الباب الثامن في الأجوبة المسكتة والمستحسنة ورشقات اللسان وما جرى مجرى ذلك
قيل أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقال له المنصور: هيه يا معن تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف على قوله:
(معن بن زائدة الذي زادت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان)
فقال كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله:
(ما زلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون الرحمن)
(فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان)
فقال أحسنت والله يا معن وأمر له بالجوائز والخلع.
ووفد ابن أبي محجن على معاوية فقام خطيباً فاحسن فحسده معاوية وأراد أن يوقعه فقال له: أنت الذي أوصاك أبوك بقوله:
(إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروى عظامي بعد موتي عروقها)
(ولا تدفنني في الغلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها)
فقال لمعاوية: بل أنا الذي يقول أبي:
(لا تسأل الناس ما مالي وكثرته ... وسائل الناس ما جودي وما خلقي)
(أعطي الحسام غداة الروع حصته ... وعامل الرمح أرويه من العلق)
(وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق)
(ويعلم الناس أني من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديد بالفرق)
فقال له معاوية أحسنت والله يا ابن أبي محجن وأمر له بصلة وجائزة.
وقيل أخذ عبد الملك بن مروان بعض أصحاب شبيب الحارثي فقال له ألست القائل:
(ومنا شريد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب)
فقال يا أمير المؤمنين إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب وأردت بذلك مناداة لك فكان ذلك سبباً لنجاته.
ودخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميماً فقال له معاوية إنك لدميم والجميل خير من الدميم وإنك لشريك وما لله من شريك وإن اباك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك؟
فقال له: إنك معاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت الكلاب وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب والسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فكيف صرت أمير المؤمنين؟
ثم خرج وهو يقول:
(أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني)
(وحولي من ذوي يزن ليوث ... ضراغمة تهش إلى الطعان)
(يعير بالدمامة من سفاه ... وربات الحجال من الغواني)
ودخل يزيد بن أبي مسلم صاحب شرطة الحجاج على سليمان بن عبد الملك بعد موت الحجاج فقال له سليمان: قبح الله رجلاً أجرك رسنه وأولاك أمانته.. فقال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر لك وهو عني مدبر فلو رأيتني وهو علي مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت واستعظمت مني ما استعظمت.. فقال سليمان: أترى الحجاج استقر في جهنم؟
فقال يا أمير المؤمنين لا تقل ذلك فان الحجاج وطأ لكم المنابر وأذل لكم الجبابرة وهو يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك وشمال أخيك فحيثما كانا كان.
وقال يهودي لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه: ما لكم لم تلبثوا بعد نبيكم الا خمس عشرة سنة حتى تقاتلتم؟
فقال علي كرم الله وجهه ولِمَ أنتم لم تجف أقدامكم من البلل حتى قلتم يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة..
ووجد الحجاج على منبره مكتوباً: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار.. فكتب تحته قل: (موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور).
ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره فأجلسه معه على سريره ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تُصابون في أبصاركم.. فقال له عقيل: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم..
وقيل اجتمعت بنو هاشم يوماً عند معاوية فأقبل عليهم وقال يا بني هاشم إن خيري لكم لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح فلا يُقطع خيري عنكم ولا يُرد بأبي دونكم ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمراً مختلفاً أنكم ترون أنكم أحق بما في يدي مني وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقوقكم قلتم أعطانا دون حقنا وقصَّر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له هذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم..
قال فاقبل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فقال والله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه ولا فتحت لنا باباً حتى قرعناه ولئن قطعت عنا خيرك فخير الله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا باباً لنكففن أنفسنا عنك وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما للرجل من المسلمين ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر أكفاك أم أزيدك؟
قال كفاني يا ابن عباس وقال معاوية يومها أيها الناس إن الله حبا قريش بثلاث فقال لنبيه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ونحن عشيرته الأقربون وقال تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) ونحن قومه وقال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم) ونحن قريش.
فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول: (وكذَّب به قومك وهو الحق) وأنتم قومه وقال تعالى: (ولمَّا ضُربَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) وأنتم قومه وقال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) وأنتم قومه ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك.
وقال معاوية أيضاً لرجل من اليمن ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة.. فقال الرجل: أجهل من قومي قومُك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
وقال يوماً لجارية بن قدامة ما كان أهونك على قومك إذ سمُّوك جارية فقال جارية: ما كان أهونك على قومك إذ سمُّوك معاوية وهي الأنثى من الكلاب.. قال: اسكت لا أم لك.. قال جارية: أم لي ولدتني أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا وإنك لم تهلكنا قسوة ولم تملكنا عنوة ولكنك أعطيتنا عهداً وميثاقاً وأعطيناك سمعاً وطاعة فإن وفيت لنا وفينا لك وإن نزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وأسنةً حداداً.. فقال معاوية: لا أكثر الله في الناس مثلك يا جارية.. فقال له جارية: قل معروفا فإن شر الدعاء محيط بأهله.
وخطب معاوية يوماً فقال إن الله تعالى يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) فعلام تلوموني إذا قصرت في عطاياكم فقال له الأحنف وإنا والله لا نلومك على ما في خزائن الله ولكن على ما أنزله الله لنا من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه.
وقيل دخل مجنون الطاق يوماً إلى الحمَّام وكان بغير مئزر فرآه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان في الحمَّام فغمض عينيه فقال المجنون: متى أعماك الله؟ قال: حين هتك سترك.
ومن ذلك ما حكى أن الحجاج خرج يوماً متنزهاً فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فإذا هو بشيخ من بني عجل.. فقال له: من أين أيها الشيخ؟ قال: من هذه القرية.. قال كيف ترون عمالكم؟ قال الرجل: شر عمال يظلمون الناس ويستحلون أموالهم.. قال الحجاجك فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما ولى العراق شر منه قبحه الله وقبح مَنْ استعمله.. قال الحجاج: أتعرف مَنْ أنا؟ قال الرجل: لا.. قال: أنا الحجاج.. قال الرجل: جعلت فداك أو تعرف مَنْ أنا؟ قال الحجاج: لا.. قال الرجل: فلان بن فلان مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين.. قال فضحك الحجاج منه وأمر له بصلة.
وقال رجل لصاحب منزل أصلح خشب هذا السقف فإنه يُقرقع.. قال لا تخف فإنه يُسَبِّحْ.. قال إني أخاف أن تدركه رقة فيسجد..
وقالت عجوز لزوجها: أما تستحي أن تزني ولك حلال طيب؟ قال: أما حلال فنعم.. وأما طيب فلا.
وقال ملك لوزيره: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به.. قال الملك: فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلى به.. قال الملك: فإن عدمه؟ قال: مال يستره.. قال الملك: فإن عدمه؟ قال فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد.
وتنبأ رجل في زمن المنصور فقال له المنصور: أنت نبي سفلة.. فقال الرجل: جعلت فداك كل نبي يُبعث إلى شكلها.
ومن الأجوبة المسكنة المستحسنة:
ما ذكر أن إبراهيم مغني الرشيد غنى يوماً بين يديه فقال له أحسنت أحسن الله إليك فقال له يا أمير المؤمنين إنما يحسن الله إلي بك فأمر له بمائة ألف درهم.
وقال رجل لبعض العلوية أنت بستان.. فقال العلوي: وأنت النهر الذي يسقى منه البستان.
وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: أنَّهم ذبحوا شاةً فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ما بقيَ منْها؟ قلت ما بقيَ منْها إلَّا كتفُها.. قالَ: بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها.
وقال عبد الله بن يحيى لأبي العيناء: كيف الحال؟ قال: أنت الحال فانظر كيف أنت لنا؟ فأمر له بمال جزيل وأحسن صلته.
وكان عمرو بن سعد بن سالم في حرس المأمون ليلة فخرج المأمون يتفقد الحرس فقال لعمرو: مَنْ أنت؟ قال عمرو: عمرك الله بن سعد أسعدك الله بن سالم سلمك الله.. قال المأمون: انت تكلؤنا الليلة؟ قال: الله يكلؤك يا أمير المؤمنين وهو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.. فقال المأمون:
(إن أخا الهيجاء مَنْ يسعى معك ... ومَنْ يضر نفسه لينفعك)
(ومَنْ إذا رأيت الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك)
ادفعوا إليه أربعة آلاف دينار.. قال عمرو: وددت لو أن الأبيات طالت.
وقال المعتصم للفتح بن خاقان وهو صبي صغير: أرأيت يا فتح أحسن من هذا الفص لفص كان في يده؟ قال الصبي: نعم يا أمير المؤمنين اليد التي هو فيها أحسن منه.. فأعجبه جوابه وأمر له بصلة وكسوة.
وقيل أن رجلاً سأل العباس رضي الله عنه أأنت أكبر أم رسول الله صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال رسول الله أكبر وأنا ولدت قبله.
وقال معاوية لسعيد بن مرة الكندي: أأنت سعيد؟ قال أمير المؤمنين السعيد وأنا ابن مرة.
وقال المأمون للسيد بن أنس: أأنت السيد؟ قال أمير المؤمنين السيد وأنا ابن أنس.
وقال الحجاج للمهلب وهو يماشيه: أأنا أطول أم أنت؟ قال الأمير أطول وأنا أبسط قامة.. أراد الطول وهو الفضل.
والأجوبة بهذا المعنى كثيرة لو تتبعتها لعجزت عنها ولكني اقتصرت على هذا وأوجزت وفيما ذكرته من ذلك كفاية وأسأل الله تعالى العون والعناية.