| المجلد الثاني | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 7:33 pm | |
| فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة: ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد وتخليل الخمرة ناقلا للحكم بتحريمها وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام فلا يقبل قول المعترض إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم حينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة.
فصل ما لم يبطله الشارع من الشروط صحيح: الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه فهو عفو فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه.
وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وهذا كثير في القرآن وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر" وفيه من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج" وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال: "بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقى في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن إرجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع" قال: فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدا فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه؟" فقالت: أعطيه تمرا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة" وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام وهذا عقد كان قبل الشرع وقال ابن وهب ثنا هشام بن سعد عن يزيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وأي المؤمن واجب" قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة" قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لصبي تعال هذا لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة" وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: "المؤمنون عند شروطهم" وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه: "الناس على شروطهم ما وافق الحق" وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم.
فصل أجوبة المانعين: وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارة بنسخها وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كاتب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" وكقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ونظائر هذه الآية.
قالوا: فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته قالوا: وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة: إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله أو تحريم ما أباحه أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه ولا خامس لهذه الأقسام البتة فإن ملكتم المشترط والمعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملك ولن تجدوا إليه سبيلاً.
فصل الجمهور يرد على أجوبة المانعين: قال الجمهور: أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله ولا يحل العمل بها وتجب مخالفتها وليس معكم برهان قاطع بذلك فلا تسمع دعواه وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم؟ وأما تخصيصها فلا وجه له وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله، وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة.
وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله" ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه كقوله: "كتاب الله عليكم" وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص في كسر السن" فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وحكمه الذي حكم به على لسان رسوله ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حكم بأن الولاء للمعتق فشرط خلاف ذلك يكون شرطاً مخالفاً لحكم الله ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده.
وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق وهو ما أباح الله سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياه فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حرما عليه أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا أو يسقطه بعد وجوبه وليس في ذلك تغيير لأحكامه بل كل ذلك من أحكامه فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراما عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبا عليه من حقوقها كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط فإذا ملك تغيير الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له وقد قال تعالى{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فأباح التجارة التي ترضى بها المتبايعان فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزما ولا ألزمهما الله ولا رسوله به ولا يجوز إلزمها بما لم يلزمها الله ورسوله به ولاهما التزامها ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه ومحرم الحلال كمحلل الحرام فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله وكلا القولين خطأ بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه وبالله التوفيق.
أخطاء أصحاب القياس: وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس وتارة يقدمون النص وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس فكان خطؤهم من خمسة أوجه أحدهما ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث الثاني معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس الثالث اعتقادهم في كثير من الأحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس والميزان هو العدل فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام الرابع اعتبارها عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه الخامس تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضاً.
ونحن نعقد ههنا ثلاثة فصول: الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص. الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح وليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو عام الرسالة إلى كل مكلف فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله فكما لا يخرج أحد عن رسالته فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له ونحن نعلم أنا لا نوفي هذه حقها ولا نقارب وأنها أجل من علومنا وفوق إدراكنا ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها وينهج طرقها والله المستعان وعليه التكلان.
الفصل الأول شمول النصوص وإغناؤها عن القياس: وهذا يتوقف على بيان مقدمة وهي أن دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر علي من فهم من قوله: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر" شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه" بطر الحق وغمط الناس" وأنكر على من فهم من قوله "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذا فهمت من قوله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين إن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ولبس الشيء بالشيء تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر ومن هذا قوله تعالى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به ومع أن سياق قوله {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى فدل على أن الظلم الشرك وسأله عمر ابن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال تكفيك آية الصيف واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها وفهمها الصديق وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية وفهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا وفهمت المرأة من قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به وفهم ابن عباس من قوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أن المرأة قد تلد لستة أشهر ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها حتى ذكره به ابن عباس فأقر به ولم يفهمه عمر من قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق فأقر به وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه الله من المطاعم فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما وقد فهم من قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} انغماس الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات الله وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها وقال الصديق رضي الله عنه: "أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده" فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}.
فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم وأيضا فإن الله سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه وهذا لا يتناول الساكتين قطعا فلما بين عكرمة لان عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السورة قالوا أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس ما تقول أنت قال هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه فقال ما أعلم منها غير ما تعلم وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه وهذا ليس بسبب للاستغفار فعلم أن سبب الاستغفار غيره وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه ويدل عليه أيضا قوله فسبح بحمد ربك واستغفره وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتم الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا وشرع للمتوضيء بعد كمال وضوئه أن يقول اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها.
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به وهذا كما فهم ابن عباس من قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أن المرأة قد تلد لستة أشعر وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد دله ولا والد وأسقط الإخوة بالجد وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال: "يكفيك آية الصيف" وإنما أشكل على عمر قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الآية فدله النبي صلى الله عليه وسلم على ما يبين له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا، ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السلف ومن بعدهم وقد بينتها النصوص ومسائل قد احتج فيها بالقياس وقد بينها النص وأغنى فيها عن القياس. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:32 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 8:00 pm | |
| المسألة المشتركة في الفرائض: المسألة الأولى: المشتركة في الفرائض وقد دل القرآن على اختصاص ولد الأم فيها بالثلث بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وهؤلاء ولد الأم فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث بل يزاحمهم فيه غيرهم فإن قيل بل ولد الأبوين منهم إلغاء لقرابة الأب قيل هذا وهم لأن الله سبحانه قال في أول الآية: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ثم قال: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فذكر حكم واحدهم وجماعتهم حكما يختص به الجماعة منهم كما يختص به واحدهم وقال في ولد الأبوين: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فذكر حكم ولد الأب والأبوين واحدهم وجماعتهم وهو حكم يختص به جماعتهم كما يختص به واحدهم فلا يشاركهم فيه غيرهم فكذا حكم ولد الأم وهذا يدل على أن أحد الصنفين غير الآخرين فلا يشارك أحد الصنفين الآخر وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين أو الأب بالإجماع والأول هو ولد الأم بالإجماع كما فسرته قراءة بعض الصحابة "من أم" وهي تفسير وزيادة إيضاح وإلا فذلك معلوم من السياق ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين وهم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه ولا حظ لأحد منهم في التعصيب ولم يذكر فيها أحد من العصبة بخلاف ما ذكر في آية العمودين الآية التي قبلها فإن لجنسهم حظا في التعصيب ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين {غَيْرَ مُضَارّ} ولم يقل ذلك في آية العمودين فإن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرار الزوج وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضارهم في العادة فإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجز تنقيصهم منه وأما ولد الأبوين فهم جنس أخر وهم عصبته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" وفي هذه المسألة لم تبق الفرائض شيئا فلا شيء للعصبة بالنص وأما قول القائس: "هب أن أبانا كان حمارا" فقول باطل حسا وشرعا فإن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا وإذا قيل يقدر وجوده كعدمه قيل هذا باطل فإن الموجود لا يكون كالمعدوم وأما بطلانه شرعا فإن الله سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم.
فإن قيل: الأب أن لم ينفعهم لم يضرهم.
قيل: بل قد يضرهم كما ينفعهم فإن ولد الأم لو كان واحدا وولد الأبوين مائة وفضل نصف سدس انفرد ولد الأم بالسدس واشترك ولد الأبوين في نصف السدس فهلا قبلتم قولهم ههنا هب أن أبانا كان حمارا وهلا قدرتم الأب معدوما فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص وإذا جاز أن ينقصهم الأب جاز أن يحرمهم وأيضا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرق أحكامها هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها فالأخ من الأبوين لا نجعله كأخ من أب وأخ من أم فنعطيه السدس فرضا بقرابة الأم والباقي تعصيبا بقرابة الأب.
فإن قيل: فقد فرقتم بين القرابتين فقلتم في ابني عم أحدهما أخ لأم يعطي الأخ للأم بقرابة الأم السدس ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة.
قيل: نعم هذا قول الجمهور وهو الصواب وإن كان شريح ومن قال بقوله أعطى الجميع لابن العم الذي هو أخ لأم كما لو كان ابن عم الأبوين والفرق بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بنوة العم سواء وأما الأخوة للأم فمستقلة ليست مقترنة بأبوة حتى يجعل كابن العم للأبوين فها هنا قرابة الأم منفردة عن قرابة العمومة بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب.
ومما يبين أن عدم التشريك هو الصحيح: أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهن الثلثان وعالت الفريضة فلو كان معهن أخوهن سقطن به ويسمى الأخ المشئوم فلما كان بوجوده يصرن عصبة صار تارة ينفعهن وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه في حال الضرار فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى وهذا شأن العصبة فإن العصبة تارة تحوز المال وتاره تحوزه أكثره وتارة تحوز أقله وتارة تخيب فمن أعطى العصبة مع استغراق الفروض المال خرج عن قياس الأصول وعن موجب النص.
فإن قيل: فهذا استحسان.
قيل: لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان فإنه ظلم للأخوة من الأم حيث يأخذ حقهم ويعطاه غيرهم وإن كانوا يعقلون عن الميت وينفقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا من لا يعقل ولا ينفق في ميراثه فعقالت المرأة من أعمامها وبنى عمها وأخواتها يعقلون عنها وميراثها لزوجها وولدها كما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع أن يعقل ولد الأبوين ويكون الميراث لولد الأم.
اختلاف الصحابة في العمريتين: المسألة الثانية: العمريتان والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت إن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين وها هنا طريقان: أحدهما: بيان عدم دلالته على إعطائها الثلث كاملا مع الزوجين وهذا أظهر الطريقين والثاني: دلالته على إعطائها ثلث الباقي وهو أدق وأخفى من الأول أما الأول: فإن الله سبحانه إنما أعطها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بالميراث فإن قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} شرط أن في استحقاق الثلث عدم الولد وتفردهما بميراثه فإن قيل ليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يدل على أنهما تفردا بميراثه قيل لو لم يكن تفردهما شرطا لم يكن في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فائدة وكانت تطويلا يغنى عنه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فلما قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين وهو سبحانه ذكر أحوال الأم كلها نصا وإيماء فذكر أن لها السدس مع الإخوة وأن لها الثلث كاملا مع عدم الولد وتفرد الأبوين بالميراث بقي لها حالة ثالثة وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث وذلك لا يكون إلا مع الزوج أو الزوجة فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملا وهو خلاف مفهوم القرآن وإما أن تعطى السدس فإن الله سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوين ولا يشاركهما فيه مشارك فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك.
فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم ومن دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه.
قيل: إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذها له مع من دونه من العصبات أولى وهذا من باب التنبية.
فإن قيل: فمن أين أعطيتموها الثلث كاملا إذا كان معها ومع هذه العصبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة والله سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوين بميراثه على ما قررتموه فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين فمن أين أعطيت الثلث كاملا ولم ينفرد الأبوين بالميراث؟.
قيل: بالتنبيه ودلالة الأولى فإنها إذا أخذت الثلث كاملا مع الأب فلأن تأخذه مع ابن العم أولى وأما إذا كان أحد الزوجين مع هذه العصبة فإنه ليس له إلا ما بقى بعد الفروض ولو استوعبت الفروض المال سقط كأم وزوج وأخ لأم بخلاف الأب.
فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العصبة ذو فرض غير البنات والزوجة.
قيل: لا يكون ذلك إلا مع ولد الأم أو الأخوات للأبوين أو للأب واحدة أو أكثر والله تعالى قد أعطاها السدس مع الإخوة فدل على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بأخوة.
بقي الأختان والأخوان: فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة وأبى ذلك ابن عباس ونظره أقرب إلى ظاهر اللفظ ونظر الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به فإن الإخوة إنما حجبوها إلى السدس لزيادة ميراثهم على ميراث الواحد ولهذا لو كانت واحدة أو أخا واحدا لكان لها الثلث معه فإذا كان الإخوة ولد أم كان فرضهم الثلث اثنين كانا أو مائة فالاثنان والجماعة في ذلك سواء وكذلك لو كن أخوات لأب أو لأب وأم ففرض الثنتين وما زاد واحد فحجبها على الثلث إلى السدس باثنين كحجبها بثلاثة سواء لا فرق بينهما البتة.
وهذا الفهم في غاية اللطف: وهو من أدق فهم القرآن ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه وهو توفير السدس الذي حجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد نظرا لهم ورعاية لجانبهم وأيضا فإن قاعدة الفرائض أن كل حكم اختص به الجماعة عن الواحد اشترك فيه الاثنان وما فوقها كولد الأم والبنات وبنات الابن والأخوات للأبوين أو للأب والحجب ها هنا قد اختص به الجماعة فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة وأيضا فإن الأمة مجمعة على قوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} يدخل في حكمه الثنتان وإن اختلفوا في كيفية دخولها في الحكم كما سيأتى فهكذا دخول الأخوين في الإخوة وأيضا فإن لفظ الأخوة كالفظ الذكور والإناث والبنات والبنين وهذا كله قد يطلق ويراد به الجنس الذي جاوز الواحد وإن لم يزد على اثنين فكل حكم علق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية والوقف وغير ذلك فلفظ الجمع قد يراد به الجنس المتكثر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين كما أن لفظ المثنى قد يراد به المتعدد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر نحو {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} ودلالتهما حينئذ على الجنس المتكثر وأيضا فاستعمال الاثنين في الجمع بقرينه واستعمال الجمع في الاثنين بقرينه جائز بل واقع وأيضا فإنه سبحانه قال {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة كما يتناول من فوقهما ولفظ الإخوة وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد التعدد كقوله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وقد يعنى به العدد من غير قصد لعدد معين بل لجنس التعدد وقد يعنى به لعدد مع قصد معدود معين فالأول يتناول الواحد وما زاد والثاني يتناول لاثنين وما زاد الثالث يتناول الثلاثه ف فما زاد عند إطلاقه وإذا قيد اختص اقيد به.
ومما يدل على أن قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} أن المراد به الاثنان فصاعدا أنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فقوله: {كَانُوا} ضمير جمع ثم قال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله {فَهُمْ} والمظهر وهو قوله: {شُرَكَاءُ} ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه مع غيره وهو يتناول الاثنين قطعا فإن قوله {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي أكثر من أخ أو أخت ولم يرد أكثر من مجموع الأخت والأخ بل أكثر من الواحد فدل على أن صيغة الجمع في الفرائض تتناول العدد الزائد على الواحد مطلقا ثلاثة كان أو أثر منه وهذا نظير قوله {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءا من المضاف إليه أو كجزئه نحو قلوبهما وأيديهما فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان بطريق الأولى وله ثلاثة أحوال أحدها اختصاصه بالاثنين الثانية صلاحيته لهما الثالثة اختصاصه بما زاد عليهما وهذه الحال له عند إطلاقه وأما عند تقييده فبحسب ما قيد به وهو حقيقة في الموضعين فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الاستعمالين فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حجب الأم بالاثنين كما أن فهمهم في العمريتين أتم من فهمه وقواعد الفرائض تشهد لقولهم فإنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في طبقة واحدة كالابن والبنت والجد والجدة والأب والأم والأخ والأخت فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى أو يساويها فأما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرع الله وحكمته وقد عهدنا الله سبحانه أعطى الأب ضعف ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد وساوى بينهما في وجود الولد ولم يفضلها عليه في موضع واحد فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيب أحد الزوجين أثلاثا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذ بدين أو وصية إذ لا قرابة بينهما وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين وهما في طبقة واحدة فقسم الباقي بينهما أثلاثا.
فإن قيل: فههنا سؤالان: أحدهما: أنكم هلا أعطيتموها ثلث جميع المال في مسألة زوجة وأبوين فإن الزوجة إذا أخذت الربع وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر من الذي أخذته فوفيتم حينئذ بالقاعدة وأعطيتموها الثلث كاملاً.
والثاني: أنكم هلا جعلتم لها ثلث الباقي إذا كان بدل اللأب في المسألتين جد؟.
قيل: قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب فذهب إلى الأول محمد بن سيرين ومن وافقه إلى الثاني عبد الله بن مسعود ولكن أبى ذلك جمهور الصحابة والأئمة بعدهم وقولهم أصح في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب فإنا لو أعطيناها الثلث كاملا بعد فرض الزوجة كنا قد خرجنا عن قاعدة الفرائض وقياسها وعن دلالة الكتاب فإن الأب حينئذ يأخذ ربعا وسدسا والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره وهي في طبقته وهذا لم يشرعه الله قط ودلالة الكتاب لا تقتضيه وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها وهو يحجب بالأب فليس في طبقتها فلا يحجبها عن شيء من حقها فلا يمكن أن تعطى ثلث الباقي ويفضل الجد عليها بمثل ما تأخذه فإنها أقرب منه وليس في درجتها ولا يمكن أن تعطى السدس فكان فرضها الثلث كاملاً.
وهذا مما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل أو بالاعتبار الأولى أو بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به أو تنبيه اللفظ أو إشارته وفحواه أو بدلالة التركيب وهي ضم نص إلى نص آخر وهي غير دلالة الاقتران بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم، فالقياس المحض والميزان الصحيح أن الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد وقد أعطى الله سبحانه الزوج ضعف ما أعطى الزوجة تفضيلا لجانب الذكورية وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يدلون بالرحم المجرد ويدلون بغيرهم وهو الأم وليس لهم تعصيب بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد فإنهم يدلون بأنفسهم وسائر العصبة يدلون بذكر كولد البنين وكالإخوة للأبوين أو للأب فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة وأما من يدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم وكان الذكر كالأنثى في الأخذ وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة فهذا هو الاعتبار الصحيح والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه.
وقد تناظر ابن عباس وزيد بن ثابت في العمريتين فقال له ابن عباس: "أين في كتاب الله في ثلث ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين أو كما قال بل كتاب الله يمنع إعطاؤها الثلث مع أحد الزوجين فإنه لو أعطاها الثلث مع الزوج لقال فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث فكانت تستحقه مطلقا فلما خص الثلث في بعض الأحوال علم أنها لا تستحقه مطلقا ولو أعطيته مطلقا لكان قوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وكان ذكره عديم الفائدة ولا يمكن أن تعطى السدس لأنه إنما جعل لها مع الولد أو الإخوة فدل القرآن على أنها لا تعطى السدس مع أحد الزوجين ولا تعطى الثلث وكان قسمة ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثل قسمة أصل المال بينهما وليس بينهما فرق أصلالا في القياس ولا في المعنى".
فإن قيل: فهل هذه دلالة خطابية لفظية أو قياسية محضة؟.
قيل: هي ذات وجهين فهي لفظية من جهة دلالة الخطاب وضم بعضه إلى بعض واعتبار بعضه ببعض وقياسية من جهة اعتبار المعنى والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وأكثر دلالات النصوص كذلك في قوله: "من اعتق شركا له في عبد" وقوله: "أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به" وقوله: "من باع شركا له في أرض أو ربعة أو حائط" حيث يتناول الحوانيت وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} فخص الإناث باللفظ إذ كن سبب النزول فنص عليهمن بخصوصهن وهذا أصح من فهم من قال من أهل الظاهر المراد بالمحصنات الفروج المحصنات فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ولا من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ولا من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} بل هذا من عرف الشارع حيث يعبر باللفظ الخاص عن المعنى وهذا غير باب القياس وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العرف عاما كقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ونحوه وتارة لكونه قد علم بالضرورة من خطاب الشارع تعميم المعنى لكل ما كان مماثلا للمذكور وأن التعيين في اللفظ لا يراد به التخصيص بل التمثيل أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر أو لغير ذلك من الحكم.
فصل الأخوات مع البنات عصبة: المسألة الثالثة: ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة فإن الله سبحانه قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وهذا دليل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد وإنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك إذ لو كان كذلك لكان قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَد} زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وإيهاما لغير المراد فدل على أنها مع الولد لا ترث النصف والولد إما ذكر وإما أنثى فأما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى ودل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} على أن الولد يسقطه كما يسقطها وأما الأنثى فقد دل القرآن على أنها إنما تأخذ النصف ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي إذا كانت بنت وأخ بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض وإنما صريحه ينفي أن يكون فرضها النصف مع الولد فبقي ههنا ثلاثة أقسام إما أن يفرض لها أقل من النصف وإما أن تحرم بالكلية وإما أن تكون عصبة والأول محال إذ ليس للأخت فرض مقدر غير النصف فلو فرضنا لها أقل منه لكان ذلك وضع شرع جديد فبقي إما الحرمان وإما التعصيب والحرمان لا سبيل إليه فإنها وأخاها في درجة واحدة وهي لا تزاحم البنت فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضا فإنها لو سقطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها أقوى منها وأقرب إلى الميت وليس كذلك وأيضا فلو أسقطتها البنت إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها فإن أخاها لا يزيدها قوة ولا يحصل لها نفعا في موضع واحد بل لا يكون إلا مضرا لها ضرر نقصان أو ضرر حرمان كما إذا خلفت زوجا وأما وأخوين لأم وأختا لأب وأم فإنها يفرض لها النصف عائلا وإن كان معها أخوها سقطا معا ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد فلو أسقطتها البنت إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها وأيضا فإن البنت إذا لم تسقط ابن الأخ وابن العم وابن عم الأب والجد وإن بعد فأن لا تسقط الأخت مع قربها بطريق الأولى.
وأيضا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب وتقديم الأقرب على الأبعد وهذا عكس ذلك فإنه يتضمن تقديم الأبعد جدا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده فكيف يرث ابن عم جد الميت مثلا مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتحرم الأخت القريبة التي ركضت معه في صلب أبيه ورحم أمه هذا من المحال الممتنع شرعا فهذا من جهة الميزان وأما من جهة فهم النص فإن الله سبحانه قال في الأخ {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ولم يمنع ذلك في ميراثه منها إذ كان الولد أنثى فهكذا قوله {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} لا ينفي أن ترث غير النصف مع إناث الولد أو ترث الباقي إذا كان نصفا لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضا مع عدم الولد فتأمله فإنه ظاهر جدا وأيضا فالأقسام ثلاثة إما أن يقال يفرض لها النصف مع البنت أو يقال تسقط معها بالكلية أو يقال تأخذ ما فضل بعد فرض البنت أو البنات والأول ممتنع بالنص والقياس فإن الله سبحانه إنما فرض لها النصف مع عدم الولد فلا يجوز إلغاء هذا الشرط وفرض النصف لها مع وجوده والله سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة لا ولد له ولا والد فإذا كان له ولد لم يكن الميت كلالة فلا يفرض لها معه وأما القياس فإنها لو فرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة كزوجة أو زوج وبنت وأخت وإخوة والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب فإن الأولاد أولى منهم فبطل فرض النصف وبطل سقوطها بما ذكرناه فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي وهي أولى به من سائر العصبات الذين هم أبعد منها وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافق قضاؤه كتاب ربه والميزان الذي أنزله مع كتابه وبذلك قضى الصحابة بعده كابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهما.
فإن قيل: لكن خرجتم عن قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يعطى الباقي لابن الأخ أو العم أو ابنه دون الأخت فإنه رجل ذكر فأنتم عدلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى فكنا أسعد بالنص منكم وعملنا وبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعطى البنت النصف وبنت الابن السدس والباقي للأخت إذ لم يكن هناك أولى رجل ذكر فكانت الأخت عصبة وهذا توسط بين قولكم وبين قول من أسقط الأخت بالكلية وهذا مذهب إسحاق بن راهويه وهو اختيار أبي محمد بن حزم وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة قيل لابن عباس رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمه فقال: "لابنته النصف ولأمه السدس وليس لأخته شيء مما ترك وهو لعصبته" فقال له السائل إن عمر قضى بغير ذلك جعل للبنت النصف وللأخت النصف قال ابن عباس: "أأنتم أعلم أم الله" قال معمر: فذكرت ذلك لابن طاووس فقال لي: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: "قال الله عز وجل {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف" وإن كان له ولد وقال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: "أمر ليس في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت".
فالجواب: أن نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها حق يصدق بعضها بعضا ويجب الأخذ بجميعها ولا يترك له نص إلا بنص آخر ناسخ له لا يترك بقياس ولا رأي ولا عمل أهل بلد ولا إجماع ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه فقوله صلى الله عليه وسلم: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" عام قد خص منه قوله صلى الله عليه وسلم: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه" وأجمع الناس على أنها عصبة عتيقها واختلفوا في كوناه عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصل بين المتنازعين فإذا خصت منه هذه الصور بالنص وبعضها مجمع عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة.
فإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه.
قيل: فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت وليس من الأقارب فخالفتم النصين معا وهو صلى الله عليه وسلم قال: "فلأولى رجل ذكر" فأكده بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله: "من وجد متاعه عند رجل قد أفلس" ونحوه مما يذكر فيه لفظ الرجل والحكم يعم النوعين وهو نظير قوله في حديث الصدقات: "فابن لبون ذكر" ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى ولم يتعرض في الحديث للعاصب بغيره فدل قضاؤه الثابت عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت البنت ما بقي أن الأخت عصبة بغيرها فلا تنافي بينه وبين قوله: "فلأولى رجل ذكر" بل هذا إذا لم يكن ثم عصبة بغيره بل كان العصبة عصبة بأنفسهم فيكون أولهما وأقربهم إلى الميت أحقهم بالمال وأما إذا اجتمع العصبتان فقد دل حديث ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب من هو أبعد منها فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع فإن العرب بنو عم بعضهم لبعض فقريب وبعيد ولا سيما إن كان ما حكاه ابن مسعود من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء عاما كليا فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر.
فصل صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات: ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا للحكم في المنطوق فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة فلا يجب أن يكون كل صورة من صور المسكوت مخالفة لكل صور المنطوق ومن توهم ذلك فقد توهم باطلا فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص والحكم إذا ثبت لعلة فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلفها علة أخرى وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل وحينئذ فإذا نفينا إرثها مع ذكور الولد أو نفينا إرثها النصف فرضا مع إناثهم وفينا بدليل الخطاب.
فصل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم فلأولى رجل ذكر: ومما يبين أن المراد بقوله: "فلأولى رجل ذكر" العصبة بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوة وأخوات أو بنون وبنات أو بنات ابن وبنو ابن م ينفرد الذكر بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع فتعصيب الأخت بالبنت كتعصيبها بأخيها فإذا لم يكن قوله فلأولى رجل ذكر موجبا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبا لاختصاص ابن عم الجد بالباقي دونها.
يوضحه: أنه لو كان معها أخوها لم تسقط وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها هذا وأخوها أقرب إلى الميت من الأعمام وبنيهم فإذا لم يسقطها الأخ فلأن لا يسقطها ابن عم الجد بطريق الأولى والأحرى وإذا لم يسقطها ورثت دونه لكونها أقرب منه بخلاف الأخ فإنه تشاركه لاستوائهما في القرب من الميت فهذا محض القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الطريق فلا تخصيص في الحديث بل هو على عمومه وهذه الطريق أفقه وألطف.
يوضح ذلك: أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروض فيها مقدمون على جنس العصبة سواء كان ذا فرض محض أو كان له مع فرضه تعصيب في حال إما بنفسه وإما بغيره والأخوات من جنس أهل الفرائض فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة والاستدلال بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات كالاستدلال على حرمانهن إخوتهن وحرمان بنات الابن بل البنات أنفسهن مع إخوتهن وهذا باطل بالنص والإجماع فكذا الآخر
ومما يوضحه: أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العصبات يعصب من هو أقرب منه إذا لم يكن له فرض كما إذا كان وبنات وبنات ابن وأسفل منهن ابن ابن ابن فإنه يعصبهن فيحصل لهن الميراث بعد كن محرومات وأما أن البعيد من العصبات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثا فهذا ممتنع شرعا وعقلا وهو عكس قاعدة الشريعة والله الموفق.
وفي الحديث مسلك آخر وهو أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد به مَنْ كان من أهلها في الجملة وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر: "اقسموا المال بين أهل الفرائض" وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة وإن كان فيهم من هو من أهل الفرائض بالقوة وإن حجب عن الفرض بغيره دخل في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجل ذكر معه شيء وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقا معدومين والله أعلم. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:33 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 8:13 pm | |
| فصل ميراث البنات: المسألة الرابعة: ميراث البنات وقد دل صريح النص على أن للواحدة النصف ولأكثر من اثنتين الثلثين بقي الثنتان فأشكل دلالة القرآن على حكمها على كثير من الناس فقالوا إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة وقالت طائفة: "بالإجماع" وقالت طائفة: "بالقياس على الأختين".
قالوا: والله سبحانه نص على الأختين دون الأخوات ونص على البنات دون البنتين فأخذنا حكم كل واحد من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى.
وقالت طائفة: بل أخذ نصوص القرآن ثم تنوعت طرقهم في الأخذ فقالت طائفة أخذناه من قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث علم قطعا أن حظ ا لأنثيين الثلثان وقالت طائفة إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث لا الربع فأن يكون لها الثلث مع الأنثى أولى وأحرى وهذا من تنبيه النص بالأدنى على الأعلى وقالت طائفة أخذناه من قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فقيد النصف بكونها واحدة فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وحدتها فإذا كان معها مثلها فإما أن تنقصها عن النصف وهو محال أو يشتركان فيه وذلك يبطل الفائدة في قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} ويجعل ذلك لغوا موهما خلاف المراد به وهو محال فتعين القسم الثالث وهو انتقال الفرض من النصف إلى ما فوقه وهو الثلثان.
فإن قيل: فأي فائدة في التقييد بقوله {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والحكم لا يختص بما فوقهما.
قيل: حسن ترتيب الكلام وتأليفه ومطابقة مضمره لظاهر أوجب ذلك فإنه سبحانه قال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فالضمير في {كُنَّ} مجموع يطابق الأولاد أي فإن كان الأولاد نساء فذكر لفظ الأولاد وهو جمع وضمير كن وهو ضمير جمع و {نِسَاءً} وهو اسم جمع فلم يكن بد من فوق اثنتين وفيه نكت أخرى وهو أنه سبحانه قد ذكر ميراث الواحدة نصا وميراث الثنتين تنبيها كما تقدم فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرض لا يزيد بزيادتهن على الاثنتين كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى وأيضا فإن ميراث الاثنتين قد علم من النص فلو قال: (فإن كانتا اثنتين) كان تكريرا ولم يعلم منه حكم ما زاد عليهما فكان ذكر الجمع في غاية البيان والإيجاز وتطابق أول الكلام وآخره وحسن تأليفه وتناسبه وهذا بخلاف سياق آخر الصورة فإنه قال {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} فلم يتقدم اسم جمع ولا ضمير جمع يقتضي أن يقول فإن كن نساء فوق اثنتين.
وقد ذكر ميراث الواحدة وأنه النصف فلم يكن بد من ذكر ميراث الأختين وأنه الثلثان لئلا يتوهم أن الأخرى إذا انضمت إليها أخذت نصفا آخر ودل تشريكه بين البنات وإن كثرن في الثلثين على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن في ذلك بطريق الأولى فإن البنات أقرب من الأخوات ويسقطن فرضهن فجاء بيانه سبحانه في كل من الآيتين من أحسن البيان فإنه لما بين ميراث الابنتين بما تقرر بين ميراث ما زاد عليهما وفي آية الإخوة والأخوات لما بين ميراث الأخت والأختين لم يحتج أن يبين ميراث ما زاد عليهما إذ قد علم بيان الزائد على الاثنتين في من هن أولى بالميراث من الأخوات ثم بين حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم فاستوعب بيانه جميع الأقسام.
فصل ميراث بنت الابن: المسألة الخامسة: ميراث بنت الابن السدس مع البنت وسقوطها إذا استكمل البنات الثلثين ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدم وبيانها أنه تعالى قال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وقد علم أن الخطاب يتناول ولد البنين دون ولد البنات وأن قوله {أَوْلادِكُمْ} يتناول من ينتسب إلى الميت وهم ولده وولد بنيه وأن يتناولهم على الترتيب فيدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب فإذا لم يكن إلا بنت فلها النصف وبقي من نصيب البنات السدس فإذا كان ابن ابن أخذ الباقي كله بالتعصيب للنص فإذا كان معه أخواته شاركنه في الاستحقاق لأنهن معه عصبة وهذا أحد ما يدل على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" لا يمنع أن تأخذ الأنثى إذا كانت عصبة بغيرها ولهذا أخذت الأخت مع البنت الباقي بالتعصيب لأنها عصبة بها وإن لم يكن مع البنت إلا بنات ابن فقد كن بصدد أخذ الثلثين لولا البنت فإذا أخذت النصف فالسدس الباقي لا مانع لهن من أخذه فيفزن به ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن شيء ولو لم يكن بنات أخذن جميع الثلثين فإذا قدمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كن يفزن بهما جميعا لولا البنت وهذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: فمن أين أعطيتم بنات الابن إذا استكمل البنات الثلثين وكان معهن أخوهن والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الباقي لأولى رجل ذكر.
قيل: قد تقدم بيان ذلك مستوفى وأن هذا حكم كل عصبة معه وارث من جنسه في درجته كالأولاد والإخوة بخلاف الأعمام وبني الإخوة.
فإن قيل: فكيف عصب ابن ابن الابن من فوقه وليس في درجته.
قيل: إذا كان يعصب من هو في درجته مع أنه أنزل ممن فوقه ولا يسقطه فتعصيبه لمن هو فوقه وأقرب منه إلى الميت بطريق الأولى فإذا كان الأنزل لا يقوى هو على إسقاطه فكيف يقوى على إسقاط الأعلى على أن عبد الله بن مسعود لا يعصب به من في درجته ولا من فوقه بل يخصه بالباقي ووجه قوله أنها لا ترث مفردة فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برق أو كفر بخلاف ما إذا كانت وارثة كبنت وبنت ابن معها أخوها فإنه يعصبها اتفاقا لأنها وارثة وقول الجمهور أصح فإنها وارثة في الجملة وهي ممن يستفيد التعصيب بأخيها وهنا إنما سقط ميراثها بالفرض لاستكمال من فوقها الثلثين و لا يلزم من سقوط الميراث بالفرض سقوطه بالتعصيب مع قيام موجبه وهو وجود الأخ وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيمنعها الميراث بالكلية ولولاه ورثت بالفرض وهو الأخ المشئوم فالعدل يقتضي أن يجعلها عصبة فيورثها إذا لم ترث بالفرض وهو الأخ النافع فهذا محض القياس والميزان وقد فهمت دلالة الكتاب عليه، والنزاع في الأخت للأب مع الأخت أو الأخوات للأبوين كبنت الابن مع البنت والبنات سواء وبالله التوفيق.
فصل ميراث الجد مع الإخوة: المسألة السادسة: ميراث الجد مع الإخوة والقرآن يدل لقول الصديق ومن معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم رضي الله عنهم ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} إلى آخر الآية فلم يجعل للإخوة ميراثا إلا في الكلالة، وقد اختلف الناس في الكلالة والكتاب يدل على قول الصديق أنها ما عدا الوالد والولد فإنه سبحانه قال في ميراث ولد الأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} فسوى بين ميراث الإخوة في الكلالة وإن فرق بينهم في جهة الإرث ومقداره فإذا كان وجود الجد مع الإخوة للأم لا يدخلهم في الكلالة بل يمنعهم من صدق اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة فكيف أدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجوده صدق اسمها وهل هذا إلا تفريق محض بين ما جمع الله بينه.
يوضحه الوجه الثاني وهو: أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث ويخرج المسألة عن كونها كلالة لدخوله في قوله ليس له ولد ونسبة أب الأب إلى الميت كنسبة ولد ولده إليه فكما أن الولد وإن نزل يخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أبو الأب وإن علا ولا فرق بينهما البتة.
يوضحه الوجه الثالث وهو: أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد فإن الأخ ابن الأب والعم ابن الجد فإذا خلف عمه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجده سواء وقد أجمع المسلمون على تقديم أب الجد على العم فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسا جليا فليس في الدنيا قياس جلي.
يوضحه الوجه الرابع وهو: أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أب الجد إلى الجد فإذا قال الأخ أنا أرث مع الجد لأني ابن أب الميت والجد أبو أبيه فكلانا في القرب إليه سواء صاح ابن الأخ مع أب الجد وقال أنا ابن ابن أب الميت فكيف حرمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجتنا واحدة وكيف سمعتم قول أبي مع الجد ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد.
فإن قيل: أبو الجد جد وإن علا وليس ابن الأخ أخا.
قيل: فهذا حجة عليكم لأنه إذا كان أبو الأب أبا وأبو الجد جدا فما للإخوة ميراث مع الأب بحال.
فإن قلتم: نحن نجعل أب الجد جدا ولا نجعل أبا الأب أبا.
قيل: هكذا فعلتم وفرقتم بين المتماثلين وتناقضتم أبين تناقض وجعلتموه أبا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع.
يوضحه الوجه الخامس وهو: أن نسبة الجد إلى الأب في العمود الأعلى كنسبة ابن الأب إلى الابن في العمود الأسفل فهذا أبو أبيه وهذا ابن ابنه فهذا يدلي إلى الميت بأب الميت وهذا يدلى إليه بابنه فكما كان ابن الابن ابنا فكذلك يجب أن يكون أب الأب أبا فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا".
يوضحه الوجه السادس وهو: أن الله سبحانه سمى الجد أبا في قوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقوله {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وقوله {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} وقول يوسف {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وفي حديث المعراج هذا أبوك آدم وهذا أبوك إبراهيم وقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: "من أبوكم قالوا: فلان قال: كذبتم بل أبوكم فلان قالوا: صدقت" وسمي ابن الابن ابنا كما في قوله {يَا بَنِي آدَم} و {يَا بَنِي إِسْرائيل} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" والأبوة والبنوة من الأمور المتلازمة المتضايفة يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر فيمتنع ثبوت البنوة لابن الابن إلا مع ثبوت الأبوة لأب الأب.
يوضحه الوجه السابع وهو: أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته وهذا معنى قول عمر لزيد: "كيف يرثني أولاد عبد الله دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم" فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمز فيه ولا تطفيف.
يوضحه الوجه الثامن وهو: أن قاعدة الفرائض وأصولها إذا كان قرابة المدلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين مثال ذلك أن الميت يدلي إليه ابنه بقرابة البنوة وأبوه يدلي إليه بقرابة الأبوة فإذا أدلى إليه واحد ببنوة البنوة وإن بعدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت فكذلك قرابة أبوة الأبوة وإن علت أقوى من قرابة بنوة الأب وإن قربت وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جد الجد وإن علا على ابن الأخ وإن قرب وعلا العم لأن القرابة التي يدلي بها الجد من جنس واحد وهي الأبوة والقرابة التي يدلي بها الأخ وبنوه من جنسين وهي بنوة الأبوة ولهذا قدمت قرابة ابن الأخ على قرابة ابن الجد لأنها قرابة بنوة أب وتلك قرابة بنوة أبي أب فبين ابن الأخ فيها وبين الميت جنس واحد وهي الأخوة فبواسطتها وصل إليه بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين أحدهما الأبوة والثاني بنوتها وعلى هذه القاعدة بناء باب العصبات.
يوضحه الوجه التاسع وهو: أن كل بني أب أدنى وإن بعدوا عن الميت يقدمون في التعصيب على بني الأب الأعلى وإن كانوا أقرب إلى الميت فابن ابن ابن الأخ يقدم على العم القريب وابن ابن ابن العم وأن نزل يقدم على عم الأب وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقوم أقصاه مقام أدناه ويقدم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى فيقدم ابن ابن الابن على من يقدم عليه الابن وابن ابن الأخ على من يقدم عليه الأخ وابن ابن العم على من يقدم عليه العم فما بال أب الأب وحده خرج من هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب.
وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكم شرعي ثم نقول بل النهر الأعلى أولى بالجدول من الجدول التي اشتق منه وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر فإن هذا صنوة ونظيره الذي لا يحتاج إليه وذلك أصله وحامله الذي يحتاج إليه واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره فأصله أولى به من نظيره.
يوضحه الوجه العاشر وهو: أن هذا القياس لو كان صحيحا لوجب طرده ولما انتقض فإن طرده تقديم الإخوة على الجد فلما اتفق المسلمون على بطلان طرده علم أنه فاسد في نفسه.
يوضحه الوجه الحادي عشر وهو: أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل صورة من صوره ويقدم على كل عصبة يقدم عليه الأب فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة.
يوضحه الوجه الثاني عشر وهو: أنه إن كان الموجب لاستثنائهم قوتهم وجب تقديمهم عليه وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارها في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة وهذا مما لا جواب لهم عنه.
يوضحه الوجه الثالث عشر وهو: أنه قد اتفق الناس على أن الأخ لا يساوي الجد فإن لهم قولين أحدهما تقديمه عليه والثاني توريثه معه والمورثون لا يجعلونه كأخ مطلقا بل منهم من يقاسم به الإخوة إلى الثلث ومنهم من يقاسمهم به إلى السدس فإن نقصته المقاسمة عن ذلك أعطوه إياه فرضا وأدخلوا النقص عليهم أو حرموهم كزوج وأم وجد وأخ فلو كان الأخ مساويا للجد وأولى منه كما ادعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس وقدم عليه فعلم أن الجد أقوى وحينئذ فد اجتمع عصبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه.
يوضحه الوجه الرابع عشر وهو: أن المورثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولا يدل عليه نص ولا إجماع ولا قياس مع تناقضهم وأما المقدمون له على الإخوة فهم أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض فإن من المورثين من يزاحم به إلى الثلث ومنهم من يزاحم به إلى السدس وليس في الشريعة من يكون عصبة يقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يفرض له بعد ذلك الحد فلم يجعلوه معهم عصبة مطلقا ولا ذا فرض مطلق ولا قدموه عليهم مطلقا ولا ساووه بهم مطلقا ثم فرضوا له سدسا أو ثلثا بغير نص ولا إجماع ولا قياس ثم حسبوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئا ثم إذا كان هناك إخوة لأبوين ثم جعلوا الأخوات معه عصبة إلا في صورة واحدة فرضوا فيها للأخت ثم لم يهينوها بما فرضوا لها بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ثم أعالوا هذه المسألة خاصة من مسائل الجد والإخوة ولم يعيلوا غيرها ثم ردوها بعد العول إلى التعصيب وسلم المقدمون له على الإخوة من هذا كله مع فوزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصديق.
يوضحه الوجه الخامس عشر وهو: أن الصديق لم يختلف عليه أحد من الصحابة في عهده إنه مقدم على الإخوة قال البخاري في صحيحه في باب ميراث الجد مع الإخوة وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: "الجد أب" وقرأ ابن عباس {يَا بَنِي آدَمَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون وقال ابن عباس: "يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني؟" ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة انتنهى. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:34 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 8:43 pm | |
| وقال عبد الرزاق: ثنا ابن جريج قال: "سمعت ابن أبي مليكة يحدث أن ابن الزبير كتب إلى أهل العراق إن الذي قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً حتى ألقى الله سوى الله لاتخذت أبا بكر خليلاً" كان يجعل الجد أباً وقال الدارمي في صحيحه: ثنا سالم بن إبراهيم ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "جعله الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [له]: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل" يعني أبا بكر جعله أباً ثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: "لقيت مروان بن الحكم بالمدينة فقال يا ابن أبي موسى ألم أخبر أن الجد لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر قال: قلت: لو كنت أنت لم تنكر قال: مروان فأنا أشهد على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجد أباً إذا لم يكن دونه أب" ثنا يزيد بن هارون ثنا أشعث عن عروة عن الحسن قال: "إن الجد قد مضت فيه سنة وإن أبا بكر جعل الجد أباً ولكن الناس تحيروا" وقال حماد بن سلمة: ثنا هشام بن عروة عن عروة عن مروان قال: قال لي عثمان بن عفان: "إن عمر قال لي إني قد رأيت في الجد رأيا فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه فقال عثمان: إن نتبع رأيك فإنه رشد وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان قا"ل وكان أبو بكر يجعله أبا والمورثون للإخوة بعدهم عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه وكان قد كتب كتابا في ميراثه فلما طعن دعى به فمحاه وقال الخشني: عن محمد بن يسار عن محمد بن أبي عدي عن شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر حين طعن: "إني لم أقض في الجد شيئاً" وقال وكيع عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: مات ابن لابن عمر ابن الخطاب فدعى زيد بن ثابت فقال: "شعب ما كنت تشعب لأني أعلم أني أولى به منهم" وأما علي كرم الله وجهه فقال عبد الرزاق عن معمر ثنى أيوب عن سعيد بن جبير عن رجل من مراد قال: سمعت علياً يقول: "من سره أن يتقحم جراثم جهنم فاليقضي بين الجد والإخوة" وأما عثمان وابن مسعود فقال البغوي: ثنى حجاج بن المنهال ثنى حماد بن سلمة أخبرنا الليث بن أبي سليم عن طاووس أن عثمان وعبد الله بن مسعود قالا: "الجد بمنزلة الأب"، فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل توريثهم معه واضربت في كيفية التوريث وخالفة دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح بخلاف قول الصديق ومن معه.
يوضحه الوجه السادس عشر وهو: أن الناس اليوم قائلان: قائل بقول أبي بكر وقائل بقول زيد ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه فإنه يتضمن تعصيب الجد للإخوات وهو تعصيب الرجل جنسا آخر ليسوا من جنسه وهذا لا أصل له في الشريعة إنما يعرف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات ولا ينتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهن وإنما عصبهن البنات ولما كان تعصيب البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات بخلاف قول من عصب الأخوات بالجد فإنه عصبهن بجنس آخر أقوى تعصيبا منهن وهذا لا عهد به في الشريعة البتة.
يوضحه الوجه السابع عشر وهو: أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين وكلاهما باطل أما الأول فظاهر البطلان لوجهين: أحدهما: اختلاف جهة التعصيب والثاني أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة وأما الثاني فبطلانه أظهر إذ قاعدة الفرائض أن العصبة لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد وليس لنا عصيبة من جنسين يرثان مجتمعين قط بل هذا محال فإن العصبة حكما أن يأخذ ما بقي بعد الفروض فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذ دون الآخر وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما إلى حرمانهما واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس وهذا ظاهر جدا.
يوضحه الوجه الثامن عشر وهو: أن الجد أب في باب الشهادة وفي باب سقوط القصاص وأب في باب المنع من دفع الزكاة إليه وأب في باب وجوب إعتاقه على ولد ولده وأب في باب سقوط القطع في السرقة وأب عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح وفي باب الرجوع في الهبة وفي باب العتق بالملك وفي باب الإجبار على النفقة وفي باب إسلام ابن ابنه تبعا لإسلامه وأب عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضا وتعصيبا في غير محل النزاع فما الذي أخرجه عن أبوته في باب الجد والإخوة فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهر وأظهر.
يوضحه الوجه التاسع عشر وهو: أن الذين ورثوا الإخوة معه إنما ورثوهم المساواة تعصيبه لتعصيبهم ثم نقضوا الأصل فقدموا تعصيبهم على تعصيبه في باب الولاء وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم ثم نقضوا ذلك أيضا فقدموا الجد عليهم في باب ولاية النكاح وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه وهذا غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع.
يوضحه الوجه العشرون وهو: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فإذا خلفت المرأة زوجها وأمها وأخاها وجدها فإن كان الأخ أولى رجل ذكر فهو أحق بالباقي وإن كانا سواء في بالأولوية وجب اشتراكهما فيه وإن كان الجد أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به وإذا كان الجد أولى رجل ذكر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص وهذا الوجه وحده كاف وبالله التوفيق، وليس القصد هذه المسألة بعينها بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه وأن القياس شاهد وتابع لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله: "كل مسكر خمر" عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عن إثبات قطع النباش بالقياس اسما أو حكما إذا السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع وقد بين ذلك سبحانه في قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ} فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم ولا مخالف لهم من بقيتهم وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا مخالف له منهم فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه فالأمة لا تجمع على خطأ البتة.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله عنه وحرمه وأنه لغو لا يعتد به نكاحا كان أو طلاقا أو غيرهما إلا أن تجمع الأمة إجماعا معلوما على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرمه من العقود صحيح لازم معتد به غير مردود فهي لا تجمع على خطأ وبالله التوفيق.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مع قوله صلى الله عليه وسلم: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" فكل ما لم يبين الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا فما كان من هذه الأشياء حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه وبالله التوفيق.
في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس: وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: "هذا خلاف القياس" لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان مجمعا عليه كقولهم: طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة على خلاف القياس وتطهير النجاسة على خلاف القياس والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس فهل ذلك صواب أم لا؟.
فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه.
لفظ القياس مجمل: أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد والصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فالأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر وحيث علمنا أن النص ورد بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال.
المشاركة غير المعارضة: فالذين قالوا: "المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس" ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا هي على خلاف القياس وهذا من غلطهم فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض والمشاركات جنس غير جنس المعوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة وإن كان فيها شوب المعاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص.
العمل الذي يقصد به المال أنواع ثلاثة: وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع: النوع الأول: أحدها: أن يكون العمل مقصوداً معلوماً مقدوراً على تسليمه فهذه الإجارة اللازمة.
فصل: النوع الثاني الثاني: أن يكون العمل مقصوداً لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة وهي عقد جائز ليس بلازم فإذا قال: "من رد عبدي الآبق فله مائة" فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب أو بعيد فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فإن عمل العمل استحق الجعل وإلا فلا ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم كقول أمير الغزو: "من دل على حصن فله ثلث ما فيه" أو يقول للسرية التي يسير بها: "لكم خمس ما تغنمون أو ربعه" وتنازعوا في السلب هل هو مستحق بالشرع كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك على قولين وهما روايتان عن أحمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلا على الشفاء جاز كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي فرقاه أحدهم حتى برىء والجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة.
فصل: النوع الثالث وأما النوع الثالث فهو: مالا يقصد فيه العمل بل المقصود فيه المال وهو المضاربة: فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كالمجاعل والمستأجر له قصد في عمل العامل ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وإن سمى هذه جعالة بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة: هذا بنفع ماله وهذا بنفع بدنه وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدر لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المزارعة فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها وهو ما ثبت على الماذيانات وأقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولهذا قال الليث بن سعد وغيره: "إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أمر لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلا بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم فإن حصل ربح اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة بربح المثل فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله إما نصفه أو ثلثه فأما أن يعطى شيئا مقدرا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله وسبب غلطه ظنه أن هذه إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في الصحيح المسمى.
ومما يبين غلط هذا القول: أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر فلو أعطى أجرة المثل أعطى أضعاف رأس المال وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوها وبعضهم صحح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا وإما إذا كان البياض الثلث وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة وإنما جوزت للحاجة ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض فإذا لزمته الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين على مقصوده دون الآخر فأحدهما غانم ولا بد والآخر متردد بين المغنم والمغرم وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة.
العدل هو الأصل في كل العقود: والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة وبيع الحصاة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر بل هي من أقوم العدل وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة فهو من أفسد القياس فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهذا نظير الأرض في المزارعة وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الأرض يذهب نفع أرضه وبدن هذا كأرض هذا فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك في المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر عود نظيره لم يجوزوا ذلك؟.
فصل: الحوالة توافق القياس وأما الحوالة فالذين قالوا: "إنها على خلاف القياس" قالوا: هي بيع دين بدين والقياس يأباه وهذا غلط من وجهين.
أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع وإنما ورد النهي عن بيع الكالىء بالكالىء والكالىء: هو المؤخر الذي لم يقبض كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالىء بكالىء وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا وهو ممتنع وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب وواجب بساقط وهذا فيه نزاع.
قلت: الساقط بالساقط في صورة المقاصة والساقط بالواجب كما لو باعه دينا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه وهي بيع الدين ممن هو ذمته وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط له عنه دين غيره وقد حكى الإجماع على امتناع هذا ولا إجماع فيه قاله شيخنا واختار جوازه وهو الصواب إذ لا محذور فيه وليس بيع كالىء بكالىء فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غرض صحيح ومنفعة مطلوبة وذلك ظاهر في مسألة التقاص فإن ذمتهما تبرأ من أسرها وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته والآخر ينتفع بما يربحه وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح وذلك في بيع العين بالدين جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره وكأنه شغلها به ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة فكانت ذمته مشغولة بشيء فانتقلت من شاغل إلى شاغل وليس هناك بيع كالىء بكالىء وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه بل قواعد الشارع تقتضي جوازه فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وبالله التوفيق.
رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام قال: الوجه الثاني يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح: "مطل الغنى ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع" فأمر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين أنه ظالم إذا مطل وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على ملىء وهذا كقوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أمر المستحق أن يطالب بالمعروف وأمر المدين أن يؤدي بإحسان ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله ثم إنه يقاص ما عليه بماله وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا: بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة أن يقدر في ذمة المستوفي دينا وأولئك قصدوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق وهذا لا حاجة إليه فإن الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق.
فصل: القرض يوافق القياس وأما القرض فمَنْ قال: "إنه على خلاف القياس" فشبهته أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة فقال: "أو منيحة ذهب أو منيحة ورق" وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب المعاوضات يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يعطى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن وإلا فنظيره ومثله فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها أو شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها وتسمى العرية فإنهم يقولون: أعاره الشجرة وأعاره المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والثمر لما كان يستخلف شيئا بعد شيء كان بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة وإن كان المقرض قد ينتفع أيضا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعا.
فصل: إزالة النجاسة توافق القياس وأما إزالة النجاسة فمَنْ قال: "إنها على خلاف القياس" فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنجس بها ثم لاقى الثاني والثالث كذلك وهلم جرا والنجس لا يزيل نجاسة وهذا غلط فإنه يقال فلم قلتم: إن القياس يقتضي أن الماء إذ لاقى نجاسة نجس؟ فإن قلتم: الحكم في بعض الصور كذلك قيل هذا ممنوع عند من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير.
فإن قيل: فيقاس ما لم يتغير على ما تغير.
قيل: هذا من أبطل القياس حسا وشرعا وليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفا للقياس بل يقال إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك القياس لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى موارد الإجماع وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح.
وقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذ لم يتغير على قولين الأول قول أهل العراق والثاني قول أهل الحجاز وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا.
وقول أهل الحجاز هو الصواب: وهو الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول فإن الله سبحانه أباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قائمة به فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلفه ضده فهذا هو محض القياس والمعقول فهذا الماء والطعام كان طيبا لقيام الصفة الموجبة لطيبه فإذا زالت تلك الصفة وخلفتها صفة الخبث عاد خبيثا فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه وهذا كالعصير الطيب إذا تخمر صار خبيثا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيبا والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثا فإذا زال التغير عاد طيبا والرجل المسلم إذا ارتد صار خبيثا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيباً والدليل على أنه طيب الحس والشرع أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثر بوجه ما لا في لون ولا طعم ولا رائحة ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه وأما الشرع فمن وجوه أحدها: أنه كان طيبا قبل ملاقاته لما يتأثر به والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربا أو طبخا أو عجنا وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
الثاني: أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرة من خمر مثل رأس الذبابة لم يحد اتفاقا ولو شربه صبي وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم تنشر الحرمة فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس.
والذين قالوا: "إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة" تناقضوا أعظم تناقض ولم يمكنهم طرد هذا الأصل فمنهم من استثنى مقدار القلتين على خلافهم فيها ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر ومنهم من استثنى الجاري خاصة وفرقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعل وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف ومنها أنه إذا كان واردا فهو جار والجاري له قوة ومنها أنه إذا كان واردا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة والصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وأنه إذا تغير في محل التطهير فهو نجس أيضا وهو في حال تغيره لم يزلها وإنما خففها ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير وهذا هو القياس في المائعات كلها أن يسير النجاسة إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها فيه لون ولا طعم ولا رائحة فهي من الطيبات لا من الخبائث.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء لا ينجس" وصح عنه أنه قال: "إن الماء لا يجنب" وهما نصان صريحان في أن الماء لا ينجس بالملاقاة ولا يسلبه طهوريته استعماله في إزالة الحدث ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح البخاري أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوه ولم يفصل بين أن يكون جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول وهو غلط من معمر من عدة وجوه بينها البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير واستدل بالحديث فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأئمة عنه فقد اتفق على ذلك النص والقياس ولا يصلح للناس سواه وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده كما تقدم فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:35 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 8:45 pm | |
| فصل: طهارة الخمر باستحالتها توافق القياس وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس فإنها نجسة لوصف الخبث فإذا زال الموجب زال الموجب وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها بل وأصل الثواب والعقاب وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت وقد نبش النبي صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده ولم ينقل التراب وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثا صار نجسا كالماء والطعام إذا استحال بولا وعذرة فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ولا عبرة بالأصل بل بوصف الشيء نفسه ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزرع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظا ولا معنى ولا نصا ولا قياسا والمفرقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم وهكذا الدم والبول والعذرة وإنما نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص.
فصل: الوضوء من لحوم الإبل يوافق القياس وأما قولهم: "إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه" فجوابه أن الشارع فرق بين اللحمين كما فرق بين المكانين وكما فرق بين الراعيين رعاة الإبل ورعاة الغنم فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم كما فرق بين الربا والبيع والمذكي والميتة فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق الله بينه من أبطل القياس وأفسده ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم فقال: "الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أصحاب الغنم" وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان وجاء أنها جن خلقت من جن ففيها قوة شيطانية والغاذى شبيه بالمغتذى ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذى من العدوان ما يضره في دينه فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية والشيطان خلق من نار والنار تطفأ بالماء هكذا جاء الحديث ونظيره الحديث الآخر: "إن الغضب من الشيطان فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفىء تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة ولهذا أمرنا بالوضوء مما مست النار إما إيجابا منسوخا وإما استحبابا غير منسوخ وهذا الثاني أظهر لوجوه منها أن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين ومنها أن رواة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة ومنها أن المعنى الذي أمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خلق منها والنار تطفأ بالماء وهذا المعنى موجود فيها وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب ومنها أن أكثر ما مع من ادعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم: "أكل مما مست النار ولم يتوضأ" وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء لا على عدم استحبابه فلا تنافي بين أمره وفعله وبالجملة فالنسخ إنما يصار إليه عند التنافي وتحقق التاريخ وكلاهما منتف وقد يكون الوضوء من مس الذكر ومس النساء من هذا الباب لما في ذلك من تحريك الشهوة فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس ولما كانت القوة الشيطانية في لحوم الإبل لازمة كان الأمر بالوضوء منها لا معارض له من فعل ولا قول ولما كان في ممسوس النار عارضة صح فيها الأمر والترك ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغنم في الوضوء وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذن في الصلاة في مرابض الغنم وهذا يدل على أنه ليس ذلك لأجل الطهارة والنجاسة كما أنه لما أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم علم أنه ليس ذلك لكونها مما مسته النار ولما كانت أعطان الإبل مأوى الشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحشوش بخلاف مباركها في السفر فإن الصلاة فيها جائزة لأن الشيطان هناك عارض وطرد هذا المنع من الصلاة في الحمام لأنه بيت الشيطان وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته ما لم يمنع منه مانع والله أعلم.
فصل: الفطر بالحجامة يوافق القياس أما الفطر بالحجامة فإنما اعتقد من قال: "إنه على خلاف القياس" ذلك بناء على أن القياس الفطر بما دخل لا بما خرج وليس كما ظنوه بل الفطر بها محض القياس وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل وأمر فيه بغاية الاعتدال حتى نهى عن الوصال وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل وجعل الحيض منافيا للصوم دون الجنابة لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة وفرق بين دم الحجامة ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلا وتفصيلا وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل ولله الحمد.
فصل: التيمم يوافق القياس ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم قالوا: إنه على خلاف القياس من وجهين أحدهما أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب والثاني أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولعمر الله أنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين وهو على وفق القياس الصحيح فإن الله سبحانه جعل من الماء كل شيء حي وخلقنا من التراب فلنا مادتان الماء والتراب فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا وبهما تطهرنا وتعبدنا فالتراب أصل ما خلق منه الناس والماء حياة كل شيء وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم وجعل قوامه بهما وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقيقة الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه.
فصل: التيمم في عضوين بوافق القياس وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات وإنما يفعل عند المصائب والنوائب والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار لله ما هو أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: "ترب وجهك" وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين وأيضا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين وسقط عن العضوين الممسوحين فإن الرجلين تمسحان في الخف والرأس في العمامة فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها وهو الميزان الصحيح، أما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر مما يناقض رخصة التيمم ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ولله الحمد.
فصل: السلم يوافق القياس وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك" فإنه بيع معدوم والقياس يمنع منه والصواب أنه على وفق القياس فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا وهو كالمعارضة على المنافع في الإجارة وقد تقدم أنه على وفق القياس وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا والبائع والمشتري منها على غرر من أفسد القياس صورة ومعنى وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان مالا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" فيحمل على معنيين: أحدهما: أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه فليس عنده حسا ولا معنى فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل يحصل له أم لا وهذا يتناول أمورا أحدها بيع عين معينة ليست عنده الثاني السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون وهو كالابتياع بثمن مؤجل فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر فهذا محض القياس والمصلحة وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وهذا يعم الثمن والمثمن وهذا هو الذي فهمه ترجمان القرآن من القرآن عبد الله بن عباس فقال: "أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله" وقرأ هذه الآية.
فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالىء بالكالىء بل هو نفسه وكثرت المخاطرة ودخلت المعاملة في حد الغرر ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم، والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم لكن ضيقوا ما وسع الله وشرطوا ما لم يشرطه وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة أما القياس فإنه أحد العوضين فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلم الارتفاق من الجانبين هذا يرتفق بتعجيل الثمن وهذا يرتفق برخص المثمن وهذا قد يكون في منقطع الجنس كما قد يكون في متصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد.
فصل: الكتابة توافق القياس وأما الكتابة فمن قال هي على خلاف القياس قال: هي بيع السيد ماله بماله وهذا غلط وإنما باع العبد نفسه بمال في ذمته والسيد لا حق له في ذمة العبد وإنما حقه في بدنه فإن السيد حقه في مالية العبد لا في إنسانيته وإنما يطالب العبد بما في ذمته بعد عتقه وحينئذ فلا ملك للسيد عليه وإذا عرف هذا فالكتابة بيعه نفسه بمال في ذمته ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له وهو حادث على ملكه الذي استحقه بعقد الكتابة ومن تمام حكمة الشارع أنه أخر فيها العتق إلى حين الأداء لأن السيد لم يرض بخروجه عن ملكه إلا بأن يسلم له العوض فمتى لم يسلم له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوع في البيع فلو وقع العتق لم يمكن رفعه بعد ذلك فيحصل السيد على الحرمان فراعى الشارع مصلحة السيد ومصلحة العبد وشرع الكتابة على أكمل الوجوه وأشدها مطابقة للقياس الصحيح وهذا هو القياس في سائر المعاوضات وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة الذي لا معارض لها أن المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوع في عين ماله وسواء حكم الحاكم بفلسه أم لا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط حكم الحاكم ولا أشار إليه ولا دل عليه بوجه ما فلا وجه لاشتراطه وإنما المعنى الموجب للرجوع هو الفلس الذي حال بين البائع وبين الثمن وهذا المعنى موجود بدون حكم الحاكم فيجب ترتيب أثره عليه وهو محض العدل وموجب القياس فإن المشتري لو اطلع على عيب في السلعة كان له الفسخ بدون حكم حاكم ومعلوم أن الأعسار عيب في الذمة لو علم به البائع لم يرض بكون ماله في ذمة مفلس فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد وبالله التوفيق.
وطرد هذا القياس عجز الزوج عن الصداق أو عجزه عن الوطء وعجزه عن النفقة والكسوة وطرده عجز المرأة عن العوض في الخلع أن للزوج الرجعة وهذا هو الصواب بلا ريب فإنه لم يخرج البضع عن ملكه إلا بشرط سلامة العوض وطرده الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح عليه فله العود إلى طلب القصاص فهذا موجب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها وبالله التوفيق.
فصل: الإجارة توافق القياس وأما الإجارة فالذين قالوا: "هي على خلاف القياس" قالوا: هي بيع معدوم لأن المنافع معدومة حين العقد ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظئر للرضاع بقوله {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قالوا إنها على خلاف القياس من وجهين أحدهما كونها إجارة والثاني أن الإجارة عقد على المنافع وهذه عقد على الأعيان ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه وقالوا هي على خلاف القياس والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم فيقال هذا خلاف قياس ذلك النص وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة ومنشأ وهمهم ظنهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قائمة بغيرها لا أعيان قائمة بنفسها ثم افترق هؤلاء فرقتين فقالت فرقة إنما احتملناها على خلاف القياس لورود النص فلا نتعدى محله وقالت فرقة بل نخرجها على ما يوافق القياس وهو كون المعقود عليه أمرا غير اللبن بل هو إلقام الصبي الثدي ووضعه في حجر المرضعة ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع واللبن يدخل تبعا غير مقصود بالعقد ثم طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة وقالوا يدخل ضمنا وتبعا فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه وعلى مجرد إجراء العين في أرضه مما هو قلب الحقائق وجعل المقصود وسيلة والوسيلة مقصودة إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة ولا معقودا عليها ولا قيمة لها أصلا وإنما هي كفتح الباب وكقود الدابة لمن اكترى دارا أو دابة. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:36 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 9:00 pm | |
| الرد على من جعل الإجارة على خلاف القياس: ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس فنقول وبالله التوفيق.
أما الأصل الأول فقولهم: "إن الإجارة بيع معدوم وبيع المعدوم باطل" دليل مبني على مقدمتين مجملتين غير مفصلتين قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب فأما المقدمة الأولى وهي كون الإجارة بيعا إن أردتم به البيع الخاص الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع فهو باطل وإن أردتم به البيع العام الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيع الأعيان وبيع المنافع ومن سلم بطلان بيع المعدوم فإما يسلمه في الأعيان ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة هل تنعقد بلفظ البيع على وجهين والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما وهذا حكم شامل لجميع العقود فإن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى ولا فرق بين النكاح وغيره وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب أحمد قال شيخنا بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه وأما قدماء أصحاب أحمد فلم يشترط أحد منهم ذلك وقد نص أحمد على أنه إذا قال: "أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها" أنه ينعقد النكاح قال ابن عقيل: "وهذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ" وأما ابن حامد فطرد أصله وقال: "لا ينعقد حتى يقول مع ذلك تزوجتها" وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجا عن القياس فجوز النكاح في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا فإن من أصوله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل ولا يرى اختصاصها بالصيغ ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه إذ الشهادة إنما تقع على المسموع لا على المقاصد والنيات وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع وفي عرف المتعاقدين والمقدمتان غير معلومتين.
أما الأولى: فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال: "ملكتكها بما معك من القرآن" وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج وأباح الله ورسوله النكاح ورد فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحا بأي لفظ كان ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلا فما هو الضابط لذلك؟.
وأما المقدمة الثانية: فكون اللفظ صريحا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان فكم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان فلا يلزم من كونه صريحا في خطاب الشارع أن يكون صريحا عند كل متكلم وهذا ظاهر.
اختلاف بيع المنافع عن بيع الأعيان: والمقصود أن قوله: "إن الإجارة نوع من البيع" إن أراد به البيع الخاص فباطل وإن أراد به البيع العام فصحيح ولكن قوله: "إن هذا البيع لا يرد على معدوم" دعوى باطلة فإن الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها البتة بخلاف الأعيان وقد فرق بينهما الحس والشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق كما نهى عن بيع السنين وحبل الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحب حتى يشتد ونهى عن الملاقيح والمضامين ونحو ذلك وهذا يمتنع مثله في المنافع فإنه لا يمكن أن تباع إلا في حال عدمها فههنا أمران أحدهما يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده وحال عدمه فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد وجوز منه بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد إذا دعت الحاجة إليه وبدون الحاجة لم يجوزه والثاني ما لا يمكن إيراد العقد عليه إلا في حال عدمه كالمنافع فهذا جوز العقد عليه ولم يمنع منه.
فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر وأجعل العلة مجرد كونه معدوماً.
قيل: هذا قياس فاسد لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين وقولك: "إن العلة مجرد كونه معدوما" دعوى بغير دليل بل دعوى باطلة فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدوما يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص وأنت لم تبين أن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما فقياسك فاسد وهذا كاف في بيان فساده بالمطالبة ونحن نبين بطلانه في نفسه فنقول ما ذكرناه علة مطردة وما ذكرته علة منتقضة فإنك إذا عللت بمجرد العدم ورد عليك النقص بالمنافع كلها وبكثير من الأعيان وما عللنا به لا ينتقض وأيضا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها تشهد لهذه العلة فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم المنع حيث قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!" وأما ما ليس له إلا حال واحد والغالب فيه السلامة فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارا وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المزابنة ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم للضرورة ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب.
فإن قلت: فهذا كله على خلاف القياس.
قيل: إن أردت أن الفرع اختص بوصف يوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضى والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا ليس في الشريعة منه مسألة واحدة والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع وهذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين.
وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائما بإبطاله كما أبطل قياس الربا على البيع وقياس الميتة على المذكى وقياس المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام على الأصنام وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به بخلاف الأصنام فمن قال: "إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس" فقد أصاب وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود وهذا من أعظم الغلط والقياس الفاسد الذي ذمه السلف وقالوا أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وذم الله أهله بقوله {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يقيسونه على غيره ويسوون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد وما ضلت الرافضة وعادوا خيار الخلق وكفروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسبوهم إلا بالقياس الفاسد وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السموات وطي الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد وهذه حكمة لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر.
فصل: خطأ من أطلق أن بيع المعدوم لا يجوز وأما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز فالكلام عليها من وجهين: أحدهما: منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بمعنى عام وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدوما كبيع العبد الآبق والبعير الشارد وإن كان موجودا إذ موجب البيع تسليم المبيع فإذا كان البائع عاجزا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار فإنه لا يباع إلا بوكس فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومه وكذلك في النكاح إذا زوجه أمة لا يملكها أو ابنة لم تولد له وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصية فإنها تبرع محض فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر وطرده الهبة إذ لا محذور في ذلك فيها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يهبها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك".
الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه وأباحه بعد بدو الصلاح ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحصرم جاز فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية إلى الصلاح ومن جوز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقا وجعل موجب العقد القطع وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقا لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ولم يكن فرق بين ما نهى عنه من ذلك وما أذن فيه فإنه يقول موجب العقد التسليم في الحال فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحه أو لم يبد والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس الصحيح وقوله: "إن موجب العقد التسليم في الحال" جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه وكلاهما منتف في هذه الدعوى فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد ولا العاقدان التزاما ذلك بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع كما كان لجابر رضي الله عنه غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها إذ قد رضى بها كما رضى صلى الله عليه وسلم على جابر بتأخير تسليم البعير ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه ويجوز لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيع ما له فيه غرض صحيح كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها ولا يختص ذلك بالبيع بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته أو كاتب أمة واستثنى وطأها مدة الكتابة ونحوه وهذا كله منصوص أحمد وبعض أصحابه يقول إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة بناء على هذا الأصل الذي قد تبين فساده وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد وعن هذا الأصل قالوا لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم ومنهم من قال هذا مستثنى بالشرع بخلاف المستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع فإنه يثبت بالشرط مالا يثبت بالشرع كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع.
الفرق بين المطلق ومطلق العقد: وأيضا فقولكم: "إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه" أتعنون أن هذا موجب العقد المطلق أو مطلق العقد فإن أردتم الأول فصحيح وإن أردتم الثاني فممنوع فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد وموجب العقد المقيد ما قيد به كما أن موجب العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشرط والرهن والضمين هو ما قيد به وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك فموجب العقد المطلق شيء وموجب العقد المقيد شيء والقبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين والنبي صلى الله عليه وسلم جوز بيع الثمرة بعد بدو الصلاح مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح ولم يجعل موجب العقد القبض في الحال بل القبض المعتاد عند انتهاء صلاحها ودخل فيما أذن فيه بيع ما هو معدوم لم يخلق بعد وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة وهو قبض يبيح التصرف في أصح القولين وإن كان قبضا لا يوجب انتقال الضمان بل إذا تلف المبيع قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث أهل بلدته وأهل سنته وهو مذهب الشافعي قطعا فإنه علق القول به على صحة الحديث وقد صح صحة لا ريب فيها من غير الطريق التي توقف الشافعي فيها فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح وقد قال: إن صح الحديث قلت به ورواه من طريق توقف في صحتها ولم تبلغه الطريق الأخرى التي لا علة لها ولا مطعن فيها وليس مع المنازع دليل شرعي يدل على أن كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان وما لم يجوز التصرف لا ينقل الضمان فقبض العين المؤجرة يجوز التصرف ولا ينقل الضمان وقبض العين المستامة والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان ولا يجوز التصرف.
فصل: بيع مزارع القثاء والبطيخ وما شاكلها ومن هذا الباب بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان فمن منع بيعه إلا لقطة لقطة قال: لأنه معدوم فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها ومن جوزه كأهل المدينة وبعض أصحاب أحمد فقولهم أصح فإنه لا يمكن بيعها إلا على هذا الوجه ولا تتميز اللقطة المبيعة عن غيرها ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك ولو كلف الناس به لكان أشق شيء عليهم وأعظمه ضررا والشريعة لا تأتي به وقد تقدم أن ما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى الشارع عن بيعه وإنما نهى الشارع عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بدو الصلاح ونظير ما نهى عنه وأذن فيه سوى بيع المقاثي إذا بدا الصلاح فيها ودخول الأجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار وما يتلاحق في الشجر منها ولا فرق بينهما البتة
فصل: صحة ضمان الحدائق والبساتين وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي بل دل على خلافه وهو بيع المعدوم ضمان الحدائق والبساتين وقالوا هو بيع للثمر قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه وليس مع المانعين كما ظنوه فلا النص يتناوله ولا معناه ولم تجمع الأمة على بطلانه فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة: أما الإجماع فقد صح عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وتسلف الضمان فقضى به دينا كان على أسيد وهذا بمشهد من الصحابة ولم ينكره منهم رجل واحد ومن جعل مثل هذا إجماعا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك وأقل درجاته أن يكون قول صحابي بل قول الخليفة الراشد ولم ينكره منهم منكر وهذا حجة عند جمهور العلماء وقد جوز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى واختاره ابن عقيل وجوز بعضهم ضمان الأشجار مطلقا مع الأرض وبدونها واختاره شيخنا وأفرد فيه مصنفا ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال وجوز مالك ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث.
قال شيخنا: والصواب ما فعله عمر رضي الله عنه فإن الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها وهو نظير مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه والحب نظير الثمر والشجر نظير الأرض والعمل نظير العمل فما الذي حرم هذا وأحل هذا وهذا بخلاف المشتري فإنه يشتري ثمرا وعلى البائع مؤونة الخدمة والسقي والقيام على الشجر فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤونة الزرع والقيام عليه فقد ظهر انتفاء القياس والنص كما ظهر انتفاء الإجماع بل القياس الصحيح مع المجوزين كما معهم الإجماع القديم.
فإن قيل: فالثمر أعيان وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع.
قيل: الأعيان هنا حصلت بعمله في الأصل المستأجر كما حصل الحب بعمله في الأرض المستأجرة.
فإن قيل: الفرق أن الحب حصل من بذره والثمر حصل من شجر المؤجر.
قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوى بينهما والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الناشئة من أصل الملك والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك وإن كان البذر منه كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها فهذا محض القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة وبالله التوفيق، والذين منعوا ذلك وحرموه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعا وعقلا فإنهم يؤجرونه الأرض وليست مقصودة له البتة ويساقونه على الشجر من ألف جزء على جزء مساقاة غير مقصودة وإجارة غير مقصودة فجعلوا ما لم يقصد مقصودا وما قصد غير مقصود وحابوا في المساقاة أعظم محاباة وذلك حرام باطل في الوقف وبستان المولى عليه من يتيم أو سفيه أو مجنون ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تسوغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة ولا يسوغ اشتراط أحد العقدين في الآخر بل كل عقد مستقل بحكمه فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه وأين القياس من القياس والفقه من الفقه فبينهما في الصحة بعد ما بين المشرقين.
فصل: إجارة الظئر توافق القياس فهذا الكلام على المقام الأول وهو كون الإجارة على خلاف القياس وقد تبين بطلانه، وأما المقام الثاني وهو أن الإجارة التي أذن الله فيها في كتابه وهي إجارة الظئر على خلاف القياس فبناء منهم على هذا الأصل الفاسد وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان وهذا الأصل لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر ولهذا سوى بين النوعين في الوقف فإن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى وأن تكون ثمرة وأن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها وكذلك في باب التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده والعرية لمن يأكل ثمر الشجرة ثم يردها والمنيحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها القائم مقام عينها فكذلك في الإجارة تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانا وتارة للعين التي تحدث شيئا من بعد شيء مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئا بعد شيء مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة والمسوغ هو ما بينهما من القدر المشترك وهو حدوث المقصود بالعقد شيئا فشيئا سواء كان الحادث عينا أو منفعة وكونه جسما أو معنى قائما بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع مع اشتراكهما في المقتضى للجواز بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئا فشيئا أحق بالجواز فإن الأجسام أكمل من صفاتها وطرد هذا القياس جواز إجازة الحيوان غير الآدمي لرضاعه فإن الحاجة تدعو إليه كما تدعو إليه في الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها ويجوز استئجار الظئر من البهائم بعلفها والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان أحدهما أن يشترى اللبن مدة ويكون العلف والخدمة على البائع فهذا بيع محض والثاني أن يسلمها ويكون علفها وخدمتها عليه ولبنها له مدة الإجارة فهذا إجارة وهو كضمان البستان سواء وكالظئر فإن اللبن يستوفي شيئا فشيئا مع بقاء الأصل فهو كاستئجار العين ليسقي بها أرضه وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه ثم من أصحابه من جوز ذلك تبعا لنصه ومنهم من منعه ومنهم من شرط فيه شروطا ضيقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه والصواب الجواز وهو موجب القياس المحض فالمجوزون أسعد بالنص من المانعين وبالله التوفيق.
فصل: حمل العاقلة الدية يوافق القياس ومن هذا الباب قول القائل: "حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس" ولهذا لا تحمل العمد ولا العبد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث ولا تحمل جناية الأموال ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك كله.
والجواب أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها وبهذا جاء شرع الله سبحانه وجزاؤه وحمل العاقلة الدية غير مناقض لشيء من هذا كما سنبينه والناس متنازعون في العقل هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا على قولين كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير كالزوجة والولد هل تجب ابتداء أو تحملا على قولين وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تحملت عنه عن نفسه بغير إذن المتحمل لها فمن قال هي واجبة على الغير تحملا قال تجزىء في هذه الصورة ومن قال هي واجبة عليه ابتداء قال لا تجزىء بل هي كأداء الزكاة عن الغير وكذلك القاتل إذا لم تكن له عاقلة هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا على قولين بناء على هذا الأصل والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم وذلك أن دية المقتول مال كثير والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تحمل العمد بالاتفاق ولا شبهة على الصحيح والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته فلا بد من إيجاب بدله فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب بدله على من عليه موالاة القاتل ونصرته فأوجب عليهم إعانته على ذلك وهذا كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو فإن هذا أسيف بالدية التي لم يتعمد سبب وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلا أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد لأنه قاصد للجناية متعمد لها فهو آثم معتد وبخلاف بدل المتلف من الأموال فإنه قليل في الغالب لا يكاد المتلف يعجز عن حمله وشأن النفوس غير شأن الأموال ولهذا لا تحمل العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقتله واحتمال الجاني حمله وعند أبي حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدر كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردا للقياس وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنى آخر وهو أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة وهذا هو القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب المال عليهم فلا يقبل ذلك في حقهم ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين.
وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم: فإن الله سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد به خلة الفقراء وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقين ولهذا جمع الله بينهما في قوله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وذكر الله سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة وهي ثلاثة عدل وظلم وفضل فالعدل البيع والظلم الربا والفضل الصدقة فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المرابين وذكر عقابهم أباح البيع والتداين إلى أجل مسمى، والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره فهذا لون وذاك لون والله الموفق. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:37 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 9:18 pm | |
| فصل: حديث المصراة يوافق القياس ومما قيل فيه إنه على خلاف القياس حديث المصراة قالوا: وهو يخالف القياس من وجوه: منها أنه تضمن رد البيع بلا عيب ولا خلف في صفة ومنها أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة والتمر لا قيمة ولا مثل ومنها أن المال المضمون إنما يضمن بقدره في القلة والكثرة وقد قدر ههنا الضمان بصاع.
قال أنصار الحديث: كل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح.
فاسمعوا الآن هدم الأصول الفاسدة التي يعترض بها على النصوص الصحيحة: أما قولكم: "إنه تضمن الرد من غير عيب ولا فوات صفة" فأين في أصول الشريعة المتلقاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين وتكفينا هذه المطالبة ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلا ثم نقول بل أصول الشريعة توجب الرد بغير ما ذكرتم وهو الرد بالتدليس والغش فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب فإن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلس عليه فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محض القياس وموجب العدل فإن المشتري إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع ولو علم أنه على خلافها لم يبذل له فيها ما بذل فإلزامه للبيع مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزه الشريعة عنه وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر وليس ههنا عيب ولا خلف في صفة ولكن فيه نوع تدليس وغش.
فصل: الخراج بالضمان وأما قولكم: "الخراج بالضمان" فهذا الحديث وإن كان قد روي فحديث المصراة أصح منه باتفاق أهل الحديث قاطبة فكيف يعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد الله فإن الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك وأما الولد واللبن فلا يسمى خراجا وغاية ما في الباب قياسه عليه بجامع كونهما من الفوائد وهو من أفسد القياس فإن الكسب الحادث والغلة لم يكن موجودا حال البيع وإنما حدث بعد القبض وأما اللبن ههنا فإنه كان موجودا حال العقد فهو جزء من المعقود عليه والشارع لم يجعل الصاع عوضا عن اللبن الحادث وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع فضمانه هو محض العدل والقياس.
وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرض للفساد فإذا حلب صار عرضة لحمضه وفساده فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبن محلوب في الإناء كان ظلما تتنزه الشريعة عنه.
وأيضا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري وقد يكون أقل منه أو أكثر فيفضي إلى الربا لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة.
وأيضا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثر النزاع والخصام بينهما ففصل الشارع الحكيم صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله النزاع وقدره بحد لا يتعديانه قطعا للخصومة وفصلا للمنازعة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتا لهم وهو مكيل كما أن اللبن مكيل فكلاهما مطعوم مقتات مكيل وأيضا فكلاهما يقتات به بلا صنعة ولا علاج بخلاف الحنطة والشعير والأرز فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن.
فإن قيل: فأنتم توجبون صاع التمر في كل مكان سواء كان قوتاً لهم أو لم يكن.
قيل: هذا من مسائل النزاع وموارد الاجتهاد فمن الناس مَنْ يوجب ذلك ومنهم مَنْ يوجب في كل بلد صاعاً من قوتهم ونظير هذا تعيينه صلى الله عليه وسلم الأصناف الخمسة في زكاة الفطر وأن كل بلد يخرجون من قوتهم مقدار الصاع وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع وإلا فكيف يكلف من قوتهم السمك مثلا أو الأرز أو الدخن إلى التمر وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه وبالله التوفيق.
فصل: إعادة الصلاة لمَنْ صلى منفرداً خلف الصف توافق القياس ومن ذلك ظن بعضهم أن أمره صلى الله عليه وسلم لمَنْ صلى فذاً خلف الصف بالإعادة على خلاف القياس فإن الإمام والمرأة فذان وصلاتهما صحيحة، وهذا من أفسد القياس وأبطله، فإن الإمام يُسن في حقه التقدم وأن يكون وحده والمأمومون يُسن في حقهم الاصطفاف فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس والفرق بينهما أن الإمام إنما جعل ليؤتم به وتشاهد أفعاله وانتقالاته فإذا كان قدامهم حصل مقصود الإمامة وإذا كان في الصف لم يشاهد إلا من يليه ولهذا جاءت السنة بالتقدم ولو كانوا ثلاثة محافظة على المقصود بالائتمام وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها لأنها منهية عن مصافة الرجال فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده وهو قياس المشروع على غير المشروع.
فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها.
قيل: هذا غير مسلم بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال لكن موقف المرأة وحدها خلف صف الرجال يدل على شيئين أحدهما أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر عليه الدخول في الصف ووقف معه فذا صحت صلاته للحاجة وهذا هو القياس المحض فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها الثاني وهو طرد هذا القياس إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصح صلاته وكلاهما وجه في مذهب أحمد وهو اختيار شيخنا رحمه الله.
وبالجملة: فليست المصافة أوجب من غيرها فإذا سقط ما هو أوجب منها للعذر فهي أولى بالسقوط ومن قواعد الشرع الكلية أنه "لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة".
فصل: ركوب وحلب الرهن مقابل النفقة على وفق القياس ومن ذلك قول بعضهم: إن الحديث الصحيح وهو قوله: "الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة" على خلاف القياس فإنه جوز لغير المالك أن يركب الدابة وأن يحلبها وضمنه ذلك بالنفقة لا بالقيمة فهو مخالف للقياس من وجهين.
والصواب: ما دل عليه الحديث وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه لحق الله سبحانه وللمالك فيه حق الملك وللمرتهن حق الوثيقة وقد شرع الله سبحانه الرهن مقبوضا بيد المرتهن فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلا وإن مكن صاحبه من ركوبه خرج عن يده وتوثيقه وإن كلف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ لبنه شق عليه غاية المشقة ولا سيما مع بعد المسافة وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة ففي هذا جمع بين المصلحتين وتوفير الحقين فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق فله أن يرجع ببدله ومنفعة الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تهدر على صاحبها باطلا ويلزم بعوض ما أنفق المرتهن وإن قيل للمرتهن لا رجوع لك كان في ذلك إضرار به ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يختار.
فإن قيل: ففي هذا أن من أدى عن غيره واجبا فإنه يرجع ببدله وهذا خلاف القياس فإنه إلزام له بما لم يلتزمه ومعاوضة لم يرض بها.
قيل: وهذا أيضاً محض القياس والعدل والمصلحة وموجب الكتاب ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أهل بلدته وأهل سنته فلو أدى عنه دينه أو أنفق على من تلزمه نفقته أو افتداه من الأسر ولم ينو التبرع فله الرجوع وبعض أصحاب أحمد فرق بين قضاء الدين ونفقة القريب فجوز الرجوع في الدين دون نفقة القريب قال لأنها لا تصير دينا.
قال شيخنا: "والصواب التسوية بين الجميع والمحققون من أصحابه سووا بينهما ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليس ذلك دينا عليه والقرآن يدل على هذا القول" فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب وكذلك قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ونفقة الحيوان واجبة على مالكه والمستأجر والمرتهن له فيه حق فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإن قال الراهن أنا لم آذن لك في النفقة قال هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر فإذا رضي المنفق بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه وذلك خير محض فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه وطرد هذا القياس أن المودع والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلب جاز ذلك كالمرتهن.
فصل: حكم الرسول على مَنْ وقع على جارية امرأته يوافق القياس ومما قيل: "إنه من أبعد الأحاديث عن القياس" حديث الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها" وفي رواية أخرى: وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها" رواه أهل السنن وضعفه بعضهم من قبل إسناده وهو حديث حسن يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لين في سنده.
قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء".
الأصل الأول: من غير مال غيره: أحدها: أن من غير مال غيره بحيث فوت مقصوده عليه فله أن يضمنه بمثله وهذا كما لو تصرف في المغصوب بما أزال اسمه ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها: أنه باق على ملك صاحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء عليه في الزيادة كقول الشافعي والثاني يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه كقول أبي حنيفة والثالث يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا أعدل الأقوال وأقواها فإن فوت صفاته المعنوية مثل أن ينسيه صناعته أو يضعف قوته أو يفسد عقله أو دينه فهذا أيضا يخير المالك فيه بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة أو يخير المالك.
فصل: الأصل الثاني: ضمان المتلفات بالجنس الأصل الثاني: أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبي صلى الله عليه وسلم بكرا ورد خير منه وكذلك المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابة وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال إلا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضا عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن أتلف له شجر فقال الزهري: "يغرسه حتى يعود كما كان" وقال ربيعة وأبو الزناد: "عليه القيمة" فغلظ الزهري القول فيهما وقول الزهري: "وحكم سليمان هو موجب الأدلة" فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان كما قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وإن كان مثل الحيوان والآنية والثياب من كل وجه متعذرا فقد دار الأمر بين شيئين الضمان بالدراهم المخالفة للمثل في الجنس والصفة والمقصود والانتفاع وإن ساوت المضمون في المالية والضمان بالمثل بحسب الإمكان المساوي للمتلف في الجنس والصفة والمالية والمقصود والانتفاع ولا ريب أن هذا أقرب إلى النصوص والقياس والعدل ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة وهو منصوص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد تقدم تقرير ذلك وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون فما كان أقرب إلى المماثلة فهو أولى بالصواب ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلة من الجنس إلى القيمة فهذا هو القياس وموجب النصوص وبالله التوفيق.
الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه: والأصل الثالث: أن من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب فقهاء الحديث وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كعمر ابن الخطاب وغيره.
فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل فإذا طاوعته الجارية فقد أفسدها على سيدتها فإنها مع المطاوعة تنقص قيمتها إذ تصير زانية ولا تمكن سيدتها من استخدامها حق الخدمة لغيرتها منها وطمعها في السيد واستشراف السيد إليها وتتشامخ على سيدتها فلا تطيعها كما كانت تطيعها قبل ذلك والجاني إذا تصرف في المال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل فقضى الشارع لسيدتها بالمثل وملكه الجارية إذ لا يجمع لها بين العوض والمعوض وأيضا فلو رضيت سيدتها أن تبقى الجارية على ملكها وتغرمه ما نقص من قيمتها كان لها ذلك فإذا لم ترض وعلمت أن الأمة قد فسدت عليها ولم تنتفع بخدمتها كما كانت قبل ذلك كان من أحسن القضاء أن يغرم السيد مثلها ويملكها.
فإن قيل: فاطردوا هذا القياس وقولوا: إن الأجنبي إذا زنى بجارية قوم حتى أفسدها عليهم أن لهم القيمة أو يطالبوه ببدلها.
قيل: نعم هذا موجب القياس إن لم يكن بين الصورتين فرق مؤثر وإن كان بينهما فرق انقطع الإلحاق فإن الإفساد الذي في وطء الزوج بجارية امرأته بالنسبة إليها أعظم من الإفساد الذي في وطء الأجنبي وبالجملة فجواب هذا السؤال جواب مركب إذ لا نص فيه ولا إجماع.
فصل: استكراه الأمة والعبد على الفاحشة وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة فإن الإكراه على الوطء مثلة فإن الوطء يجري مجرى الجناية ولهذا لا يخلو عن عقر أو عقوبة ولا يجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بإفسادها على سيدتها أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة وأعتقها عليه لكونه مثل بها.
قال شيخنا: "ولو استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت عليه وضمنها بمثلها إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية".
وأما قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذا نهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء كما قيل: إن عبد الله بن أبي رأس المنافقين كان له إماء يكرههن على البغاء وليس هذا استكراها للأمة على أن يزني بها هو فإن هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك إلزام لها بأن تذهب هي فتزني مع أنه يمكن أن يقال: العتق بالمثلة لم يكن مشروعا عند نزول الآية ثم شرع بعد ذلك.
قال شيخنا: "والكلام على هذا الحديث من أدق الأمور فإن كان ثابتا فهذا الذي ظهر في توجيهه وإن لم يكن ثابتا فلا يحتاج إلى الكلام عليه".
نصوص الشرع معقولة: قال: وما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة.
قال: وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رأيت قياسا يخالف أثرا فلا بد من ضعف أحدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفي كثير منه على أفاضل العلماء فضلا عمن هو دونهم فإن إدراك الصفة المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي علقت بها الأحكام من أشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه أكثر الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم فلهذا صارت أقيسة كثير من العلماء تجيء مخالفة للنصوص لخفاء القياس الصحيح كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام انتهى.
فإن قيل: فهب أنكم خرجتم ذلك على القياس فما تصنعون بسقوط الحد عنه وقد وطئ فرجا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك؟.
قيل: الحديث لم يتعرض بنفي ولا إثبات وإنما دل على الضمان وكيفيته.
فإن قيل: فكيف تخرجون حديث النعمان بن بشير في ذلك أنها إن كانت أحلتها له جلد مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها له رجم بالحجارة على القياس.
قيل: هو بحمد الله موافق للقياس مطابق لأصول الشريعة وقواعدها فإن إحلالها له شبهة كافية في سقوط الحد عنه ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرج محرما عليه وكانت المائة تعزيرا له وعقوبة على ارتكاب فرج حرام عليه وكان إحلال الزوجة له وطأها شبهة دارئة للحد عنه.
فإن قيل: فكيف تخرجون التعزير بالمائة على القياس.
قيل: هذا من أسهل الأمور فإن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس وتارة بالنفي وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار وكذلك تعزير الغال وقد جاءت السنة بتحريق متاعه وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها وتعزير كاتم الضالة الملتقطة بإضعاف الغرم عليه وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم وكذلك قاتل الذمي عمدا أضعف عليه عمر وعثمان ديته وذهب إليه أحمد وغيره.
فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله".
قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرناه فإن الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة والحد في لسان الشارع أعم من ذلك فإن يراد به هذه العقوبة تارة ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى {تلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وقوله {تلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} فالأول حدود الحرام والثاني حدود الحلال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها" وفي حديث النواس بن سمعان الذي تقدم في أول الكتاب والسور أن حدود الله ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" يريد به الجناية التي هي حق الله.
فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية.
قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره للتأديب ونحوه فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث وبالله التوفيق.
فصل: المضي في الحج الفاسد يوافق القياس وأما المضي في الحج الفاسد فليس مخالفا للقياس فإن الله سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة فعلى من شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعا بالدخول باتفاق الأئمة وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات هل تلزم بالشروع أم لا فقد وجب عليه بالإحرام أن يمضي فيه إلى حين يتحلل ووجب عليه الإمساك عن الوطء فإذا وطىء فيه لم يسقط وطؤه ما وجب عليه من إتمام النسك فيكون ارتكابه ما حرمه الله عليه سببا لإسقاط الواجب عليه ونظير هذا الصائم إذا أفطر عمدا لم يسقط عنه فطره ما وجب عليه من إتمام الإمساك ولا يقال له قد بطل صومك فإن شئت أن تأكل فكل بل يجب عليه المضي فيه وقضاؤه لأن الصائم له حد محدود وهو غروب الشمس.
فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الصلاة إذا أفسدها وقلتم يمضي فيها ثم يعيدها.
قيل: من ههنا ظن من ظن أن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس والفرق بينهما أن الحج له وقت محدود وهو يوم عرفة كما للصيام وقت محدود وهو الغروب وللحج مكان مخصوص لا يمكن إحلال المحرم قبل وصوله إليه كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر فلا يمكنه فعله ولا فعل الحج ثانيا في وقته بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيا في وقتها وسر الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعله لا يسع غيره ووقت الصلاة أوسع منها فيسع غيرها فيمكنه تدارك فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقت آخر نظير الوقت الذي أفسدهما فيه والله أعلم.
فصل: عدم فطر من أكل ناسياً يوافق القياس وأما من أكل في صومه ناسياً فمَنْ قال: "عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس" ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيا والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه كما لو حدث ونسي حتى صلى والذين قالوا: "بل هو على وفق القياس" حجتهم أقوى لأن قاعدة الشريعة أن من فعل محظورا ناسيا فلا إثم عليه كما دل عليه قوله تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: "قد فعلت" وإذا ثبت أنه غير آثم فلم يفعل في صومه محرما فلم يبطل صومه وهذا محض القياس فإن العبادة إنما تبطل بفعل محظور أو ترك مأمور وطرد هذا القياس أن من تكلم في صلاته ناسيا لم تبطل صلاته وطرده أيضا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيا لم يبطل صيامه ولا إحرامه وكذلك من تطيب أو لبس أو غطى رأسه أو حلق رأسه أو قلم ظفره ناسيا فلا فدية عليه بخلاف قتل الصيد فإنه من باب ضمان المتلفات فهو كدية القتيل وأما اللباس والطيب فمن باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمة له في الشرع ولا في العرف وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف عليه ناسيا لم يحنث سواء حلف بالله أو بالطلاق أو بالعتاق أو غير ذلك لأن القاعدة أن من فعل المنهي عنه ناسيا لم يعد عاصيا والحنث في الأيمان كالمعصية في الإيمان فلا يعد حانثا من فعل المحلوف عليه ناسيا وطرد هذا أيضا أن من باشر النجاسة في الصلاة ناسيا لم تبطل صلاته بخلاف من ترك شيئا من فروض الصلاة ناسيا أو ترك الغسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئا من فروض الحج ناسيا فإنه يلزمه الإتيان به لأنه لم يؤد ما أمر به فهو في وقت عهدة الأمر وسر الفرق أن من فعل المحظور ناسياً يجعل وجوده كعدمه ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرا في سقوطه كما كان فعل المحظور ناسيا عذرا في سقوط الإثم عن فاعله.
فإن قيل: فهذا الفرق حجة عليكم لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات ولهذا تشترط فيه النية ولو كان فعل المفطرات من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات.
قيل: لا ريب أن النية في الصوم شرط ولولاها لما كان عبادة ولا أثيب عليه لأن الثواب لا يكون إلا بالنية فكانت النية شرطا في كون هذا الترك عبادة ولا يختص ذلك بالصوم بل كل ترك لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية ومع ذلك فلو فعله ناسيا لم يأثم به فإذا نوى تركها لله ثم فعلها ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله ولا يأثم بفعلها ناسيا وكذلك الصوم.
وأيضاً فإن فعل الناسي غير مضاف إليه: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" فأضاف فعله ناسيا إلى الله لكونه لم يرده ولم يتعمده وما يكون مضافا إلى الله لم يدخل تحت قدرة العبد فلم يكلف به فإنه إنما يكلف بفعله لا بما يفعل فيه ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذرعه القيء في اليقظة لم يفطر ولو استدعى ذلك أفطر به فلو كان ما يوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا.
التسوية بين الخطأ والنسيان في الصوم: فإن قيل: فأنتم تفطرون المخطىء كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر.
قيل: هذا فيه نزاع معروف بين السلف والخلف والذي فرقوا بينهما قالوا فعل المخطىء يمكن الاحتراز منه بخلاف الناسي.
ونقل عن بعض السلف: أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك.
قال شيخنا: "وحجة من قال لا يفطر في الجميع أقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر فإن الله سبحانه سوى بين الخطأ والنسيان في عدم المؤاخذة ولأن فعل محظورات الحج يستوي فيه المخطىء والناسي ولأن كل واحد منهما غير قاصد للمخالفة وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس ولم يثبت في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة سئل عن ذلك فقال: "لا بد من قضاء" وأبوه عروة أعلم منه وكان يقول: "لا قضاء عليهم" وثبت في الصحيحين أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر لهم الخيط الأسود من الأبيض ولم يأمر أحدا منهم بقضاء وكانوا مخطئين وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: "لا نقضي لأنا لم نتجانف لإثم" وروي عنه أنه قال: "نقضي" وإسناد الأول أثبت وصح عنه أنه قال: "الخطب يسير" فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء واللفظ لا يدل على ذلك".
قال شيخنا: "وبالجملة فهذا القول أقوى أثراً ونظراً وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس".
قلت له: فالنبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يحتجم فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تفطر ولم يبلغهما قبل ذلك قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم.
فأجابني بما مضمونه: أن الحديث اقتضى أن ذلك الفعل مفطر وهذا كما لو رأى إنسانا يأكل أو يشرب فقال: أفطر الآكل والشارب فهذا فيه بيان السبب المقتضي للفطر ولا تعرض فيه للمانع، وقد علم أن النسيان مانع من الفطر بدليل خارج فكذلك الخطأ والجهل والله أعلم. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:40 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأحد 06 ديسمبر 2015, 11:14 pm | |
| قال البخاري في صحيحه: "باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة" ثم ذكر حديث: "لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ابن فلان"، فكان الأب من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعا للأم والنسب تبعا للأب والقياس الفاسد إنما يجمع بين ما فرق الله بينه أو يفرق بين ما جمع الله بينه.
فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الولاء بل جعلتموه لموالي الأم والولاء لحمة كلحمة النسب.
قيل: لما كان الولاء من آثار الرق وموجباته كان تابعا له في حكمه فكان لموالي الأم ولما كان فيه شائبة النسب وهو لحمة كلحمته رجع إلى موالي الأب عند انقطاعه عن موالي الأم فروعي فيه الأمران ورتب عليه الأثران.
فإن قيل: فهلا جعلتم الولد في الدين تابعا لمن له النسب بل ألحقتموه بأبيه تارة وبأمه تارة.
قيل: الطفل لا يستقل بنفسه بل لا يكون إلا تابعا لغيره فجعله الشارع تابعا لخير أبويه في الدين تغليبا لخير الدينين فإنه إذا لم يكن له بد من التبعية لم يجز أن يتبع من هو على دين الشيطان وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن فهذا محال في حكمة الله تعالى وشرعه.
فإن قيل: فاجعلوه تابعا لسابيه في الإسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما فإن تبعيته لأبويه قد انقطعت وصار السابي هو أحق به.
قيل: نعم وهكذا نقول سواء وهو قول إمام أهل الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ونص عليه أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقد أجمع الناس على أنه يحكم بإسلامه تبعا لسابيه إذا سبي وحده قالوا: لأن تبعيته قد انقطعت عن أبويه وصار تابعا لسابيه واختلفوا فيما إذا سبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب أحدها: يحكم بإسلامه نص عليه أحمد في إحدى الروايتين وهي المشهورة من مذهبه وهو قول الأوزاعي والثاني: لا يحكم بإسلامه لأنه لم ينفرد عن أبويه والثالث: أنه إن سبي مع الأب تبعه في دينه وإن سبي مع الأم وحدها فهو مسلم وهو قول مالك وقول الأوزاعي وفقهاء أهل الثغر أصح وأسلم من التناقض فإن السابي قد صار أحق به وقد انقطعت تبعيته لأبويه ولم يبق لهما عليه حكم فلا فرق بين كونهما في دار الحرب وبين كونهما أسيرين في أيدي المسلمين بل انقطاع تبعيته لهما في حال أسرهما وقهرهما وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من انقطاعها حال قوة شوكتهما وخوف معرتهما فما الذي يسوغ له الكفر بالله والشرك به وأبواه أسيران في أيدي المسلمين ومنعه من ذلك وأبواه في دار الحرب وهل هذا إلا تناقض محض وأيضا فيقال لهم إذا سبي الأبوان ثم قتلا فهل يستمر الطفل على كفره عندكم أو تحكمون بإسلامه فمن قولكم أنه يستمر على كفره كما لو ماتا فيقال وأي كتاب أو سنة أو قياس صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثر بين أن يقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي وهل يكون المعنى الذي حكم بإسلامه لأجله إذا سبي وحده زائلا بسبائهما ثم قتلهما بعد ذلك وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين وأيضا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك ساب واحد أو يكون معهما في جملة العسكر فإن اعتبرتم الأول طولبتم بالدليل على ذلك وإن اعتبرتم الثاني فمن المعلوم انقطاع تبعيته لهما واستيلائهما عليه واختصاصه بسابيه ووجودهما بحيث لا يمكنان منه ومن تربيته وحضانته واختصاصهما به لا أثر له وهو كوجودهما في دار الحرب سواء وأيضا فإن الطفل لما لم يستقل بنفسه لم يكن بد من جعله تابعا لغيره وقد دار الأمر بين أن يجعل تابعا لمالكه وسابيه ومن هو أحق الناس به وبين أن يجعل تابعا لأبويه ولا حق لهما فيه بوجه ولا ريب أن الأول أولى وأيضا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكلية وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات فما بال ولاية الدين الباطل باقية وحدها وقد نص الإمام أحمد على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقا من سبي المسلمين وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار واشتهر ولم ينكره منكر فهو إجماع من الصحابة وإن نازع فيه بعض الأئمة وما ذاك إلا أن في تمليكه للكافر ونقله عن يد المسلم قطعا لما كان بصدده من مشاهدة معالم الإسلام وسماعه القرآن فربما دعاه ذلك إلى اختياره فلو كان تابعا لأبويه على دينهما لم يمنعا من شراه وبالله التوفيق.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيته للأبوين ولا سيما وهو مسلم بأصل الفطرة وقد زال معارض الإسلام وهو تهويد الأبوين وتنصيرهما.
قيل: قد نص على ذلك الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فإذا لم يكن له أبوان فهو على أصل الفطرة فيكون مسلما.
فإن قيل: فهل تطردون هذا فيما انقطع نسبة عن الأب مثل كونه ولد زنا أو منفيا بلعان؟.
قيل: نعم لوجود المقتضى لإسلامه بالفطرة وعدم المانع وهو وجود الأبوين ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور وأنه لا يحكم بإسلامه بذلك وهو الرواية الثانية عنه اختارها شيخ الإسلام وعلى هذا فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المسبي أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه وصار تابعا لسابيه المسلم بخلاف من مات أبواه أو أحدهما فإنه تابع لأقاربه أو وصى أبيه فإن انقطعت تبعيته لأبويه فلم تنقطع لمن يقوم مقامهما من أقاربه أو أوصيائه والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن تهويد الأبوين وتنصيرهما بناء على الغالب وهذا لا مفهوم له لوجهين أحدهما أنه مفهوم لقب والثاني أنه خرج مخرج الغالب ومما يدل على ذلك العمل المستمر من عهد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال ولم يتعرض أحد من الأئمة ولا ولاة الأمور لأطفالهم ولم يقولوا هؤلاء مسلمون ومثل هذا لا يهمله الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين.
فإن قيل: فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعا للمالك قتقولون: إذا اشترى المسلم طفلا كافرا يكون مسلما تبعا له أو تتناقضون فتفرقون بينه وبين السابي وصورة المسألة فيما إذا زوج الذمي عبده الكافر من أمته فجاءت بولد أو تزوج الحر منهم بأمة فأولدها ثم باع السيد هذا الولد لمسلم.
قيل: نعم نطرده ونحكم بإسلامه قاله شيخنا قدس الله روحه ولكن جادة المذهب أنه باق على كفره كما لو سبي مع أبويه وأولى والصحيح قول شيخنا لأن تبعيته للأبوين قد زالت وانقطعت الموالاة والميراث والحضانة بين الطفل والأبوين وصار المالك أحق به وهو تابع له فلا يفرد عنه بحكم فكيف يفرد عنه في دينه وهذا طرد الحكم بإسلامه في مسألة السباء وبالله التوفيق.
كل ما في الشريعة يوافق العقل فهذه نبذه يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودا وعدما كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودا وعدما فلم يخبر الله رسوله بما يناقض صريح العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.
أمثلة من شبه نفاة القياس: ولنفاة الحكم والتعليل والقياس ههنا سؤال مشهور وهو أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين وجمعت بين المختلفين فإن الشارع فرض الغسل من المنى وأبطل الصوم بإنزاله عمدا وهو طاهر دون البول والمذي وهو نجس وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والنضح من بول الصبي مع تساويهما ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما وأوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال وقطع سارق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها ثم جعل ديتها خمسمائة دينار فقطعها في ربع دينار وجعل ديتها هذا القدر الكبير وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكبر من الزنا وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف الصالح وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم وحرم المطلقة ثلاثا على الزوج الملق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على آخاد الناس أنه قال كذا وكذا وأوجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه ونقض الوضوء بمس الذكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العذرة والدم وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول وقصر عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملك اليمين من غير حصر وأباح للرجل أن يتزوج أربعا ولم يبح للمرأة إلا رجلا واحدا مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين وجوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره ولم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره. وفرق بين الطلقة الثالثة والثانية في تحريمها على المطلق بالثالثة دون الثانية وفرق بين لحم الإبل ولحم البقر والغنم والجواميس وغيرها فأوجب الوضوء من لحم الإبل وحده وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده وفرق بين الريح الخارجة من الدبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل وأوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به المحصنات الغافلات ولا الفرج الذي يرتكب به المحرم وأوجب على الرقيق نصف حد الحر مع أن حاجته إلى الزجر عن المحارم كحاجة الحر وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق به العار وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة القصر والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه وأوجب على كل من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله وحرم الذئب والقرد وما له ناب من السباع وأباح الضبع على قول ولها ناب تكسر به وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة ورخص لأبي بردة بن نيار في التضحية بالعناق وقال: "لن تجزىء عن أحد بعدك" وفرق بين صلاة الليل والنهار في السر والجهر ثم شرع الجهر في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم وحرم أخذ مال الغير إلا بطيبة من نفسه وسلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان وهو أولى بالشفعة وحرم الصوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين وحرم على الإنسان نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأخت أمه وحمل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس دون الجناية على الأموال وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى ومنع بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير فحرم ربا الفضل في الجنس الواحد دون الجنسين الجنسين ومنع المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب عليها أن تحد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرا وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم والزكاة والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة وخص بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر وجعل شهر رمضان سيد الشهور ويوم الجمعة سيد الأيام ويوم عرفة ويوم النحر وأيام منى أفضل الأيام وجعل البيت أفضل بقاع الأرض.
كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات؟ قالوا: وإذا كانت الشريعة قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال وقد قتل الصيد وجمعت بين العاقل والمجنون والطفل والبالغ في وجوب الزكاة وجمعت بين الهرة والفأرة في طهارة كل منهما وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم وبين ما مات من الصيد أو ذبحه المحرم في ذلك وبين الماء والتراب في التطهير بطل القياس فإن مبدأه على هذين الحرفين وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس.
والجواب أن يقال: الآن حمي الوطيس وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنا من كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنا ما كان فهذه طريقة أهل العصبية وحمية أهل الجاهلية ولعمر الله إن صاحب هذه الطريقة لمضمون له الذم وغير ممدوح إن أصاب وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسا وهدى لرشده والله الموفق.
وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل: الجواب المجمل عن هذه الشبه: أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافها وأضعاف أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها ومجيئها على وفق العقول السليمة والفطر المستقيمة حيث فرقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها في الصفات التي اقتضت افتراقها في الأحكام ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجه السؤال وصعب الانفصال وقال القائل: قد ساوت بين المختلفات وقرنت الشيء إلى غير شبيهه في الحكم وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم ولا اشتركت صورتان في حكم لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم ولا يضر افتراقهما في غيره كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعانى التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجودا وعدما.
جواب ابن الخطيب وأبي الحسن البصري: وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة فأجاب ابن الخطيب عنه بأن قال: "غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب ولا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في نزول المطر منه"، وهذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع وهو جواب أبي الحسين البصري بعينه.
جواب أبي الحسن الآمدي: وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي بأن التفريق بين الصور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا أو لمعارض له في الأصل أو الفرع وأما الجمع بين المختلفات فإنما كان لاشتراكهما في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة.
جواب أبي بكر الرازي: وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي بأن قال لا معنى لهذا السؤال فإنا لم نقل بموجب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها ولا أوجبنا المخالفة بينها من حيث اختلفت في الصور والأعيان والأسماء وإنما يجب القياس بالمعنى التي جعلت أمارات للحكم وبالأسباب الموجبة له فنعتبرها في مواضعها ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوه أخرى غيرها مثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم التفاضل في البر بالبر من جهة الكيل وفي الذهب بالذهب من جهة الوزن استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة الكيل والوزن مع الجنس فحيث وجدا أوجبنا تحريم التفاضل إن اختلفت المبيعات من وجوه أخر كالحمص وهو مكيل فحكمه حكم البر من حيث كونه مكيلا وإن خالفه من وجوه أخر وكالرصاص وهو موزون فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصاف أخر فمتى عقل المعنى الذي به تعلق الحكم وجعل علامة له وجب اعتباره حيث وجد كما رجم ماعزا لزناه وحكم بإلقاء الفأرة وما حولها لما ماتت في السمن فعقلنا عموم المعنى لكل زان وعموم المعنى لكل مائع جاور النجاسة إلا أن المعنى تارة يكون جليا ظاهرا وتارة يكون خفيا غامضا فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها الله عليه.
جواب القاضي أبي يعلي: وأجاب عنه القاضي أبو يعلي بأن قال: "العقل إنما يمنع أن يجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والبياض وأن يفرق بين المثلين فيما تماثلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى ذلك وأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد" ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجري مجراها من الألوان فإن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسنا إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه وقد يكون قبيحا إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفي عليه وإن كان القعود المقصود في ذلك الموضع متيقنا وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسن بأن يكون في كل منهما نفع لا ضرر فيه وإن كانا مختلفين على أن ذلك يكون يؤكد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله قد وجب له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين وهكذا القول في المختلفين وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياس لأنا إنما نحكم للفرع بحكم الأصل إذا شاركه في علة الحكم كما أن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما أوجب الحكم فيهما فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه.
جواب القاضي عبد الوهاب المالكي: وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي بأن قال: "دعواكم بأن هذه الصور التي اختلفت أحكامها متماثلة في نفسها دعوى والأمثلة لا تشهد لها ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائهما من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء والتماثل في العقليات لا يوجب التساوي في الأحكام الشرعيات"، وأيضا فهذا يوجب منع القياس في العقليات، وأيضا فإن القياس جائز على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره، فهذه أجوبة النظار ونحن بعون الله وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصل وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به.
الأجوبة بالتفصيل: الغسل من المني دون البول: أما المسألة الأولى: وهي إيجاب الشارع صلى الله عليه وسلم الغسل من المني دون البول فهذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة فإن المنى يخرج من جميع البدن ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى {سُلالَةٍ} لأنه يسيل من جميع البدن وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة فتأثر البدن بخروج المنى أعظم من تأثره بخروج البول وأيضا فإن الاغتسال من خروج المنى من أنفع شيء للبدن والقلب والروح بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنها تقوى بالاغتسال والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المنى وهذا أمر يعرف بالحس وأيضا فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا والغسل يحدث له نشاطا وخفة ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة كأنما ألقيت عني حملا وبالجملة فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم وفطرة صحيحة ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة فإذا اغتسل زال ذلك البعد ولهذا قال غير واحد من الصحابة إن العبد إذا نام عرجت روحه فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب إذا نام أن يتوضأ وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ويخلف عليه ما تحلل منه وإنه من أنفع شيء للبدن والروح وتركه مضر ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه وبالله التوفيق، على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه.
فصل: الفرق بين بول الصبي والصبية وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضحه من بول الصبي إذا لم يطعما فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يغسلان جميعا. والثاني: ينضحان. والثالث: التفرقة وهو الذي جاءت به السنة وهذا من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها.
والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه: أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر فتعم البلوى ببوله فيشق عليه غسله. والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد بل ينزل متفرقا ههنا وههنا فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر وسببه حرارة الذكر ورطوبة الأنثى فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة وهذه معان مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق.
فصل: الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها في القصر وأما نقصه الشطر من صلاة المسافر الرباعية دون الثلاثية والثنائية ففي غاية المناسبة فإن الرباعية تحتمل الحذف لطولها بخلاف الثنائية فلو حذف شطرها لأجحف بها ولزالت حكمة الوتر الذي شرع خاتمة العمل وأما الثلاثية فلا يمكن شطرها وحذف ثلثيها مخل بها وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترا فإنها شرعت ثلاثا لتكون وتر النهار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل".
فصل: الفرق بين قضاء الصوم دون الصلاة بالنسبة للحائض وأما إيجاب الصوم على الحائض دون الصلاة فمن تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلفين فإن الحيض لما كان منافيا للعبادة لم يشرع فيه فعلها وكان في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر لتكررها كل يوم بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر وهو شهر واحد في العام فلو سقط عنها فعله بالحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره وفاتت عليها مصلحته فوجب عليها أن تصوم شهرا في طهرها لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة الله بعبده وإحسانه إليه بشرعه وبالله التوفيق.
فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع فأين حرم الله هذا وأباح هذا والله سبحانه إنما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال وأما إماء التسري اللأتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوهن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن فهذا غلط محض على الشريعة وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وعورة الأمة ما لا يظهر غالبا كالبطن والظهر والساق فظن أن ما يظهر غالبا حكمه حكم وجه الرجل وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر فإن العورة عورتان: عورة في النظر وعورة في الصلاة فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك والله أعلم.
فصل: الفرق بين السارق وبين المختلس والمنتهب والغاصب وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا وعظم الضرر واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق بل هو بالخائن أشبه وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا فهو كالمنتهب وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي.
فإن قيل: فقد وردت السنة بقطع جاحد العارية وغايته أنه خائن والمعير سلطه على قبض ماله والاحتراز منه ممكن بأن لا يدفع إليه المال فبطل ما ذكرتم من الفرق.
قيل: لعمر الله لقد صح الحديث بأن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها فاختلف الفقهاء في سبب القطع هل كان سرقتها وعرفها الراوي بصفتها لأن المذكور سبب القطع كما يقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك أو كان السبب المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد ومن وافقه ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين البتة فإن كان الصحيح قول الجمهور اندفع السؤال وإن كان الصحيح هو القول الآخر فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرة جدا فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولا غنى لهم عنها وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها وهذا بخلاف جاحد الوديعة فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:41 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 6:55 am | |
| فصل: الفرق بين دية اليد وقطعها في السرقة وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف فقطعها في ربع دينار حفظا للأموال وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظا لها وصيانة.
وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال: يد بخمس مىء من عسجد وديت… ما يالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا الا السكوت له… ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة فلما خانت هانت وضمنه الناظم قوله: يد بخمس مىء من عسجد وديت… كنها قطعت في ربع دينار حماية الدم أغلاها وأرخصها… يانة المال فانظر حكمة الباري
وروى أن الشافعي رحمه الله أجاب بقوله: هناك مظلومة غالت بقيمتها… وههنا ظلمت هانت على الباري
وأجاب شمس الدين الكردي بقوله: قل لمعري عار أيما عار… جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار لا تقدحن زناد الشعر عن حكم… شعائر الشرع لم تقدح بأشعار فقيمة اليد نصف الألف من ذهب… فإن تعدت فلا تسوى بدينار
فصل: تخصيص القطع في ربع دينار وأما تخصيص القطع بهذا القدر فلأنه لابد من مقدار يجعل ضابطا لوجوب القطع إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك فلابد من ضابط وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع وهي مقدار ربع دينار وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ لا يلحقهم ضرر بفقده وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالباً وقوت اليوم للرجل وأهله له خطر عند غالب الناس وفي الأثر المعروف "مَنْ أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
فصل: القذف بالزنا يخالف القذف بالكفر وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر ففي غاية المناسبة فإن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه فجعل حد الفرية تكذيبا له وتبرئة لعرض المقذوف وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمى بها مسلما وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف في تكذيبه ولا يلحقه من العار بكذبه عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة ولا سيما إن كان المقذوف امرأة فإن العار والمعرة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر.
فصل: الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا يوافق القياس وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنا فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرءوا على القتل وأما الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره فاجتمع على ستره شرع الله وقدره فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال وكذلك في الإقرار لم يكتف بأقل من بأربع مرات حرصا على ستر ما قدر الله ستره وكره إظهاره والتكلم به وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
فصل: جلد قاذف الحر دون قاذف العبد يوافق القياس وأما جلد قاذف الحر دون العبد فتفريق لشرعه بين ما فرق الله بينهما بقدره فما جعل الله سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدرا ولا شرعا وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم فالله سبحانه وتعالى فضل بعض خلقه على بعض وفضل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف وجعل العبد مملوكا والحر مالكا ولا يستوي المالك والمملوك وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك موجب العدل والإحسان فإنه يوم الجزاء لا يبقى هناك عبد وحر ولا مالك ولا مملوك.
فصل: التفريق في العدة يوافق القياس وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق وعدة الحرة وعدة الأمة وبين الاستبراء والعدة مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شرعت العدة وعرف أجناس العدد وأنواعها.
الحكمة في تشريع العدة: فأما المقام الأول ففي شرع العدة عدة حكم منها العلم ببراءة الرحم وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة ومنها تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره وإظهار شرفه ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنا يتمكن فيه من الرجعة ومنها قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد ومنها الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة وحق والولد والقيام بحق الله الذي أوجبه ففي العدة أربعة حقوق وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه فإن النكاح مدته العمر ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق وفي تحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت وأحمد في إحدى الروايتين عنه فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها.
أجناس العدد: المقام الثاني في أجناسها: وهي أربعة في كتاب الله وخامس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنس الأول أم باب العدة {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الثاني {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} والثالث {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} الخامس: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرىء بحيضة" ومقدم هذه الأجناس كلها الحاكم عليها كلها وضع الحمل فإذا وجد فالحكم له ولا التفات إلى غيره وقد كان بين السلف نزاع في المتوفي عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه استقرت به الأحكام من التوارث واستحقاق المهر وليس المقصود بالعدة ههناء مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء لوجوبها قبل الدخول ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة ولاستواء الصغيرة الآيسة وذوات القروء في مدتها فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: "هي تعبد محض لا يعقل معناه" وهذا باطل لوجوه منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه ومنها أن العدد ليست من باب العبادات المحضة فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية ولا تفتقر إلى نية ومنها أن رعاية حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها فالصواب أن يقال هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده ولما كانت نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعا لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده بخلاف غيره فإن هذا ليس معلوما في حقه لو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررا محققا بغير نفع معلوم ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها فخفف الله عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحمة وحكم ومصلحة ونعمة بل هي من أجل نعمه عليهم على الإطلاق فله الحمد كما هو أهله.
وكانت أربعة أشهر وعشرا على وفق الحكمة والمصلحة إذ لابد من مدة مضروبة لها وأولى المدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه فإنه يكون أربعين يوما نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة فهذه أربعة أشهر ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل.
فصل: الحكمة في عدة الطلاق وأما عدة الطلاق فلا يمكن تعليلها بذلك لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق ولا ببراءة الرحم لأنه يحصل بحيضة كالاستبراء وإن كان براءة الرحم بعض مقاصدها ولا يقال: "هي تعبد" لما تقدم وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما فيها من الحقوق ففيها حق الله وهو امتثال أمره وطلب مرضاته وحق للزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له وحق للزوجة وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة وحق للولد وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وأن لا يختلط بغيره وحق للزوج الثاني وهو أن لا يسقي ماءه زرع غيره ورتب الشارع على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنما لا تخرج ولا تخرج هذا موجب القرآن ومنصوص إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي ورتب على حق المطلق تمكينه من الرجعة ما دامت في العدة وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى وعلى حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق وتكميلا لها وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهذا دليل على أن العدة للرجل على المرأة بعد المسيس وقال تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} فجعل الزوج أحق بردها في العدة فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان كما جعل الله سبحانه للمولي تربص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يفيء أو يطلق وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم.
فإن قيل: هذه العلة باطلة فإن المختلعة والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب والمطلقة ثلاثا والموطوءة بشبهة والمزني بها تعتد بثلاثة أقراء ولا رجعة هناك فقد وجد الحكم بدون علته وهذا يبطل كونها علة. عدة المختلعة: قيل: شرط النقض أن يكون الحكم في صورة ثابتا بنص أو إجماع وأما كونه قولا لبعض العلماء فلا يكفي في النقض به وقد اختلف الناس في عدة المختلعة فذهب إسحاق وأحمد في أصح الروايتين عنه دليلا أنها تعتد بحيضة واحدة وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وقد حكى إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مخالف وقد دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دلالة صريحة وعذر من خالفها أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده أو ظن الإجماع على خلاف موجبها وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر أما رجحانه أثرا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض بل قد روى أهل السنن عنه من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال: "خذ الذي لها عليك وخل سبيلها" قال: نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها وذكر أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا وأعل الحديث بعلتين إحداهما إرساله والثانية أن الصحيح فيه: "أمرت" بحذف الفاعل والعلتان غير مؤثرتين فإنه قد روي من وجوه متصلة ولا تعارض بين أمرت وأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وإذا كان الحديث قد روي بلفظ محتمل ولفظ صريح يفسر المحتمل ويبينه فكيف يجعل المحتمل معارضا للمفسر بل مقدما عليه ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ هو إجماع من الصحابة وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة وقد ملكت نفسها وصارت أحق ببضعها فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم وقد رأينا الشريعة جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة كما جاءت بذلك في المسبية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرع والمهاجرة من دار الحرب ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية والمختلعة فرع متردد بين هذين الأصلين فينبغي إلحاقها بأشبههما بها فنظرنا فإذا هي بذوات الحيضة أشبه.
تقسيم النساء بالنسبة إلى العدة: ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام: أحدها: المفارقة قبل الدخول فلا عدة عليها ولا رجعة لزوجها فيها الثاني: المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة فجعل عدتها ثلاثة قروء ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم كما هو مصرح به في القرآن في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} وكذلك في سورة الطلاق لما ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خير زوجها بين إمساك بمعروف أو مفارقتها بإحسان وهي الرجعية قطعا فلم يذكر الأقراء أو بدلها في حق بائن البتة القسم الثالث من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسبي أو هجرة أو خلع فجعل عدتها حيضة للاستبراء ولم يجعلها ثلاثا إذ لا رجعة للزوج وهذا في غاية الظهور والمناسبة وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط ونص عليه أحمد في الزانية واختاره شيخنا في الموطوءة بشبهة وهو الراجح وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده.
الحكمة في عدة المطلقة ثلاثا: فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم فيما ذكرتم من الصور فإنه لا يسلم معكم في المطلقة ثلاثا فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة والقصد مجرد استبراء رحمها.
قيل: نعم هذا السؤال وأرد وجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في عدتها: هل هي بثلاثة قروء أو بقرء واحد فالجمهور بل الذي لا يعرف الناس سواه أنها ثلاثة قروء وعلى هذا فيكون وجهه أن الطلقة الثالثة لما كانت من جنس الأوليين أعطيت حكمهما ليكون باب الطلاق كله بابا واحدا فلا يختلف حكمه والشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعا من ترتب الحكم بل هذه قاعدة الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها الوجه الثاني أن الشارع حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ولعن المحلل والمحلل له لمناقضتهما ما قصده الله سبحانه من عقوبته وكان من تمام هذه العقوبة أن طول مدة تحريمها عليه فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة فإنه إذا علم أنها لا تحل له حتى تعتد بثلاثة قروء ثم يتزوجها آخر بنكاح رغبة مقصود لا تحليل موجب للعنة ويفارقها و تعتد من فراقه ثلاثة قروء أخر طال عليه الانتظار وعيل صبره فأمسك عن الطلاق الثلاث وهذا واقع على وفق الحكمة والمصلحة والزجر فكان التربص بثلاثة قروء في الرجعية نظرا للزوج ومراعاة لمصلحته لما لم يوقع الثالثة المحرمة لها وههنا كان تربصها عقوبة له وزجرا لما اوقع الطلاق المحرم لما أحل الله له وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص ثان.
وقيل: بل عدتها حيضة واحدة وهي اختيار أبي الحسين بن اللبان فإن كان مسبوقا بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع وأن لا يلتفت إلى قوله وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله قوي ظاهر والله أعلم.
عدة المخيرة وحكمتها: فإن قيل: لقد جاءت السنة بأن المخيرة تعتد ثلاث حيض كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت: "أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض".
قيل: ما أصرحه من حديث لو ثبت ولكنه حديث منكر بإسناد مشهور وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول الأقراء الأطهار فإن صح الحديث وجب القول به ولم تسع مخالفته ويكون حكمه حكم المطلقة ثلاثا في اعتدادها بثلاثة قروء ولا رجعة لزوجها عليها فإن الشارع يخصص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام وأن لم يظهر لنا موجب التخصيص فكيف وهو ظاهر في مسألة المخيرة فإنها لو جعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها وأيس منها زوجها فإذا جعلت ثلاث حيض طال زمن انتظارها وحبسها عن الأزواج ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته ويزول ما عندها من الوحشة ولو قيل: "إن اعتداد المختلعة بثلاث حيض لهذا المعنى بعينه" لكان حسنا على وفق حكمة الشارع ولكن هذا مفقود في المسببة والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة.
عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها: فإن قيل: فهب أن هذا كله قد سلم لكم فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها؟.
قيل: هذا إنما يرد على من جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة ههنا شرعت تعبدا محضا غير معقول المعنى وأما من جعل هذا بعض مقاصد العدة وأن لها مقاصد أخر من تكميل شأن هذا العقد واحترامه وإظهار خطره وشرفه فجعل لهم تحريم بعد انقطاعه بموت أو فرقة فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها ولا بين الصغيرة والكبيرة مع أن المعنى الذي طولت له العدة في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثا موجود في حق الآيسة والصغيرة وكان مقتضى الحكمة التي تضمنت النظر في مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته وزجره في الطلاق المحرم التسوية بين النساء في ذلك وهذا ظاهر جدا وبالله التوفيق.
فصل: الحكمة في تحريم المرأة بعد الطلاق الثالث وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها له بعد نكاحها للثاني فلا يعرف حكمته ألا من له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية فنقول وبالله التوفيق.
لما كان إباحة فرج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومنعه منه من أعظم نعم الله عليه وإحسانه إليه كان جديرا بشكر هذه النعمة ومراعاتها والقيام بحقوقها وعدم تعريضها للزوال وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها الله في كل زمان ولكل أمة فجاءت شريعة التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج فإذا تزوجت حرمت عليه ولم يبق له سبيل إليها وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى فإن الزوج إذا علم أنه إذا طلق المرأة وصار أمرها بيدها وأن لها أن تنكح غيره وأنها إذا نكحت غيره حرمت عليه أبدا كان تمسكه بها أشد وحذره من مفارقتها أعظم وشريعة التوراة جاءت بحسب الأمة الموسوية فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالها ثم جاءت شريعة الإنجيل بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة فإذا تزوج بامرأة فليس له أن يطلقها ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلها وأفضلها وأعلاما وأقومها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته وأباح لها من الطيبات ما لم يبحه لأمة غيرها فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعا وأن يتسرى من الإماء بما شاء وليس التسرى في شريعة أخرى غيرها ثم أكمل لعبده شرعه وأتم عليه نعمته بأن ملكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه فلم يجعلها غلا في عنقه قيدا في رجله وإصرا على ظهره وشرع له فراقها على أكمل الوجوه لها وله بأن يفارقها واحدة ثم تتربص ثلاثة قروء والغالب أنها في ثلاثة أشهر فأن تاقت نفسه إليها وكان له فيها رغبة وصرف مقلب القلوب قلبه إلى محبتها وجد السبيل إلى ردها ممكنا والباب مفتوحا فراجع حبيبته واستقبل أمره وعاد إلى يده ما أخرجته يد الغضب ونزعات الشيطان منها ثم لا يؤمن غلبات الطباع نزاعات الشيطان من المعاودة فمكن من ذلك أيضا مرة ثانية ولعلها أن تذوق من مرارة الطلاق وخراب البيت ما يمنعها من معاودة ما يغضبه ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق فإذا جاءت الثالثة جاء مالا مرد له من أمر الله وقيل له قد اندفعت حاجتك بالمرة الأولى والثانية ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل فإذا علم أن الثالثة فراق بينه وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص ثلاثة قروء وتزوج بزوج راغب في نكاحها وإمساكها وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولا كاملا يذوق فيه كل واحد منهما عسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يفارقها بموت أو طلاق أو خلع ثم تعتد من ذلك عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى الله وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العود بعد الثالثة لا باختياره ولا باختيارها وأكد هذا المقصود بأن لعن الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك بل نكح نكاح تحليل ولعن الزوج الأول إذا ردها بهذا النكاح بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول ويطلقها كما طلقها الأول وحينئذ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج.
وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله تبين لك عظمة هذه الشريعة وجلالتها وهيمنتها على سائر الشرائع وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدلة فإن الله سبحانه شرعهما في وقت ولم يشرع المبدلة أصلا، وهذه الدقائق ونحوها مما يختص الله سبحانه بفهمه من يشاء فمن وصل إليها فليحمد الله ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء ووفق فطر الألباء.
وقل للعيون الرمد لا تتقدمي… إلى الشمس واستغشي ظلام اللياليا وسامح ولا تنكر عليها وخلها… وإن أنكرت حقا فقل خل ذا ليا
غيره: عاب التفقه قوم لا عقول لهم… وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة… أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر فصل: غسل أعضاء الوضوء دون الموضع الذي خرجت منه الريح يوافق القياس وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم تخرج منها الريح وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه فما أوفقه للحكمة وما أشده مطابقة للفطرة فإن حاصل السؤال: لم كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟.
وهذا سؤال معكوس من قلب منكوس فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب وبعده اليدان وهما آلة البطش والتناول والأخذ فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه ولما كان الرأس مجمع الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة لكن لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة واشتدت البلية فشرع مسح جميعه وأقامه مقام غسله تخفيفا ورحمة كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين.
ولعل قائلا يقول: وما يجزىء مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء إمتثالا لأمر الله وطاعة له وتعبدا يؤثر في نظافته وطهارته مالا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم والطبع المستقيم كما أن معك الوجه بالتراب امتثالا للأمر وطاعة وعبودية تكسبه وضاءة ونظافة وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين ولما كانت الرجلان تمس الأرض غالبا وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل ولم يوفق للفهم عن الله ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل.
فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله وبها يعصي الله سبحانه ويطاع فاليد تبطش والرجل تمشي والعين تنظر والأذن تسمع واللسان يتكلم فكان في غسل هذه خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته وإن قعد قعد سالما" وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء وأن حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء فمن أنكس قلبا وأفسد فطرة وأبطل قياسا ممن يقول إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء وإن الشارع فرق بين التماثلين هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد لله من انشراح القلب وقوته واتساع الصدر وفرح النفس ونشاط الأعضاء فتميزت من سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها وبالله التوفيق.
فصل: قياس توبة التائب على توبة المحارب وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابه مع شدة ضررها وتعديه فلأن تدفع التوبة ما دون حد احراب بطريق الأولى والأحرى وقد قال الله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الأعضاء امتثالا لأمر الله وإقامة لعبوديته ما يقتضي إزالة ما لحقها من درن المعصية ووسخها.
وقد أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا رسول الله حدثني عن الوضوء قال: "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلي فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله أو هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئه نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئه كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئه مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة وإذا مسح رأسه انحلت عقدة وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له" وفيه أيضا عن أبي أمامة يرفعه: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة فإذا تمضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة فإذا غسل وجهه نزلت قام إليه الرجل فأعاد قوله قال: أليس قد صليت معنا قال: نعم قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك" فهذا لما جاء تائبا بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به وهو أحد القولين في المسألة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو الصواب.
فإن قيل: فماعز جاء تائبا والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد.
قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين ولا ريب أن الحد أقيم عليهما وبهما احتج أصحاب القول الآخر وسألت شيخنا عن ذلك فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر وأن التوبة مطهره وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد فقال في حق ما عز: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به: "اذهب فقد غفر الله لك" وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به ولذلك رددهما النبي صلى الله عليه وسلم مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة وبين مسلك من يقول لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم.
فصل: قبول رواية العبد وشهادته وأما قوله: "وقبل شهادة العبد صلى الله عليه وسلم بأنه قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال كذا وكذا" فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته.
والجواب أنه لا يلزم الشارع قول فقيه معين ولا مذهب معين وهذا المقام لا ينتصر فيه إلا الله ورسوله فقط وهذا السؤال كذب على الشارع فإنه لم يأت عنه حرف واحد أنه قال: لا تقبلوا شهادة العبد بل ردوها ولو كان عالما مفتيا فقيها من أولياء الله ومن أصدق الناس لهجة بل الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والميزان العادل قبول شهادة العبد فيما تقبل فيه شهادة الحر فإنه من رجال المؤمنين فيدخل في قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} كما دخل في قوله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} وهو عدل بالنص والإجماع فيدخل في قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} كما دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل حلف عدوله" ويدخل في قوله {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّه} وفي قوله {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وفي قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية كما دخل في جميع ما فها من الأوامر ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا" وقال أنس بن مالك: "ما علمت أحدا رد شهادة العبد" رواه الإمام أحمد عنه وهذا أصح من غالب الإجماعات التي يدعيها المتأخرون فالشهادة على الشارع بأنه أبطل شهادة العبد وردها شهادة بلا علم ولم يأمر الله برد شهادة صادق أبدا وإنما أمر بالتثبت في شهادة الفاسق.
فصل: صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل وأما إيجاب الشارع الصدقة في السائمة وإسقاطها عن العوامل فقد اختلف في هذه المسألة للاختلاف في الحديث الوارد فيها وفي الباب حديثان أحدهما: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: "ليس في الإبل العوامل صدقة" رواه الدارقطني من حديث غالب بن عبيد الله عن عمرو والثاني: حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "ليس في البقر العوامل شيء" رواه أبو داود ثنا النفيلي ثنا زهير ثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث عن علي قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على العوامل شيء" قال أبو داود: وروى حديث النفيلي شعبه وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على لم يرفعوه ورواه نعيم بن حماد: ثنا أبو بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على موقوفا: "ليس في الإبل العوامل ولا في البقر العوامل صدقة" ورواه الدارقطنى من حديث صقر بن حبيب: سمعت أبا رجاء عن ابن عباس عن على موقوفا قال ابن حبان: "ليس هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يعرف بإسناد منقطع نقله الصقر عن أبي رجاء وهو يأتي بالمقلوبات" وروى من حديث جابر وابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أشبه.
يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:45 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 7:00 am | |
| وبعد فللعلماء في المسألة قولان: فقال مالك في الموطأ: النواضج والبقر السواني وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله الزكاة إذا وجبت فيه الصدقة قال ابن عبد البر: "وهذا قول الليث بن سعد ولا أعلم أحدا قال به من فقهاء لأمصار وغيرهما"، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وأبو عبيد وإسحاق وداود لا زكاة في البقر العوامل ولا الإبل العوامل وإنما الزكاة في السائمة منها وروى قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة منهم علي وجابر ومعاذ بن جبل.
وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة وحجة هؤلاء مع الأثر النظر فإن ما كان من المال معداً لنفع صاحبه به كثياب بذلته وعبيد خدمته وداره التي يسكنها ودابته التي يركبها وكتبه التي ينتفع بها وينفع بها وينفع غيره فليس فيها زكاة ولهذا لم يكن في حلى المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة فطرد هذا أنه لا زكاة في بقر حرثه وإبله التي يعمل فيها بالدولاب وغيره فهذا محض القياس كما أنه موجب النصوص والفرق بينها وبين السائمة ظاهر فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل فهي كالثياب والعبيد والدار والله تعالى أعلم.
فصل: تحصين الحرة للرجل دون الأمة يوافق القياس وأما قوله: "وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه" فتعبير سيء عن معنى صحيح فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنا على من كملت عليه نعمة الله بالحلال فيتخطاه إلى الحرام ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن واعتبر للإحصان أكمل أحواله وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها دون الأمة التي لم يبح الله نكاحها إلا عند الضرورة فالنعمة بها ليست كاملة ودون التسري الذي هو في الرتبة دون النكاح فإن الأمة ولو كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة لا شرعا ولا عرفا ولا عادة بل قد جعل الله لكل منهما رتبة والأمة لا تراد لما تراد له الزوجة ولهذا كان له أن يملك من لا يجوز له نكاحها ولا قسم عليه في ملك يمينه فأمته تجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مجرى دابته وغلامه بخلاف الحرائر وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النعمة على من يجب عليه الحد أن يكون قد عقد على حرة ودخل بها إذ بذلك يقضي كمال وطره ويعطي شهوته حقها ويضعها مواضعها هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة ولا يعتبر ذلك في كل فرد فرد من أفراد المحصنين ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة ولا ينقضها تخلف الحكمة في أفراد الصور كما هذا شأن الخلق فهو موجب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه وبالله التوفيق.
فصل: نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "نقض الوضوء بمس الذكر دون سائر الأعضاء ودون مس العذرة والبول" فلا ريب أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر وروى عنه خلافه وأنه سئل عنه فقال للسائل: "هل هو إلا بضعة منك" وقد قيل: إن هذا الخبر لم يصح وقيل: بل هو منسوخ وقيل: بل هو محكم دال على عدم الوجوب وحديث الأمر دال على الاستحباب فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك.
وسؤال السائل ينبني على صحة حديث الأمر بالوضوء وأنه للوجوب ونحن نجيبه على هذا التقدير فنقول: هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها فإن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبا والانتشار الصادر عن المس في مظنة خروج المذى ولا يشعر به فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها كما أقيم النوم مقام الحدث وكما أقيم لمس المرأة بشهوة مقام الحدث وأيضا فإن مس الذكر يوجب انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن والوضوء يطفىء تلك الحرارة وهذا مشاهد بالحس ولم يكن الوضوء من مسه لكونه نجسا ولا لكونه مجرى النجاسة حتى يورد السائل مس العذرة والبول ودعواه بمساواة مس الذكر للأنف من أكذب الدعاوي وأبطل القياس وبالله التوفيق.
فصل: إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "أوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول" فهذا أيضا من كمال الشريعة ومطابقتها للعقول والفطر وقيامها بالمصالح فإن ما جعل الله سبحانه في طباع الخلق النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد لأن الوازع الطبيعي كاف في المنع منه وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له وسد الذريعة إليه من قرب وبعد وجعل ما حوله حمى ومنع من قربانه ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات وفي السرقة بإبانة اليد وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربا بالسوط ومنع قليل الخمر وإن كان لا يسكر إذ قليله داع إلى كثيره ولهذا كان من أباح من نبيذ التمر المسكر القدر الذي لا يسكر خارجا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص وأيضا فالمفسدة التي في شرب الخمر والضرر المختص والمتعدى أضعاف الضرر والمفسدة التي في شرب البول وأكل القاذورات فإن ضررها مختص بمتناولها.
فصل: قصر عدد الزوجات على أربع دون ملك اليمين يوافق القياس وأما قوله: "وقصر عدد المنكوحات على أربع وأباح ملك اليمين بغير حصر" فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة فإن النكاح يراد لوطء وقضاء الوطر ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة فأطلق له ثانية وثالثة ورابعة وكان هذا العدد موافقا لعدد طباعه وأركانه وعدد فصول سنته ولرجوعه إلى الواحدة بعد صبر ثلاث عنها والثلاث أول مراتب الجمع وقد علق الشارع بها عدة أحكام ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثا وجعل حد الضيافة المستحبة أو الموجبة ثلاثا وأباح للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثا فرحم الضرة بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثا ثم يعود فهذا محض الرحمة والحكمة والمصلحة وأما الإماء فلما كن بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصر المالك على أربعة منهن أو غيرها من العدد معنى فكما ليس في حكمة الله ورحمته أن يقصر السيد على أربعة عبيد أو أربع دواب وثياب ونحوها فليس في حكمته أن يقصره على أربع إماء وأيضا فللزوجة حق على الزوج اقتضاه عقد النكاح يجب على الزوج القيام به فإن شاركها غيرها وجب عليه العدل بينهما فقصر الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه ومع هذا فلا يستطيعون العدل لو حرصوا عليه ولا حق لإمائه عليه في ذلك ولهذا لا يجب لهن قسم ولهذا قال تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والله أعلم.
فصل: إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس وأما قوله: "وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ولم يبح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد" فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعايه مصالحهم ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك وينزه شرعه أن يأتي بغير هذا ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقتل الأزواج بعضهم بعضا وعظمت البلية واشتدت الفتنة وقامت سوق الحرب على ساق وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون وكيف يستقيم حال الشركاء فيها فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه، فإن قيل: فكيف روعي جانب الرجل وأطلق له أن يسيم طرفه ويقضي وطره وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته وداعي المرأة داعيه وشهوتها شهوته.
قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأة من وراء الخدور ومحجوبة في كن بيتها وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة وبلي بما لم تبل به أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يطلق للمرأة وهذا مما خص الله به الرجال وفضلهم به على النساء كما فضلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك وجعل الرجال قوامين على النساء ساعين في مصالحهن يدأبون في أسباب معيشتهن ويركبون الأخطار ويجوبون القفار ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات والرب تعالى شكور حليم فشكر لهم ذلك وجبرهم بأن مكنهم مما لم يمكن منه الزوجات وأنت إذا قايست بين تعب الرجال وشقائهم وكدهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدت حظ الرجال أن تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته فله الحمد كما هو أهله.
وأما قول القائل: "إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل" فليس كما قال والشهوة منبعها الحرارة وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر ولكن المرأة لفراغها وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها يغمرها سلطان الشهوة ويستولي عليها ولا يجد عندها ما يعارضه بل يصادف قلبا فارغا ونفسا خالية فيتمكن منها كل التمكن فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل وليس كذلك ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وطاف سليمان على تسعين امرأة في ليلة ومعلوم أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطء والمرأة إذا قضى الرجل وطره فترت شهوتها وانكسرت نفسها ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين فتطابقت حكمة القدر والشرع والخلق والأمر ولله الحمد.
فصل: جواز استمتاع السيد بأمته دون السيدة بعبدها يوافق القياس وأما قوله: "أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره" فهذا أيضا من كمال هذه الشريعة وحكمتها فإن السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه مالك له والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير ولهذا منع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته وهذا أمر مشهور بالفطرة والعقول قبحه وشريعة أحكم الحاكمين منزهة عن أن تأتي به.
فصل: الفرق بين الطلقات في تحريم الزوجة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الطلقات فجعل بعضها محرما للزوجة وبعضها غير محرم" فقد تقدم من بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية.
فصل: الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء" فقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال وأنه على وفق الحكمة ورعاية المصلحة.
فصل: الفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة" فهذا سؤال أورده عبد الله بن الصامت على أبي ذر وأورده أبو ذر على النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب عنه بالفرق البين فقال: "الكلب الأسود شيطان" وهذا إن أريد به أن الشيطان يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرا كما هو الواقع فظاهر وليس بمستنكر أن يكون مرور عدو الله بين يدي المصلى قاطعا لصلاته ويكون مرورة قد جعل تلك الصلاة بغيضة إلى الله مكروهة له فيأمر المصلي بأن يستأنفها وإن كان المراد به أن الكلب الأسود شيطان الكلاب فإن كل جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين وهي ما عتا منها وتمرد كما أن شياطين الإنس عتاتهم ومتمردوهم والإبل شياطين الأنعام وعلى ذروة كل بعير شيطان فيكون مرور هذا النوع من الكلاب وهو من أخبثها وشرها مبغضا لتلك الصلاة إلى الله تعالى فيجب على المصلي أن يستأنفها وكيف يستبعد أن يقطع مرور العدو بين الإنسان وبين وليه حكم مناجاته له كما قطعها كلمة من كلام الآدميين أو قهقهة أو ريح أو ألقى عليه الغير نجاسة أو نومه الشيطان فيها؟، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن شيطانا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي"، وبالجملة فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة.
فصل: الفرق بين الريح والجشوة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الريح الخارجة من الدبر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه" فهذا أيضا من محاسن هذه الشريعة وكمالها كما فرق بين البلغم الخارج من الفم وبين العذرة في ذلك ومن سوى بين الريح والجشاء فهو كمن سوى بين البلغم والعذرة والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذا فتخرج من الخياشيم فيحدث العطاس وكذلك الجشاء ريح تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود بخلاف الريح التي تحتبس تحت المعدة ومن سوى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحس.
فصل: الفرق بين الخيل والإبل في وجوب الزكاة يوافق القياس وأما قوله: "أوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن آلاف من الخيل" فلعمر الله أنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا كما في سنن أبي داود من حديث عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيهما خمسة دراهم" ورواه سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي وقال بقية: حدثني أبو معاذ الأنصاري عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: "يرفعه عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة" قال بقية: الجبهة الخيل والكسعة: البغال والحمير والنخة: المربيات في البيوت وفي كتاب عمرو بن حزم: "لا صدقة في الجبهة والكسعة والكسعة: الحمير والجبهة: الخيل".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تراد لغير ما تراد له الإبل فإن الإبل تراد للدر والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد وأما الخيل فإنما خلقت للكر والفر والطلب والهرب وإقامة الدين وجهاد أعدائه وللشارع قصد أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها ليكون ذلك أرغب للنفوس فيما يحبه الله ورسوله من اقتنائها ورباطها وقد قال الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} فرباط الخيل من جنس آلات السلاح والحرب فلو كان عند الرجل منها ما عساه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن عليه فيه زكاة بخلاف ما أعد للنفقة فإن الرجل إذا ملك منه نصابا ففيه الزكاة وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بعينه في قوله: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" أفلا تراه كيف فرق بين ما أعد للإنفاق وبين ما أعد لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وجهاد أعدائه فهو من جنس السيوف والرماح والسهام وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها.
فصل: الفرق بين مقادير الزكاة في الأنواع المختلفة يوافق القياس وأما قوله: "أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر وفي المعدن الخمس" فهذا أيضا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح فإن الشارع أوجب الزكاة مواساة للفقراء وطهرة للمال وعبودية للرب وتقربا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته ثم فرضها على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين وأرفقها بأرباب الأموال ولم يفرضها في كل مال بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة ويكثر فيها الربح والدر والنسل ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه بل فرضها في أربعة أجناس من المال المواشي والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم وعامة تصرفهم فيها وهي التي تحتمل المواساة دون ما أسقط الزكاة فيه ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة إلى مالا زكاة فيه فقسم المواشي إلى قسمين: سائمة ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة فالنعمة فيها كاملة والمنة بها وافرة والكلفة فيها يسيرة والنماء فيها كثير فخص هذا النوع بالزكاة وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في دواليبهم وحروثهم وحمل أمتعتهم فلم يجعل في ذلك زكاة لكلفة المعلوفة وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وعبيدهم وإمائهم وأمتعتهم.
ثم قسم الزروع والثمار إلى قسمين: قسم يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من ماء السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر وقسم يسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبه السائمة والمعلوفة فلم يوجب فيه زكاة ما شرب بنفسه ولم يسقط زكاته جملة واحدة فأوجب فيه نصف العشر، ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو معد للثمنية والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلية المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه، ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة وقسم أعد للقنية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه.
ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملا خففها بأن جعل فيها ربع العشر ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تسقى بالكلفة أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم يكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته بخلاف الماشية وبخلاف ما لو أعد للتجارة فإنه عرضة للنماء ثم لما كان الركاز مالا مجموعا محصلا وكلفة تحصيله أقل من غيره ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس.
فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر العقول حسنها وكمالها وشهدت الفطر بحكمتها وأنه لم يطرق العالم شريعة أفضل منها ولو اجتمعت عقول العقلاء وفطر الألباء واقترحت شيئا يكون أحسن مقترح لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به، ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدر الشارع لما يحتمل المواساة نصبا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها وإلى ما يجحف المواساة ببعضه فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جعل الصيام كذلك ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وظفها كل يوم وليلة ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر.
وإذا تأمل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية ونفع الآخذ به وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار.
وغير خاف تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده وأنه جار مجرى الأموال لما عداه من أجناس الأموال بحيث لو فقد لأضر فقد بالناس وتعطل عليهم كثير من مصالحهم بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات والتتمات التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين أحدهما حاجة الآخذ والثاني نفعه فجعل المستحقين لها نوعين نوعا يأخذ لحاجته ونوعا يأخذ لنفعه وحرمها على من عداهما.
فصل: قطع آلة السرقة دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية ولم يقطع فرج الزاني وقد باشر به الجناية ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف" فجوابه أن هذا من أدل الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، ونحن نذكر فصلا نافعا في الحدود ومقاديرها وكمال ترتبها على أسبابها واقتضاء كل جناية لما رتب عليها دون غيرها وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح ورد أسئلة لم يوردها هذا السائل وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسن انفصال والله المستعان وعليه التكلان.
إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لما خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجا عنها فجعل في أنفسهم العقول الصحيحة والأسماع والأبصار والإرادات والشهوات والقوى والطبائع والحب والبغض والميل والنفور والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسببه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه وتكره حصوله فتدفعه عنها ثم أكد أسباب هذا الابتلاء بأن وكل بها قرناء من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيرة العادلة الطيبة وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر مرة ليتم الابتلاء في دار الامتحان وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء وكلاهما من الحق الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله وهما مقتضى ملك الرب وحمده فلا بد أن يظهر ملكه وحمده فيهما كما ظهر في خلق السموات والأرض وما بينهما وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره وأقام سوق الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به فلم يكن بد من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها من الأسباب من التنافس والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدي ما حد له والتقصير عن كثير مما تعبد به وسهل ذلك عليها اغترارها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجله من عظيم اللذة في أخراها ونزولها على الحاضر المشاهد وتجافيها عن الغائب الموعود وذلك موجب ما جبلت عليه من جهلها وظلمها فاقتضت أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته البالغة ونعمته السابغة ورحمته الشاملة وجوده الواسع أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحا وأن لا يتركهم سدى ولا يخليهم ودواعي أنفسهم وطبائعهم بل ركب في فطرهم وعقولهم معرفة الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة ومعرفة أسبابها ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عرفهم به مفصلا على ألسنة رسله وقطع معاذيرهم بأن أقام على صدقهم من الأدلة والبراهين مالا يبقي معه لهم عليه حجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وأن الله لسميع عليم وصرف لهم طرق الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وضرب لهم الأمثال وأزال عنهم كل إشكال ومكنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين وأعانهم عليه بكل سبب وسلطهم على قهر طباعهم بما يجرهم إلى إيثار العواقب على المبادى ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها وأرشدهم إلى التفكر والتدبر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون علما وأمارة لتحقيق ما أخره عنهم في دار الجزاء والمثوبة ويكون العاجل مذكرا بالآجل والقليل المنقطع بالكثير المتصل والحاضر الفائت مؤذنا بالغائب الدائم فتبارك رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقدره حق قدره ممن أنكر أسماءه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وظن به ظن السوء فأرداه ظنه فأصبح من الخاسرين.
الحكمة في شرع الحدود: فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان الأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه.
تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات: ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول قتل وقطع وجلد ونفي تغريم مال وتعزير.
موجب القتل: فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس فكانت عقوبته من جنسه وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين وجعله أيضا عقوبة الجناية على الفرج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام.
موجب القطع: وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا وعقوبة السارق فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه و شر يده التي بطش بها ورجله التي سعى بها وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله فكف ضرره وعدوانه ورحمه بأن أبقى له يدا من شق ورجلا من شق.
موجب الجلد: وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغا يوجب القتل ولا إبانة الطرف إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سببا لأشنع القتلات ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم المعوض فانتهض ذلك المعارض سببا لإسقاط القتل ولم يكن الجلد وحده كافيا في الزجر فغلظ بالنفي والتغريب ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجره عن المعاودة وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالبا ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع بل ضرب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد وضرب فيها أربعين فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمرنا باتباع سنته وسنة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلها ثمانين بالسوط ونفي فيها وحلق الرأس وهذا كله من فقه السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة ولم ينسخ ذلك ولم يجعله حدا لا بد منه فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل.
فصل: موجب تغريم المال وأما تغريم المال وهو العقوبة المالية فشرعها في مواضع منها تحريق متاع الغال من الغنيمة ومنها حرمان سهمه ومنها إضعاف الغرم على سارق الثمار المعلقة ومنها إضعافه على كاتم الضالة الملتقطة ومنها أخذ شطر مال مانع الزكاة ومنها عزمه صلى الله عليه وسلم على تحريق دور من لا يصلي في الجماعة لولا ما منعه من إنفاذه ما عزم عليه من كون الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى غير الجاني وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قتله حيث شفع فيه هذا المسىء وأمر الأمير بإعطائه فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر.
التغريم نوعان مقدر وغير مقدر: وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط ونوع غير مضبوط.
التغريم المقدر: فالمضبوط ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره وعقوبة الموصي له ببطلان وصيته ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها.
التغريم غير المقدر: وأما النوع الثاني غير المقدر فهذا الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود ولهذا اختلف الفقهاء فيه هل حكمه منسوخ أو ثابت والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة إذ لا دليل على النسخ وقد فعله الخلفاء الراشدون من بعدهم من الأئمة.
موجب التعزير ومواضعه: وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحدود لا كفارة فيه ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه ونوع لا حد فيه ولا كفارة فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف والثاني كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام والثاني كوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فأما النوع الأول فالحد فيه مغن عن التعزير وأما النوع الثاني فهل يجب مع الكفارة فيه تعزير أم لا على قولين وهما في مذهب أحمد وأما النوع الثالث ففيه التعزير قولا واحدا لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره على قولين للعلماء الثاني قول الشافعي والأول قول الجمهور.
وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي وإنما عملها فيما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة فيه ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض لأن هذا الجنس لم يبح قط ولا تعمل فيه الكفارة ولو وجبت فيه الكفارة لوجبت في الزنا واللواط بطريق الأولى فهذه قاعدة الشارع في الكفارات وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:58 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 8:03 am | |
| فصل: إيقاع العقوبة بقيام الحجة وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقبئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم وهي البينة واشترط فيها العدالة وعدم التهمة فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة.
الحكمة في عدم جعل العقوبة من جنس الذنب: فإن قيل: كيف تدعون أن هذه العقوبات لاصقة بالعقول وموافقة للمصالح وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره وأن تخرب دار من خرب دار غيره وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه وماالفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه فكيف والأولى لا سبيل إلى إزالتها وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها ثم كيف حسن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف ولا المزور على الإمام والمسلمين يقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس إنما هو محض المشيئة ولله التصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
فالجواب وبالله التوفيق والتأييد من طريقين: مجمل ومفصل، أما المجمل فهو أن من مشرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أحاط بكل شيء علما وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك فهذا في خلقه وذاك في أمره ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شى في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين وقوة السمع في الأذن وقوة الشم في الأنف وقوة النطق في اللسان والشفتين وقوة البطش في اليد وقوة المشي في الرجل وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان وأحكمه غاية الإحكام فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته هذا ما تهيئه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل بل ذلك عنده عتيد حاضر ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة؟.
وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة فنقول وبالله التوفيق:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}: أما قوله: "كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وإن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة" سؤال في غاية الوهن والفساد وأول ما يقال لسائله: هل ترى ردع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكف عدوانهم مستحسنا في العقول موافقا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك فإن قال: "لا أراه كذلك" كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا وفسد نظام العالم وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم وإن قال: "بل لا تتم المصلحة إلا بذلك".
قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن بل مناف للحكمة والمصلحة فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فلولا القصاص لفسد العالم وأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء فكأن في القصاص دفعا لمفسدة التجري على الدماء بالجناية وبالاستيفاء وقد قالت العرب في جاهليتها: "القتل أنفى للقتل" وبسفك الدماء تحقن الدماء فلم تغسل النجاسة بالنجاسة بل الجناية نجاسة والقصاص طهرة وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته والموت به أسرع الموكات وأوحاها وأقلها ألما فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي فإنه حسن وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي حتمه الله على عباده وساوى فيه بين جميعهم ولولاه لما هنأ العيش ولا وسعتهم الأرزاق ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب والموت مخلص للحي والموت مريح لكل منهما من صاحبه ومخرج من دار الابتلاء والامتحان وباب للدخول في دار الحيوان.
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه… أبر بنا من كل بر وأعطف يعجل تخليص النفوس من الأذى… ويدني إلى الدار التي هي أشرف
فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تحصى فكيف إذا كان في طهرة للمقتول وحياة للنوع الإنساني وتشف للمظلوم وعدل بين القاتل والمقتول فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالة الجائرة.
مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال مفسدة: وأما قوله: "لو كان ذلك مستحسنا في العقول لاستحسن في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلته بمثله".
فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظير ما أتلفه عليه فإن المثل يسد مسد المثل من كل وجه فتصير المقابلة مفسدة محضة كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلة لقتله هو ابنه أو غلامه فإن هذا شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغا في الاجتهاد وقد ذهب إليه بعض أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا أو كان يغيظهم وهذا بخلاف قتل عبده إذا قتل عبده أو قتل فرسه أو عقر فرسه فإن ذلك ظلم لغير مستحق ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل لا إتلاف النظير كما غرم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناء بدله وقال: "إناء بإناء" ولا ريب أن هذا أقل فسادا وأصلح للجهتين لأن المتلف ماله إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيء وانتفع بما أخذه عوض ماله فإذا مكناه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال وما يراد من التشفي وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبا ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغرم ولاشك أن هذا أليق بالعقل وأبلغ في الصلاح وأوفق للحكمة وأيضا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعي بل يبقى متألما موتورا غير مجبور والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا.
المصلحة في تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض: فإن قيل: فخيروا المجني عليه بين أن يغرم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو كما خيرتموه في الجناية على طرفه وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية، قيل: لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس وإنما هو زيادة فساد لا مصلحة فيه بمجرد التشفي ويكفي تغريبه وتعزيره في التشفي والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه مالا تدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الصنم والحمية والتحرق لأخذ الثأر مالا يجبره المال أبدا حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه والمجني عليه موتور هو وأولياؤه فإن لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعوا من الألم والغيظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلا وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه.
كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من الإبل: وإن الذي أصبحتم تحلبونه…دم غير أن اللون ليس بأشقرا وقال جرير يعير من أخذ الدية فاشترى بها نخلا: ألا أبلغ بني حجر بن وهب…بأن التمر حلو في الشتاء
وقال آخر: إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه… دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دع
وقال آخر: خليلان مختلف شكلنا… أريد العلاء ويبغي السمن أريد دماء بني مالك… ورأى المعلى بياض اللبن
وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعير من أخذ بدل ماله ولم تعده ضعفا ولا عجزا البتة بخلاف من أخذ بدل دم وليه فما سوى الله بين الأمرين في طبع ولا عقل ولا شرع والإنسان قد يخرق ثوبه عند الغيظ ويذبح ماشيته ويتلف ماله فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ ولازدراء به ما يلحق من قتل نفسه أو جدع انفه أو قلع عينه.
فصل: الحكمة في إتلاف بعض الأعضاء التي وقعت بها المعصية دون بعض وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه ولسان من تكلم به ويد من لطم غيره عدوانا ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأتي ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
الحكمة في قطع السارق: ثم إن في حد السرقة معنى آخر وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها ولهذا يقولون: "فلان ينظر إلى فلان مسارقة" إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران ولهذا يقال: "وصلت جناح فلان" إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه فلا يكاد يفوت الطالب ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح.
الحكمة في حد الزنا: وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة ولما كان الزنا من أمهات الجرائم وكبار المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين وفي هذا هلاك الحرث والنسل فشاكل في معانيه أو في أكثرها القتل الذي فيه هلاك ذلك فزجر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله من يهم به فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة.
ثم إن للزاني حالتين إحداهما: أن يكون محصنا قد تزوج فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة واستغنى به عنها وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام والثانية: أن يكون بكرا لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف فحقن دمه وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعا على المعاودة للاستمتاع بالحرام وبعثا له على القنع بما رزقه الله من الحلال وهذا في غاية الحكمة والمصلحة جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟.
ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه فكان من العدل أن تعمه العقوبة ثم إنه غير متصور في حق المرأة وكلاهما زان فلا بد أن يستويا في العقوبة فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين.
الجزاء من جنس العمل: وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررا وأشدها فسادا للعالم وهي الكفر الأصلي والطاريء والقتل وزني المحصن وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث وهذه هي الثلاث التي أجاب عنها النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله ندا وهو خلقك قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بجليلة جارك" فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُون} الآية.
اختلاف الحد لاختلاف الجريمة: ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطرف ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع واختلفت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص ورأى عمر قد زاد في حد الخمر على أربعين والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين وعزر بأمور لم يعزر بها النبي صلى الله عليه وسلم وأنفذ على الناس أشياء عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فيظن ذلك تعارضا وتناقضا وإنما أتى من قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق.
فصل: جعل حد الرقيق على النصف من حد الحر يوافق القياس وأما قوله: "وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر وحاجتهما إلى الزجر واحدة" فلا ريب أن الشارع فرق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات البدنية كالطهارة والصلاة والصوم لاستوائهما في سببهما وفرق بينهما في العبادات المالية كالحج والزكاة والتكفير بالمال لافتراقهما في سببهما وأما الحدود فلما كان وقوع المعصية من الحر أقبح من وقوعها من العبد من جهة كمال نعمة الله تعالى عليه بالحرية وأن جعله مالكا لا مملوكا ولم يجعله تحت قهر غيره وتصرفه فيه ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عوض الله عنها من المباحات فقابل النعمة التامة بضدها واستعمل القدرة في المعصية فاستحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفض منه رتبة وأنقص منزلة فإن الرجل كلما كانت نعمة الله عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها فإن العبد كلما كملت نعمة الله عليه ينبغي له أن تكون طاعته له أكمل وشكره له أتم ومعصيته له أقبح وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه فإن نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل ولا يستوي عند الملوك والرؤساء من عصاهم من خواصهم وحشمهم ومن هو قريب منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء فجعل حد العبد أخف من حد الحر جمعا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة إظهارا لشرف الحرية وخطرها وإعطاء لكل مرتبة حقها من الأمر كما أعطاها حقها من القدر ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين بل هذا محض الحكمة فإن العبد كان عليه في الدنيا حقان حق لله وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرا فاتفقت حكمة الشرع والقدر والجزاء والحمد لله رب العالمين.
فصل: شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق بهما العار" فهذا من اعظم محاسن الشريعة فإن قاذف الأجنبية مستغن عن قذفها لا حاجة إليه البتة فإن زناها لا يضره شيئا ولا يفسد عليه فراشه ولا يعلق عليه أولادا من غيره وقذفها عدوان محض وأذى لمحصنة غافلة مؤمنة فترتب عليه الحد زجرا له وعقوبة وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العار والمسبة وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به وانصراف قلبها عنه إلى غيره فهو محتاج إلى قذفها ونفي النسب الفاسد عنه وتخلصه من المسبة والعار لكونه زوج بغي فاجرة ولا يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب وهي لا تقر به وقول الزوج عليها غير مقبول فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذبين ثم يفسخ النكاح بينهما إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدا فهذا أحسن حكم يفصل به بينهما في الدنيا وليس بعده أعدل منه ولا أحكم ولا أصلح ولو جمعت عقول العالمين لم يهتدوا إليه فتبارك من أبان ربوبيته ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه.
فصل: تخصيص المسافر بالرخص دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة الفطر والقصر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة" فلا ريب أن الفطر والقصر يختص بالمسافر ولا يفطر المقيم إلا لمرض وهذا من كمال حكمة الشارع فإن السفر في نفسه قطعة من العذاب وهو في نفسه مشقة وجهد ولو كان المسافر من أرفه الناس فإنه في مشقة وجهد بحسبه فكان من رحمة الله بعباده وبره بهم أن خفف عنهم شطر الصلاة واكتفى منهم بالشطر وخفف عنهم أداء فرض الصوم في السفر واكتفى منهم بأدائه في الحضر كما شرع مثل ذلك في حق المريض والحائض فلم يفوت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة ولم يلزمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر وأما الإقامة فلا موجب لإسقاط بعض الواجب فيها ولا تأخيره وما يعرض فيها من المشقة والشعل فأمر لا ينضبط ولا ينحصر فلو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية وإن جوز للبعض دون البعض لم ينضبط فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز بخلاف السفر على أن المشقة قد علق بها من التخفيف ما يناسبها فإن كانت مشقة مرض وألم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدا أو على جنب وذلك نظير قصر العدد وإن كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنه.
فصل: الفرق بين نذر الطاعة والحلف عليها يوافق القياس وأما قوله: "وأوجب على من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله" فهذا السؤال يورد على وجهين: أحدهما: أن يحلف ليفعلنها نحو أن يقول: والله لأصومن الاثنين والخميس ولأتصدقن كما يقول: لله على أن أفعل ذلك. والثاني: أن يحلف بها كما يقول: إن كلمت فلانا فلله علي صوم سنة وصدقة ألف، فإن أورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام أحدها: التزام بيمين مجردة الثاني: التزام بنذر مجرد الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين فالأول نحو قوله: "والله لأتصدقن" والثاني نحو: "لله علي أن أتصدق" والثالث نحو: "والله إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا" والرابع نحو: "إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدقن" وهذا كقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذا نذر مؤكد بيمين وإن لم يقل فيه فعلي إذ ليس ذلك من شرط النذر بل إذا قال: إن سلمني الله تصدقت أو لأتصدقن فهو وعد وعده الله فعليه أن يفي به وإلا دخل في قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} فوعد العبد ربه نور يجب عليه أن يفي له به فإنه جعله جزاء وشكرا له على نعمته عليه فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء: "لله علي كذا" فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعل ذلك والأول تعليق بشرط وقد وجد فيجب فعل المشروط عنده لالتزامه له بوعده فإن الالتزام تارة يكون بصريح الإيجاب وتارة يكون بالوعد وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب فإن الله سبحانه ذم من خالف ما التزمه له بالوعد وعاقبه بالنفاق في قلبه ومدح من وفى بما نذره له وأمر بإتمام ما شرع فيه له من الحج والعمرة فجاء الالتزام بالوعد آكد الأقسام الثلاثة وإخلافة يعقب النفاق في القلب وأما إذا حلف يمينا مجردة ليفعلن كذا فهذا حض منه لنفسه وحث على فعله باليمين وليس إيجابا عليها فإن اليمين لا توجب شيئا ولا تحرمه ولكن الحالف عقد اليمين بالله ليفعلنه فأباح الله سبحانه له حل ما عقده بالكفارة ولهذا سماها الله تحلة فإنها تحل عقد اليمين وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهمه بعض الفقهاء فإن الحنث قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب وإن كان مباحا فالشارع لم يبح سبب الإثم وإنما شرعها الله حلا لعقد اليمين كما شرع الله الاستثناء مانعا من عقدها فظهر الفرق بين ما التزم لله وبين ما التزم بالله فالأول ليس فيه إلا الوفاء والثاني يخير فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك وسر هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به فإن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فالأول من أحكام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والثاني من أحكام {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} و{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الله من هاتين الكلمتين {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي: "هذه بيني وبين عبدي نصفين" وبهذا يخرج الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني وأن ما نذره لله من هذه الطاعات يجب الوفاء به وما أخرجه مخرج اليمين يخير بين الوفاء به وبين التفكير لأن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فوجب الوفاء بالقسم الأول ويخير الحالف في القسم الثاني وهذا من أسرار الشريعة وكمالها وعظمها.
ويزيد ذلك وضوحا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصده ألا تكون ولكراهته للزومها له حلف بها فقصده ألا يكون الشرط فيها ولا الجزاء ولذلك يسمى نذر اللجاج والغضب فلم يلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا متقرب به إلى الله فلم يعقده لله وإنما عقده به فهو يمين محضة فإلحاقه بنذر القربة إلحاق له بغير شبهه وقطع له عن الإلحاق بنظيره وعذر من ألحقه بنذر القربة شبهه به في اللفظ والصورة ولكن الملحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني وقد اتفق الناس على أنه لو قال: "إن فعلت كذا فإنا يهودي أو نصراني" فحنث أنه لا يكفر بذلك إن قصد اليمين لأن قصد اليمين منع من الكفر وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب وكالحلف بقوله: "إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" وحكاه إجماع الصحابة في العتق وحكاه غيره إجماعا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم.
قال: لأنه قد صح عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يعرف له في الصحابة مخالف ذكره ابن بزيزة في شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن وكان حاصل ما ردوا به قوله أربعة أشياء أحدها وهو عمدة القوم أنه خلاف مرسوم السلطان والثاني أنه خلاف الأئمة الأربعة والثالث أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتني فأنت طالق" ففعلت والرابع أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول فلا يلتفت إليه فنقض حججهم وأقام نحوا من ثلاثين دليلا على صحة هذا القول وصنف في المسألة قريبا من ألف ورقة ثم مضى لسبيله راجيا من الله أجرا أو أجرين وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون.
فصل: الفرق بين الضبع وغيره من كل ذي ناب يوافق القياس وأما قولهم: "وحرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع ولها ناب فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه وأما الضبع فروي عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب وقالوا وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني قالوا: "وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمارة وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه" قالوا: "ولفظ الحديث يحتمل معنيين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها فأفتى به من قوله" ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعه من كونها صيدا.
ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه فروى الترمذي في جامعه من حديث عبيد بن عمير الليثي عن عبد الرحمن بن أبي عمارة قال: قلت لجابر ابن عبد الله: آكل الضبع؟ قال: نعم قلت: أصيد هي؟ قال: نعم قلت: أسمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هو صحيح وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال: عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمارة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الضبع فقال: "هي صيد وفيها كبش" قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه: "الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل" قال الحاكم: حديث صحيح وقوله: "ويؤكل" يحتمل الوقف والرفع وإذا احتمل ذلك لم تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم قالوا: ولو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى الطحاوي وغيره تواترها فلا يقدم حديث جابر عليها قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه قالوا: والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوات الأنياب والضبع لا يخرج عن هذا وهذا وقالوا وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدي في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها وقد قال بكر بن محمد سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبا فقال عليه الجزاء هي صيد ولكن لا يؤكل وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله سئل عن ثعلب فقال الثعلب سبع فقد نص على أنه سبع وأنه يفدي في الإحرام ولما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به.
والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا: ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعنى شريعة التنزيل لا شريعة التأويل ومن تأمل ألفاظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها فإن الغاذي شبيه بالمغتذي ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفا والله أعلم.
يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 10:59 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 8:08 am | |
| فصل: الحكمة في جعل شهادة خزيمة بشهادتين وأما قوله: "وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممَّنْ هو أفضل منه" فلا ريب أن هذا من خصائصه ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون مَنْ حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي وكان فرض على كل مَنْ سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم وهذا مستقر عند كل مسلم ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا فلما تفطن خزيمة دون مَنْ حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين.
فصل: الحكمة في تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده فلموجب أيضا وهو أنه يذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاه لحم أراد إعادة الأضحية فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شايي لحم فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم فلما استقر الحكم لم يكن بعد ذلك يجزيء إلا ما وافق الشرع المستقر وبالله التوفيق.
فصل: الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة فإن الليل مظنة هدو الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن والليل محل مواطأة القلب للسان ومواطأة اللسان للأذن ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان الصديق يقرأ فيها بالبقرة وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليا من الشواغل فتمكن فيه من غير مزاحم وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرية إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والإستسقاء والكسوف فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في التحصيل المقصود وأنفع للجمع وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة والله أعلم.
فصل: الحكمة في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام الأقربين وأما قوله: "وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة للأم" فنعم وهذا من كمال الشريعة وجلالتها فإن ابن العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته والذب عنه وحمل العقل عنه فبنوا أبيه هم أولياؤه وعصبته والمحامون دونه وأما قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب وإنما ينتسبون إلى آبائهم فهم بمنزلة أقارب البنات.
كما قال القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا… بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب وقدمهم على أقارب الأم وإنما ورث معهم أقارب الأم من ركض الميت معهم في بطن الأم وهم أخواته أو من قربت قرابته جدا وهن جداته لقوة إيلادهن وقرب أولادهن منه فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم وكانوا أولى من الأجانب فهذا الذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأعدله وأحسنه.
فصل: الحكمة في الفرق بين الشفعة و أخذ مال الغير وأما قوله: "وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون مالا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان" فهذا السؤال قد أورده على وجهين: أحدهما: على أصل الشفعة وأن الاستحقاق بها مناف لتحريم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه والثاني: أنه خص بعض المبيع بالشفعة دون بعض مع قيام السبب الموجب للشفعة وهو ضرر الشركة، ونحن بحمد الله وعونه نجيب عن الأمرين فنقول: الحكمة في تشريع الشفعة: من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق بها غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغى بعضهم على بعض شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له".
ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة. فقالت طائفة: هو الضرر اللاحق بالقسمة لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من المؤنة والكلفة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ماهو معلوم فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها وفي ذلك من الضرر عليه مالا خفاء به فمكنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به وإن أذن في البيع وقال لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع هذا مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا معارض له بوجه وهو الصواب المقطوع به وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة.
وقالت طائفة أخرى: إنما شرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة فإذا كانا شركين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر فإذا باع نصبيه كان شريكه أحق به من الأجنبي إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه فإنه يصل إلى حقه من الثمن ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع فيزول الضرر عنهما جميعا وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل قال قيل لأحمد فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك قال هذا كله أو كد لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن وهذا لا يمكن قسمته فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك وقال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد عن الرجل يعرض على شريكه عقارا بينه وبينه أو نخلا فقال: الشريك لا أريد فباعه ثم طلب الشفعة بعد قال: له الشفعة في ذلك" واحتج لهذا القول بحديث جابر الصحيح: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم" وهذا يتناول المنقول والعقار وفي كتاب الخراج عن يحي بن آدم عن زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شرك في نخل أو ربعه فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك" وهذا الإسناد على شرط مسلم وفي الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشريك شفيع والشفعة في كل شيء" تفرد به أبو حمزة السكري عن عبد العزيز بهذا الإسناد ورواه أبو الأحوص سلام بن سليم عن عبد العزيز ولم يذكر ابن عباس ولفظه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء الأرض والدار والجارية والخادم" وكذلك رواه أبو بكر بن عياش وإسرائيل بن يونس عن عبد العزيز مرسلا فهذا علة هذا الحديث على أن أبا حمزة السكري ثقة احتج به صاحبا الصحيح وإن قلنا: "الزيادة من الثقة مقبولة" فرفع الحديث إذا صحيح وإلا فغايته أن يكون مرسلا عضدته الآثار المرفوعة والقياس الجلي وقد روى أبو جعفر الطحاوي عن محمد بن خزيمة عن يوسف بن عدي عن عبيد الله بن إدريس عن ابن جريح عن عطاء عن جابر قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء" ورواة هذا الحديث ثقات وهو غريب بهذا الإسناد قالوا: ولأن الضرر بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي يقبل القسمة فإذا كان الشارع مريدا لرفع الضرر الأدنى فالأعلى أولى بالرفع قالوا: ولو كانت الأحاديث مختصة بالعقار والعروض المنقسمة فإثبات الشفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة.
وقال الآخرون: الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه ولكن تركنا ذلك في الأرض والعقار لثبوت هذا النص فيه وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة وقوله في الحديث الصحيح: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" يدل على اختصاصها بذلك وقول جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط" يقتضي انحصارها في ذلك قالوا: وقد قال عثمان بن عفان: "لا شفعة في بئر ولا فحل والأرف يقطع كل شفعة" والفحل: النخل والأرف بوزن الغرف المعالم والحدود وقال أحمد: "ما أصحه من حديث" قالوا: والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبد بتأبده وفي المنقول لا يتأبد فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون قالوا: والضرر في العقار يكثر جدا فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق وتغيير الأبنية وتضييق الواسع وتخريب العامر وسوء الجوار وغير ذلك مما يختص بالعقار فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر؟.
قال المثبتون للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارا بل مصلحة له بإعطائه الثمن فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه فليس الأصل عدمه بل هو مقتضى أصول الشريعة فإن اصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة وإن لم يرض صاحب المال وترك معاوضته ههنا لشريكه مع كونه قاصدا للبيع ظلم منه وإضرار بشريكه فلا يمكنه الشارع منه بل من تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يمكن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه مع أنه لا مصلحة له في ذلك.
وأما الآثار فقد جاءت بهذا وهذا ولو قدر عدم صحتها بالشفعة في المنقول فهي لم تنف ذلك بل نبهت عليه كما ذكرنا وأما تأبد الضرر وعدمه ففرق فاسد فإن من المنقول ما يكون تأبده كتأبد العقار كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والجارية ولو بقي ضرره مدة فإن الشارع مريد لدفع الضرر بكل طريق ولو قصرت مدته وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلته في المنقول فلعمر الله إن الضرر في العقار يكثر من تلك الجهات ولكن لا يمكن رفعه بالقسمة وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعه بقسمته على أن هذا منتقض بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم.
فصل: رأي من يقصر الشفعة على الجوار وقالت طائفة ثالثة: بل الضرر الذي قصد الشارع رفعه هو ضرر سوء الجوار والشركة في العقار والأرض فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا أو كثيرا فيعلى الجدار ويتبع العثار ويمنع الضوء ويشرف على العورة ويطلع على العثرة ويؤذي جاره بأنواع الأذى ولا يأمن جاره بوائقه وهذا مما يشهد به الواقع وأيضا فالجار له من الحرمة والحق والذمام ما جعله الله له في كتابه ووصى به جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الوصية وعلق النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرامه وقال الإمام أحمد: "الجيران ثلاثة جار له حق وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة" ومثل هذا ولو لم يرد في الشريك فأدنى المراتب مساواته به فيما يندفع به الضرر لا سيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة لإفضائها إلى ضرر المجاورة فإنهما إذا اقتسما تجاورا، قالوا: ولهذا السبب اختصت بالعقار دون المنقولات إذ المنقولات لا تتأتى فيها المجاورة فإذا ثبتت في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها.
قالوا: وهذا معقول النصوص لو لم يرد الثبوت فيها فكيف قد صرحت بالثبوت فيها أعظم من تصريحها بالثبوت للشريك ففي صحيح البخاري من حديث عمر بن الشريد قال: "جاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي فانطلقت معه إلى سعد بن أبي وقاص فقال أبو رافع: ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داره فقال: لا أزيده على أربعمائة منجمة فقال: قد أعطيت خمسمائة نقدا فمنعته ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه" ما بعتك" وروى عمرو بن الشريد أيضا عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار قال: "الجار أحق بسقبه" أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وإسناده صحيح وقال البخاري: "هو أصح من رواية عمرو عن أبي رافع" يعني المتقدم وقال أيضا: "كلا الحديثين عندي صحيح" وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أولى بالدار" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح انتهى وقد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب وكذلك خلفاؤه بعده والناس إلى اليوم فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون وروى قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جار الدار أحق بالدار" رواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة وكلهم أئمة ثقات وروى أهل السنن الأربعة من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" وهذا حديث صحيح فلا يرد، فإن قيل: قد قال الترمذي: تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث وقال وكيع عنه: "لو أن عبد الملك روى حديثا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه" وكذلك قال يحيى القطان: وقال أحمد: هو حديث منكر وقال يحيى ابن معين: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك فأنكر الناس عليه ولكنه ثقة صدوق.
فالجواب أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ولم يتعرض له أحد بجرح البتة وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ولا يحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري وقد صح هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه وعن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه فخالفهم العرزمي ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ولم يقدموه على حديث هؤلاء قال مهنا بن يحيى الشامي سألت أحمد بن حنبل عن حديث عبد الملك هذا فقال قد أنكره شعبة فقلت لأي شيء أنكره فقال حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنبين إن شاء الله أن حديث عبد الملك عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه بل مفهومه يوافق منطوقه وسائر أحاديث جابر يصدق بعضها بعضا.وروى جرير بن عبد الحميد عن منصور عن الحكم عن علي وعبد الله قالا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجوار وهذا وإن كان منقطعا فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عمن سمع عليا وعبد الله فهو يصلح للاستشهاد وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد وفي سنن ابن ماجه من حديث شريك القاضي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له أرض وأراد بيعها فليعرضها على جاره" ورجال هذا الإسناد محتج بهم في الصحيح وفي سنن النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجوار" رواه عن الفضلي بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أبي الزبير وهو على شرط مسلم وقال شعيب بن أيوب الصريفيني ثنا أبو أمامة عن سعيد بن أبي عروبة ثنا قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه" وهؤلاء ثقات كلهم وعلة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال سمعت محمدا يعني البخاري يقول سليمان اليشكري يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله قال: ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر قال: ويقال إنما يحدث قتادة عن صحيفة سليمان اليشكري وكان له كتاب عن جابر بن عبد الله قلت: وغاية هذا أن يكون كتابا والأخذ عن الكتب حجة وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى: عن أبيه حدثني ابن أبي ليلى يعني محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجار أحق بسقبه ما كان" وقال ابن أبي شيبة: ثنا وكيع عن هشام بن المغيرة الثقفي قال سمعت الشعبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفيع أولى من الجار والجار أولى من الجنب" وإسناده إلى الشعبي صحيح قالوا: ولأن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ويتأذى بعضهم ببعض ويقع بينهم العداوة ما هو معهود والضرر بذلك دائم متأبد ولا يندفع ذلك إلا برضاء الجار إن شاء أقر الدخيل على جواره له وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤنة المجاورة ومفسدتها.
وإن كان الجار يخاف التأذي بالمجاورة على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم قالوا: ولا يرد علينا المستأجر مع المالك فإن منفعة الإجارة لا تتأبد عادة وأيضا فالملك بالإجارة ملك منفعة ولا لزوم بين ملك الجار وبين منفعة دار جاره بخلاف مسألتنا فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصل بسبب اتصال الملك بالملك فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع وقد أمكن ههنا فيبعد القول به فهذا تقرير قول هؤلاء نصا وقياسا.
رد المبطلين لشفعة الجوار: قال المبطلون لشفعة الجوار: لا تضرب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق" قال الشافعي: ثنا سعيد بن سالم ثنا ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها" وفي الوطأ من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة" وقال سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن زكريا عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عوف بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: "إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم" وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عثمان بن عفان: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها" وهذا قول ابن العباس.
قالوا: لا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقض قيمة ملكه عليه، قالوا: وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي أما المطالبة ففي القسمة وأما المنع فمن التصرف فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف، والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة وهي مؤنة كثيرة والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤنة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيل فرجح جنابه وثبت له الاستحقاق.
قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده وهذا بخلاف الشريك وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به، قالوا: وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه فهما جاران حقيقة وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ولذا سميت الزوجة جارة.
كما قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقة
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة.
خير الأقوال في شفعة الجوار: والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحد منهما متميز ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي فقال إذا كان طريقهما واحدا فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين: سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري وقال أحمد في رواية ابن مشيش: أهل البصرة يقولون: إذا كان الطريق واحدا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه على معنى حديث جابر الذي يحدثه عبد الملك انتهى.
فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها وهذا هو الصواب وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وحديث جابر الذي أنكره من أنكره علي عبد الملك صريح فيه فإنه قال: "الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا اذا كان طريقهما واحدا" فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه وجابر روى اللفظين فالذي دل عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها فتوافقت السنن بحمد الله وائتلفت وزال عنها ما يظن بها من التعارض وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب.
والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب اليه ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها الى العدل وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه فحيث قال لا شفعة ففيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق فإنه قد روي عنه هذا وهذا وكذلك ما روي عن علي كرم الله وجهه فإنه قال إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة وبالله التوفيق.
فإن قيل: بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" فأسقط الشفعة بمجرد وقوع الحدود وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة وإن وقعت الحدود وهذا خلاف الحديث، فالجواب من وجهين أحدهما: أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين ومنهم من جود الحديث فذكرهما ولا يكون إسقاط من اسقط أحد اللفظين مبطلا لحكم اللفظ الآخر الثاني: أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق والله أعلم. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 11:00 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 8:27 am | |
| فصل: السر في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر وأما قوله: "وحرم صوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساويهما" فالمقدمة الأولى صحيحة والثانية كاذبة فليس اليومان متساويين وإن اشتركا في طلوع الشمس وغروبها فهذا يوم من شهر الصيام الذي فرضه الله على عباده وهذا يوم عيدهم وسرورهم الذي جعله الله تعالى شكران صومهم وإتمامه فهم فيه أضيافه سبحانه والجواد الكريم يحب من ضيفه أن يقبل قراه ويكره أن يمتنع من قبول ضيافته بصوم أو غيره ويكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل فمن أعظم محاسن الشريعة فرض صوم آخر يوم من رمضان فإنه إتمام لما أمر الله به وخاتمة العمل وتحريم صوم أول يوم من شوال فإنه يوم يكون فيه المسلمون أضياف ربهم تبارك وتعالى وهم في شكران نعمته عليهم فأي شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم؟.
فصل: السر في تحريم بعض القريبات وتحليل البعض الآخر وأما قوله: "وحرم عليه نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وبنت أخت أمه وهما سواء" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة فليستا سواء في نفس الأمر ولا في العرف ولا في العقول ولا في الشريعة وقد فرق الله سبحانه بين القريب والبعيد شرعا وقدرا وفطرة ولو تساوت القرابة لم يكن فرق بين البنت وبنت الخالة وبنت العمة وهذا من أفسد الأمور والقرابة البعيدة بمنزلة الأجانب فليس من الحكمة والمصلحة أن تعطى حكم القرابة القريبة وهذا مما فطر الله عليه العقلاء وما خالف شرعه في ذلك فهو إما مجوسية تتضمن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع وإما حرج عظيم على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم فإن الناس ولاسيما العرب أكثرهم بنو عم بعضهم لبعض إما بنوة عم دانية أوقاصية فلو منعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج عظيم وضيق فكان ما جاءت به الشريعة أحسن الأمور وألصقها بالعقول السليمة والفطر المستقيمة والحمد لله رب العالمين.
فصل: السر في الفرق بين تحميل العاقلة دية الخطأ في النفوس دون الأموال وأما قوله: "وحمل العاقلة جناية الخطأ على النفوس دون الأموال" قد تقدم أن هذا من محاسن الشريعة وذكرنا من الفرق بين الأموال والنفوس ماأغنى عن إعادته.
فصل: السر في الفرق بين الحائض والمستحاضة وأما قوله: "وحرم وطء الحائض لأجل الأذى وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى وهما متساويان" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية فيها إجمال فإن أريد أن أذى الاستحاضة مساو لأذى الحيض كذبت المقدمة وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريق بينهما تفريقا بين المتساويين فبطل سؤاله على كلا التقديرين.
ومن حكمة الشارع تفريقه بينهما فإن أذى الحيض أعظم وأدوم وأضر من أذى الاستحاضة ودم الاستحاضة عرق وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف وخروجه مضر وانقطاعه دليل على الصحة ودم الحيض عكس ذلك ولا يستوي الدمان حقيقة ولاعرفا ولاحكما ولاسببا فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم كما افترقا في الحقيقة وبالله التوفيق.
فصل: السرفى الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا وأما قوله: "وحرم بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيعه بقفيز شعير" فهذا من محاسن الشريعة التي لايهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة ونحن نشير إلى حكمة ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة وشرع الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا فنقول:
الربا نوعان والحكمة في تحريم النوعين: الربا نوعان: جلي وخفي فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلى فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة.
ربا النسيئة: فأما الجلى فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر.
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: "هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق" قال الله تعالى {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقال {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
فصل: ربا الفضل والحكمة في تحريمه وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما" والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا ونسيئة فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة.
آراءالعلماء في الأنواع التي يحرم فيها ربا الفضل: فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس وتنازعوا فيما عداها فطائفة قصرت التحريم عليها وأقدم من يروي هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه علة امنتع القياس وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلا أو موزونا وهو قول سعيد بن المسيب ورواية عن أحمد وقول للشافعي وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: "العلة فيهما كونهما موزونين" وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة وطائفة قالت: "العلة فيهما الثمنية" وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به مددت الأشيام ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها لصارت متجرا أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات.
فصل: السر في تحريم ربا النساء في المطعوم وما يصلح المطعوم وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها.
وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير لا سيما أهل العمود والبوادي وإنما يتناقلون الطعام بالطعام فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان إذ لو جوز لهم النساء فيها لدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانا كثيرة ففطموا عن النساء ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة وهذا بخلاف الجنسين والمتباينين فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدها مختلفة ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى إما أن تقضي وإما أن تربي فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدا بيد كيف شاءوا فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة إما أن تقضي وإما أن تربي وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو منعوا منه لأضر بهم ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبا إلى مفسدة راجحة.
يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا" أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالا بخلاف ما إذا أمكن من النساء فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربى عليه كما أربي هو على غيره فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما والنساء ههنا في صنفين وفي النوع الأول في صنف واحد وكلاهما منشأ الضرر والفساد.
وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفا واحدا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبر والشعير والتمر والزبيب فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت.
يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالا وأخروا الطلب لأجل الربح فيقعوا في نفس المحذور.
وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي يقصد الشارع ألا يفاضل بينها ولهذا قال: "تبرها وعينها سواء" فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.
فصل: السر في إباحة العرايا ونحوها من ربا الفضل وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية فانه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان وهذا لا يجوز كآلات الملاهي وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تتقيه الشريعة فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: "الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير" وفي الزكاة قوله: "في الرقة ربع العشر" والرقة: هي الورق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين وإيجابا للزكاة فيهما ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها وفي هذا توفية الأدلة حقها وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها ولا يدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين وتضرروا بذلك غاية الضرر.
يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها والمعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.
يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف.
يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدا للذريعة فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولاتتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك وهل هذا إلا عكس للعقول والفطر والمصلحة.
والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع الخل بالزبيب ونحو ذلك وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم وجاءوا إلى ربا الفضل النسيئة ففتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعينة وتارة بالمحلل وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدا ليس إلا ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره فهلا فعلوا ههنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم وقالوا قد يجعل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع التفاضل فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتا خالصا وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الروية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق.
فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.
قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر والعاقل لا يبيع جنسا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه.
يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمونة إلى غير أصلها وجوهرها ولا فرق بينهما في ذلك.
يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك ولا يقول له لا تعمل هذه الصياغة واتركها ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ولم يقل قط لا تبعه إلا بغير جنسه ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه.
فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلا وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب؟.
قيل: هذا سؤال قوي وارد وجوابه ان السكة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة وإن كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى التقويم بغيرها ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه وإذا أخذ الرجل الدراهم رد نظيرها وليس المصوغ كذلك ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافا ويرد خمسين ثقالا بوزنها ولا يأبي ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئا وهذا بخلاف المصوغ والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهما واحدا وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تجوزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلا فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج.
قيل: هذا سؤال وارد أيضا وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتا لم يكن من الربويات وإن كانت قوتا كان جنسا قائما بنفسه وحرم بيعه بجنسه الذي هو مثله متفاضلا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز ولم يحرم بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما واحدا فلا يحرم السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز فإن هذه الصناعة لها قيمة فلا تضيع على صاحبها ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا حرام إلا ما حرمه الله كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله وتحريم الحلال كتحليل الحرام.
الكلام في بيع اللحم بالحيوان: فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان فإنكم إن منعتموه نقضتم قولكم وإن جوزتموه خالفتم النص وإذا كان النص قد منع من بيع اللحم بالحيوان فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبر والزيت بالزيتون وكل ربوي بأصله.
قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته والثاني في معناه أما الأول فهو حديث لا يصح موصولا وإنما هو صحيح مرسلا فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه ومن رأى قبول المرسل مطلقا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده قال أبو عمر: "لا أعلم حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت" وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب كما ذكره مالك في موطئه وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه فكان مالك يقول: "معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانه بلحمه" وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده بلحم إذا كانا من جنس واحد قال وإذا اختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع اللحم بالحيوان وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه فلا يأخذون بهذا الحديث ويجوزون بيع اللحم بالحيوان مطلقا وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوان من جنسه ولا يمنع بيعه بغير جنسه وإن منعه بعض أصحابه وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه وروى الشافعي عن ابن عباس: "أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة فقال أبو بكر: لا يصلح هذا" قال الشافعي: "ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة" والصواب في هذا الحديث إن ثبت أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودا للحم كشاة يقصد لحمها فتباع بلحم فيكون قد باع لحما بلحم أكثر منه من جنس واحد واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفضل وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم كما إذا كان غير مأكول أو مأكولا لا يقصد لحمه كالفرس تباع بلحم إبل فهذا لا يحرم بيعه به بقي إذا كان الحيوان مأكولا لا يقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صبرة تمر بصبرة زبيب وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك إذ غايته التفاضل بين الجنسين والتفاضل المتحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك لا لأجل التفاضل ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوان من غير جنسه والله أعلم.
فصل: الفرق بين مدة الإحداد على الزوج وغيره وأما قوله: "ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها فوق ثلاث وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرا وهو أجنبي" فيقال: هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة ويضيفون إلى ذلك شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الشعور والدعاء بالويل والثبور وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب تعالى وأقداره فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنة الجاهلية وأبدلنا بها الصبر ومحمد والاسترجاع الذي هو أنفع للمصاب في عاجلته وآجلته ولما كانت مصيبة الموت لابد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك وهو ثلاثة أيام تجدبها نوع راحة وتقضي بها وطرا من الحزن كما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وما زاد على الثلاث فمفسدته راجحة فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به فإن سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية.
ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرا على صفحات أوامرها ونواهيها باديا لمن نظره نافذ فإذا حرم عليهم شيئا عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال وحرم عليهم لباس الحرير وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة وأباح لهم كسبه بالسلم وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا فسهل عليهم تركه بالنهار وحرم عليهم الزنا وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة ومن الإماء ما شاءوا فسهل عليهم تركه غاية التسهيل وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بعد ما بينهما وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة وحرم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها البتة وأشار إلى هذا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن في المعاريض مندوحة عن الكذب" وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد وحرم عليهم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها وبالجملة فما حرم عليهم خبيثا ولا ضارا إلا أباح لهم طيبا بإزائه أنفع لهم منه ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه.
والمقصود أنه أباح للنساء لضعف عقولهن وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومكملاتها فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزين والتجمل والتعطر لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسه ويحسن ما بينهما من العشرة فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر فاقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيب فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجة إلى ما يرغب في نكاحها فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئا أحسن منه. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 11:00 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الأربعاء 16 ديسمبر 2015, 8:31 am | |
| فصل: الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض وأما قوله: "وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة" فهذا أيضا من كمال شريعته وحكمتها ولطفها فإن مصلحة العبادات البدنية ومصلحة العقوبات الرجال والنساء مشتركون فيها وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة النصف الآخر فلا يليق التفريق بينهما نعم فرقت بينهما في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة فخص وجوبهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليست الإناث من أهلها وسوت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة وأما الشهادة فإنما جعلت المرأة فيها على النصف من الرجل لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه وهي أن المرأة ضعيفة العقل قليلة الضبط لما تحفظه وقد فضل الله الرجال على النساء في العقول والفهم والحفظ والتمييز فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول أن ضم إليها في قبول الشهادة نظيرها لتذكرها إذا نسيت فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل ويقع من العلم أو الظن الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهي الدية فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما.
فإن قيل: لكنكم نقضتم هذا فجعلتم ديتهما متساوية سواء فيما دون الثلث.
قيل: لا ريب أن السنة وردت بذلك كما رواه النسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها" وقال سعيد بن المسيب: إن ذلك من السنة وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي والليث والثوري وجماعة وقالوا: هي على النصف في القليل والكثير ولكن السنة أولى والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه أن ما دونه قليل فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية لقلة ديته وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين.
وأما الميراث فحكمة التفضيل فيه ظاهرة فإن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى لأن الرجال قوامون على النساء والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحق بالتفضيل.
فإن قيل: فهذا ينتقض بولد الأم، قيل: بل طرد هذه التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم فإنهم إنما يرثون بالرحم المجرد فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط وهم فيها سواء فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم بخلاف قرابة الأب.
وأما العقيقة فأمر التفضيل فيها تابع لشرف الذكر وما ميزه الله به على الأنثى ولما كانت النعمة به على الوالد أتم والسرور والفرحة به أكمل كان الشكران عليه أكثر فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر والله أعلم.
فصل: الحكمة في تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض وأما قوله: "وخص بعض الأزمنة والأمكنة وفضل بعضها على بعض مع تساويها إلخ" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة وما فضل بعضها على بعض إلا لخصائص قامت بها اقتضت التخصيص وما خص سبحانه شيئا إلا بمخصص ولكنه قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا واشتراك الأزمنة والأمكنة في مسمى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمى الحيوانية والإنسان في مسمى الإنسانية بل وسائر الأجناس في المعنى الذي يعمها وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها والمختلفات تشترك في أمور كثيرة والمتفقات تتباين في أمور كثيرة والله سبحانه أحكم وأعلم من أن يفضل مثلا على مثل من كل وجه بلا صفة تقتضي ترجيحه وهذا مستحيل في خلقه وأمره كما أنه سبحانه لا يفرق بين المتماثلين من كل وجه فحكمته وعدله تأبى هذا وهذا وقد نزه سبحانه نفسه عمن يظن به ذلك وأنكر عليه زعمه الباطل وجعله حكما منكرا ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطلت حججه وأدلته فإن مبناها على أن حكم الشيء حكم مثله وعلى ألا يسوي بين المختلفين فلا يجعل الأبرار كالفجار ولا المؤمنين كالكفار ولا من أطاعه كمن عصاه ولا العالم كالجاهل وعلى هذا مبنى الجزاء فهو حكمه الكوني والديني وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه وبذلك حصل الاعتبار ولأجله ضربت الأمثال وقصت علينا أخبار الأنبياء وأممهم ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسد مذاهب العالم أنه يتضمن لمساواة ذات جبريل لذات إبليس وذات الأنبياء لذات أعدائهم ومكان البيت العتيق بمكان الحشوش وبيوت الشياطين وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة وإنما خصت هذه الذات عن هذه الذات بما خصت به لمحض المشيئة المرجحة مثلا على مثل بلا موجب بل قالوا ذلك في جميع الأجسام وأنها متماثلة فجسم المسك عندهم مساو لجسم البول والعذرة وإنما امتاز عنه بصفة عرضية وجسم الثلج عندهم مساو لجسم النار في الحقيقة وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول وكابروا فيه الحس وخالفهم فيه جمهور العقلاء من أهل الملل والنحل وما سوى الله بين جسم السماء وجسم الأرض ولا بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر وليس مع المنازعين في ذلك إلا الاشتراك في أمر عام وهو قبول الانقسام وقيام الأبعاد الثلاثة والإشارة الحسية ونحو ذلك مما لا يوجب التشابه فضلا عن التماثل وبالله التوفيق.
فصل: الجمع بين المختلفات في الحكم لاشتراكها في سببه وأما قوله: "إن الشريعة جمعت بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال" فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات اشتراك المختلفات في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام بل هذا هو الواقع وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان وإن افترقا في علة الإثم وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به كما أوجب على القاتل خطأ دية القتيل ولذلك لا يعتمد التكليف فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض وادعى الخطأ وعدم القصد وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته ففرقت الشريعة فيها بين العامد والمخطيء وكذلك البر والحنث في الأيمان فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي فيفترق الحال فيه بين العامد والمخطىء.
وأما جمعها بين المكلف وغيره في الزكاة فهذه مسألة نزاع واجتهاد وليس عن صاحب الشرع نص بالتسوية ولا بعدمها والذين سووا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل الله سبحانه الأموال سببا في ثبوتها وهي حق للفقراء في نفس هذا المال سواء كان مالكه مكلفا أو غير مكلف كما جعل في ماله حق الإنفاق على بهائمه ورقيقه وأقاربه فكذلك جعل في ماله حقا للفقراء والمساكين.
فصل: الفارة كالهرة قي الطهارة وأما جمعها بين الهرة والفأرة في الطهارة فهذا حق وأي تفاوت في ذلك وكان السائل رأى أن العداوة التي بينهما توجب اختلافهما في الحكم كالعدواوة التي بين الشاة والذئب وهذا جهل منه فإن هذا أمر لا تعلق له بطهارة ولا نجاسة ولا حل ولا حرمة والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظم حرج ومشقة على الأمة لكثرة طوفانهما على الناس ليلا ونهارا وعلى فرشهم وثيابهم وأطعمتهم كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله في الهرة: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات".
فصل: ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة وأما جمعها بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم وبين ميتة الصيد وذبيحة المحرم له فأي تفاوت في ذلك وكأن السائل رأي أن الدم لما احتقن في الميتة كان سببا لتحريمها وما ذبحه المحرم أو الكافر غير الكتابي لم يحتقن دمه فلا وجه لتحريمه وهذا غلط وجهل فإن علة التحريم لو انحصرت في احتقان الدم لكان للسؤال وجه فأما إذا تعددت علل التحريم لم يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم إذا خلفه علة أخرى وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية فما الذي ينكر منه في الشرع؟.
تصرف الشارع في الأسماء اللغوية: فإن قيل: أليس قد سوت الشريعة بينهما في كونهما ميتة وقد اختلفا في سبب الموت فتضمنت جمعها بين مختلفين وتفريقها بين متماثلين فإن الذبح واحد صورة وحسا وحقيقة فجعلت بعض صوره مخرجا للحيوان عن كونه ميتة وبعض صوره موجبا لكونه ميتة من غير فرق.
قيل: الشريعة لم تسو بينهما في اسم الميتة لغة وإنما سوت بينهما في الإسم الشرعي فصار اسم الميتة في الشرع أعم منه في اللغة والشارع يتصرف في الأسماء اللغوية بالنقل تارة وبالتعميم تارة وبالتخصيص تارة وهكذا يفعل أهل العر ف فهذا ليس بمنكر شرعا ولا عرفا وأما الجمع بينهما في التحريم فلأن الله سبحانه حرم علينا الخبائث والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى فما كان ظاهرا لم ينصب عليه الشارع علامة غير وصفه وما كان خفيا نصب عليه علامة تدل على خبثه فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهل بذبيحته لغير الله فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثا أوجب تحريمه ولا ينكر أن يكون اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا وذكر اسم الله وحده يكسبها طيبا إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة وقد جعل الله سبحانه ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقا وهو الخبيث ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك خبثا في الحيوان والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان والدم مركبه وحامله وهو أخبث الخبائث فإذا ذكر الذابح اسم الله خرج الشيطان مع الدم فطابت الذبيحة فإذا لم يذكر اسم الله لم يخرج الخبث وأما إذا ذكر اسم عدوه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثا آخر.
يوضحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة ولهذا يقرن الله سبحانه بينهما كقوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقوله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فأخبر أنه إنما سخرها لمن يذكر اسمه عليها وأنه إنما يناله التقوى وهو التقرب إليه بها وذكر اسمه عليها فإذا لم يذكر اسمه عليها كان ممنوعا من أكلها وكانت مكروهة لله فأكسبتها كراهيته لها حيث لم يذكر عليها اسمه أو ذكر عليها اسم غيره وصف الخبث فكانت بمنزلة الميتة وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسم غير الله فما ذبحه عدوه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم فإن فعل الذابح وقصده وخبثه لا ينكر أن يؤثر في المذبوح كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثر في المرأة المنكوحة وهذه أمور إنما يصدق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها وباشر قلبه بشاشة حكمها وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان وتلقاها صافية من مشكاة النبوة وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف.
فصل: الجمع بين الماء والتراب في التطهير وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة وقد عقد الله سبحانه الإخاء بين الماء والتراب قدرا وشرعا فجمعهما الله عن عز وجل وخلق منهما آدم وذريته فكانا أبوين اثنين لأبوينا وأولادهما وجعل منهما حياة كل حيوان وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام وكانا أعم الأشياء وجودا وأسهلها تناولا وكان تعفير الوجه في التراب لله من أحب الأشياء إليه ولما كان عقد هذه الأخوة بينهما قدرا أحكم عقد وأقواه كان عقد الأخوة بينهما شرعا أحسن عقد وأصحه {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فصل: شرح الباقي من كتاب أمير المؤمنين عمر فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: "واعرف الأشباه والنظائر" وفي لفظ: "واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق".
فلنرجع إلى شرح باقي كتابه. ثم قال: "وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عن الخصومة أو الخصوم شك أبو عبيد فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر".
هذا الكلام يتضمن أمرين: التحذير من الغضب: أحدهما: التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق وتجريد قصده له فإنه لايكون خير الأقسام الثلاثة إلا باجتماع هذين الأمرين فيه والغضب والقلق والضجر مضاد لهما فإن الغضب غول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر ولهذا: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يغلق على صاحبه باب حسن التصور والقصد وقد نص أحمد على ذلك في رواية حنبل وترجم عليه أبو بكر في كتابه الشافي وزاد المسافر وعقد له بابا فقال في كتاب الزاد باب النية في الطلاق والإغلاق قال أبو عبد الله في رواية حنبل عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" فهذا الغضب وأوصى بعض العلماء لولى أمر فقال: إياك والغلق والضجر فإن صاحب الغلق لا يقدم عليه صاحب حق وصاحب الضجر لا يصبر على حق.
التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه: والأمر الثاني: التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه وجعل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب والصبر في موضع القلق والضجر والتحلى به واحتساب ثوابه في موضع التأذي فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها فما لم يصادفه هذا الدواء فلا سبيل إلى زواله هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر ولا سيما أن يتنكر لإحد الخصمين دون الآخر فإن ذلك الداء العضال.
العبودية نوعان عامة وخاصة: وقوله: "فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر" هذا عبودية الحكام وولاة الأمر التي تراد منهم ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره وعلى الحاكم من عبوديه إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبوديه أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوما في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت له امرأة: هذا واجب قد وضع عنا فقال: هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت: صدقت جزاك الله خيرا.
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا فإن الدين هو القيام لله بما أمر به فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا فقال يا رب كيف وفيهم فلان العابد فقال: "به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط".
وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز ولكن ماذا عملت فيما لي عليك فقال يا رب وأي شيء لك علي قال هلى واليت في وليا أو عاديت في عدوا؟.
فصل: عاقبة الإخلاص لله قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" هذا شقيق كلام النبوة وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم وهاتان الكلمتان من كنوز العلم ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله والثانية أصل الشر وفصله فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه علمه لوجهه سبحانه كان الله معه فإنه سبحانه مع {الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء فإن كان الله مع العبد فمن يخاف وإن لم يكن معه فمن يرجو وبمن يثق ومن ينصره من بعده فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا مخرجا وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد فمن كان قيامه في باطل لم ينصر وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين وإن نصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء.
قال الإمام أحمد: حدثنا داود أنبأنا شعبة عن واقد بن محمد بن زيد عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: "من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس".
والعبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولا هل هو طاعة لله أم لا فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحا يستعين به على الطاعة وحينئذ يصير طاعة فإذا بان له أنه طاعة فلا يقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا فإن لم يكن معانا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه وإن كان معانا عليه بقي عليه نظر آخر وهو أن يأتيه من بابه فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فرط فيه أو أفسد منه شيئا فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه وهي معنى قول العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب وأشقاهم من عدم الأمور الثلاثة ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معدوم أو ضعيف فهذا مخذول مهين محزون ومنهم من يكون نصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قويا ونصيبه من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ضعيفا أو مفقودا فهذا له نفوذ وتسلط وقوة ولكن لا عاقبة له بل عاقبته أسوأ عاقبة ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدا كحال كثير من العباد والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق.
وقول عمر رضي الله عنه: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه" إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره حتى يكون أول قائم به على نفسه فحينئذ يقبل قيامه به على غيره وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه؟.
وخطب عمر بن الخطاب يوما وعليه ثوبان فقال: "أيها الناس ألا تسمعون فقال سلمان: لا نسمع فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك ثوبان فقال: لا تعجل يا عبد الله يا عبد الله فلم يجبه أحد فقال: يا عبد الله بن عمر فقال: لبيك يا أمير المؤمنين فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: نعم اللهم نعم فقال سلمان: أما الآن فقل نسمع".
فصل: عقوبة المتزين بما ليس فيه وأما قوله: "ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه عامله الله بنقيض قصده فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس لأنه شان باطنه عند الله وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه.
هذا ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضايتها فلا بد أن تطلب منه فإن لم توجد عنده افتضح فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم جزءا له من جنس عمله وكان بعض الصحابة يقول: "أعوذ بالله من خشوع النفاق" قالوا: وما خشوع النفاق قال: "أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع" وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة وهما من أنفع الكلام وأشفاه للسقام.
فصل: المقبول من أعمال العباد وغير المقبول وقوله: "فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصا" والأعمال أربعة: واحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول ما كان لله خالصا وللسنة موافقا والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها بل يمقتها ويمقت أهلها قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
قال الفضيل بن عياض: "هو اخلص العمل وأصوبه" فسئل عن معنى ذلك فقال: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}".
فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول والعمل لله وحده مقبول فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره فلا يكون لله محضا ولا للناس محضا فما حكم هذا القسم هل يبطل العمل كله أم يبطل ما كان لغير الله ويصح ما كان لله؟.
قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة: أحدها: ان يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في إثنائه فهذا المعول فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها أعنى قطع ترك استصحاب حكمها.
الثاني: عكس هذا وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله ثم يعرض له قلب النية لله فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل ويحتسب له من حين قلب نيته ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف.
الثالث: أن يبتدئها مريدا بها الله والناس فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس وهذا كمن يصلي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال فلان حج أو يعطي الزكاة كذلك فهذا لا يقبل منه العمل وإن كانت النية شرطا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود ولم يؤمر إلا بهذا وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل يوم القيامه أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به وهذا هو معنى قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
فصل: جزاء المخلص في دنياه وآخرته وقوله: "فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته" يريد به تعظيم جزاء المخلص وأنه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما ورحمته مدخرة في خزائنه فإن الله سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولا بد ثم في الآخرة يوفيه أجره كما قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توفية وإن كان نوعا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وهذا نظير قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فأخبر سبحانه أنه أتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة ولكن ليس ذلك أجر توفية وقد دل القرآن في غير موضع على أن لكل من عمل خيرا أجرين عمله في الدنيا ويكمل له أجره في الآخرة كقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} وفي الآية الأخرى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال في هذه السورة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال فيها عن خليله {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقد تكرر هذا المعنى في هذه السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسر بديع فإنها سورة النعم التي عدد الله سبحانه فيها أصول النعم وفروعها فعرف عبادة أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعاف هذه بما لا يدرك تفاوته وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعما أخرى ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تمام التوفية وقال تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فلهذا قال أمير المؤمنين: "فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام"، فهذا بعض ما يتعلق بكتاب أمير المؤمنين رضي الله عنه من الحكم والفوائد والحمد لله رب العالمين. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 11:01 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الإثنين 28 ديسمبر 2015, 9:23 pm | |
| واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وخالفوه فيما دل عليه صريحا في قوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" وقوله: "ارجع فصل فأنك لم تصل" فقالوا: من ترك الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضا لازما مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث.
واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.
واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود: "فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك" ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله.
واحتجوا على جواز الكلام والإمام يخطب على المنبر يوم الجمعة بقوله صلى الله عليه وسلم للداخل: "أصليت يا فلان قبل أن تجلس؟ قال: لا قال: قم فاركع ركعتين" وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: من دخل والإمام يخطب جلس ولم يصل.
واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس" ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فإن فيه: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مناف للصلاة.
واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل عليه وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه.
واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسا لمرض صلى المأمومون خلفه قياما بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وجلس وصلى بالناس وتأخر أبو بكر" ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا: إن تأخر الإمام لغير حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جمع المأمومين.
واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلا فبان نهارا بقوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من جهة أخرى فإن في نفس الحديث وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت" وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه.
واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها" وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول.
واحتجوا على عدم شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام.
واحتجوا على الرد بحديث "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه" ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهوية وهو الصواب.
واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه "التمسوا له وارثا أو ذا رحم" فلم يجدوا فقال: "أعطوه الكبر من خزاعة" ولم يقولوا به في أن من وارث له يعطي ماله للكبر من قبيلته.
واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر" فقالوا بأول الحديث دون آخره.
واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحارث في تيمم النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام.
واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته وقال: له ائتني بأحجار فأتاه بحجرين وروثه فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذه ركس" ثم خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين.
واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم حاملا أمامه بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها ثم قالوا: من صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به قال بعض أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة {مُدْهَامَّتَانِ} بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك ولا جبهته بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء أو ضراط أو ضحك أو نحو ذلك.
واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة" ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة.
واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى بها لخالتها" ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها.
واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر برده.
واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد يهوديا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا: لا قود في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر.
واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه وسلم: "من لطم عبده فهو حر" ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك واحتجوا أيضا بالحديث الذي فيه "من مثل بعبده عتق عليه" فقالوا: لم يوجب عليه القود ثم قالوا: لا يعتق عليه.
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب "في العين نصف الدية" ثم خالفوه في عدة مواضع: منها قوله: "وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية" ومنها قوله: "في السن السوداء ثلث الدية".
واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه "أشهد على هذا غيري" ثم خالفوه صريحا فإن في الحديث نفسه "إن هذا لا يصلح" وفي لفظ "إني لا أشهد على جور" فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه.
واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث "إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور" ثم خالفوه فقالوا لو وطىء العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب.
واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم خالفوه صريحا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ولا يغسل الصحيح.
واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدا بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أميركم زيد فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فجعفر" ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها.
واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبة القصعة نظيرتها ثم خالفوه جهارا فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل.
واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى.
واحتجوا على سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر لا قطع في ثمر ولا كثر ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع: أحدها أن فيه فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه الثاني أنه قال: "إذا بلغ ثمن المجن" وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة دراهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر الثالث أنهم قالوا: ليس الجرين حرزا فلو سرق منه ثمرا يابسا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع.
واحتجوا في مسالة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهما بخبر فيه أن من جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار وخالفوه جهرة فأوجبوا أربعين.
واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني الشفعة كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب "ومن مثل به فهو حر" فخالفوا جميع ذلك إلا قوله "الشفعة كحل العقال".
واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث "لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده" وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه "ومن مثل بعبده فهو حر".
واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة وفيه "الولد للفراش" ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا فقالوا: الأمة لا تكون فراشا وإنما كان هذا القضاء في أمة ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يحد للشبهة وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست فراشا له!.
ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يدخل عليها فيقول: هل من غداء؟ فتقول: لا فيقول: فإني صائم" ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه والحديث إنما هو في التطوع نفسه.
واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية وفي بيعه إبطال لذلك وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر بأنه قد باع خدمته ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا.
واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك في ربعة أو حائط" ثم خالفوا نص الحديث نفسه فإن فيه "ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به" فقالوا: يحل له أن يبيع قبل إذنه ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضا بالشفعة ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.
واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه.
واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا لا يقرع بينهم البتة ويعتق من كل واحد سدسه.
وهذا كثير جدا والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك وقادكم إليه قهرا ولو حكمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا فإن هذه الأحاديث إن كانت حقا وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها وإن لم تكن صحيحة لو يؤخذ بشيء مما فيها فأما أن تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله أو تؤول فهذا من أعظم الخطأ والتناقض.
فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه.
قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ البتة وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها البتة.
فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه.
قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما لا علم لمدعيه به فهو قائل ما لا دليل له عليه فأقل ما فيه أن معارضا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه ولم يكن بينهما فرق ولا فرق وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته فالواجب اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها وهذا الثاني محال قطعا فإن الأمة ولله الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ وأما أن تترك السنن لقول أحد من الناس فلا كائنا من كان وبالله التوفيق.
الوجه العاشرون: أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدى أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم أما أمر الله فإن أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ وقال المقلدون بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ويخالف ما عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم.
وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا الله به وقضوا به وأفتوا به وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع من غير أن يلزمها بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يدينوا به واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم.
الوجه الحادي والعشرون: أن الله سبحانه ذم الذين {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم شتى وطرقهم مختلفة فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق.
الوجه الثاني والعشرون: أن الله سبحانه ذم الذين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والزبر: الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم: أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا صالحا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال وعلم من أي الحزبين هو والله المستعان.
الوجه الثالث والعشرون: أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله لا الداعون إلى رأي فلان وفلان.
الوجه الرابع والعشرون: أن الله سبحانه ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم فمستكثر ومستقل
الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لفرقة التقليد: "دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ويبطل بعضها بعضا كلها دين الله"؟ فإن قالوا: "بلى هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله" خرجوا عن نصوص أئمتهم فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال كما أن القبلة في جهة من الجهات وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول والصريح وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال وإن قالوا: "الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه".
قيل لهم: فالواجب إذا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة وتقواه: فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهى عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولما يقض ما أمره.
الوجه السادس والعشرون: أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم بل لم يمكن لعلمائهم قول غير قوله ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله.
الوجه السابع والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ومن المحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله فالفرض حينئذ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم.
الوجه الثامن والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وأخبر أن العلم يقل فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر به الصادق.
الوجه التاسع والعشرون: أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه بل هو حق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وقد قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
الوجه الثلاثون: أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه وهذا محال وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق وإن قلتم القولان المتضادان المتناقضان حق فهو أشد حالة ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة.
الوجه الحادي والثلاثون: أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده فإن قال: "عرفته بالدليل" فليس بمقلد وإن قال: "عرفته تقليدا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق" قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ فإن قال بعصمته أبطل وإن جوز عليه الخطأ قيل له: فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا؟ قيل له: المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عبارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب وإن قال وهو الواقع: اتبعته وقلدته ولا أدري أعلي صواب هو أم لا فالعهدة على القائل وأنا حاك لأقواله قيل له فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء.
الوجه الثاني والثلاثون: أن نقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانا قاله أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله؟ فإن قلتم: "لأن فلانا قاله" جعلتم قول فلان حجة وهذا عين الباطل وإن قلتم: "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله" كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقويلكم عليه ما لم يقله وهو أيضا كذب على المتبوع فإنه لم يقل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما: إما جعل قول غير المعصوم حجة وإما تقويل المعصوم ما لم يقله ولا بد من واحد من الأمرين فإن قلتم: "بل منهما بد وبقي قسم ثالث وهو أنا قلنا كذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا" قيل: وهل ندندن إلا حول اتباع أمره صلى الله عليه وسلم فتحيهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه هل تتركون قوله لأمره صلى الله عليه وسلم وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله وتقولون هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو معارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده فتجعلون قول المتبوع محكما وقول الرسول متشابها فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان.
ثم نقول في الوجه الثالث والثلاثين: وأين أمركم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط؟.
يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم فإن الله سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذكرنه بقوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم لم يكن لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو سنه لا يسألهم عن غير ذلك وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصا عائشة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: "يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا" ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف له ما سواه.
الوجه الخامس والثلاثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: "قتلوه قتلهم الله" فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علما باتفاق الناس فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم فما احتج المقلدون به هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره لأهل العلم فإنهم لما أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك ولم ينكره فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.
الوجه السادس والثلاثون: قولهم إن عمر قال في الكلالة إني لأستحي من الله أن أخلف أبا بكر وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن نذكره بتمامه قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي إن أبا بكر قال في الكلالة: "أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء هو ما دون الولد والوالد" فقال عمر بن الخطاب: "إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر" فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها.
الوجه الثاني: أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأي أبو بكر التسوية ورأي عمر المفاضلة ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرح بذلك فقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف قال ابن عمر: "والله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف" فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئا سواها لا كما يصرح به المقلدون صراحا وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضا.
الثالث: أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يدابي الصحابة ولا يقاربهم فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر.
الرابع: أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب تقليد الشافعي فبا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ونحن نشهد الله علينا شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا جعله عيارا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك.
الخامس: أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة.
الوجه السابع والثلاثون: قولهم إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك تبع فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها والحديث من أعظم الأشياء إبطالا لقوله ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا وتكون قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا سنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على ما أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر" فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: "قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع" فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟.
الوجه الثامن والثلاثون: قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم وحتى لو أخذ بقوله تقليدا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها وكان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته له ففي نحو مائة مسألة منها أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها ومنها أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات وعمر كان يضع يديه على ركبتيه ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام هي يمين وعمر يقول طلقة واحدة ومنها: أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدا وعمر كان يتوبهما وينكح أحدهما الآخر ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها وعمر يقول لا تطلق بذلك إلى قضايا كثيرة.
والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه قال شقيق فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله فيما سمعت أحدا يرد ذلك عليه وكان يقول والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وقال أبو موسى الأشعري: "كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له" وقال أبو مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود: "ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا ما غبنا ويؤذن له إذا ما حجبنا" وكتب عمر إلى أهل الكوفة: "إني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما وزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإني آثرتكم بعبد الله على نفسي" وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود في "البتة" وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدا له بل لما سمع قوله فيها تبين له أنه الصواب فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضا وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: "أغد عالما أو متعلما ولا تكونن إمعة" فأخرج الإمعة وهو المقلد من زمرة العلماء والمتعلمين وهو كما قال رضي الله عنه فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله.
الوجه التاسع والثلاثون: قولهم إن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فجوابه أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقة التقليد بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس ورضى عنه فوالله لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم قال رسول الله صلى.
الله عليه وسلم قالوا قال فلان وفلان لمن لا يداني الصحابة ولا قريبا من قريب وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه وهذا عكس طريقة فرقه أهل التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس.
الوجه الأربعون: قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد سن لكم معاذ فاتبعوه" فعجبا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله صلى الله عليه وسلم "فاتبعوه" كما صار الأذان سنة بقوله صلى الله عليه وسلم وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 11:01 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الإثنين 28 ديسمبر 2015, 9:27 pm | |
| فإن قيل: فما معنى الحديث؟. قيل: معناه أن معاذاً فعل فعلا جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لا لأن معاذا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه فصدع رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وامر باتباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة المقلدين وبالله التوفيق.
الوجه الحادي والأربعون: قولكم إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتنون به فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء وقيل: هم العلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التقليد عليها؟.
الوجه الثاني والأربعون: أن هذه الآية من أكثر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد وذلك من وجوه أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه الثاني: طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعا لله ورسوله حتى يكون عالما بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه نصا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الإستدلال الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد.
فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم إذ لو كانوا إتما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟.
قيل: وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا وليس بل طاعته واجبة استقلالا سواء كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن.
الوجه الثالث والأربعون: قولهم إن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية بل الآية من أعظم الأدلة ردا على فرقة التقليد فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهماجهم وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم ولله الحمد رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليدها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم فالتابعون لهم بإحسان حقا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيا ولا قياسا ولا معقولا ولا قول أحد من العالمين ولا يجعلون مذهب أحد عيارا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقا جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.
يوضحه الوجه الرابع والأربعون: أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم والجهال أسعد بأتباعهم منهم وهذا عين المحال بل من خالف واحدا منهم للحجة فهو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة وهكذا القول في أتباع الأئمة رضي الله عنهم معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم.
ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم فأتبع الناس لمالك ابن وهب وطبقته ممن يحكم الحجة وينقاد للدليل أين كان وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر.
الوجه الخامس والأربعون: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البزار: "وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم".
الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين: فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدي بها وقلدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه.
الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الأخوة منهم ومن أسقط الإخوة به معا وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه وتقليد من قال: تعتد المتوفي عنها بأقصى الأجلين ومن قال: بوضع الحمل وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال وتقليد من أسقطه وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدا ومن رآه ثلاثا وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منها وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول ومذهب على مذهب بل اجعلوا الرجل مخيرا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه.
الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقبول من كل من دعا إليهما منهم فإن الاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم رضي الله عنهم وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق.
الوجه السادس والأربعون: قولكم: قال عبد الله بن مسعود "من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات" أولئك أصحاب محمد فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات الثاني أنه عين المستن بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم وهم الصحابة رضي الله عنهم وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير الثالث أن الاستنان بهم هو الإقتداء وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به ويفعل كما فعلوا وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد.
الوجه السابع والأربعون: قولكم: قد صح النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد فإنه خلاف سنتهم ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنا من كان ولم يكن له معها قول ألبتة وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك.
يوضحه الوجه الثامن والأربعون: أنه صلى الله عليه وسلم قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع والأخذ بسنتهم ليس تقليدا لهم بل اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن الأخذ بلأذان لم يكن تقليدا لمن رآه في المنام والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدا لمعاذ بل اتباعا لما أمرنا بالأخذ بذلك فاين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟.
يوضحه الوجه التاسع والأربعون: أنكم أول مخالف لهذين الحديثين فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبا وليس قولهم عندكم حجة وقد صرح بعض غلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافا له وبالله التوفيق.
يوضحه الوجه الخمسون: أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان الثاني أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله ويعرض القرآن والسنة عليه ويجعل معيارا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضلها وخيرها على غيرها وبالجمله فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها؟.
يوضحه الوجه الحادي والخمسون: أنه صلى الله عليه وسلم قال في نفس هذا الحديث: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا" وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعا كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا هذا والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض ولهذا تجد أقل الناس اختلافا أهل السنة والحديث فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا وأقل اختلافا منهم لما بنوا على هذا الأصل وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر فإن من رد الحق مرج عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب كما قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شريح "أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون" فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد فإنه أمره أن يقدم الحكم بالكتاب على كل ما سواه فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى الصحابة ونحن نناشد الله فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة والله يشهد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلدوه وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف ذلك لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم.
فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير وقالوا إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا: هل فيها اختلاف أم لا فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما ويسرهما لنا وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهوها وأحسن أحواله أن يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ في زمنهم أن يخالفهم فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله وهل أحال الله الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطلاع لأفرادهم عليه وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر متمكنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه وهذا من أمحل المحال وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول وانفتح باب دعواه وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال هذا خلاف الإجماع وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن بقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا.
وقال في رواية المروزي: كيف يجوز للرجل أن يقول: "أجمعوا" إذا سمعتهم يقولون: "أجمعوا" فاتهمهم لو قال: "إني لم أعلم مخالفا" كان.
وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقال: "ما أعلم فيه اختلافا" فهو أحسن من قوله إجماع الناس.
وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا.
ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة قال الشافعي: "الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة" وقال في كتاب اختلافه مع مالك: "والعلم طبقات الأولى: الكتاب والسنة الثابتة ثم الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة الرابعة: اختلاف الصحابة والخامسة: القياس" فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع ثم أخبر أنه إنما يصار إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابا ولا سنة وهذا هو الحق. وقال أبو حاتم الرازي: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ وما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا معارض له وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا عليه فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عبيد القاسم ابن سلام انتهى.
فهذا طريق أهل العلم وأئمة الدين جعل أقوال هؤلاء بدلا عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء فعدل هؤلاء المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير.
ثم حدثت بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم يجز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه ومن جعله عيارا على القرآن والسنة فما وافق قوله أفتى به وحكم به وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم واستفتى له ما تقول السادة والفقهاء فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه هل يجوز له ذلك أم لا وهل يقدح ذلك فيه أم لا فينغض المقلدون رءوسهم ويقولون له لا يجوز ذلك ويقدح فيه ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله ورسوله بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارا مجردا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم عذر ما عند الله ولكن هذا مبلغهم من العلم وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين لله بحججه وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والخمسون: قولكم: "منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضا" جوابه من وجوه أحدها: أنهم لم يتبعوه تقليدا له بل أداهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده ولم يقل أحد منهم قط إني رأيت ذلك تقليدا لعمر الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر رضي الله عنه في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة لو فرض له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير في كل ما يقوله وترك قول من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه فهذا من أبطل الاستدلال وهو تعلق ببيت العنكبوت فقلدوا عمر وتركوا تقليد فلان وفلان فأما أنتم تصرحون بأن عمر لا يقلد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟.
الوجه الرابع والخمسون: قولكم: "إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبا غير ثوبك فقال: لو فعلت صارت سنة" فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدي به من يراه ويفعل ذلك ويقول: لولا أن هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعله عمر فهذا هو الذي خشيه عمر والناس مقتدون بعلمائهم شاءوا أم أبوا فهذا هو الواقع وإن كان الوجب فيه تفصيل.
الوجه الخامس والخمسون: قولكم: "قد قال أبيّ: ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" فهذا حق وهو الواجب على من سوى الرسول فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه فإن تبين له صار عالما مثله وإلا وكله إليه ولم يتكلف مالا علم به فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال أصحابه وقد جعل الله سبحانه فوق كل ذي علم عليم فمن خفي عليه بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم منه فقد أصاب فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة واتخاذ رجل بعينه معيارا على ذلك وترك النصوص لقوله وعرضها عليه وقبول كل ما أفتى به ورد كل ما خالفه وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد فإن أوله "ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه لها وتعلمون بها وتفتون أو تقضون بموجبها أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله وتقولون: هو أعلم بها منا؟ فأبي رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية وهي مبطلة للتقليد قطعا وبالله التوفيق ثم نقول: هل وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم أعلم الأمة وأفضلها أم تركتم أقوالهم وعدلتم عنها فإن كل من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم.
الوجه السادس والخمسون: قولكم: "كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم وهذا تقليد من المستفتين لهم" وجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله وكانوا بمنزلة المخبرين فقط لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم ولا يفتون بغير النصوص ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا وفعل كذا ونهى عن كذا هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه وهؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ما حرمه ويستبيح ما أباحه وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أفتى بغير السنة منهم كما أنكر على أبي السنابل وكذبه وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر وأنكر عن من أفتى باغتسال الجريح حتى مات وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته وأخبر أن إثم المستفتى عليه فإفتاء الصحابة في حياته نوعان: أحدهما: كان يبلغه ويقرهم عليه فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون.
الوجه السابع والخمسون: قولكم: "وقد قال تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} فأوجب قبول نذراتهم وذلك تقليد لهم" جوابه من وجوه أحدها: أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي؟ الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد والثاني التفقه في الدين وجعل قيام الدين بهذين الفريقين وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم فالنافرون يجاهدون عن القاعدين والقاعدون يحفظون العلم للنافرين فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنا للناس في الآية قولان أحدهما: أن المعنى فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة فيكون المعنى في طلب العلم وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين واحتجوا به على قبول خبر واحد لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر والثاني أن المعنى فلولا نفر من كل قرية طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا" وأيضا فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم والغائبين عنه والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين فكيف لا يتناولهم اللفظ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصا بالغائبين عنه فقط والمعنى وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم فلولا نفر إليه كل قرية منهم طائفة وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين وإخراج للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم بل هي حجة على فساده وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأتي بحجة فليس بنذير فإن سميتم ذلك تقليدا فليس الشأن في الأسماء ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارا على القرآن والسنن فما وافق قوله منها قبل وما خالفه لم يقبل ويقبل قوله بغير حجة ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه فهذا الذي أنكرناه وكل عالم على وجه الأرض يعلن إنكاره وذمه وذم أهله.
الوجه الثامن والخمسون: قولكم: "إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا يريد أبا بكر رضي الله عنه فإنه أنزله أبا" فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدا بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله وأنه ممن لا يقاس غيره به لا يقبل قوله بغير حجة وتترك الحجة من القرآن والسنة لقوله فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنا من كان وقول ابن الزبير: "إن الصديق أنزله أبا" متضمن للحكم والدليل معا.
الوجه التاسع والخمسون: قولكم: "وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له" فلو لم يكن في آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانا وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع الأمة على قبول قوله فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم الحاكم بها كما يحكم بالإقرار وكذلك قول المقر أيضا حجة شرعية وقبوله تقليد له كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدا فسموه ما شئتم فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك وجعله دليلا على الأحكام فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله ورسوله ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وتقديم آراء الرجال عليها وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه واطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق وانتكاس العقول والإفهام وبالجملة فنحن إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله فأنتم معاشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله أو لأن الله أمركم بقبول قوله وطرح قول من سواه.
الوجه الستون: قولكم: "وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض" أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليدهم فيما يخبرون به فإن عنيتم الأول فهو باطل وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلى التقليد في الفتوى والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة وقد أمر الله سبحانه بقول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة وطرد هذا ونظيره قبول خبرالمخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال أو فعل وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك وهلم جرا فهذا حق لا ينازع فيه أحد.
وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكم به وندين الله به ونقول هذا هو الحق وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عداه من جميع أهل العلم؟.
ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة ودخول الوقت لغيره وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره في طلوع الفجر ويقال له أصبحت أصبحت وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت وتقليد من في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة والفطر والصوم وأمثال ذلك ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة في الرسالة والتعريف والتعديل والجرح كل هذا من باب الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلا صادقا وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهدية وإدخال الزوجة على زوجها وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة في انقطاع دم حيضها لوقته وجواز وطئها أو نكاحها بذلك وليس هذا تقليد في الفتيا والحكم وإذا كان تقليدا لها فإن الله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها ونقلدها فيه ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله فضلا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة.
الوجه الحادي والستون: قولكم: "وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها" جوابه أن هذا ليس تقليدا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله حتى لو كان الذابح والبائع يهوديا أو نصرانيا أو فاجرا اكتفينا بقوله في ذلك ولم نسأله عن أسباب الحل كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن ناسا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا فقال: "سموا وأنتم وكلوا" فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما وأن ندور مع الحق حيث كان ولا نتحيز إلى شخص معين غير الرسول نقبل قوله كله ونرد قول من خالفه كله وإلا فاشهدوا بأنا أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها داع إلى خلافها والله المستعان. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 10 يونيو 2021, 11:02 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: المجلد الثاني الإثنين 28 ديسمبر 2015, 9:31 pm | |
| الوجه الثاني والستون: قولكم: "لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد وتعطلت الصنائع والمتاجر وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا" فجوابه من وجوه: أحدها: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد فلو كلفنا به لضاعت أمورنا وفسدت مصالحنا لأنا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء وهم عدد فوق المئتين ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله وبلغ ما بلغ الليل فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه كما إن كلفنا بتقليد كل عالم وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلا عن المقلد الذي هو كالأعمى وإن كلفنا بتقليد البعض وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا صار دين الله تبعا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا وهو عين المحال فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله وأمينه على وحيه وحجته على خلقه ولم يحعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدا.
الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها وبإهماله وتقليد من يخطيء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
والثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها فما خراب العالم إلا بالجهل ولا عمارته إلا بالعلم وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قل الشر في أهلها وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورا قال الإمام أحمد ولولا العلم كان الناس كالبهائم وقال الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا والعلم يحتاج إليه كل وقت.
الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته وليس في ذلك إضاعة لمصلحة الخلق ولا تعطيل لمعاشهم فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم والقيام على مواشيهم والضرب في الأرض لمتاجرهم والصفق بالأسواق وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم غبارهم.
الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر كما قال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولم يقل فتضيع عليه مصالحه وتتعطل معايشه عليه وسنة رسوله وهي بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان التي كل مالها في نمو وزيادة وتوليد والدين كل ماله في غربة ونقصان والله المستعان.
الوجه الثالث والستون: قولكم: "قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت وتقليد المؤذنين وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها".
فجوابه ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلا على ترتب الأحكام فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين والإعراض عن القرآن والسنن ونصب رجل بعينه ميزانا على كتاب الله وسنة رسوله.
الوجه الرابع والستون: قولكم: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن الحارث أن يقلد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته" فيالله العجب فأنتم لا تقلدونها في ذلك ولو كانت أمهات المؤمنين ولا تأخذون بهذا الحديث وتتركونه تقليدا لمن قلدتموه دينكم وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر به وبمنزلة قبول الشاهد وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدا لتلك الأمة أو اتباعا لرسول الله حيث أمره بفراقها فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها وتقولون هي زوجتك حلال وطؤها وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن الحارث سواء ولا نترك الحديث تقليدا لأحد.
الوجه الخامس والستون: قولكم: "قد صرح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه" وقال محمد بن الحسن: "يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله" وقال الشافعي في غير موضع: "قلته تقليدا لعمر وقلته تقليدا لعثمان وقلته تقليدا لعطاء".
جوابه من وجوه أحدها: أنكم إن ادعيتم أن جميع العلماء صرحوا بجواز التقليد فدعوى باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية وكانوا يسمون المقلد الإمعة ومحقب دينه كما قال ابن مسعود الإمعة الذي يحقب دينه الرجال وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرة له ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكما سماه الشافعي حاطب ليل ونهى عن تقليده وتقليد غيره فجزاه الله عن الإسلام خيرا لقد نصح لله ولرسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله وأمر باتباعهما دون قوله وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما فنحن نناشد المقلدين هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى.
الثاني: أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبة عن التقليد واتباعا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف وقد صح عن أبي يوسف أنه قال لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا.
الثالث: أنكم منكرون أن يكون من قلدتموه من الأئمة مقلدا لغيره أشد الإنكار وقمتم وقعدتم في قول الشافعي قلته تقليدا لعمر وقلته تقليدا لعثمان وقلته تقليدا لعطاء واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب وادعيتم أنه لم يقلد زيدا في الفرائض وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده ووقع الخاطر على الخاطر حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة حتى في الأكدرية وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة فكيف نصبتموه مقلدا ههنا ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد ولو انبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إماما لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كل ذي حق حقه.
الرابع: أن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون تقليد واحد من هؤلاء بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء وقلدتم الشافعي وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه فإن قلدتم الشافعي فقلدوا من قلده الشافعي فإن قلتم بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي قيل لم يكن ذلك تقليدا منكم لهم بل تقليدا له وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم.
الخامس: أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ولا سوغوه بتة بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب فإن التقليد إنما يباح للمضطر وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل عند الضرورة فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم. الوجه السادس والستون: قولكم: "قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا" ونحن نقول ونصدق رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا جوابه من وجوه: أحدها: أنكم أول مخالف لقوله ولا ترون رأيهم لكم خيرا من رأي الأئمة لأنفسهم بل تقولون رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا فإذا جاءت الفتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم.
الثاني: أن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة لما خصهم الله به من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضة محضة لم تشب ومراجعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يجليه لهم فمن له هذه المزية بعدهم ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون فضلا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرح به غلاتهم وتالله إن بين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك.
قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا" قال الشافعي: "وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل احد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وقال ابن مسعود: "إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنة خلفائه الراشدين وبالاقتداء بالخليفتين" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود بالعلم ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وضمه إليه مرة وقال اللهم علمه الحكمة وتأول عمر في المنام القدح الذي شرب منه حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر وعمر يرشدوا وأخبر أنه لو كان بعده نبي لكان عمر وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه وقال رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد يعني عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يدانيهم ولا يقاربهم".
الثالث: أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلدتموه حجة وأكثر العلماء بل الذي نص عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها ويحرم الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك وأبلغهم فيه الشافعي ونبين أنه لم يختلف مذهبه أن قول الصحابي حجة ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء الله وأن من حكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا بصريحه وإن كان قول الصحابي حجة فقبول قوله حجة واجب متعين وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائعا فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله.
الوجه السابع والستون: قولكم: "وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره" فجوابه أن هذا حق لا ينكره عاقل ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه وترك الحجة لقوله وترك أقوال أهل العلم جميعا من السلف والخلف لقوله فهل جعل الله ذلك في فطرة أحد من العالمين ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة والدليل المثبت لقول المدعي فركز سبحانه في فطر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة والحجج الساطعة والأدلة الظاهرة والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة للحجة وقطعا للمعذرة هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم فأتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس فكيف يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم لما جعل الله في فطر عباده من الانقياد للحجة وقبول قول صاحبها وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها وإن خالفوه عنادا وبغيا فلفوات أغراضهم بالانقياد.
ولقد أحسن القائل: أبن وجه قول الحق في قلب سامع… ودعه فنور الحق يسري ويشرق سيؤنسه رشدا وينسى نفاره… كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطره الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.
الوجه الثامن والستون: قولكم: "إن الله سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى آخره" فنحن لا ننكر ذلك ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دقه وجليه وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصب رجل واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع بل تقديمها عليه وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع علماء أمته والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب الله وسنة رسوله وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد والقول على الله بلا علم والإخبار عمن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيب أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة وقد تعارضت أقوالهما فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد ودينه تبع لآراء الرجال وليس له في نفس الأمر حكم معين فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يخطيء من خالف متبوعه ولا بد له من واحد من الأمرين وهذا من بركة التقليد عليه.
إذا عرفت هذا فنحن إنما قلنا ونقول: إن الله تعالى أوجب على العباد أن يتقوه بحسب استطاعتهم وأصل التقوى معرفة ما يتقى ثم العمل به فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه ثم يلتزم طاعة الله ورسوله وما خفي عليه فهو فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول فكل أحد سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه قال أبو عمر وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خفي عليه بعض أمره فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأ أو قلد فيه غيره كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من شاءوا من العلماء وأن يختار كل منهم رجلا ينصبه معيارا على وحيه ويعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع وبالله التوفيق.
الوجه التاسع والستون: قولكم: "إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام والمتبوع مع التابع فالركب خلف الدليل" جوابه إنا والله حولها ندندن ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تأتم به وتتبعه وتسير خلفه وأقسم سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لم يفتح لهم حتى يدخلوا خلفه فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقا ولم يجعل الله منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به ويأتموا به ويسيروا خلفه وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعا ولا إماما ولا دليلا غيره بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي طاعة لله وامتثالا لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون بمنزلة الوفد مع الدليل كلهم يحج طاعة لله وامتثالا لأمره ل أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي بل هو يصلي صلى إمامه أو لا بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله ولو كان كذاك لدار مع قول الرسول أين كان ولم يكن مقلدا فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم.
يوضحه الوجه السبعون: أن المأموم قد علم أن هذه الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده وأنه وإمامه في وجوبها سواء وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من استطاع إليه سبيلا وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدا للدليل ولم يصل تقليدا للإمام وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف مأموما والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه بل خلف من ليس بعالم وليس من تقليده في شيء.
يوضحه الوجه الحادي والسبعون: أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء والركب يأتون بمثل ما يأتي به الدليل ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا متبعا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا يكون متبعا لهم وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم ويسلك غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيهم ويقال لهم {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
الوجه الثاني والسبعون: قولكم: "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد وكان الناس حديثي عهد بالإسلام وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل" جوابه أنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به فكان ما أفتو هم به هو الحكم وهو الحجة وقالوا لهم هذا عهد نبينا إلينا وهوعهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحكم وهو دليل الحكم وكذلك القرآن وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص أشباه الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرا لكلامهم وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدم هجرا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئا بحسب تقدم زمانه لكن أين قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلا يختاره ويقلده دينه ولا يلتفت إلى غيره ولا يتلق الأحكام من الكتاب والسنة بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعمن نصبتموه إماما تقلدونه فخذوا بقوله ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله فوالله لو كشف الغطاء لكم وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة.
كما قال الأول: نزلوا بمكة في قبائل هاشم… ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وكما قال الثاني: سارت مشرقة وسرت مغربا… شتان بين مشرق ومغرب
وكما قال الثالث: أيها المنكح الثريا سهيلا… عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت… وسهيل إذا استقل يماني
الوجه الثالث السبعون: قولكم: "إن التقليد من لوازم الشرع والقدر والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد كما تقدم بيانه من الأحكام" جوابه أن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدا وإنما هي متابعة وامتثال للأمر فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه وإنما بطلانه من لوازمه.
يوضحه الوجه الرابع والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين يوجب بطلان الآخر ونحرره دليلا فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال لأنه يتضمن بطلانه.
فإن قيل: كلاهما من الدين أو أحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول عن المفضول إلى الفاضل.
قيل: إذا كان قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعتم طريقه وصار الفرض هو التقليد فالعدول عنه إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثما وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما يبطل هذا القول ويدحضه وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من اولي العلم والبصائر.
والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعة والاقتداء وتقديم النصوص على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله فهذا لون والاتباع لون والله الموفق.
الوجه الخامس والسبعون: قولكم: "كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون لحملتها ورواتها وليس بيد العالم إلا تقليد الرواي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ولا بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره" جوابه ما تقدم مرارا من أن هذا الذي سميتموه تقليدا هو اتباع أمر الله ورسوله ولو كان هذا تقليدا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدا بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس الحق بالباطل والمقلد لجهله أخذ نوعا صحيحا من أنواع التقليد واستدل به على النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك وغفل عن القدر الفارق وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء.
وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدا وإذا قيل إنه مقلد للحجة فحيهلا بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله؟ والله المستعان.
الوجه السادس والسبعون: قولكم: "أنتم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه".
جوابه من وجوه: أحدها: أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله والله ورسوله منع منه وذم أهله في كتابه وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله وأخبر أن الحكم له وحده ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة وأمر أن يعتصم بكتابه ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما أحلوه ويحرم ما حرموه وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مخبرين به وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلدوه وأن نسلم لحكمه تسليما كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه بل تسليما أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان وذم من حاكم إلى غير الرسول وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته فلو كان حيا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد فسنته وما جاء به من الهدى ودين الحق لم يمت وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته ودعوته وهديه والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما من ابتغاهما وجدهما وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله فلا يزال محفوظا بحفظ الله محميا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنا بعد قرن إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبي بعده فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم وهو محكم لم ينسخ ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا وقد ذم الله تعالى من إذا دعى إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض وحذره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه وحذر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم فالفتنة في قلبه والعذاب الأليم في بدنه وروحه وهما متلازمان فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ماقضاه فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن البتة.
ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفي قضاء الله ورسوله على من قلدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا فإن قالوا: "لا يمكن أن يخفى عليه ذلك" أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى اعلمه به محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله وخفي على عمر تيمم الجنب فقال: لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشر عشر فترك قوله ورجع إليه وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فترك قوله وأمر بها وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهى عنه وكما خفي عليه قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حتى قال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} فقال: "كل أحد أفقه من عمر حتى النساء" وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليهم فيها عهدا وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذاك العام حتى بينه له النبي صلى الله عليه وسلم وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها فإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه" هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر" قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فرجع إلى ذلك وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى ذكر له أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم ورثها ذلك وخفي على ابن العباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا إليه فيها شهرا فأفتاهم برأيه ثم بلغه النص بمثل ما أفتى به.
وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفي على من قلدتموه بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خفي ذلك على سادات الامة أولا؟ فإن قالوا: "لا يخفى عليه" وقد خفي علىالصحابة مع قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة وإن قالوا: "بل يجوز أن يخفى عليهم" وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه وإذا قضى الله ورسوله أمرا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه فأعدوا لهذا السؤال جوابا وللجواب صوابا فإن السؤال واقع والجواب لا زم والمقصود أن هذا هو الذي منعنا من التقليد فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد.
الوجه الثاني: أن قولكم: "صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده" دعوى باطلة فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ بل هو كما قال الشافعي حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر فهو مصيب للأجر ولا بد بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ لم يسلم من الإثم فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟.
الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره وحينئذ فلا يكون مقلدا له بل متبعا للحجة وأما إذا لم يعرف ذلك البتة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في طلب الحق.
الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر الله فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب.
الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم فإن من أراد شراء سلعة أو سلوك طريق حين اختلف عليه اثنان أو أكثر وكل منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم بل يبقى مترددا طالبا للصواب من أقوالهم فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عد مخاطرا مذموما ولم يمدح إن أصاب وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول المتخلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب ولم يجعل في فطرهم الهجم على قبول قول واحد واطرح قول من عداه.
الوجه السابع والسبعون: أن نقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبا لكم تفتون وتقضون بها وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذاوتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عال عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده وهذا لا جواب لكم عنه.
يوضحه الوجه الثامن والسبعون: أن من قلدتموه إذا روى عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم: مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا وكان القولان جميعا مذهبا لكم فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعا مذهبا لكم وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة.
يوضحه الوجه التاسع والسبعون: أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولا خلاف قول المتبوع أو خرجه على قوله جعلتموه وجها وقضيتم وأفتيتم وألزمتم بمقتضاه فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه شيئا ومعلوم أن واحدا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجل من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم فقدروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم فيالله العجب صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشائخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم.
وتمام ذلك الوجه الثمانون: أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى بأي كتاب أم بأية سنة؟! وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرا وصار كل حزب بما لديهم فرحون إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه وذلك مفض إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعا للتشهي والأغراض وعرضة للاضطراب والاختلاف وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم.
الوجه الحادي والثمانون أن المقلدين حكموا على الله قدراً وشرعاً بالحكم الباطل جهارا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة فقالت طائفة ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن. تم بحمد الله الانتهاء من المجلد الثاني. |
|
| |
| المجلد الثاني | |
|