
فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نجس.
والبول والخمر نجس.
فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم.
فإن النجَس فى اللغة والشرع هو المستقذر الذى يطلب مباعدته والبعد منه، بحيث لا يلمس ولا يشم ولا يرى، فضلا أن يخالط ويلابس لقذارته، ونفرة الطباع السليمة عنه.
وكلما كان الحى أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى.
فالأعيان النجسة إما أن تؤذى البدن أو القلب، أو تؤذيهما معا، والنجَس قد يؤذى برائحته، وقد يؤذى بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.
والمقصود:
أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحى ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشم رائحة النَّتْن، ويظهر ذلك كثيرا فى عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا.
فإن نَتْن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره.
والعرق يفيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أطيب الناس عرقا.
قالت أم سليم، وقد سألها رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه وهى تلتقطه "هو من أطيب الطيب" فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد.
والنفس الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
والمقصود:
أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه.
ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائرَة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهمْ وَأعَد لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح: 6].
فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره فى ثلاثة مواضع من كتابه وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته؟
قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يَحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165].
وقال تعالى:
{الحمدُ لِلّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أى يجعلون له عَدْلا فى العبادة والمحبة والتعظيم.
وهذه هى التسوية التى أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا، وهم فى النار، أنها كانت ضلالا وباطلا، فيقولون لآلهتهم وهم فى النار معهم: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98].
ومعلوم أنهم ما سووهم به فى الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وأنها تحيى وتميت، وإنما سووها به فى محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام.
ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا، بل قد حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم فى الشفاعة، فليس لهم من الأمر شىء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولى ولا شفيع.
فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى، ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86-87 ].
وإن كان المعنى:
ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له ندا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟ فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه: من وزير، أو ظهير، أو عون.
وهذا أعظم التنقيص لمن هو غنى عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أو لا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفى عبده وحده، أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به، وتكثره به من القلة، وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق.
أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقا، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته، وكل هذا تنقص للربوبية، وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، من قلب المشرك، بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء، بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه- لكفى فى شناعته.
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه فى العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية.
فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك.
كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة.
فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، أو يزعم أنها هى السنة، وإن كان مستبصرا فى بدعته فهو مشاق لله ورسوله.
فالمتنقصون المنقوصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه:
هم أهل الشرك والبدعة لاسيما من بَنَى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين، ولا تغنى من اليقين والعلم شيئا.
فيالله للمسلمين، أى شىء فات من هذا التنقص؟.
وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى، خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه نفسه من الكمال.
والمقصود: أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص فى الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصا، لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا أن تنقصهم هو الكمال.
ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك فى كتاب الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِنّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْىَ بغير الَحْقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فالإثم والبغى قرينان، والشرك والبدعة قرينان.
فصل
وأما نجاسة الذنوب والمعاصى، فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل.
ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة، كالنجاسة فى محل الاستجمار، وأسفل الخف، والحذاء، وبول الصبى الرضيع وغير ذلك، مالا يعْفَى عن المغلظة.
وكذلك يعفى عن الصغائر ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذى لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك فلو لقى الموحد الذى لم يشرك بالله شيئا البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك.
فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوى فلا تثبت معه، ولكن نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاء، فكلما كان الشرك فى العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، لاسيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعى فى مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعى فى مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق فى مرضاته ما لا ينفقه فى مرضاة الله، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه: حبا، وخضوعا، وذلا، وسمعا، وطاعة.
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوى شرك العبد بُلىَ بعشق الصور، وكلما قوى توحيده صرف ذلك عنه.
والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لِتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده.
فليس فى الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية فى تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال المسيح عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد فى كتاب الزهد: "لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء"، ولما كانت هذا حال الزنا كان قريبا للشرك فى كتاب الله تعالى.
قال الله تعالى:
{الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرمَ ذلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
والصواب:
القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شىء، وهى مشتملة على خبر وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة، والذى أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: {الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] هل هو خبر أو نهى، أو إباحة؟
فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزانى أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له فى نكاح المشركات والزوانى، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه.
فقال بعضهم:
المراد من النكاح الوطء والزنا، فكأنه قال: الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة.
وهذا فاسد، فإنه لا فائدة فيه، ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك، فإنه من المعلوم أن الزانى لا يزنى إلا بزانية، فأى فائدة فى الإخبار بذلك؟ ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه.
ثم قالت طائفة:
هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهى عناق البَغِى وصاحبها فإنه أسلم، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نكاحها فنزلت هذه الآية.
وهذا أيضاً فاسد، فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها.
وقالت طائفة:
بل الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32].
وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين، ولا تناقض إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة، وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ فى هذا؟.
فإن قيل: فما وجه الآية؟.
قيل:
وجهها، والله أعلم، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه فى سورتى النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفى عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذى شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه، لم يصح النكاح، فيكون زانيا، فظهر معنى قوله: {لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة.
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة.
ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانًا دَيُّوثا زوج بغى، فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا فى سب الرجل قالوا زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك.
فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية، والله الموفق.
ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذى يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذى جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم، وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنا يفضى إلى اختلاط المياه، واشتباه الأنساب، فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية، حتى تتوب وتستبرأ.
وأيضاً فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له، والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الاثنان المتشابهان، والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعاً وقَدَرًا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد، فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة.
فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزانى البارحة، وقال: ماء الزانى لا حرمة له، فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزانى فى رحم واحد؟
والمقصود:
أن الله سبحانه سمى الزوانى والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء.
فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرًا لبدنه بالماء.
وقول اللوطية:
{أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].
من جنس قوله سبحانه فى أصحاب الأخدود:
{وَمَا نَقَموا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحمِيدِ} [البروج: 8] وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59].
وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع: إنما ينقم على السنى تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء
الرجال، ولا بشىء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
إذَا لَمْ يَكُنْ بُد مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ عَلَى الحقِّ ذَاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ.