اليوم التاسع عشر: داوم على الاستغفار
بقلم: الشيخ عوينات محي الدين
الحمد لله الذي يقبل منا القليل من العمل وينميه، ويغفر لنا الكثير من الزلل ويمحوه. دواء الأدواء، ومزيل اللأواء، الجالب للسراء، والماحي للضراء، المزيل للهم والشقاء. قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) [النساء:110]
الاستغفار استفعال مِن الغفران، وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء بحسبه، والغفران مِن الله للعبد أنْ يصونه عن العذاب.
والاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها، وقول القائل: " اللهم اغفر لي" طلب منه للمغفرة؛ فيكون حكمه حكم سائر الدعاء..
وحاجتنا للاستغفار لا تقل عن حاجتنا لصالح الأعمال، وحتى أعمالنا الصالحة تحتاج إلى استغفار، وتقصيرنا يحتاج إلى استغفار، وغفلتنا تحتاج إلى استغفار، وضعف شكرنا يحتاج الى استغفار.
وكلما تقدم المؤمن في طريق العبودية أكثر أحس بالتقصير أكثر، ولذا سن لنا الاستغفار بمجرد التسليم من الصلاة لتقصيرنا في أدائها على أحسن صورة.
كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه. فإذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم؟!
ونحن في شهر رمضان يسن لنا كذلك أن نكثر من الاستغفار لعدم قدرتنا على القيام بعبودية الصوم في شكلها الكامل الذي يرضاه الله تعالى، ولكثرة ما يصدر منا خرق للصيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يُرَقِّعه؛ فمَن استطاع منكم أن يجيء بصوم مُرقَّع فليفعل.
وعن ابن المنكدر معنى ذلك: الصيام جُنة من النار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجُنة، والاستغفار يُرَقِّع ما تخرق منها.
و قريب من هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو، كالمسيء المقصر.
وفي الحديث القدسي: ".. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا؛ فاستغفروني أغفِرْ لكم.." [رواه مسلم]
وعن أنس بن مالك ? قال: سمعت رسول الله ? يقول: "قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ! إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ ولا أُبالي.. يا ابنَ آدمَ! لو بلغتْ ذنوبُكَ عَنانَ السماءِ، ثم استغفرتَني غفرتُ لكَ.. يا ابنَ آدمَ! إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً". [رواه الترمذي،]
وكان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى فـي المجلس الواحد مائة مرة: أخرج النسائي عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه" في المجلس قبل أنْ يقوم مائة مرة.
وله مِن رواية أخرى عن ابن عمر بلفظ: إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: "ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليّ؛ إنكَ أنتَ التوابُ الغفورُ" مائة مرة.
وأخرج النسائي عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال: "يا أيها الناس! توبوا إلى اللهِ؛ فإني أتوبُ إليهِ في اليومِ مائةَ مرةٍ".
أخرج الترمذي وغيره مرفوعًا: "مَن قال: أستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليهِ؛ غُفرَت ذنوبُه وإنْ كان قد فَرَّ مِنَ الزَّحفِ".
وأنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، وهي التي تخرج المذنب من إصراره على الذنوب.
عن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحبَّ أنْ تَسرَّهُ صحيفتُهُ فليكثِرْ فيها مِن الاستغفار" [رواه البيهقي]
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "طُوبَى لمن وجدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا". [رواه ابن ماجه، والبيهقي، وصححه الألباني]
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ صاحبَ الشمال ليرفعُ القلمَ سِتَّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئ أو المسيء، فإنْ ندمَ واستغفرَ اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدةً". [رواه الطبراني]
والاستغفار عبادة يحبها الله، شرعها لعباده تفضلاً منه وإنعامًا ليكفر عنهم سيئاتهم ويمحوها.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
وفي بعض الآثار أن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ"لا إله إلا الله" والاستغفار.
وما ألطف قول ابن الجوزي إذ سئل: أأُسَبِّح أو أستغفر؟ فقال: الثوب القذر أحوج إلى الصابون من البخور.
كان صلة بن أشيم يُحيي الليل، ثم يقول في دعائه عند السحر: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار؛ ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟! وكان مطرف يقول: اللهم ارضَ عنا، فإنْ لم ترضَ عنا فاعفُ عنا. وقال يحيى بن معاذ: ليس بعارف مَن لم يكن غاية أمله من الله العفو.
وكان الرجل مِن الصالحين مِن السلف يكثر مِن الاستغفار، حتى يقول مَن حوله: إنَّ هذا الرجل قد وقع في ذنبٍ عظيم؛ لأنه يستغفر!
(أستغفر الله) كلمةً يرددها المرء على لسانه دون فهمٍ ولا إدراك، بل يستغفر الله بقلبٍ مكسور، ونفسٍ مجروحة، وحُزنٍ عظيم على تفريطه وإهماله وتقصيره.
ولذلك قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير.. فلا تظن أنه يذم حركة اللسان مِن حيث إنه ذكر الله، بل يذم غفلة القلب؛ فهو محتاج إلى الاستغفار مِن غفلة قلبه لا مِن حركة لسانه.. فإنْ سكتَ عن الاستغفار باللسان أيضًا احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها وكبيرها سرها وعلانيتها ، ولا تؤاخذنا بكل ما فعلنا ، واجبر اللهم كسرنا واستر عيبنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك... اللهم آمين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.