بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ الظلم } : وضع شىء في غير موضعه .
{ مثقال ذرة } : المثقال : الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل ، والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة .
{ الحسنة } : الفعلة الجميلة من المعروف .
{ يضاعفها } : يريد فيها ضعفها .
{ من لدنه } : من عنده .
{ أجرا عظيما } : جزاء كبيرا وثواباً عظيما .
{ الشهيد } : الشاهد على الشىء لعلمه به .
{ يود } : يحب .
{ تسوى بهم الأرض } : يكونون تراباً مثلها .
{ ولا يكتمون الله حديثا } : أي لا يخفون كلاماً .
معنى الآيات :
لما أمر تعالى في الآيات السابقة بعبادته والإِحسان إلى من ذكر من عباده . وأمر بالانفاق في سبيله ، وندد بالبخل والكبر والفخر ، وكتمان العلم ، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيراً أو شراً ذكر في هذه الآية ( 40 ) { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } ، ذكر عدله في المجازاة ورحمته ، فأخبر أنه عند الحساب لا يظلم عبده وزن ذرة أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة ، ولا يزيد في سَيَئاتِه سيئة ، وان توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجراً عظيما لا يقادر قدره فلله الحمد والمنة هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 40 ) أما الآية الثانية ( 41 ) فإنه تعالى ذكر الجزاء والحساب الدالة عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه ، فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلا : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شيهداً؟ } ومعنى الكريمة فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد عليها فيما أطاعت وفيما عصت ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإِيمان والمعاصي والطاعات ، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صلى الله عليه وسلم شهيداً على هؤلاء أى على أمته صلى الله عليه وسلم من آمن به ومن كفر إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلى الله عليه وسلم . هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 42 ) فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية ( 41 ) ذكر مثلا لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لويسوون بالأرض فيكونون تراباً حتى لا يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم . وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاما؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم . قال تعالى { يومئذ } أى يوم يؤتى من كل أمة بشهيد { يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض } فيكونون تراباً مثلها . مرادهم أن يسووا هم الأرض فيكونون ترابا وخرج الكلام على معنى أدخلت رأسي في القلنسوة والأصل أدخلت القلنسوة في رأسي وقوله { ولا عليهم بعد أن يختم على أفواههم ، كما قال تعالى من سورة يس
{ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان عدالة الله تعالى ورحمته ومزيد فضله .
2- بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان تراباً .
3- معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآثار الشهادة على العبد يوم القيامة إذا أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما « إقرأ عليَّ القرآن فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال : أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت { يا أيها الناس اتقوا ربكم } حتى وصلت هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } الآية وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدموع وهو يقول : حسبك أي كفاك ما قرأت علّي » .
*************************************************
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ لا تقربوا } : لا تدنوا كناية عن الدخول فيها ، أو لا تدنوا من مساجدها .
{ سكارى } : جمع كسران وهو من شرب مسكراً فستر عقله وغطاه .
{ تعلموا ما تقولون } : لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن وقت الصلاة وهذا كان قبل تحريم الخمر وسائر المسكرات .
{ ولا جنباً } : الجنب : من به جنابة وللجنابة سببان جماع ، أو احتلام .
{ عابري سبيل } : مارين بالمسجد مروراً بدون جلوس فيه .
{ الغائط } : المكان المنخفض للتغوط : أي التبرز فيه .
{ لامستم النساء } : جامعتموهن .
{ فتيمموا صعيداً طيباً } : اقصدوا تراباً طاهراً .
{ عفواً غفوراً } : عفواً : لا يؤاخذ على كل ذنب ، غفوراً : كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه .
معنى الآية الكريمة :
لا شك أن لهذه الآية سبباً نزلت بمقتضاه وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي بهم فقرأ بسورة الكافرون وكان ثملان فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وهذا باطل وواصل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت { يا أيها الذين آمنوا . . . . . . . } أي ما من صدقتم بالله ورسوله ، { لا تقربوا الصلاة } أي لا تدخلوا فيها ، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالاً غير حرام ، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب حتى تغتسلوا اللهم من كان منكم عابر سبيل ، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي . { وإن كنتم مرضى } بجراحات يضرها الماء أو جَاءَ أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } بمضاجعتهن أو مسستموهن بقصد الشهوة { فلم تجدوا ماءً } تغتسلون به إن كنتم جنباً أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثاً أصغر { فتيمموا صعيداً طيباً } أي اقصدوا تراباً طاهراً { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } مرة واحدة فإن لك مجزيء لكم عن الغسل والوضوء فإن صح المريض أو وُجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لا نتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء . وقوله تعالى في ختام الآية { إن الله كان عفواً غفورا } يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره ، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه ، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلَّوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون ، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليماً لهم وهداية لهم .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية الكريمة :
1- تقرير مبدأ النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة .
2- حرمة مكث الجنب في المسجد ، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث .
3- وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء أو جامع أهله فأولج ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ماءً .
وكيفية الغسل: أن يغسل كفيه قائلاً: بسم الله ناوياً رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فَرجَيْهِ وما حولهما ، ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلاثاً ، ثم يتمضمض ويستنشق الماء ، ويستثره ثلاثاً ، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه ، ثم يحثو الماء على رأسه يغسله بكل حثوة ، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يَغْسِلُه ، ثم على شقه الأيسر يَغْسِله من أعلاه إلى أسفله ، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبوا عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين .
4- إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح .
5- بيان عفو الله وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى .
*************************************************
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ ألم تر } : الم تبصر أي بقلبك أي تعلم .
{ نصيباً } : حظاً وقسطاً .
{ يشترون الضلالة } : أي الكفر بالايمان .
{ الأعداء } : جمع عدو وهو من يقف بعيداً عنك يود ضرك ويكره نفعك .
{ هادوا } : أي اليهود قيل لهم ذلك لقولهم : { إنا هدنا إليك } أي تبنا ورجعنا .
{ يحرفون } : التحريف : الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل
{ الكلم } : الكلام وهو كلام الله تعالى في التوراة .
{ واسمع غير مسمع } : أي اسمع ما تقول لا أسمعك الله . وهذا كفر منهم صريح .
{ وطعناً في الدين } : سبهم للرسول صلى الله عليه وسلم هو الطعن الأعظم في الدين .
{ وانظرنا } : وَأمهلنا حتى نسمع فنفهم .
{ أقوم } : أعدل وأصوب .
{ لعنهم الله بكفرهم } : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
روي أن هذه الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة ، كان إذا كلم رسول صلى الله عليه وسلم لَوَّى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمد نفهمك ، ثم طعن في الاسلام وعابه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله { فلا يؤمنون إلا قليلاً ، } وهذا شرحها : قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل } أي ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب : العلم بالدين أتوا نصيباً من الكتاب وهم رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود ، أعطوا حظاً من التوراة فعرفوا صحة الدين الإِسلامي ، وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم { يشترون الضلالة } وهو الكفر يشترونها بالايمان ، حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للإِبقاء على مركزهم بين قومهم وهو الإِيمان بالله ورسوله والعمل بطاعتهما للإِسعاد والإِكمال . { والله أعلم بأعدائكم } الذين يودون ضركم ولا يدودون نفعكم ، ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم . { وكفى بالله ولياً } لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه { وكفى بالله نصيراً } ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه . { من الذين هادوا يحرفون كلام الله تعالى في التوراة وتحريف بالميل به عن القصد ، أو بتبديله وتغييره تضليلاً للناس وإبعاداً لهم عن الحق المطلوب منهم الإِيمان به والنطقُ والعمل به . ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كفراً وعناداً { سمعنا وعصينا ، واسمع غير مسمع } أي لا أسمعك الله { وراعنا } وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اليهود يعدونها من الرعونة بألسنتهم وطعناً في الدين } أي يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بها حتى لا تظهر عليهم ، ويطعنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } أي انتظرنا بدل راعنا لكان خيراً لهم وأقوم أي أعدل وأكثر لياقة وأدباً ولكن لا يقولون هذا لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم ومكرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً .
اي إيماناً لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم .
2- في كفاية الله للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل .
3- الكشف عن سوء نيات وأعمال اليهود إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4- الإِيمان القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال .
*************************************************
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ أوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى ، والمراد بهم هنا اليهود لا غير .
{ بما نزلنا مصدقاً } : القرآن .
{ تطمس وجوها } : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها .
{ فنردها على أدبارها } : نجعل الوجه قفا ، والقفا وجهاً .
{ كما لعنا أصحاب السبت } : لعنهم مسخهم قردة خزياً لهم وعذاباً مهيناً .
{ وكان أمر الله مفعولاً } : أمر الله : مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه شيء .
معنى الآية الكريمة :
ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمراً إياهم بالإِيمان بكتابه أي بالقرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلى الله عليه وسلم إذا الإِيمان بالمنزَّل إيمان بالمنزّل عليه ضمناً . فقال : { آمنوا } بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والأمر بالإيما به ونصرته خفّوا إلى الإِيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قدرة وخنازير { من قبل ان نطمس وجوهاً } فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونُغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء ، والأقفاء وجوهاً يمشون القهقراء وهو معنى قوله : { فنردا على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أي الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين . { وكان أمر الله } أي مأموره { مفعولاً } ناجزاً ، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شىء وهو على كل شيء قدير .
هداية الآية :
من هداية الآية :
1- المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية ، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإِصرار عليه لا ينفعه العلم ، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإِيمان فلم يؤمنوا .
2- وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإِنسان من عذاب ونكال .
3- قد يكون المسخ في الوجوه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء وهذا الذي حصل ليهود المدينة . فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصارارهم على الكفر وعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
*************************************************
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ لا يغفر } : لا يمحو ولا يترك المؤاخذة .
{ أن يشرك به } : أي يعبد معه غيره تأليهاً له بحبه وتعظيمه وتقديم القرابين له ، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له .
{ ويغفر ما دون ذلك } : أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركاً ولا كفراً .
{ لمن يشاء } : أي لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر .
{ افترى إثماً عظيماً } : افترى : اختلق وكذب كذباً بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى ، والإِثم : الذنب العظيم الكبير .
معنى الآية الكريمة :
يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } قام رجل فقال والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر ، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها ، وإن شاء آخذه بها وعذبه ، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأله من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل ، ومن هنا كان ذنبه عظيماً .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية :
1- عظم ذنب الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما .
2- الشر كذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه .
3- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف .
4- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به .
*************************************************
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ تزكية النفس } : تبرئتها من الذنوب والآثام .
{ يزكي من يشاء } : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس ، وإعانته عليه .
{ الفتيل } : الخيط الأبيض يكون في وسط النواة ، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها .
{ الكذب } : عدم مطابقة الخبر للواقع .
معنى الآيتين :
عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره فاليهود والنصارى قالوا { نحن أبناء الله وأبحاؤه } وقالوا : { لن يدخل الجنة إلى من كان هوداً أو نصارى وقالت اليهود لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } إلى غير ذلك من الدعاوي ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإِيمان والدخول في الإِسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده وذلك بتوفيقه إلى الإِيمان وصالح الأعمال التي تزكو عليها النفس البشرية فقال تعالى : { بل الله يزكي من يشاء ، ولا يظلمون فتيلاً } أي أقل قليل فلا يزاد في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته . ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى ، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفاً . وكفى بالكذب إثماً مبيناً . يغمس صاحبه في النار .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- حرم تزكية المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك إما طلباً للرئاسة ، وإما تخلياً عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته ورضي الله تعالى عنه .
2- الله يزكي عبد ه بالثناء عليه في الملأ الأعلى ، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية لنفس البشرية وتطهيرها .
3- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى : { ولا يظلمون فتيلاً } .
*************************************************
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ الجبت والطاغوت } : الجبت : اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغوت سواء كانا صنمين أو رجلين .
{ أهدى سبيلاً } : أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما .
{ نقيراً } : النقير : نُقْرَةٌ في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها .
{ الحسد } : تمنى زوال النعمة عن الغير والحرص على ذلك .
{ الحكمة } : السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإِلهي .
معنى الآيات :
روى أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلوا مكة قالت قريش : نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله { عظيماً } . وهذا شرحها : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الم ينته إلى علمك أيها الرسول أن الذين أوتوا حظا من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى { ويقولون للذين كفروا } وهم مشركوا قريش : دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقا في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأَهل العِلْمِ والمعرفة بالدين الحق إذ يُقِرُّون الباطل ويصدقون به؟ { أولئك الذين لعنهم الله } أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى ، { ومن يلعن الله فلن تجد له } يا رسولنا { نصيرا } ينصره من الخذلان من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد .
ثم قال تعالى في الآية ( 53 ) { أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } .
إليهم ، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحداً أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نقرة نواة وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد .
وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } أم بمعنى بل كسابقتها بل للاضراب - الانتقالي من حال سيئة إلى أخرى ، والهمزة للإِنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة ، وهو المراد من الناس وقوله تعالى { فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب } كصحف ابراهيم والتوراة والزبور والانجيل « والحكمة » التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم صائب سديد الملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون محمداً والمسلمين والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم .
وقوله تعالى في الآية ( 55 ) { منهم من آمن به ومنهم من صد عنه } يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم مَنْ آمن بالنبي محمد ورسالته ، وهم القليل ، { ومنهم من صد عنه } أي انصرف وصرف الناس عنه وهم الأكثرون { وكفى بجهنم سعيراً } لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلا ومكراً ، أي حسبه جهنم ذات السعير جزاءً له على الكفر والحسد والبخل . والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت .
2- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل .
3- ذم الحسد والبخل .
4- إيمان بعض اليهود بالإِسلام ، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإِسلام ووجوب الإِيمان به والدخول فيه .
*************************************************
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
*************************************************
شرح الكلمات :
{ نصليهم ناراً } : ندخلهم ناراً يحترقون بها .
{ نضجت جلودهم } : اشتوت فتهرت وتساقطت .
{ ليذوقوا العذاب } : ليستمر لهم العذاب مؤلماً .
{ عزيزا حكيما } : غالبا ، يعذب من يستحق العذاب .
{ تجري من تحتها الأنهار } : تجري من خلال اشجارها وقصورها الأنهار .
{ مطهرة } : من الأذى والقذى مطلقا .
{ ظلا ظليلا } : الظل الظليل ، الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد فيه .
معنى الآيتين :
على ذكر الإِيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد والوعيد لأهل الكفر والوعد لأهل الإِيمان فقال تعالى : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً } يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها { كلمة نضجت جلودها } تهرت وسقطت بدلهم الله تعالى فوراً جلوداً غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به ، وقوله تعالى { إن الله كان عزيزاً حكيما } تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم ، لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه ، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 56 ) من وعيد لأهل الكفر .
وأما الآية الثانية ( 57 ) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإِيمان وصالح الأعمال ، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي بعد تركهم الشرك والمعاصي { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة } يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائط ودم الحيض . وقوله تعالى : { وندخلهم ظلا ظليلا } وارفا كنيناً يقيهم الحر والبرد وحدث يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال : « في الجنة شجرة تسمى شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها » .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- الكفر والمعاصي موجبات للعذاب الأخروي .
2- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب .
3- الإِيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروى .
4- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها .
يتبع إن شاء الله...