الوصية بالجار
------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدي رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
إن من نعم الله، التي يجب على العبد أن يقوم بشكرها: أن يتيح له الفرص النفيسة بهذه اللقاءات الكريمة مع إخوة في الله، وفي بيت من بيوت الله، يتذاكرون آيةً من كتاب الله أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأعلم أن في مدينة عنيزة من المشايخ وطلبة العلم من يحيون المساجد بالذكر والمذاكرة والعلم والمدارسة، وإنه لمن نعم الله عليَّ أن يتيح لي هذا اللقاء في هذا المسجد هذه الليلة، وسأتكلم عن موضوع أعتقد أن الجميع قد سمعوا به، وكل الدعاة قد تناولوه، والسنة مليئة بأخباره، ألا وهو موضوع الوصية بالجار. وقد قرن الله حق الجار بأعلى وأعظم حقٍ لله سبحانه وتعالى وهو توحيده، فقال سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36] إلى آخر الآية، فحق الجار مذكور في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللجار حقوق كثيرة ممكن أن نسميها: حقوقاً قضائية، أو نسميها: حقوقاً مدنية، أي: إلزامية للجار على جاره، وهذه الحقوق يذكرها الفقهاء وخاصةً الحنابلة في باب الصلح وحكم الجوار، كلنا يعلم أن الأسلوب العام في الإطار الإسلامي بل والإنساني أن الوصية تكون من منطلق الشفقة والرحمة، ولذا لا تجد إنساناً يوصي إنساناً بخير إلا وهو مشفق عليه، رحيم به، وقد جاء في كتاب الله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11]، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [الأحقاف: 15].. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ: (يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فأوصاه بذلك.
معنى الوصية:
وإذا جئنا إلى فقه أسرار اللغة العربية التي هي لغة القرآن، يقول علماء فقه اللغة: كلمات اللغة العربية أسر وقبائل، فكلما كانت المادة قريبة من المادة في بنائها فمعناها متقارب، وإذا اختلف حرف في هذه المادة عن تلك المادة كان المعنى المشترك بين اللفظين قريباً، وبقدر قرب الحرف من الآخر تكون الصلة والقرابة، فهنا مثلاً وصية وصلة، فتجد كلمة (وصية) أصلها: وصي، و(صلة) أصلها: وصَلَ، فالواو والصاد في المادتين، والخلاف في لام الكلمة، والياء واللام كلاهما من مخرج متقارب، تقول: إل وإي، فمخرجهما متعلق باللسان، وليسا من الحروف المتباعدة.
إذاً:
الوصية والصلة بينهما قرابة نسب وصلة رحم، فكل وصية فهي صلة، فعندما يوصي الإنسان غيره فكأنه وصله بما أوصاه به، وأنت إذا أوصيت إنساناً بشيء فكأنك وصلته بتلك الوصية.
ويقال:
خبن الثوب، وغبن في البيع، (خبن وغَبَن) الباء والنون موجودان فيهما، والغين في الغبن، والخاء في الخبن مختلفان، وكلاهما من أحرف الحلق، والخبن للثوب بمعنى: النقص، مثل أن تأخذ القميص وتقصر طوله، والغبن في البيع هو: نقص في الثمن، فمعنى النقص موجود في الكلمتين، ولكن لماذا جاءت الخاء في الثوب (خبن)، والغين في البيع (غبن)؟
يقول علماء فقه اللغة:
انظر إلى الحرفين المتغايرين، فهما من أحرف أدنى الحلق، لكن الغين أخفى من الخاء، والغبن في البيع أخفى من الخبن في الثوب؛ لأن خبن الثوب ظاهر تلمسه بيدك، والغبن في البيع أمر معنوي نسبي.
فنرجع إلى تعريف الوصية:
فهي صلة، والصلة فيها ارتباط، فكأن الموصي يربط الموصى إليه بنفسه، ومن هنا نعلم معنى الوصية للجار ومكانتها، فحينما تقول: يا فلان! أوصيك بفلان، أي: أنك توصى به وتكرمه وتصله بنصيحتك وشفاعتك عند الغير، ويقال: أوصى لفلان ببيت أو بمال أو غير ذلك، أي: وصله بما أعطاه.
أركان الوصية بالجار واهتمام الشرع بها:
وأركان الوصية:
الموصي والموصى إليه والموصى به.
فالوصية بالجار ما مقدارها؟ وما مصدرها؟
جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار)، فالموصي هنا هو جبريل عليه السلام، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، والذي وصفه الله بمكارم الأخلاق، وهو لا يحتاج إلى وصية، فهو فاهم ومدرك، ومكارم أخلاقه تحمله على حسن المعاملة، ومع ذلك يوصيه جبريل بالجار، ونعلم أن الوصية تكون محددة، كما في آية الوصية بالأولاد: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء: 11]، وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف: 15]، وقوله: إذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة: 180] فالوصية بالخير مطلوبة.
وما هو أسلوب وسياق الوصية التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى رسول الله؟
جاء في الأدب المفرد للبخاري أن رجلاً من الأنصار قال: (خرجت مع أخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت فإذا هو قائم يقاوم رجلاً -يقاوم على وزن يفاعل، أي: هذا قائم وهذا قائم معه، وهو نظيره- فظننت أن له حاجة -أي: هذا الرجل- فجلست، فأطالا القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، ثم ذهب الرجل، وقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لقد رثيت لك من طول قيامك مع هذا الرجل، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري مَنْ هو؟ قلت: لا، قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وهذا القيام الطويل هل هو بكلمة (أوصيك بالجار)، أو أنه كان يعدد عليه جوانب الوصية فيما ينبغي للجار؟
لا نستطيع أن نحكم بشيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا صيغة الوصية، لكن يهمنا من هذا السياق أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أطال القيام مع جبريل، حتى أن الأنصاري جلس ورثى لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الجهد كله ليتلقى الوصية بالجار، وأعتقد أن هذا السياق يعطينا مدى مكانة الوصية، ومدى اهتمام الشريعة بها.
معنى حديث: (ما زال جبريل يوصيني بالجار):
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني).
كلمة: (لا زال) تدل على التكرار، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا نوعية الوصية فكيف نحققها؟ فهذه الوصية وصية إحسان للجار، فكيف نطبق هذه الوصية العامة الشاملة حتى نحقق وصية جبريل لرسول الله عليهما الصلاة والسلام؟
هذه الوصية مطلقة:
والإطلاق يدل على العموم والشمول، فننظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، ونطبقها على أحاديث الوصية للجار، والأحاديث التي وردت في حق الجار كثيرة متنوعة، ولقد وصلت إلى أربعين حديثاً تتعلق بحقوق الجار.
وما هي مقاصد الشريعة التي يمكن أن نحققها ونطبقها في حق الجار؟
يقول العقلاء أو الفلاسفة: مطامع العقلاء في الغيب، أي: أن كل إنسان في حياته -بصرف النظر عن دينه- يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع يستفيد منه، وإما لدفع ضر يسلم منه.
ولذا يقول الشاعر الجاهلي:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع
يعني:
إذا لم تنفع صديقك وأهلك فضر عدوك وخصمك، أما من لا ينفع أهله ولا يضر خصمه؛ فليس فيه خير، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المشركين وبين قبح فعلهم بعبادة الأوثان، وذكر أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر فقال: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ [الأنبياء: 66]، وإبراهيم عليه السلام قال لقومه: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 72 - 73] واحتج إبراهيم على قومه في عبادتهم الأصنام فقال: لماذا تدعونهم، وهم لا يسمعونكم حينما تدعونهم؟! أي: هل تعبدونهم لجلب نفع أو تعبدونهم خوفاً من أن يضروكم؟! فإذا كانوا لا ينفعونكم فلم تعبدونهم؟! وإذا كانوا لا يضرونكم فلم تخافون منهم؟!
فالنفع والضر هما مطلب الإنسان:
ولذا فإن المولى سبحانه لما خاطب قريشاً وألزمهم بحق العبادة قال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش: 1 - 3]، وما هو مقتضى هذه العبادة التي أوجبها الله عليهم؟ قال: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]، (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) هذا هو النفع الذي جلبه إليهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) هذا هو الضر الذي دفعه عنهم.
إذاً:
مجموع المطالب العقلية منحصرة في هذين الأمرين، وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، فـ(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، أي: إنما يدفع العنت والمشقة عنكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي: يجلب لكم النفع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت خيراً يقربكم إلى الله إلا بينته لكم، ودللتكم عليه، ولا تركت شراً يباعدكم عن الله إلا بينته لكم، وحذرتكم منه، ونهيتكم عنه).
إذاً:
مطالب العقلاء منحصرة في جلب النفع ودفع الضر، وجاءت الشريعة الإسلامية بتحقيق هذين المبدأين، وجاءت بزيادة مبدأ ثالث جديد جاء به الإسلام، ألا وهو الحث على مكارم الأخلاق.
واعلم أن جميع التشريعات في الشريعة الإسلامية تدور حول هذه المبادئ الثلاثة:
إما جلب نفع للعبد في الدنيا أو الآخرة، وإما دفع ضر عنه في الدنيا أو الآخرة، وإما السمو به إلى مكارم الأخلاق وإلى الكمال الإنساني.
ولكي نعلم بحقوق الجار، ولكي نطبق ذلك على هذه المبادئ، فنبحث عن حق الجار لجاره في جلب النفع إليه، ودفع الضر عنه، ومعاملته بمكارم الأخلاق.
أنواع الجيران وحد الجوار:
والجيران أنواع، وقد ذكرهم الله في كتابه فقال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36]، فمن هو الجار ذو القربى؟
ذو القربى من كان من القرابة، فهل هو قرب المكان قرباً حسياً أو هو القريب النسب مثل: ابن عمك، وابن خالك وخالتك وعمتك؟
القربى هنا قربى النسب، فيجتمع له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القربى، وحق الإسلام.
والجار الجنب قالوا: هو الأجنبي (الصاحب بالجنب) هي: الزوجة، وقيل: (الصاحب بالجنب) يشمل الزوجة وغيرها، فالزوجة صاحبة بالجنب، وقيل: (الصاحب بالجنب) الصديق الذي يصاحبك، هو الرفيق في السفر.
أنواع الجوار:
جار قريب في النسب، وجار بعيد نسباً، والقرب والبعد في الجوار إلى أي حد؟
ذكر البخاري في الأدب المفرد وغيره عن الزهري أنه قال: حد الجار أربعون داراً أمامك، وأربعون داراً وراءك، وأربعون داراً عن يمينك، وأربعون داراً عن يسارك.
وقد روي هذا التحديد في حديث وهو:
أن رجلاً جاء يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاره؛ فقال: (يا رسول الله! إني نزلت حرة بني فلان -منطقة أو جهة- وإن أقربهم لي جواراً أشدهم عليّ إيذاء، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعمر إلى المسجد، وأمرهما أن يقفا على الأبواب ويناديان: ألا إن أربعين داراً جار، لا يؤمن مَنْ لم يأمن جاره بوائقه)، فإذا كان تحديد الجوار أربعين داراً، وكلها داخل في الوصية بالجار، فهذه الأربعون تتفرع، فأقصى بيت من الأربعين يراعي حقوق أربعين بيتاً أخرى بجواره، وآخر الأربعين الثانية يراعي حرمة أربعين بيتاً أخرى، وهكذا، فماذا تكون النتيجة؟
تتموج حقوق الجوار وتنتشر كتموج موجات الأثير حتى تعم العالم كله، ولا يبقى شبر على وجه الأرض إلا ودخل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، وهذا إذا وسعنا نطاق الجوار في المدن، فالمدينة النبوية جوارها مثلاً عنيزة أو البلدة الفلانية، ولو راعينا حرمة الجوار بين الأفراد وبين القرى وبين المدن وبين الأقطار في الدنيا، لحصل خير كبير، فكل دولة تراعي حقوق جارتها، وكل قرية تراعي حقوق جارتها، فلا يوجد في وجه الأرض شبر إلا ودخل في هذه الوصية؛ فالجوار يشمل الجميع، وإذا توسعت دائرة الجوار شملت العالم.
فقه معاملة الجيران:
والجار إما أن يكون جاراً صالحاً أو جاراً سيئاً، وفي الأثر أن الجار الصالح يحفظ الله به مائة بيت من جيرانه، فإذا كان الجار صالحاً، فالله سبحانه وتعالى يكرم جيرانه، ويدفع عنهم السوء إلى مائة بيت، فنعم الجار هذا الجار!
أما الجار السوء فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول)، ومن طلب الجوار الصالح، قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11]، يقول العلماء: طلبت الجار بالجوار قبل الدار، فإنها لم تقل: ابن لي بيتاً عندك، بل قلت: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا)، والناس يقولون: الجار قبل الدار.
وأُقرب هذا المعنى بمثال: لو أن فلاناً عنده مخطط أراضٍ، وأنت لا تعرف بتخطيط القطع، وجاء إنسان صالح وقال لك: والله يوجد قطعة أرض فيها وجهتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، فقلت له: أنت أخذت إحداهما؟ قال: نعم.
فتحب أن تشتري القطعة التي بجواره، ولا يهمك سعتها ولا ضيقها ولا توجهاتها، إنما يهمك أن تكون بجواره لصلاحه، وتختار جواره مهما كانت القطعة أقل نفاسة عن أي قطعة أخرى بعيدة عنه، فالجار الصالح يشترى، تقول: أنت أصلح الجيرة، وروي عنه صلى الله عليه وسلم في خير الجيران أنه قال: (خير الصديقين أحسنهما صداقاً، وخير الجيران خيرهما لجاره)، فخير الجيران من كان أنفع وأشد خيرية لجاره، فهي عملية مقارنة، والخيرية نسبية، فبقدر ما تحسن إلى جارك تكون خيراً منه.
درء المفاسد عن الجار:
وإذا نظرنا إلى درء المفاسد، نجد أنه صلى الله عليه وسلم يضع هذا المبدأ بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (والله لا يؤمن، مَنْ لا يأمن جاره بوائقه).
وقال: (مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وفي الراوية الأخرى: (فليحسن إلى جاره)، وفي الرواية الثالثة: (فلا يؤذ جاره)، وهذه الأحاديث في الصحيحين، وفي رواية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحسن إلى جاره).
إذاً:
ينفي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الذي لا يحسن إلى جاره، وعن الذي يسيء إلى جاره، وعن الذي لا يكرم جاره.
والإحسان إلى الجار هو:
جلب المنفعة إليه وعدم إيذائه، ودرء المضرة عنه، وإكرامه يكون بمعاملته بمكارم الأخلاق، فيجب أن تبتعد عن أذى الجار، وأن تصبر على أذاه، وعليك أن تراعي الجار حتى في دواجنه وفي ماله، جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان والبخاري في الأدب المفرد، (أن امرأة قالت لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إن إحدانا يدعوها زوجها إلى فراشه فتمتنع لمرض، أو لكراهية، أو لعدم رغبة، فهل عليها شيء؟ قالت: نعم، لو أن زوج إحداكن طلبها على قتب بعير لوجب عليها أن تجيبه، جاء صلى الله عليه وسلم في يوم نوبتي، وكان من عادته إذا جاء أن يرد الباب، وكان عندي شعير صنعت منه قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: إذا جاء أطعمه إياه، فدخل وهو مبرود شديد البرد، فقال: أدفئيني، وكنت حائضاً، فقلت: إني حائض، فقال: لا عليك، اكشفي فخذك، فوضع خده على فخذي، وترك الباب مفتوحاً، فدخلت داجن لجارنا فأخذت القرص، فبادرتها إلى الباب، فانتبه صلى الله عليه وسلم فقال: خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته)، الرسول صلى الله عليه وسلم جاء وهو شديد البرد، وعملت له القرص ليتعشى به، وما عندها غيره، فرأت الداجن الباب مفتوحاً فدخلت، فلحقتها عائشة رضي الله تعالى عنها إلى الباب خوفاً أن تأكل منه شيئاً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (خذي ما أدركت، ولا تؤذ جارك في شاته)، مع أنها شاة معتدية، أخذت عشاءهم.
إذاً:
إيذاء الجار في أولاده، وفي قراباته، وفي ماله، وفي مصالحه، وفي شخصه، لا يجوز.
الصبر على أذى الجار:
فمن حقوق الجار أن تقدم له الخير، وتكف أذاك عنه، بل وتصبر على أذاه إن آذاك، وقد جاء في حديث أبي هريرة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي من سوء فعل جاره فقال: (ارجع فاصبر، فعاد فاشتكى، فقال: ارجع فاصبر -ثلاث مرات- وبعدها قال: اذهب وأخرج متاعك في الطريق)، الشاهد أنه أمره بالصبر على أذى جاره ثلاث مرات.
وذكروا عن الإمام أبي حنيفة أن رجلاً كان بجواره يسيء إليه كل يوم في بيته، فكان يخرج ويبعد الأذى أو الإساءة وهو صابر، وفي يوم من الأيام خرج فلم يجد تلك الإساءة التي كان يعهدها، فسأل عن جاره عندما رآه تخلف عن عادته! فأخبر أنه أحدث حدثاً وسجن، فذهب وشفع عند صاحب الشرطة حتى أخرجه، ولم يعلم هذا الجار بالذي جاء يشفع له، فلما خرج قال: من الذي أخرجني؟ قالوا: جارك جاء يشفع لك، قال: من هو؟ قالوا: أبو حنيفة! فندم على إيذائه، وكف عن ذلك.
وأخبرنا شيخنا عبد الرحمن الإفريقي يغفر له ويرحمه أن ولده ضرب بعض أولاد جيرانه، فضرب أبو المضروب ولد الشيخ، وصار في ولد الشيخ جرح أو شيء بسيط، فأخذت الشرطة هذا الأب الضارب الذي سيّل الدم من ولد الشيخ وسجنته، فذكر للشيخ ذلك، فقال: أين الجار؟ قالوا: أخذته الشرطة وسجنوه، فذهب حالاً إليهم، وقال: الولد ولدي، وهو اعتدى على ولدي، وأنا متسامح في هذا، ويجب أن تخرجوه، فقالوا: نعمل إجراءات الخروج، والمسجون لا يدري، وبعد أن طلبوه ليخرج، قالوا له: اخرج، قال: على أي أساس؟ قالوا: الشيخ جاءنا وسامحك، وطلب منا أن تخرج، فخرج من السجن ولم يذهب إلى بيته، بل ذهب إلى بيت الشيخ ليعتذر إليه من ذلك، فعلى المسلم أن يصبر على أذى الجار، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث فواقر -الفاقرة المهلكة-: أمير ظالم إن أحسنت لا يشكر، وإن أسأت لا يعفو، وجار سوء إن علم شراً أذاعه، وإن علم خيراً كتمه).
وهذا كما قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذُكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أي:
إن سمعوا خيراً عني فهم صم لا يسمعون، وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا، أي: استمعوا ذلك، وهذا من سوء الجوار، والفقرة الثالثة المذكورة في ذلك الحديث هي: (امرأة سوء؛ إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك) وقد ذكر الله صفة الزوجة الصالحة في قوله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء: 34].
جلب المصالح للجار والحفاظ على نفسيته:
ذكرنا تقسيم الجيران، وذكرنا درء المفاسد عن الجار.
والآن نذكر جلب المصالح إليه:
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة) وفي رواية: (ولو بظلف محرق)، وهي التي يسمونها الآن مقادم، أي: لا تحتقر الجارة أن تهدي لجارتها ولو رجل شاة محرقة الشعر، والآن لا أحد يقبل هذا، بل يستحي أن يقدم له حتى ربع شاة، لكن المراد: أن الإنسان لا يحتقر أي معروف مع جاره.
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:
(إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) وهذا كان موجوداً في القديم، وإخواننا الكبار يذكرون هذا، أما الآن فلا أحد يقبل من الثاني مثل هذا الشيء، ولكن المراد: ولو كان الشيء قليلاً فتعهد به جيرانك.
ثم نأتي إلى حفظ حقوق الجار، ودفع السوء عنه، وجلب النفع له، ومراعاة شعوره، وهذا من مكارم الأخلاق، وجاء في بعض الآثار في بيان حقوق الجار: (إذا اشتريت فاكهةً فاهد له، وإلا فأدخلها سراً، ولا تترك أولادك يخرجون بها يغيظون أولاده)، فهذه محافظة على نفسيته.
فأنت إذا وسّع الله عليك تستطيع أن تأتي بالفاكهة، وهو لا يستطيع أن يأتي بها، فلا تجعل أولادك يتفكهون أمام أولاد الجيران، وهم ينظرون إليهم، لو كنت مكانه ونظرت إلى ولدك وهو يحدق النظر إلى ولد الجار، وهو يأكل الفاكهة التي حرم هو منها؛ ماذا سيكون إحساسك مع ولدك؟ وكيف لو نظر ولدك إليك في تلك اللحظة؟ فكأنه بنظراته يقول: أعطني واشتر لي يا أبي! وأنت لا تستطيع.
فمن مكارم الأخلاق المحافظة على شعور الجار وأولاده، فإذا اشتريت فاكهة لأهلك فأدخلها سراً، ولا تدع ولدك يخرج بها فيسيء إلى ولد الجار ويحزنه.
يتبع إن شاء الله...