بعض الدروس والعظات والفوائد:
1- تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم للناس في منازلهم وأسواقهم عشر سنين يكشف لنا مدى الجهد والتعب الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ومدى صبره ومواصلته للعمل، وعدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم.
2- حجم الدعاية الإعلامية التي شنتها قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم بين قبائل العرب حتى جعل الناس يحذرون أفرادهم منه.
3- أن الحملة الدعائية مهما كان حجمها والجهود التي بذلت فيها ومهما كان اتساعها فإنها تبقى محدودة ولن تستقطب جميع الناس حيث يبقى من لا تؤثر فيه تلك الدعايات ممن هو خارج عن إطار الإمعات.
4- لا يستوحش من الحق لقلة السالكين وهذا الدين سيمكن في الأرض ولو بعد حين، فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يطارد بمكة ويحذر منه، فلم يتطرق إلى نفسه اليأس من الانتصار، وجاء نصر الله مسوقاً إليه من أهل المدينة، فالاضطهاد والملاحقة لا تثني الداعي عن دعوته، ولا تمنع من استجابة الناس له.
5- التفكير في إخراج الدعوة من الحصار الذي يضربه عليها أعداؤها وفك الخناق عنها، فلقد كان ذلك هو شغل الأنصار الشاغل وهمهم الذي ينامون عليه ويصحون معه، مع الشعور بالمسؤولية وإن لم يطلب منهم ذلك، حيث أن حجر الداعية ومنعه والحظر عليه مضرة بالمدعوين أكثر من الداعي، لذا قالوا: ((حتى متى نترك رسول الله...)).
6- الإنكار على من اجتهد مع وجود النص، كما أنكر الأنصار على البراء بن معرور صلاته إلى الكعبة، ولكن مع ذلك لم يحصل مقاطعة أو منافرة.
7- استفتاء العلماء عند وقوع خلاف ((مثل: طلب البراء بن معرور اللقاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه المسألة)).
8- رد المخطئ إلى الصواب دون تبكيت له فما زجره ولا نهره رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اجتهد البراء.
9- هكذا يجب أن تكون التربية فقد رجع البراء بن معرور إلى القبلة بكلمة من الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قد كنت على قبلة لو صبرت عليها)) فلم يتطلب الأمر إلى كلام كثير ووسائل إقناع.
10- كان الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة واطلاع على أحوال المجتمع الجديد الذي سيحتضن الإسلام، حتى أنه ليعرف ميزة بعض أفراده ((قال: الشاعر)) وهذا مفيد في الاستفادة من جميع القدرات وتوظيفها في مواقعها المناسبة.
11- مفارقة الأهل والأقارب إذا أصبحوا عقبة في طريق الدعوة.
12- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة مع أنه في عز ومنعة من قومه، لأن الأمن الذي يسعى إليه صلى الله عليه وسلّم هو الأمن للدين لا للنفس والبدن والأهل.
13- لعل مجيء العباس مع الرسول صلى الله عليه وسلم كان تأكيداً للأنصار أن الأمن المطلوب للدعوة لا لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرهم بمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم وحمايتهم لشخصه.
14- الاستفادة من أنظمة وتقاليد وعادات المجتمع في نصرة الدعوة بشرط أن لا تكون على سبيل المقايظة، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتنع بالعصبية القبلية في قومه فلم يخلص إليه كما قال العباس بن عبد المطلب.
15- البدء بالتذكير والوعظ وترغيب النفوس وترقيق القلوب مهما كانت أهمية الاجتماع وخطورته، فلم يَكِلهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يعلمون ((فتكلم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام)).
16- الصدق والإخلاص مع إدراك المخاطر كلها التي تمر بها الدعوة كان ظاهراً في هذا الاجتماع ((فخذ لنفسك ولربك ما أحببت)) فلم يقولوا: اذكر لنا ما تريد أو تكلم بما أحببت أو اعرض علينا شروطك، فيكون في هذا مجال اختيار ونظر، ولكنهم رضي الله عنهم أبانوا أنهم على استعداد لتحمل جميع التكاليف دون أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
17- أكثر أنصار الدعوة شباب وهم عماد الأمة إذا قيدوا بالإيمان والعلم والتربية ((قال العباس: هؤلاء أحداث)).
18- اتخاذ جميع الاحتياطات لحماية الدعوة والدعاة لا ينافي التوكل.
19- الاهتمام بدعوة الأشراف الذين يرجى منهم القبول واتخاذ الأسلوب الأمثل في دعوتهم، ومدحهم بما فيهم ((مثل دعوة والد جابر)).
20- لا يشترط في الولاية الأسبقية بل الأهلية مقدمة على ذلك، فعبد الله بن عمرو بن حرام كان جديداً في الإسلام ومع ذلك كان نقيباً.
21- الوضوح والصراحة عند المعاهدة أو المعاقدة على دعوة وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار ما يطلب منهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم، فلم يكن مستغلاً لعددهم وعدتهم فيستر عنهم مشاكله التي تمر بها دعوته بل أوضح لهم كل ما يحف به من مخاطر.
22- سرعة استجابتهم مع إدراكهم حجم الخطر الذي سيحل بهم دليل على تمكن الإسلام من قلوبهم واستعدادهم الكبير للبذل والعطاء من أجله ((أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها)).
23- حاجة الدعوة إلى الرجال الناصرين لها...
24- الدقة التامة في المواعيد فلم يتخلف رجل واحد منهم أو يتأخر عن الوقت.
25- الشروط الخمسة في البيعة: وتبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.
كانت واضحة جلية ولم يكن شيء منها عائماً، حتى يكون المستعد لخدمة هذا الدين متبصراً عارفاً بكل الأمور والمتطلبات، ويخطئ من يظن أن مواجهة العدو والدفاع عن هذا الدين تأتي من خلال الكلام العائم، والحماس المندفع للإسلام بدون تبصر وروية.
26- يجب توقع أسوأ النتائج وعرضها على جميع المستعدين للذب عن هذا الدين، حتى تتميز الصفوف أولاً، ويقطع العذر على المتخاذل، ويكون التخطيط دقيقاً والخطوات محسوبة، ولا يعطي أحد البيعة إلا وعنده القدرة على الوفاء بها مع الصبر على تبعاتها.
وهذا هو طريق الأنبياء، لابد من بذل وتضحيات، أما الدعوة بدون تكاليف، وبلا تضحيات، وبدون بذل وجهد فهذا شيء آخر.
قال أسعد بن زرارة: ((...وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن يعضكم السيف، فإن أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله، وإن أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر عند الله -عز وجل-!)).
فينبغي البعد عن تخدير الناس بالأماني الجميلة والمواعيد الحلوة، والأحلام المحببة للنفوس، فالطريق طويل وصعب وشائك.
27- السعي لتمكين الدين في الأرض لا لتمكين الأشخاص، ولهذا كان الضمان الوحيد لأهل البيعة ((الجنة)) فلا منصب ولا وزارة ولا وظيفة... ولا مكان للذي يطلب العاجل، فالدعوة والجهاد وبذل المال والنفس كلها يجب أن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة ((فأخذ علينا ليعطينا بذلك الجنة)).
28- يؤخذ من قول الهيثم بن التيهان ((إن بيننا وبين القوم حبال...)) أن مقاطعة اليهود والنصارى من بدهيات العقيدة، فلم يقل فهل ترى أن نقطعها!!
29- وفي قوله: ((بل الدم الدم)) دليل على تحمل الداعية والراعي ما يصيب الناس، وأنه جزء من المجتمع فهم شركاء مصيرهم واحد.
30- تنظيم الرسول صلى الله عليه وسلّم لأصحاب العقبة وتقسيمهم وجعل العرفاء والنقباء عليهم، مما يسهل الاتصال بهم، والقدرة على تربيتهم ومتابعتهم.
31- عدم تحمل الشيطان الحدث فبعد نجاح التخطيط حاول بنفسه البلاغ عن الاجتماع ((يا أهل الجباجب)).
32- صرف الكلام عن مجراه وتحويره ليبطل الخطر المتربص في الدعوة، وتلهية الأعداء إذا خيف كشف الخطط، والتعتيم في مثل هذه الحالة من الذكاء والفطنة، فكأنه يقول لسنا من أصحاب الاجتماعات بل هممنا لا تتعدى الانشغال بمثل هذه التوافه كالنعلين، فالرجل كان يتحدث عن قضية مصيرية خطيرة وكعب مشغول بحذائه الجديدة!!
33- قوله: ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً)) ولم يختر لهم مع أنه بإمكانه أن يختار من بايعه في العقبة الأولى وهم من السابقين وكان عددهم اثني عشر، فأعطاهم الحق في الاختيار احتراماً لآرائهم وعقولهم، واستفادة من طاقتهم وخبرتهم بالرجال في اختيار الأفضل.
34- المفاصلة في العقيدة من أول لحظة تتضح لمن يعتنق الإسلام وتكون فطرته سليمة، فأعظم ما يدافع العربي عن قومه وعشيرته، لكن العباس بن نضلة أراد أن يميل عليهم ويبيتهم في منازلهم!!
35- الدعوة تساس بالتخطيط والتعقل لا بالانفعالات والرغبات، والداعية لا يتأثر بحماس أتباعه ((إن أردت أن نميل على أهل منى بأسيافنا)) والتحسب لقطرة دم تخرج بفعل نزوة عاطفية، أو حماس غير منضبط، أما إذا جد الجد فالأرواح فداء لدين الله تعالى، فروح الاستبسال سادت هذا الجمع الطاهر ولكن ما أثرت على التخطيط.
ويجب النظر في العواقب وإدراكها تماماً، حتى يعرف الداعية أين يضع قدمه، فلا يبتّ بأمر لم يقدر جميع ظروفه.
36- تقدير الحماس مع عدم الاستجابة له والرد عليه بالتي هي أحسن ((لم نؤمر بذلك)).
37- عمل الرسول صلى الله عليه وسلّم وتحركاته وسياسته تنطلق من شرع الله، ولهذا بين للصحابي ذلك بقوله: ((لم نؤمر بذلك)).
38- إن الرجال الذين يعدون لحمل راية الإسلام، وقيام الدين على سواعدهم، غير الذين يريدون أن يعيشوا على هامش الحياة.
39- أن الدين الإسلامي لم يصل إلينا بسهولة بل بعد جهد وبذل للأنفس والأموال، ومفارقة للأهل والديار.
40- ((ففي البيعة الأولى كان الإيمان بالله ورسوله، وفي البيعة الثانية كان العهد على الهجرة، والجهاد.
وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن.
والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، ولم تكن البيعة والهجرة والجهاد لتتم لو لا انسلاخ المؤمنين الجدد من ولائهم القبلي والوطني، للولاء الشرعي، وتركهم لقاداتهم العشائرية إلى القيادة الإسلامية الواحدة...)).
إذن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة:
أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ)) فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ...)).
وفي صحيح مسلم: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب)).
أخرج ابن سعد عن الواقدي من حديث عائشة وسهل بن حنيف قالا: ((لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستأذنوه في الهجرة فقال: ((قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي)) ثم مكث أياماً، ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: (( قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها )) فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك...)).
طلائع المهاجرين:
أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ)).
الدروس والعظات:
1- كان المهاجرون ينتظرون الفرج بفارغ الصبر من هذا الأذى الذي تصبه عليهم قريش، فما كاد أن ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من قص رؤياه في الهجرة إلى المدينة حتى بادروا بالخروج إليها تاركين وراءهم أهلهم وأموالهم وبلادهم، فراراً بدينهم إلى الله.
2- ترتيب عملية الهجرة، بحيث يخرجون مثنى وثلاث.
3- العمل للدين واجب الجميع، والمبادرة إلى فعل الخير في أي مكان حل فيه المسلم فهو كالغيث حيثما وقع نفع، فطليعة المهاجرين فتحوا حلقات للتعليم فور وصولهم المدينة.
4- التعليم للجميع فلم يقتصر تعليم المهاجرين على كبار الأنصار بل شمل الأطفال أيضاً.
5- حرص الأنصار على تعليم أطفالهم وتربيتهم على دين الله ((فما جاء حتى قرأت سبح)).
6- مشاركة الأطفال في الأفراح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية لهم على حب الله ورسوله.
هجرة عمر وعياش:
قال ابن إسحاق: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ((اتعدت لما أردنا الهجرة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضُب من أَضاة بني غفار، فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: فقال: أبر بقسم أمي ولي هنالك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.
قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق:
فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقاً، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال ابن إسحاق:
وحدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عمر في حديثه، قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممَّنْ افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم!
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53 - 55).
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاصي.
قال: فقال هشام بن العاصي: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهّمنيها قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة)).
وهذا يضعف الرواية التي تذكر هجرة عمر علانية، وأنه تنكب قوسه وجاء إلى المسجد فقال لقريش: من أراد أن تثلكه أمه... الخ، فإن مدار هذه القصة على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبدالله بن القاسم الأملي (كذا الأصل ولعله الأيلي) عن أبيه بإسناده إلى علي رضي الله عنه، وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين، فإن أحداً من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقاً، كذا قال الألباني في كتابه ((دفاع عن السنة والسيرة النبوية)).
الدروس والعظات:
1- ترتيب عمر وأصحابه لهجرتهم واختيار الوقت المبكر لها، والاتعاد في مكان بعيد عن الأنظار خارج مكة، دلالة على ملاحقة المشركين للمهاجرين ودقة متابعتهم لهم ومنعهم من السفر.
2- عدم تأثير العاطفة على التخطيط والتنظيم، فقد انطلق عمر وعياش لما تأخر عليهم هشام فلم يبقوا في انتظاره.
3- قيام قريش بسجن وحجز كل من تعلم بهجرته كما فعلت مع هشام.
4- كل الخلق يكبدون ويتعبون، ولكن شتان بينهم، فهذا يتعب ويكبد لدعوة، وذاك لنـزوة كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَالا يَرْجُونَ} (النساء: 104)، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق: 6)، وفي حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) فلقد تعب المسلمون المهاجرون وتكبدوا عناء الطريق في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، كذلك تعب أبو جهل وأخوه وتكبدا عناء الطريق إلى المدينة في سبيل الشيطان.
5- وفي قصة أبي جهل مع عياش، بيان ما ينبغي عليه المسلم من الحذر الشديد من الأساليب الكيدية التي يستخدمها العدو.
6- الحذر من أساليب الاستعطاف التي قد يلجأ إليها العدو في الكيد للمؤمنين ((إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط...)).
7- فطنة عمر حيث أدرك مباشرة كيد أبي جهل لعياش.
8- نصح عمر لعياش وتوجيهه ولفت نظره عن الوقوع في شراك المخادعة.
9- إنه مهما خالفك أخوك المسلم في رأيك ولم يأخذ بتوجيهك ونصحك فلا يعني ذلك التخلية بينه وبين عدوه وتركه وحده يلاقي مصيره، فعمر رضي الله عنه لم يتخلَّ عن عياش على الرغم من تركه لنصيحته بل بذل له نصف ماله لإقناعه، فلما لم يرض بالمرة الثانية، لم يغضب عليه ويقل: اذهب وستجد مصيرك، بل إنه أعطاه راحلته للنجاة عليها، وفي هذا استرخاص الأموال في سبيل نصرة أهل الإسلام.
10- عدم الثقة بالكافر مهما كانت قرابته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118)، وقال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} (التوبة: 8)، فالكفار لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمةً، فهذا أخوهم وقد أمّناه ومع ذلك يوثقانه ويسخران منه أمام الناس.
11- استغلال الطاغية الكافر إذلال قريبه لتحريض الناس على جميع المؤمنين.
12- اهتمام عمر بأمر إخوانه الذين افتتنوا وفرحه الشديد بتوبة الله عليهم، ومكاتبتهم بذلك.
13- عظمة الإيمان في قلوب الصحابة، وكبر الذنوب في أعينهم، جعلهم يظنون أن من أجاب الكفار مكرهاً فإن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً.